أمل الكردفاني- الفرنسية الجديدة

غيرت مؤسسات اللغة في فرنسا بعض قواعد اللغة الفرنسية، لتسهيلها، وقد قرأت اعتراضات كثيرة، ترى في مجملها ان هذا سيجعل التراث الفرنسي غير مفهوم للأجيال القادمة. وقبل سنوات قرأت أيضاً، أن منظمات حقوق الإنسان والنسويات، قد طالبن بحذف التذكير والتأنيث من اللغة الفرنسية، إلا أن ذلك ووجه برفض واسع.
اللغة العربية تغيرت تغيرات كثيرة، نلاحظها منذ شعر الجاهلية ثم الامبراطوريات الاموية والعباسية، حتى الشعر الحديث، إذ تخففت اللغة العربية من الكثير من ضوابطها. مع ذلك سنجد دائماً حراس المعبد يقفون ضد تسهيل اللغة العربية وخاصة النحو، وقد كتب زكريا أوزون كتابا أسماه جناية سيبويه، عرض فيه للنحو التقليدي وما به من أخطاء فرضت علينا صحتها. وإنني كلما دخلت صفحة للنحو وجدت فيها مغالطات كثيرة بين النحويين. فضلاً عن قواعد لا بداية ولا نهاية لها، لتتحول اللغة إلى طمٍّ من اللا مفهومات بالنسبة للناس العاديين. وفي أحيان كثيرة قواعد لا أهمية لها.
سنجد في صفحة نحو وصرف على الفيس بوك كهنة جدد، يرفضون النظر للغة كآلة توصيل، ويحولونها لقواعد رياضية، لقد كتبوا مثلا:
(ومن أشدّ أدلّة سيطرة "التعوُّد" على فكرة "اللغة"، أننا حين نرى كلمة مثل "هذا" ننطقها "هاذا"، وحين نرى كلمة مثل "هذه" ننطقها "هاذِهِي"، وحين نرى كلمة مثل "ذلك" ننطقها "ذالك"... وفي هذه الكلمات وغيرهما ننطق أحرُفًا غير مكتوبة.
وحين نرى كلمة مثل "مِائَة" ننطقها "مِئَة"، فنتجاهل في النطق حرفًا مكتوبًا.
وحين نرى كلمة مثل "أولئك" ننطقها "ألائك"، فننطق حرفًا غير مكتوب، ونتجاهل حرفًا مكتوبًا.
ولو كُتبَ أي من هذه الكلمات -ربما باستثناء مائة/مئة- كما ننطقه، لاستنكرنا شكله الذي تَعوّدناه...
هكذا هي اللغة، موروث ضخم متراكم متراكب على مرّ القرون، لا ندري لماذا وكيف أصبح على هذه الهيئة، لكننا نحترم هيئته ونقدّرها ونتّبعها، وإذا حاول البعض تغييرها حُلْنا دون ذلك. أما مَن حاوَل تطويرها بالإضافة أو التيسير، فأهلًا به ومرحبًا).
فهم لا يعلمون أسباب بعض الرسم على هيئات محددة، ومع ذلك يرفضون تغيير ذلك الرسم، ويقولون في آخر سطر أما من حاول تطوير اللغة بالإضافة او التيسير فأهلا ومرحبا به، وهذا لعمري تناقض شديد؛ أفليس التيسير هو أن نمنح الشيء سبباً منطقياً. فإن كنت لا تعرف لماذا تكتب (مائة) هكذا، ثم جاء أحدهم وحاول تغيير رسمها رفضت ذلك، فأي منطق عكسي هذا؟ فالمعروف أن الاشياء التي لها سند سببي قوي، يصعب تغييرها، أما التي بلا سند، فالأساس فيها أن تتغير أو تُغيَّر. فكيف ستقبل التيسير فيما هو راسخ بالأسباب، وترفض التغيير فيما هو هش وساقط في اللا سبب؟
إن هذا لشيء عجاب.
في الحقيقة ليست الغة شيئا هيناً، ففي أحضانها تراكم تراث كامل. ولكن فلنكن منطقيين: فلقد انهزمت الثقافة العربية شر هزيمة. وانتصرت الثقافات الغربية أوسع انتصار، وأضحت الدول العربية الراعية للغة، واقعة في قعر هوة سحيقة، من اتضاع العلوم والمعارف. واللحاق بتلك العلوم والمعارف يتطلب لغة الأجنبي، لغة الغرب المنتصر. فمن ناحية لا يمكننا تجاهل التراث العربي، ولكن من ناحية أخرى لا يمكننا أن نبقى في ذيل المعارف عالمياً. وهذه موازنة تطلب حواراً أكثر عمقاً من منشور صفحة النحو والصرف.
قرأت قديماً، مقالاً عن سرقة الأمريكان للأبحاث العلمية الروسية، لأن أغلب الشعوب لا علم لها باللغة الروسية. والحقيقة أن ضعف اللغة الروسية -في رأيي- أسهم مساهمة كبيرة في سقوط المشروع السوفيتي. لقد عشنا منذ الحرب الباردة ونحن نعتقد أن روسيا دولة محطمة، مليئة بالسجون ذات الحوائط المسودة والمتعفنة. وأن شعوبها تحيا في بؤس شديد. كانت الأفلام الأمريكية تتعمد تصوير مشاهد كئيية عن موسكو، في حين تأتي بمشاهد الرفاهية في نيويورك. لكننا كشعوب نتلقى المعلومات دون نقد يذكر، خاصة وأننا نجهل اللغة الروسية جهلاً مطبقاً، ولا يعين شكل الحرف الروسي على انبثاق أي خيال عن معناه.
وهذا هو نفسه ما وقع فيه الصينيون، فربما لا يعلم الكثيرون أن الصينيين هم من اخترعوا آلة الطباعة، ولديهم كتب مطبوعة منذ قرون، ولا يعلمون أن العدسات اخترعها الصينيون قبل الاوروبيين، وكانت العلوم الصينية تنتقل إلى أوروبا عبر الرحالة العرب على نحو عارض. وقد سبق الصينيون أوروبا في العلوم الإنسانية، لكن اللغة الصينية كانت في الواقع مهزومة، أمام اللغات الأوروبية.
فاللغة هي آلة توصيل قبل أن تكون آلة تلقي. هذا هدفها الاستراتيجي، وربما أدرك الفرنسيون هذه المعضلة بعد أن تقهقرت الفرنسية إلى مراتب بعيدة، بعد انتشار الإسبانية، التي يتم التحدث بها في القارتين الأوروبية واللاتينية. فالإسبانية لغة سهلة القواعد -على الاقل أسهل من الفرنسية والانجليزية- ولذلك أتوقع لها المزيد من الانتشار.
قرأت في موقع أمريكي، أن مؤسسات الأبحاث العلمية الأمريكية تضيع على نفسها فرص متابعة الأبحاث القيمة بسبب الإصرار على نشر تلك الأبحاث باللغة الإنجليزية، ذلك أن أغلب الباحثين انتقلوا إلى الأسبانية.
واللغة أداة صراع، سلاح حقيقي في مواجهة ضعف ملاحقة المعارف. فإذا كانت حضارات قوية كالصينية والروسية والفرنسية تعاني، فما بالنا باللغة العربية. التي تكاد تكون عارية من أي حماية معرفية؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى