المفتاح والقفل.. القفل والمفتاح، أيّهما أولاً؟ أم أنّ كلاهما معاً؟ أم لعلّ الحكاية أشبه بالجدَل إياه: البيضة والدجاجة، من سبق من؟
أيّاً ما يكون عليه الأمر، فإن الثابت هو أن المفتاح والقفل يُشكِّلان ثنائية متكاملة، متناغمة ومندغمة، كما أن مفتاحاً واحداً بعينه يتوافق والهندسة الدقيقة في متاهة القفل الميكانيكية ومتواليته السريّة.
حزامة حبايب* تحكي حكاية القفل والمفتاح، وهي حكاية قرون طويلة من سعي البشرية، منذ صوغ وعيها الأولي، إلى التماس الأمن والأمان والحماية والإغلاق على ما يخصّنا، ما نريده لنا وحدنا، والضنّ به بعيداً عن عيون وأيدي الآخرين..
اكتُشفت الأقفال والمفاتيح منذ أن اكتَشف الإنسان قيمة «الأداة» في حياته، قاطعاً بفكره الفطري البدائي الخطوة الجوهرية الأولى نحو مفهوم الكائن البشري «المتحضِّر». لقد عرف الإنسان القفل قبل أن يبدأ التاريخ المدوّن، واستقرّت أشكاله الدالة عليه في رسوم الإنسان على الجدران، كمستند توثيقي مهم، قبل أن تُورد في الصحف وسجلات الكتابة.
طالما افتتن الإنسان بمفهوم «الخصوصية»، حتى قبل أن يُبلور صيغة هذا المفهوم نظرياً، كما تجذَّرت قيمٌ مثل «الملكية» و«الفردية» و«المادية» -رغم ما يشوب هذه القيم في أحيانٍ كثيرة من مغالاة وإفراط حتى حد التشوّه- في المذهب الإنساني الميَّال إلى الاختلاف والتميّز والتفرّد والاستحواذ. والمفتاح، بوصفه قيمة مادية ومعنوية، إنما هو من علامات تميّزنا، يصون فرديتنا، ويحدّد إطارها ويقفل عليها.
رمز السطوة والنفوذ
لقرون عديدة، كان المفتاح رمزاً للأمن والسلطة والقوة، كما ترسّخ في الأساطير في أيدي أصحاب القدرة، وبه تزداد قدرتهم وتتعزز. فتبنَّى الملوك والأباطرة ورجال الدولة والفرسان والنّبلاء المفتاح رمزاً جلياً في راياتهم وفي شعارات النبالة، التي تعكس هويّتهم وإنجازاتهم ومحتدهم الذي يعتزّون به وفي أختامهم الرسمية. وكان تسليم مفاتيح قلعة أو حصن أو مدينة في الأزمنة الآفلة يُعد حدثاً احتفالياً، ترشّح لنا عبر مصفاة التاريخ من خلال احتفالية «مفتاح المدينة» التي تحتضنها في الوقت الراهن مدن عالمية عدة، وذلك لتكريم شخصيات مشهود لها بعطاءاتها الإنسانية والاجتماعية والثقافية أو خدماتها… ويقال إن منبع هذه العادة يعود إلى العصور الوسطى، حين كان اللوردات الإقطاعيون يحمون مدنهم بأسوار عالية وبوابات موصدة بإحكام، تفتح في النهار وتُغلق في الليل، فلا تستقبل الغرباء إلا بشهادات وأوراق قانونية، أشبه بتصاريح دخول مختومة. فكان مفتاح المدينة يُقدّم للتجار الذين تربطهم بقاطنيها مصالح متبادلة، أو للشخصيات الاعتبارية وكبار الزوار، كنوع من ائتمانهم على «حرمة» المدينة، والإعراب لهم عن ثقتها بهم ومنحهم حرية دخولها ومغادرتها متى يشاؤون، إذ يُعهد لهم بمفتاح البوابة: رمز أمن المدينة وأمانها!
واليوم، العديد من المدن العالمية تقدِّم مفتاحها لشخصيات بارزة، من نجوم الفن والمجتمع، أو لمنظمات ذات نشاط إنساني نبيل، أو حتى لمواطنين «صالحين» (من ذلك حين قدَّمت مدينة نيويورك في العام 2004م مفتاح مدينتها لسائق تاكسي أمين قام بإرجاع حقيبة تحتوي على لآلئ بقيمة عشرات الآلاف من الدولارات)، وذلك كنوع من التكريم الرفيع، علماً بأن المدينة لا تحيطها أسوار أو بوابات بمفاتيح، وبالتالي فإن المفتاح، المصنوع من معدن عادي -قد يطاله الصدأ والبهتان مع الوقت- وبتصميم قد يبدو مُبتذلاً ونقشٍ يحمل اسم المدينة، ليس سوى مفتاح رمزي، لا يفتح باباً ولا حتى علبة سردين!
لكن تسليم مفتاح المدينة ليس بالخبر السار دائماً؛ فحتى القرن الثامن عشر، كان المفتاح رمزاً لاستقلالية الأفراد ومنعة المدن، وحين تستسلم مدينة ما لجيش غازٍ فإن هذا يُرمز له من خلال تسليم مفاتيح المدينة للغزاة! ففي لوحة «استسلام بريدا» (1652م) للرسام الإسباني الشهير دييغو فيلاسكيز، المعروضة في متحف برادو في مدريد، يصور الرسَّام حاكم مدينة بريدا الهولندية، جاستن دي ناسو، وهو يسلِّم مفتاح المدينة خاضعاً للجنرال الإسباني أمبروسيو دي سبينولا. أما لوحة «بيوس تابيستري» المطرّزة التي يعود تاريخها إلى القرن الحادي عشر (وهي قماشة مطرَّزة طولها 70 متراً وعرضها نصف متر، تصوِّر الأحداث التي قادت إلى الغزو النورماندي لإنجلترا عام 1066م وأحداث الغزو نفسه)، فتضم مشهداً لكونان الثاني، دوق بريتاني في فرنسا، يسلِّم مفتاح مدينته مكرهاً لويليام دوق نورماندي، قائد القوات النورماندية، الملقَّب بوليام الغازي، والذي أصبح ملك إنجلترا منذ أواخر العام 1066م وحتى وفاته. وحتى لحظة ما قبل الاستسلام، يبدو كونان متمنِّعاً، إذ يسلِّم المفتاح للغازي على رأس رمحه المدبَّب فيما يتقبَّل وليام استسلامه، مستلماً المفتاح، هو الآخر، على رأس رمحه كأنه يوصل له رسالة: إذا كنت تريد الموت على تسليم المفتاح أستطيع أن أعطيه لك برمحي، وفي جميع الأحوال سآخذ المفتاح!
لقد كان المفتاح عنوان السطوة والمكانة والنفوذ. في مصر القديمة، كانت أهمية «رأس البيت» يحدّدها عدد المفاتيح التي يمتلكها؛ حيث كانت ضخمة يحملها العبيد على أكتافهم، سائرين وراء صاحب البيت. وكلما كثُر عبيد ربّ الدار أو حاملو مفاتيحه كلما دلَّ ذلك على درجة ثرائه ومكانته. لكن الحظوة في البيت الاسكندينافي كانت للمرأة. ففي حقبة الفايكنغ، التي امتدّت من القرن الثامن حتى القرن الحادي عشر ميلادية، احتلت المرأة المتزوجة مكانة بارزة في التراتبية الاجتماعية، وكانت المفاتيح رمز هذه المكانة. فعند الزواج، كانت عروس الفايكنغ تُمنح مجموعة من المفاتيح، للدلالة على مكانتها الجديدة، والمسؤوليات التي باتت تتولاها بوصفها ربّة البيت، وكانت المفاتيح البرونزية تتدلّى من ملابسها، أمام العيان، إلى جانب سكين صغيرة أو مقص كي يعرف الجميع -أينما حلّت- أنها متزوجة. ليس هذا فحسب، بل كانت امرأة الفايكنغ تحمل معها مفتاحها حتى إلى قبرها، إذ جرت العادة في ذاك الزمان على أن تُدفن مع قطعة أو أكثر من مقتنياتها، أهمّها المفتاح وإلى جانبه مقصّ أو إبرة خياطة أو قطعة مجوهرات أو أي شيء آخر.
تطوره عبر التاريخ
لعلّ حرص الإنسان على أمنِه وسعيه إلى حماية ملكيّته ووجوده وُلد منذ أن دبّ على الأرض، ويمكننا القول في هذا السياق إنّ أوّل «مفتاح» طوّعته البشرية كان عبارة عن غصن شجرة، وذلك حين كان رجل الكهف -أو «الإنسان الصياد» كما يُلقَّب آركيولوجياً- يستخدمه كعتلة لتحريك الحجر الجلمودي الضخم الذي يحرس فتحة كهفه. ولم يكن الخيال الإنساني يتورّع عن المضي قُدُماً بغية التماس الخصوصية وحماية الغالي والأغلى. في الهند القديمة، كان يتمّ الاحتفاظ بالممتلكات القيّمة لأهل الحكم والمال في حاويات محكمة الإغلاق، ومن ثم تُغمر في البحيرات التي تحيط بالقصور، يحميها «حرس خاص» قوامه مجموعة من التماسيح الشرسة، التي يتمّ إطعامها كميات قليلة من الطعام، بحيث تظل جائعة معظم الوقت، حتى إذا ما تجرأ أحدهم وغاص في البحيرة، التهمه تمساح في لحظات. كانت هذه أمتن الأقفال العصية على النسخ. فلبلوغ الكنوز الدفينة في الماء، كان يتعيّن قتل المفاتيح، أي التماسيح، أو تخديرها!
تاريخياً، يمكن تتبّع أول نظام للقفل والمفتاح، بالمفهوم التقليدي الذي شكّل الأساس لتطور نظام الأقفال والمفاتيح الحديث، حتى قبل نحو أربعة آلاف عام. وبحسب الموسوعة الأمريكية والموسوعة العربية الشاملة فإن أقدم قفل في العالم طوَّره المصريون في العام 2000 قبل الميلاد. أما الموسوعة البريطانية، فتشير إلى أن أقدم نظام للقفل هو الذي عُثر عليه في أطلال قصر خور ساباد في مدينة نينوى العراقية ويعود إلى ما قبل نحو أربعة آلاف عام. وبسبب استخدامه على نطاق واسع في مصر في الفترة ذاتها بات يُعرف بالقفل المصري، وهو لقب ظل يشكِّل المرجع لتطوير آلية عمل الأقفال والمفاتيح لقرون طويلة لاحقة. يعرف هذا النوع من الأقفال بقفل الوتد/الريشة، ومنه تطوَّر نظام القفل الحديث واسع الاستخدام في القرن التاسع عشر، حيث لا يزال يشكِّل الأساس النظري لآلية عمل نظام الأقفال عموماً.
يتكون القفل المصري أو الآشوري من مزلاج خشبي كبير يؤمِّن الباب، تتخلله عدة ثقوب على سطحه الخارجي. ثمة قطعة مثبتة على الباب تحتوي على العديد من الخوابير الخشبية مصمّمة في وضعية بحيث تنزلق في هذه الثقوب، بفعل الجاذبية الأرضية، وتثبت المزلاج، فتمنعه من التحرك وبالتالي لا يمكن فتح الباب. أما المفتاح فعبارة عن قضيب خشبي كبير، يشبه فرشاة الأسنان، ذي أوتاد بأطوال مختلفة في وضع عمودي تطابق الثقوب والخوابير. عند وضع المفتاح في ثقب المفتاح الكبير تحت الخوابير العمودية، يرتفع ببساطة بحيث يعمل على رفع الخوابير، مُفسحاً المجال للمزلاج والمفتاح في داخله كي ينزلق ثانية. ولقد عُثر على نماذج مشابهة لهذا القفل في حضارات قديمة عدة في شمال أوروبا وفي الهند والصين واليابان.
وفي تقنية أكثر بدائية اعتمدها اليونانيون، كان يتم تحريك المزلاج بواسطة مفتاح من الحديد على هيئة منجل بمقبض خشبي. وكان يُمرَّر المفتاح المنجلي الشكل في ثقب في الباب ثم يُدار، بحيث يشتبك رأس المنجل بالمزلاج المثبت داخل الباب ويرفعه أو يسحبه إلى الخلف. على أن هذه التقنية لم توفر أماناً كبيراً. هنا، جاء دور الرومان الذين قطعوا بصناعة الأقفال والمفاتيح خطوات نوعية. فحتى آنذاك، كانت الأقفال تُصنع من الخشب، في حين كانت المفاتيح من الخشب أو البرونز أو الحديد، فكانت المفاتيح المعدنية تعمل على اهتراء الأقفال الخشبية بسرعة. فطوَّر الرومان أول أقفال معدنية قابلة للصمود زمنياً، حيث كانت الأقفال مصنوعة من الحديد الصلب بينما كانت المفاتيح في الغالب من البرونز. ولقد جمع الرومان بين خصائص النموذجين المصري واليوناني في صنع الأقفال، مطورين تقنية أقفال ميكانيكية مبتكرة تم تثبيتها داخل الباب، بحيث تعمل بمفتاح من الخارج عبر ثقب مخصص له. علماً بأن ابتكار ثقب المفتاح التقليدي ينسب إلى اليونانيين، في حين أن الرومان هم الذين حسّنوه وشذّبوه.
وصمّم الرومان أقفالاً بخوابير وأوتاد ذات أشكال عدّة مع مفاتيح تناسبها وثقوب مفاتيح غير مألوفة، الأمر الذي قلّل من إمكانية قيام أحدهم بنسخ المفتاح. كما صاغوا الأقفال بنقوش وزخرفات ورسومات تمويهية، فجعلوها على شكل حيوانات وأزهار وطيور. كذلك، نالت المفاتيح نصيبها من الزخرفة، فدلت غزارة النقش وطبيعته وتعقيداته على مكانة صاحبها، بل إن بعض المفاتيح كانت ذات تشكيل جمالي موشَّى بالذهب أو الفضة فجاز معه التباهي بها إذ تدلّتْ من القلائد حول الأعناق وفوق الصدور.
ويُنسب للرومان أيضاً أنهم اخترعوا الأقفال المسنّنة، حيث لا يزال المبدأ الذي تقوم عليه معتمداً في أقفال اليوم. كما يشير الاسم، توجد الأسنان أو النتوءات، داخل القفل حيث تمنع المفتاح من الدوران إلا إذا كان وجه المفتاح المسطح، أي لسانه، فيه شقوق صغيرة بطريقة يمكن للنتوءات أن تتخللها؛ فقط المفتاح ذو الشقوق المناسبة يمكن أن يفتح القفل المسنّن. ولما كانت الأسنان تُنحت من أجزاء معدنية صغيرة، فقد كان الرومان أول من صنعوا الأقفال والمفاتيح الصغيرة، بل إن بعض المفاتيح كانت من الصغر بحيث كان بالإمكان ارتداؤها كخواتم، فيما استحال موضة رائجة في الحقب البعيدة. ومن جديد، يستثمر الرومان خبرتهم، التي صقلتها المعرفة، في ابتكار الأقفال المحمولة، وإن كانت مراجع عدة تشير إلى أن الصين هي الموطن الذي شهد ولادة الأقفال المحمولة، أسلاف الأقفال الأسطوانية المحمولة حالياً، في حين عمل الرومان على ترويجها وتوسيع قاعدة استخداماتها. إذ راجت هذه الأقفال تحديداً وسط التجار والرحالة، ممن كانوا يسافرون بالصناديق التي تحمل بضائعهم في طرق التجارة البرية والبحرية، دون أن تردع هذه الأقفال، التي عرفت بـ «أقفال السفر»، قطَّاع الطرقات ولصوص القوافل وقراصنة البحار من السطو على الصناديق!
مجدُ «القفّالين»
من المفارقة القول إن العصور الوسطى في أوروبا، المعروفة تاريخياً بعصر الظلام، أضاءتها الأقفال، وربما الأقفال فقط، التي شهدت أوج تطورها وإبداعيتها. وبلغت حرفة صانعي الأقفال أو «القفّالين» الذرى، فبنوا مجدهم الخاص في صناعة استحالت فناً، بعد أن كانت عِلماً، مع سيادة ذائقة مترفة ومبهرجة. كانت العصور الوسطى بحق ساحة سجال فنّي تبارى فيها القفّالون في استعراض ابتكاراتهم. فقد تحولت الأقفال من الخارج إلى ما يشبه «الكنفا»، مستوعبة من النقوش والرسوم ما أحالها إلى لوحات فنية. على أن تطور شكل القفل خارجياً لم يُضف كثيراً إلى عمل آليته. ومن التحسينات التي شهدتها تلك الحقبة إخفاء ثقب المفتاح في القفل من خلال مصاريع أو أغطية سرية، كما تم تصميم بعض الأقفال بحيث تطلق دبابيس أو سهاماً صغيرة مسمومة أو سكاكين متناهية في الصغر حين كان يتم إدخال مفتاح غريب في القفل، وهو ما خاطب الخيال «القرن أوسطي» المفتون بالخرافة والغموض!
وبدأ بعض القفَّالين المهرة يحققون شهرة عالمية، فكانوا يُدعون لصنع أقفال تحت الطلب لنبلاء أوروبا تضم شعارات النبالة وأشكالاً رمزية، مع اعتماد نقوش تتناسب والبناء المعماري المصمَّم له القفل.
وحين شارفت العصور الوسطى على الانتهاء، شهدت صناعة الأقفال المزيد من التفنن، إذ اكتسبت أوروبا بعضاً من عافية حضارية فحفَّزتْ القلاع والقصور والمعابد التي تجلَّت فيها كل أشكال البذخ الهندسي حدّ الصلف والتكلّف أحياناً، من القوطي إلى النهوضي فالباروك، الإبداع الأجمل للقفّالين البارعين. فأثناء النهضة تمت إضافة الرافعة إلى الأقفال المسننة لمزيد من الأمن؛ وإلى جانب مروره من خلال النتوءات الثابتة، بات يتعين على المفتاح رفع شريط -بمثابة رافعة- ليحرك المزلاج في القفل. وبحلول القرن السادس عشر، دُشِّنت في أوروبا ما يعرف بـ«الأقفال التوافقية» أو أقفال بلا مفاتيح، التي استعارت مفهومها وآلية عملها من الصين القديمة. وللقفل التوافقي قرص مدرج تحيط به مجموعة أرقام، ولفتح القفل يتعين تحريك القفل إلى اليمين وإلى اليسار في تتابع أرقام بعينها، حتى إذا ما تطابقت الأرقام مع الشقوق في القرص فُتح القفل. ولقد استُخدمت هذه الأقفال في الخزائن وصناديق المجوهرات.
هواية الملوك
استحوذت فتنة الأقفال على الألباب، وشكّل اقتناؤها غايةً ورجاءً لمن استطاع إلى الجمال والفن وثمنهما سبيلاً. وكانت كاترين الثانية إمبراطورة روسيا القيصرية -التي حكمت البلاد من العام 1762م حتى وفاتها عام 1796م- تملك واحدة من أجمل وأغلى مجموعات الأقفال في عصرها. ولم تخف الإمبراطورة إعجابها بحرفية وفنيّة صانعي الأقفال الذين كانوا يتبارون في ترجمة خيالهم في لوحات آسرة حملتها أسطح الأقفال، مبدعين أقفالاً محمولة ذات أشكال مبتكرة ومثيرة. يُقال إن صانع أقفال روسياً مشهوراً نال حريته بفضل حرفيته! فقد قام بصنع سلسلة من الأقفال والمفاتيح المزخرفة للإمبراطورة التي بلغ انبهارها بمهارته حدّ إصدارها قراراً بالعفو عنه بعدما كان على وشك ترحيله إلى سيبيريا لقضاء عقوبة بالسجن هناك، غالباً ما تنتهي إلى موت محتوم. وكما تقول القصة، فإن هذه الواقعة وراء المثل القائل: «يستلزم الأمر 89 مفتاحاً لفتح قفل سجن»، كناية عن عدد مفاتيح الأقفال التي صممها الحرفي للإمبراطورة كاترين.
ولم يكتف النبلاء وسادة الأقوام باقتناء الأقفال والمفاتيح، بل بلغ الشغف بها حد تورط الملك لويس السادس عشر بصنعها! نعم.. فالملك الفرنسي الشاب، الذي أطاحت به الثورة الفرنسية في العام 1792م، لم ينشغل بأمور الحكم كثيراً، وكانت أحب الأوقات إليه عندما يخلو إلى ورشته في القصر يصنع الأقفال المعدنية، هو الذي تعلَّم الصنعة على يد قفّال فرنسي يدعى غامين. وكان لويس فخوراً على وجه التحديد بخزنة حديد سرية، احتفظ فيها بأوراقه الشخصية ومقتنياته الخاصة جداً، كان يخبّئها في أحد جدران قصره. لكن الثوار -بمساعدة غامين- تمكنوا من معرفة موقع الخزنة. ويا ليت لويس، كما يقول الفرنسيون، «حكم البلاد بمستوى كفاءته في صنع الأقفال»..
على عتبة العصر الحديث
يمكن الزعم بأن أول محاولة جادة لتعزيز مستوى الأمان للقفل وتطوير آليته تحققت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر على يد صانعي الأقفال الإنجليز، أمثال روبرت بارون وجوزيف براماه وجيريمايا تشاب. وقد واصلت صناعة الأقفال ومعها المفاتيح تطورها حيث بلغت أوجها في منتصف القرن الثامن عشر، مع صانع الأقفال الأمريكي لينوس ييل الأب، الذي سعى إلى إدخال تحديثات جوهرية على الأقفال. لكن القفزة النوعية تحققت على يد لينوس ييل الابن، الذي اخترع «قفل الوتد/الريشة» الحديث في العام 1865م، منطلقاً في فكرته من فكرة القفل الآشوري أو المصري القديم؛ وهو قفل ذو مفتاح صغير مسطّح، بحافة مُشرشرة، حيث كان أول قفل يُنتج بكميات كبيرة، كما يُعدّ حالياً الأكثر أماناً والأكثر استخداماً للأبواب في العالم.
ومع اتخاذ التقنية منحنىً تصاعدياً في القرن العشرين، وتطور طرائق التصنيع بموازاة استشراء عصر الآلات، شهدت الأقفال والمفاتيح تحسينات مطردة مع إنتاجها بدقة أكبر لجهة آلية عملها وتشذيبها وتعزيز خصائصها الأمنية على نحو قلَّص من احتمالات فتحها عُنوة. وشهد القرن الفائت ظهور العديد من الأقفال والمفاتيح متنوعة التقنيات، متعددة الاستخدامات، لا نهائية المزايا. فتم تطوير الأقفال الإلكترونية، التي تستخدم مفتاحاً لتشغيل دائرة كهربائية، كمفاتيح السيارات والطائرات، وهناك الأقفال الموقوتة، كنوع من الأقفال التوافقية، حيث تستخدم في خزائن المصارف والمؤسسات المالية، وهي ذات مزاليج إغلاق آلية تعمل بجهاز توقيت. وقد يكون من الصعب حصر أنواع المفاتيح والأقفال، التي تعكس كثرتها وبنيتها المعقدة نتيجة لتراكم الخبرة البشرية، هوس الإنسان بمفهوم الأمان، وهوسه الأكبر -بالمقابل- لسلب هذا الأمان.
من مفتاح الباب الخشبي الضخم الشبيه بعتلة مدجّجة بالأوتاد إلى مفتاح البيت المعدني الصغير، فمفتاح تشغيل السيارة ومفتاح تشغيل الطائرة، إلى المفتاح الكهربائي، الذي يتحكم في سريان التيار الكهربائي في دائرة كهربائية، كمفتاح تشغيل المصابيح أو تشغيل الأجهزة الكهربائية، فمفتاح التحكم عن بعد ومفتاح «كرت» أو بطاقة بلاستيكية، يا له من بون شاسع بين مفتاح ومفتاح، حافل بالفروقات والتمايزات. بعد أن كان يتطلب الأمر شخصاً ذا بأس -أو عدة أنفار- لحمل المفاتيح، باتت مفاتيح البيت والمكتب والسيارة والريموت كونترول الخاص بفتح السيارة عن بعد، ومفاتيح أخرى تتدلى من سلسلة واحدة، تخشخش بخفة في اليد!
فنّ «سرقة الخزينة» في الشاشة..
لصوص الأقفال
على غرار الممنوع مرغوب، فإن «المقفول» يحفِّز الرغبة لفتحه، ويثير الشهية لافتضاض مكنوناته. في ثنيات التاريخ الواقعي والمُتخيَّل، أغوت الأبواب الموصدة اللصوص الذين لم يتورّعوا عن استنباط كافة الأساليب لـ «هتك» الأقفال وفك شِفرة الخزينة البنكية المعقدة أو حتى تفجيرها، إذا لزم الأمر.
البدايةُ بدائية كانت، أو هكذا قدَّمتها بعض الأفلام في السينما العربية؛ فثقب الباب العريض، الذي نتلصّص منه على ما يدور خلف الباب، كان سهل الاقتحام، بصورة كاريكاتورية! إذ كان يكفي أن ندسّ ورقة تحت الباب، ثم بدبوس أو مشبك صغير ندفع المفتاح من الثقب في الجهة المقابلة فيسقط على الورقة، ومن ثم نسحب الورقة من تحت الباب إلينا ليصبح المفتاح بحوزتنا! إذ تضاءل حجم ثقب الباب ولم تعد العين ترى ما خلفه، اعتمد اللصوص تقنية بسيطة في فتح الباب، قوامها نسخ المفتاح، بعد طبعه على لوح من الصابون أو الشمع، وذلك منذ اختراع أول آلة لقص و«خراطة» المفاتيح في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1917م، أو ببساطة شديدة الاستعانة بأداة مدببة، كدبوس أو مبرد مستدق الرأس، للتلاعب بالنوابض أو تحريك المسننات داخل القفل لفتحه دون حاجة لمفتاح، في مشهد متكرر في السينما العالمية.
والإثارة تتصاعد، على الأقل في السينما، بعدما شكَّل السطو على الخزائن المصرفية سيناريو متكرراً، مشحوناً بالإثارة التي تعلو معها ضربات القلوب، وهو ما يتوافق وتطور التقنيات الأمنية في صناعة الخزينة، في المصارف والكازينوهات والمتاحف. لعل المشهد الدارج في المخيلة السينمائية قيام أحدهم بالتنصت إلى صوت حركة القفل التوافقي، الذي يعمل بتوليفة رقمية، بالاعتماد على أذنه أو بالاستعانة بسماعة طبية لاقتناص حركة القفل إذ يصيب الرقم الصحيح مكانه المخصص في القرص المدرج، محدثاً صوت طقطقة لا تخطئها الأذن الخبيرة! ومع تطوير تقنية الأقفال التوافقية في الخزائن، لجأ اللصوص إلى خيار يائس عبر تفجير الخزينة، ثم في مرحلة لاحقة من لعبة «القط والفأر» بين اللصوص والقيِّمين على الخزائن، اعتمدت مصارف العالم الكبرى خزائن ذات أبواب مصفحة، مضادة لأقوى أنواع التفجيرات الأمر الذي عنى سعي اللصوص إلى البحث عن وسائل أكثر دهاءً للاحتيال عليها.
من أشهر الأفلام العالمية التي صورت عملية الاستيلاء على المصارف أو الخزائن، بطريقة عمدت بعضها إلى «تبجيل» اللصوص، فِلم «غابة الإسفلت» (1950م)، والفِلم الفرنسي «ريفيفي» (1955م)، وسلسلة الأفلام الدنماركية «عصابة أولسن» (1968 – 1998م)، والفِلم الأمريكي «اللص» (1981م)، والجزء الأول من سلسلة أفلام الآكشن الأمريكية «الموت بصعوبة» (1988م)، وفِلم «قتل زو» (1994م)، وفِلم «حرارة» (1995م) وفِلم «الأشقاء نيوتن» (1998م)، و«أوشن 11» (2001م) وعشرات الأفلام التي تظهر حنكة اللص في مواجهة المؤسسة الأمنية!
لكن الخيال التصويري يتخطى الواقع بكثير؛ ففي تنافس محموم بين الواقع الأمني والرواية السينمائية، يتحول «الجسد البشري» إلى مفتاح يقهر أكثر أنواع الأقفال غير القابلة للكسر أو التحطيم! في فِلم «المصيدة» (1999م)، تتمكن النجمة كاترين زيتا جونز، مستعينة برشاقة استثنائية، من الاحتيال على قفل قوامه شبكة أمنية متقاطعة من أشعة الليزر، عبر القفز فيما بين الأشعة، حيث تنجح في تجنب أي احتكاك معها قد يؤدي إلى إطلاق دوي صفارات الإنذار، وهو مشهد يتكرر في فِلم «أوشن 12» (2004م)، الجزء الثاني من «أوشن 11»، حين ينجح لص رشيق جداً، يجسِّد دوره النجم الفرنسي فينسنت كاسيل، في تخطِّي شبكة الإنذار الليزيرية، عبر أداء جمبازي بهلواني يصعب تصديقه!
كأن بالسينما تعلنها حكمة في نهاية المطاف؛ وهي أن الأمان يصبح في خبر كان!
مفاتيح لا تشبه المفاتيح
إن المفتاح في منشئه هو الأداة التي تحرِّك وتدير وتشغِّل، وهو في المبتدأ الأساس الذي تعمل به الأشياء، لذا فإنه كفكرة يمكن قولبته في أكثر من مصطلح وفي أكثر من هيئة. وبالتالي، لا يتعيَّن أن يكون المفتاح -من حيث الشكل- هو المفتاح التقليدي إياه، بالهيكل المعدني ذي المقبض والطرف المسنّن أو المشرشر! فثمة مفاتيح لا تشبه المفاتيح، تقوم بمهمّة الفتح والتشغيل، أو قد تلعب دور الموجِّه والمحدِّد.
فالموسيقى لها مفتاح، وهو مصطلح مجازي، لا أداة، يُستخدم للدلالة على الأساس الذي كتبت به مقطوعة موسيقية بعينها، كأن تُكتب مثلاً بالمفتاح C، وهو ما يعني أن مركز النغم فيها هو المقياس C، حيث يضم المفتاح الموسيقي نغمات المقياس وكل الأوتار التي تصوغ هذه النغمات.
في الموسيقى أيضاً، تستخدم كلمة «مفاتيح» للإشارة إلى الأصابع الصغيرة، باللونين الأبيض والأسود، التي تَفتَح وتُغلِق فتحات الصوت الهوائية الموجودة على الآلات الموسيقية، مثل الكلارينيت. وهناك آلات كالبيانو والأرغن لها روافع تُسمّى مفاتيح، حيث يضغط العازف عليها لإخراج الصوت. تُعرف مفاتيح البيانو والأرغن وغيرهما من الآلات الموسيقية بالـ «كيبورد» Keyboard أي «لوحة المفاتيح».
ونستخدم لوحة المفاتيح أيضاً في الكمبيوتر، وهي عبارة عن لوحة أو أداة لإدخال البيانات، مصممة على نمط الآلة الطابعة، بترتيب معيَّن من المفاتيح أو الأزرار، تحمل أحرف وأرقاماً ورموزاً، تعمل بمثابة رافعات ميكانيكية أو مفاتيح إلكترونية. ويحمل كل مفتاح على لوحة المفاتيح نقشاً لحرف أو رمز أو رقم، بحيث يتم إدخاله في الكمبيوتر من خلال الضغط عليه، أو الضغط على أكثر من مفتاح في الوقت نفسه.
ولا يصح أن نغفل «مفتاحاً» توضيحياً حيوياً في الخرائط والرسوم البيانية يُطلق عليه «مفتاح الخريطة»، وهو عبارة عن مقياس يضم قائمة من الكلمات والتعبيرات والألوان، عادة ما يوجد في إطار صغير داخل الخريطة، بحيث يشرح معنى الرموز والإشارات الموجودة في الخريطة.
قلبي ومفتاحه
إن القلوبَ مستودعُ الأسرار ومُحتضنُ الهمس ومأوى العواطف الشجيّة. وقد لا يكون من الحكمة أن نفتح باب القلب لكل من هب ودبّ. علينا أن نوصد على نبض الفؤاد، نضنّ بفرحه كما نُغلق على حزنه، فلا نأتمن غير الحبيب على مفتاحه، ألم يُغنِّ فريد الأطرش: «قلبي ومفتاحه، دول ملك إيديك، ومساه وصباحه، يسألني عليك»؟
وثمة طقس عالمي لما يعرف بـ «أقفال المحبة»، كعادة مستحدثة ضمن بدع عالمية «شعبوية» -لا تنفع كما لا تضر- يقوم فيها الأحبة الشغوفون بتثبيت أقفال على سياج أو عمود أو جدار في سلسلة معدنية، كرمز للحبّ الأبدي، بحيث تُحفر أسماء الأحبّة أو الأحرف الأولى منها على القفل، ثم يُرمى المفتاح بعيداً، ويا حبذا في قاع نهر أو بحر لضمان ألا يستعيده أحد. بذلك، يُقفل على الحب إلى الأبد، ولا يتسنَّى لكائن من يكون أن يفتح القفل الموصد على القلوب.
لا توجد مرجعية أكيدة لجهة أصل هذه البدعة، أو للجغرافيا الأم التي ولدتها قبل أن تستشري في جغرافيات متعددة، وإن كان يُعتقد على نطاق عريض أن هذا التقليد وُلد في الصين، حيث يُمكن لمح أقفال المحبة، من مختلف الأحجام والأشكال بنقوش وكتابات منمنمة، مثبتة في مواقع عدة على طول سور الصين العظيم، متراصّة بالآلاف في صفوف لا تنتهي من السلاسل الحديدية المتشابكة. وعادةً ما تشكِّل أبراج المراقبة الموزّعة في نقاط استراتيجية بعينها في سور الصين مواقع منتخبة لعقد الزيجات، حيث يتبادل العروسان نذور الزواج، أمام الأقرباء والأصدقاء، بينما يعلّقان قفلاً محكم الإغلاق في سلسلة الأقفال، ثم يقذفان المفتاح بعيداً على أمل أن يبقى حبهما ويعمّر، كما عمّر سور بلدهما الأعظم.
ولقد انتشر تقليد أقفال الحب وراج في أماكن عدة في مختلف أنحاء العالم مثل مدن روما وفلورنسا وتورين في إيطاليا ومدينة بيكس في هنغاريا وريغا في لاتفيا، ومونتيفيديو في الأرغواي، وسيئول في كوريا الجنوبية وطوكيو في اليابان، وكولون بألمانيا، وكييف في أوكرانيا، وإشبيلية في إسبانيا، واستوكهولم في السويد وموسكو في روسيا وغيرها. الطريف أن تقليد أقفال المحبة، وإن كان يوحي بطقس موروث عتيق وخرافة غابرة، يُعد مستحدثاً جداً؛ ففي هنغاريا ذاعت هذه الأقفال في ثمانينيات القرن الماضي، أما في إيطاليا، فإن عمرها لا يزيد على سنوات أربع، في تمثيل عجيب للواقع إذ يُحاكي الأدب والفن. ذلك أن البدعة اختلقتها بنات أفكار الكاتب الإيطالي فيدريكو موتشيا في روايته الرومانسية «أريدك»، التي نشرت في العام 2006م والتي تحوَّلت إلى فِلم سينمائي في العام 2007م لقي نجاحاً شعبياً. فبحسب وقائع الحكاية/الفِلم، يحاول شاب أن يظفر بقلب فتاة، زاعماً أن هناك تقليداً يقوم فيه الحبيبان بموجبه بتثبيت قفل في سلسلة حول عمود إنارة على جسر بونتي ميليفيو القديم في روما، ثم يلقيان بمفتاح القفل في نهر التيبر ليظل قفلهما بمنأى عن أن يفتحه أحد، وبالتالي يظل الحب قائماً وصامداً إلى الأبد. ولقد عمل الفِلم على تأجيج حمى أقفال الحب لتصيب القاصي والداني، ابن البلد والسائح الوافد إلى مدينة الرومانسية، يتدفقون على الجسر بالعشرات يومياً، معلقِّين أقفالاً تحمل نقوش أسمائهم ورسومات لقلوبهم في سلاسل مثبتة حول أعمدة الجسر، حتى لم يعد ثمة عمود بلا سلاسل وأقفال، وقد فاض النهر بالمفاتيح وغصت بها الأسماك المسكينة التي تدفع ثمن تهور مجانين الحب، الأمر الذي دفع مسؤولو المدينة (حماية للجسر وأعمدته التاريخية من أن يلحقها تشوه أو ضرر وليس دفاعاً عن الحب) إلى نصب أعمدة من الفولاذ مخصصة رسمياً لأقفال الحب. وسرعان ما امتدت سلاسل الأقفال إلى مدن إيطالية أخرى.
متحف الأقفال
يظل لأقفال الأمس ومفاتيحها وهجها وصدى خشخشة المعدن البارد عبر التاريخ، فيثير ذكريات ينتفض معها عصب الروح. لهذه الذكريات مساحة حية في متاحف عالمية مختصة، لعل أشهرها متحف الأقفال في سيئول في كوريا الجنوبية، الذي يضم تشكيلة غنية من الأقفال وميداليات المفاتيح ومزاليج البوابات وسقّاطات الأبواب.
وتحظى الأقفال والمفاتيح بأهمية خاصة في كوريا، فالأقفال ليست مصمّمة لتكون أداة أمنية فقط، وإنما تنطوي على سمات جمالية بحيث يمكن استخدامها كزينة داخلية أو تحفة فنية. ومن خلال الجمع بين أشكال وأنماط رمزية، تحوّلت الأقفال إلى مظهر حيوي من مظاهر الثقافة الكورية عبر الأزمان. وغالباً ما شملت التصاميم المستخدمة في تزيين الأقفال وزخرفتها على موتيفات نباتية وحيوانية للتعبير عن آمال صاحبها وأمنياته للمستقبل. وإلى جانب الأقفال، يؤوي المتحف تشكيلة بالغة التنوع من ميداليات وعلاّقات المفاتيح، كإكسسوارات شخصية غنية بالنقوش، حيث تورثها الأمهات الكوريات لبناتهن لتذكيرهن بواجباتهن إزاء تدبير شؤون بيوتهن وأسرهن. وفي العديد من المناطق الكورية، كان إهداء حديثي الزواج ميداليات مفاتيح تتدلَّى منها قطع نقدية تذكارية هدية أثيرة، وكانت هذه الميداليات تُستخدم لتزيين الجدران أو الأثاث في بيت العروسين، لعلّها تكون مفتاحاً للسعادة والعَمار المديد الذي يسم أيامهما.
وهناك أيضاً متحف أمريكا للأقفال الكائن في بلدة تيريفيل بولاية كونيكتيكت الأمريكية، حيث يضم ثماني قاعات عرض، تحتضن كل أنواع الأقفال والمفاتيح التي تغطي حقباً تاريخية عدة، من بينها قاعة مخصصة لأقفال خزائن البنوك وقاعة لـ «أقفال ييل»، التي صنعتها شركة ييل (نسبة إلى لينوس ييل الأب والابن) في الفترة الممتدة من 1860 وحتى 1950م، من بينها نموذج الاختراع الأصلي لـ «قفل الوتد/الريشة» الذي ابتكره لينوس ييل (الابن) عام 1865م، الذي يُعد أعظم اختراع في تاريخ صنع الأقفال.
في الحكايات والأدب
منذ الأزل، دخل المفتاح في التجربة البشرية من بوابة الواقع كما بوابة الخيال والحكايات، في معانٍ عديدة كشفت الرغبة الإنسانية المتحرّقة أبداً إلى كشف المستور وفضّ المغاليق، والوقوع على الغريب والغامض والآسر والمستجدّ والمثير والخطير. وطالما شكّلت المفاتيح مادة محفِّزة للخيال في التراث الحكائي العالمي، تفتح الصناديق الملغزة والحجرات السرية، وتفضّ الأحاجي المعقّدة، فتتكشَّف عن سرّ عظيم وقدر مبيّت يرتقي إلى درجة السحر أحياناً.
إن المفتاح هو الفتح والكشف، هو الجلاء والتبدي للعيان، هو الإقليد والإغْليق، وهو المغلاق ونقيض الإغلاق، هو مادي جداً كما أنه رمزي ودلالي. أو ليس «الصبر مفتاح الفرج»؟ هو رمز الانتقال من فضاء إلى فضاء، من عالم إلى آخر، ومن قناعة إلى أخرى. قد يقودنا إلى أفق طلق حر كما قد يوصد علينا زنازين الأسر؛ قد يُدخلنا حجرة مضاءة بالأمل، وقد يدفعنا إلى حجرة معتمة غارقة في ظلمات الوحشة؛ قد يفتح لنا صندوق عِلمٍ مغلق ومعرفة مبهمة، كما قد يشرع لنا صندوق «باندورا» المليء بالشرور! وباندورا في الأسطورة الإغريقية، هي المرأة التي أعطاها زيوس، ملك الملوك وحاكم جبل أوليمبوس، جرة كبيرة وأمرها بألا تفتحها مهما كانت المغريات، لكن فضول باندورا تخطى أوامر زيوس، وفي النهاية لم تستطع مقاومة غواية الأسرار المستكينة في الجرة، فما إن فتحتها حتى خرجت منها كل الشرور والأمراض والبلايا والرزايا التي لم يعرفها الإنسان. على أن الأساطير اليونانية بما تحمله من رمزية لم تشأ أن تكون النهاية مأساوية تماماً، ذلك أنه في قاع الجرّة كمن الأمل، الأمل بأن يتخطّى الإنسان ما يصيبه من بلوى وبلاء، وبالتالي قد لا يكون فتح الجرة/الصندوق بالأمر السيئ بالمطلق.
قد لا يكون المفتاح الحكائي مفتاحاً بالمفهوم التقليدي، فـ «افتح يا سمسم» ليس مفتاحاً مصنوعاً من معدن وإنما مصبوبٌ من «كلمات»! في قصة «علي بابا والأربعين حرامي»، إحدى قصص «ألف ليلة وليلة» التي افتتن بها العالم، فإن مفتاح مغارة الكنز هي «افتح يا سمسم»، إنها الكلمات المفتاح الذي يقع عليه علي بابا البغدادي فتقوده إلى الكنز الذي يحتفظ به اللصوص في مغارتهم. يا له من مفتاح سحري، يوشك أن يقود علي بابا إلى التهلكة إذ اكتشف اللصوص أمره. لكن من جديد، نحتاج إلى امرأة مثل مرجانة، زوجة علي بابا، التي تكون «مفتاح» نجاة زوجها، فتنقذه من عاقبة وشاية جار حسود به! ونساء «ألف ليلة وليلة» قادرات، يتخطين الإغلاق حتى وإن أُقفل عليهن بسبعة أقفال. لعلنا نتذكر قصة العروس، التي يشهدها الملك شهريار في مستهل كتاب الحكايات، والتي اختطفها عفريت ليلة عرسها، ثم وضعها في علبة وجعل العلبة داخل الصندوق ورمى على الصندوق سبعة أقفال وجعلها في قاع البحر «العجاج المتلاطم بالأمواج». ومع ذلك، فإن العروس البهية استطاعت في غفلة من الجني أن تفعل الأفاعيل، في حكمة خَلُصتْ إليها حكايا الليالي وهي أن «المرأة منّا إذا أرادت أمراً لم يغلبها شيء»، كما جاء على لسان العروس حبيسة الصندوق.
في الخيال الحكائي العالمي، نستعين بقصّة «القلعة التي وقفتْ على أعمدة ذهبية» للدلالة على قيمة المفتاح في صورته غير التقليدية؛ ففي الحكاية التي تندرج في الفولكلور السويدي تقوم قطة بتحويل نفسها إلى رغيف خبز في ثقب مفتاح قلعة عملاق، لتمنع العملاق من دخول قلعته. «افتحي الباب!» صرخ العملاق غاضباً، لكن القطة ظلت تقصّ له مغامراتها الكثيرة إلى أن طلعت الشمس وانهار العملاق.
إذ تقطع حكايا المفاتيح قروناً من التداول البشري، فإن المغزى لا يغيب عن الأدب الراهن، المفتون بالأحاجي والألغاز، تماماً كما هو مفتون بالبحث عن «المفتاح» الذي يفضّ مغاليق الأسرار، ويقود إلى الكشف النهائي، أياً كانت عواقب هذا الكشف. قد يكون المفتاح بمثابة «الشفرة» التي تفك أحجية معقدة، كما هو الحال في رواية «شفرة دافنشي» (2003م) ذائعة الصيت للكاتب الأمريكي الشهير دان براون أو روايته الأحدث «الرمز المفقود»، التي نالت حظها من الترويج حتى قبل أن تصدر في سبتمبر (أيلول) الماضي تحت عنوان «مفتاح سليمان»، كعنوان تقصدّت الدعاية الإعلامية من ورائه وعْد القراء المنتظرين برواية ملغزة، تتخطى الإثارة التي توافرت في «شفرة دافنشي». ولا يبدو غريباً أن يقترن المفتاح بالقصص والروايات البوليسية، من ذلك روايتي «سبعة مفاتيح لبالدبيت» (1913م)، و»حارس المفاتيح» (1932م) للروائي والمسرحي الأمريكي إيرل دير بيغرز، علماً بأن «سبعة مفاتيح لبالدبيت» نُقلت إلى الشاشة الفضية في تسع نسخ سينمائية على الأقل، سبعة منها بالعنوان نفسه! كما اقترن المفتاح بالفانتازيا الروائية من خلال رواية «المفتاح» للكاتبة الأسترالية ماريان كيرلي ضمن ثلاثيتها الروائية المعروفة «حراس الزمن». على أنه من بين الروايات العالمية التي تناولت المفتاح كـ «تيمة» أدبية تتوسّم بوْحاً واستراقاً للمشاعر رواية «المفتاح» (1956م) للكاتب الياباني جونيشيرو تانيزاكي، حيث يكون مفتاح الدرج الذي يؤوي يوميات يدونها زوج محبط -يفترض أنها سرية- كشفاً للحياة، والأهم كشفاً للذات.
مفتاح الكعبة
يستأثر مفتاح الكعبة باهتمام فريد من نوعه في العالم الإسلامي. يوجد المفتاح «الرسمي» بيد سدنة بيت الله في مكة المكرمة، والسدنة هم المسؤولون عن شؤون الكعبة وكل ما يتعلق بها من فتحها وإغلاقها وتنظيفها وغسلها وكسوتها وإصلاح الكسوة واستقبال زوار البيت، حيث يتولى أمر المفتاح وشؤون السدانة آل الشيبي في السعودية، الذين ينتهي نسبهم إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة. وقد نقشت على المفتاح، المصنوع من النحاس والمطعم بالفضة، آيات من القرآن الكريم. ويعتقد، كما تفيد بعض السجلات، أن هناك 59 نسخة من مفاتيح الكعبة، 54 منها في متحف قصر توباكابي في أسطنبول بتركيا، واثنان ضمن مجموعة شخصية، ونسخة في متخف اللوفر بباريس وآخر في متحف الفنون الإسلامية في القاهرة.
«افتح يا سمسم» من البلاستيك
إذا كان مفتاح «ييل» قد أحدث ثورةً في صناعة المفاتيح، فإن المفتاح البلاستيكي المصمّم على هيئة بطاقة أو كرت من البلاستيك جاء بمثابة «افتح يا سمسم» عصرية، سحرية، تنشق على أثرها أعتى الأبواب و»المغارات» الموصدة. بالإنجليزية، يُشار إلى هذا المفتاح بـ «Keycard»، وهو ليس مفتاحاً بالمفهوم المتعارف عليه، وإنما عبارة عن بطاقة تشبه بطاقة الهوية، مسطحة، مستطيلة الشكل، تخزن معلومات رقمية تستخدم مع الأقفال الإلكترونية. ولقد بلغ من شيوع هذه البطاقة أن معظم فنادق العالم اليوم باتت تستخدمها في فتح غرف الضيوف. ولم يعد ثمة قلق من أن يقوم الضيف بالمغادرة دون أن يرجع المفتاح البلاستيكي؛ ذلك أنه بعملية كمبيوترية سهلة بالإمكان تغيير صيغة المعادلة الرقمية في القفل الإلكتروني للباب، واستخراج بطاقة بلاستيكية جديدة له في لحظات!
وهناك العديد من أنواع البطاقات البلاستيكية التي تعمل كمفاتيح، من بينها البطاقة الآلية المثقبة، والبطاقة الممغنطة، أي المزوَّدة بشريط مغناطيسي، و«البطاقة الذكية» المزوَّدة برقاقة إلكترونية لقراءة وكتابة البيانات، حيث تعمل هذه البطاقات إما من خلال إدخالها في قفل خاص بها وسحبها في حركة سريعة، أو تعريضها لمجس أو مسبار لقراءة البيانات المدونة فيها والتعرف إلى صاحبها. وكان العالِم النرويجي المولد تور سورنيس أول من دشّن قفل البطاقة البلاستكية، تحت اسم «فينغ كارد» VingCard، مستخدماً في فتحه بطاقة بلاستيكية تعمل آلياً فيها 32 ثقباً. كان ذلك في العام 1975م، حيث لا تزال فنادق العالم تعتمد هذه البطاقة. ولقد أعطت الثقوب الـ 32 في المفتاح/البطاقة 4.2 مليار توليفة أو تركيبة مختلفة، وهو ما كان يساوي تعداد سكان العالم على كوكب الأرض في ذلك الوقت، الأمر الذي وفَّر لكل نزيل في الفندق بطاقته البلاستيكية الفريدة التي تتألف من 32 ثقباً بترتيب معين لكل منها. ولا يزال هذا النوع من المفاتيح البلاستيكية هو المعتمد في معظم فنادق العالم.
وفي العامين 1992 – 1993م، ابتكر سورنيس القفل الإلكتروني الذي يعمل بالبطاقة البلاستيكية ذات الشريط الممغنط، التي تحمل بيانات «مشفرة». ويمكن تغيير بيانات البطاقة عبر تعديل ترتيب الجزئيات في الشريط المغناطيسي الخاص بها. وتلقى هذه البطاقة رواجاً عالمياً، من خلال استخدامها كهوية، تتيح لصاحبها دخول مؤسسة أو مرفق ما، كما تُستخدم في أجهزة الصراف الآلي، وفي تذاكر المواصلات في وسائط النقل العام في أجزاء عدة من العالم، كقطارات الأنفاق في بريطانيا.
مفاتيح وطن
لا يوجد مفتاح يثير شجناً ويستحثّ حنيناً كمفتاح البيت في فلسطين ما قبل نكبة عام 1948م، بالنسبة لمئات الآلاف من الفلسطينيين ممّن غادروا قراهم وبلداتهم كلاجئين. فقد ترك الفلسطيني وراءه البيت والأرض والوطن، وحمل معه مفتاح الدار، يعلقه حِرزاً على حوائط غربته القسرية أو يخبّئه في صندوق مقتنياته، مع أوراق «الطابو» الصفراء التي تؤكد ملكيّته لأرض نُهبت منه. وكلما رأى المفتاح، لمح فيه صورة وطن ينتظر عودة أبنائه، وبيوتاً لم تُسقَ كرومها وزيتوناتها منذ زمن. قد لا يورث أبناءه مالاً أو عقاراً، لكنه يأتمنهم على المفتاح؛ فالمفتاح توْقٌ مورَّث وباقٍ عبر الأجيال.
لقد زخر الأدب الفلسطيني، بكل أشكاله، بالمفتاح كرمز، وتم استغلال دلالاته سردياً ونثرياً وشعرياً في إرساء «قماشة» تعبيرية تستقرئ الشرط الفلسطيني في الشتات، ذلك أن المفتاح يُلخّص الوطن المحتَضَن في تضاعيف الذاكرة ويختصر الأمل بالعودة. من أبرز الأدباء الفلسطينيين الذين تعاملوا مع المفتاح، كتيمة قابلة لأن يتماهى فيها الوجود الفلسطيني بالغ الخصوصية أو «الذاتية»، المبدع الراحل غسان كنفاني. في لوحة «الصغير يكتشف أن المفتاح يشبه الفأس» (1967م) المشهدية ضمن مجموعته القصصية «عن الرجال والبنادق»، يستعيد الراوي مفتاح بيت أبيه في القرية، قبل أن يتركها ليدرس في القدس، وكيف أن المفتاح -كما يتذكره- كان يشبه الفأس، وهو تشبيه ينطوي على مغزى خاص، ثم إن المفتاح، الذي لم يغادر حزام أبيه، كان «المفتاح» بـ «ال» التعريف التي لازمته ما أحالته من شيء إلى فكرة حية في أكثر من وجه وأكثر من معنى، بل كان مجرد ذكره ولفظه يشيع إحساساً بالدفء. لم يكن مجرد مفتاح، بل كان هو المفتاح الذي يعرفه الجميع، كائناً علماً، غير قابل للضياع: «فهو المفتاح الوحيد الذي لم يستطع الزمن أن يضيعه، لقد كان كل رجل في القرية، كل طفل، كل امرأة، يعرفون أن هذا المفتاح هو مفتاح دار جابر، بل كان ثمة أناس في القرى المجاورة يعرفون ذلك أيضاً، فإذا ما ضاع أو سقط يعود إلى الدار كأنما من تلقاء نفسه».
راح البيت وظل المفتاح، تركه له أبوه الذي دافع عن الأرض ببسالة في مواجهة الاحتلال الصهيوني. لقد مر عشرون أياراً، أي منذ النكبة، وظل المفتاح معلقاً كلوحة في بيته في جغرافيا اللجوء، مثبتاً عرضياً بمسمارين. ظل الكاتب -الذي لم يعد طفلاً- حريصاً على أن يُلحق «ال» التعريف الدافئة بالمفتاح، مع أن مفتاحه لم يعد يذكره بفأس. لكن ابنه الصغير، ينتبه ذات يوم إلى أن المفتاح يشبه فأس، بعدما سقط أحد المسمارين اللذين يثبتانه على الحائط، ليتدلى جسد المفتاح طولياً، مستعيداً تاريخه البعيد، حين كان فأساً مهاباً ومعروفاً، في صدقة ليست صدفة، كأنه يستبشر بوعد قريب.
مفاتيح القدس
للقدس مكانةٌ غالية في القلب والتاريخ، ومفاتيح المدينة هي الأغلى ذلك أن من يملكها يملك المدينة، وقد تكون واقعة تسليم مفاتيح مدينة القدس للخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، هي الأشهر في التاريخ، كونها أرستْ ما قد يكون أول ميثاق تفاهم دولي من نوعه تحت ما عرف بـ «العهدة العمرية» يحكم شروط العلاقة بين الأمم والأديان. وكان المسلمون قد تمكنوا من فتح العديد من أجزاء بلاد الشام إثر معركة اليرموك عام 636 ميلادية، ودانت لهم مدن ودويلات، إلى أن بلغوا بيت المقدس في فلسطين، حيث خيّر أبو عبيدة بن الجراح، الذي كان يقود جيش المسلمين، أهل إيلياء، أي القدس، بين إحدى ثلاث: الإسلام أو الجزية أو القتال، فرضوا بالجزية، حيث اشترط بطريرك القدس صفرونيوس أن يسلِّم مفاتيح بيت المقدس إلى الخليفة بنفسه، فأتى عمر، رضي الله عنه، إلى القدس مسافراً يرافقه خادمه ومعهما ناقة واحدة، يركبها كل من الخليفة والخادم بالتناوب. حين بلغ عمر مشارف المدينة، صعد صفرونيوس وبطارقته إلى أسوار القدس وأبصروا الرجليْن القادميْن، دون أن يميزوا أيهما الخليفة وأيهما خادمه، إذ كان عمر، رضي الله عنه، يمسك بزمام الناقة ويخوض في الماء والوحل، فأدرك البطارقة حينئذ أن مدينتهم ستكون آمنة، ففتحوا أبواب القدس وسلَّموا مفاتيحها للخليفة الذي أبرم معهم «العهدة العمرية» التي منح بموجبها الأمان لأهل القدس؛ لأنفسهم وأموالهم ومعتقداتهم وما تمثله لهم.
تجدر الإشارة إلى أن مسيحيي القدس يأتمنون حتى اليوم المسلمين على مفاتيح كنيسة القيامة، قبلة المسيحيين في مشارق الأرض ومغاربها، إذ تتولى عائلتان فلسطينيتان مسلمتان، هما عائلة نسيبة وعائلة جودة، حمل هذه المفاتيح، في تقليد متوارث منذ مئات السنين، حيث يقوم أبناء العائلتين بفتح الكنيسة وإغلاقها وحراستها وصيانتها. وتذكر بعض المراجع التاريخية أن الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أعطى مفتاح الكنيسة لعبدالله بن نسيبة المازنية، وهي عائلة عربية خزرجية من المدينة المنورة، بعدما تسلمه من البطريرك صفرنيوس، وذلك عام 638م، إضافة إلى مفاتيح القدس. وثمة مراجع أخرى تفيد بأن صلاح الدين الأيوبي عهد بمفتاح كنيسة القيامة إلى عائلة نسيبة حين دخلها محرراً عام 1187م، وذلك حين لاحظ وجود خلافات بين الطوائف المسيحية في المدينة حول شؤون الكنيسة، فارتأى أن يقوم المسلمون بدور توفيقي بينهم. ثم تقاسمت عائلة جودة مع عائلة نسيبة مهمة حمل المفتاح إبان الحكم العثماني.
أضف تعليق
أيّاً ما يكون عليه الأمر، فإن الثابت هو أن المفتاح والقفل يُشكِّلان ثنائية متكاملة، متناغمة ومندغمة، كما أن مفتاحاً واحداً بعينه يتوافق والهندسة الدقيقة في متاهة القفل الميكانيكية ومتواليته السريّة.
حزامة حبايب* تحكي حكاية القفل والمفتاح، وهي حكاية قرون طويلة من سعي البشرية، منذ صوغ وعيها الأولي، إلى التماس الأمن والأمان والحماية والإغلاق على ما يخصّنا، ما نريده لنا وحدنا، والضنّ به بعيداً عن عيون وأيدي الآخرين..
اكتُشفت الأقفال والمفاتيح منذ أن اكتَشف الإنسان قيمة «الأداة» في حياته، قاطعاً بفكره الفطري البدائي الخطوة الجوهرية الأولى نحو مفهوم الكائن البشري «المتحضِّر». لقد عرف الإنسان القفل قبل أن يبدأ التاريخ المدوّن، واستقرّت أشكاله الدالة عليه في رسوم الإنسان على الجدران، كمستند توثيقي مهم، قبل أن تُورد في الصحف وسجلات الكتابة.
طالما افتتن الإنسان بمفهوم «الخصوصية»، حتى قبل أن يُبلور صيغة هذا المفهوم نظرياً، كما تجذَّرت قيمٌ مثل «الملكية» و«الفردية» و«المادية» -رغم ما يشوب هذه القيم في أحيانٍ كثيرة من مغالاة وإفراط حتى حد التشوّه- في المذهب الإنساني الميَّال إلى الاختلاف والتميّز والتفرّد والاستحواذ. والمفتاح، بوصفه قيمة مادية ومعنوية، إنما هو من علامات تميّزنا، يصون فرديتنا، ويحدّد إطارها ويقفل عليها.
رمز السطوة والنفوذ
لقرون عديدة، كان المفتاح رمزاً للأمن والسلطة والقوة، كما ترسّخ في الأساطير في أيدي أصحاب القدرة، وبه تزداد قدرتهم وتتعزز. فتبنَّى الملوك والأباطرة ورجال الدولة والفرسان والنّبلاء المفتاح رمزاً جلياً في راياتهم وفي شعارات النبالة، التي تعكس هويّتهم وإنجازاتهم ومحتدهم الذي يعتزّون به وفي أختامهم الرسمية. وكان تسليم مفاتيح قلعة أو حصن أو مدينة في الأزمنة الآفلة يُعد حدثاً احتفالياً، ترشّح لنا عبر مصفاة التاريخ من خلال احتفالية «مفتاح المدينة» التي تحتضنها في الوقت الراهن مدن عالمية عدة، وذلك لتكريم شخصيات مشهود لها بعطاءاتها الإنسانية والاجتماعية والثقافية أو خدماتها… ويقال إن منبع هذه العادة يعود إلى العصور الوسطى، حين كان اللوردات الإقطاعيون يحمون مدنهم بأسوار عالية وبوابات موصدة بإحكام، تفتح في النهار وتُغلق في الليل، فلا تستقبل الغرباء إلا بشهادات وأوراق قانونية، أشبه بتصاريح دخول مختومة. فكان مفتاح المدينة يُقدّم للتجار الذين تربطهم بقاطنيها مصالح متبادلة، أو للشخصيات الاعتبارية وكبار الزوار، كنوع من ائتمانهم على «حرمة» المدينة، والإعراب لهم عن ثقتها بهم ومنحهم حرية دخولها ومغادرتها متى يشاؤون، إذ يُعهد لهم بمفتاح البوابة: رمز أمن المدينة وأمانها!
واليوم، العديد من المدن العالمية تقدِّم مفتاحها لشخصيات بارزة، من نجوم الفن والمجتمع، أو لمنظمات ذات نشاط إنساني نبيل، أو حتى لمواطنين «صالحين» (من ذلك حين قدَّمت مدينة نيويورك في العام 2004م مفتاح مدينتها لسائق تاكسي أمين قام بإرجاع حقيبة تحتوي على لآلئ بقيمة عشرات الآلاف من الدولارات)، وذلك كنوع من التكريم الرفيع، علماً بأن المدينة لا تحيطها أسوار أو بوابات بمفاتيح، وبالتالي فإن المفتاح، المصنوع من معدن عادي -قد يطاله الصدأ والبهتان مع الوقت- وبتصميم قد يبدو مُبتذلاً ونقشٍ يحمل اسم المدينة، ليس سوى مفتاح رمزي، لا يفتح باباً ولا حتى علبة سردين!
لكن تسليم مفتاح المدينة ليس بالخبر السار دائماً؛ فحتى القرن الثامن عشر، كان المفتاح رمزاً لاستقلالية الأفراد ومنعة المدن، وحين تستسلم مدينة ما لجيش غازٍ فإن هذا يُرمز له من خلال تسليم مفاتيح المدينة للغزاة! ففي لوحة «استسلام بريدا» (1652م) للرسام الإسباني الشهير دييغو فيلاسكيز، المعروضة في متحف برادو في مدريد، يصور الرسَّام حاكم مدينة بريدا الهولندية، جاستن دي ناسو، وهو يسلِّم مفتاح المدينة خاضعاً للجنرال الإسباني أمبروسيو دي سبينولا. أما لوحة «بيوس تابيستري» المطرّزة التي يعود تاريخها إلى القرن الحادي عشر (وهي قماشة مطرَّزة طولها 70 متراً وعرضها نصف متر، تصوِّر الأحداث التي قادت إلى الغزو النورماندي لإنجلترا عام 1066م وأحداث الغزو نفسه)، فتضم مشهداً لكونان الثاني، دوق بريتاني في فرنسا، يسلِّم مفتاح مدينته مكرهاً لويليام دوق نورماندي، قائد القوات النورماندية، الملقَّب بوليام الغازي، والذي أصبح ملك إنجلترا منذ أواخر العام 1066م وحتى وفاته. وحتى لحظة ما قبل الاستسلام، يبدو كونان متمنِّعاً، إذ يسلِّم المفتاح للغازي على رأس رمحه المدبَّب فيما يتقبَّل وليام استسلامه، مستلماً المفتاح، هو الآخر، على رأس رمحه كأنه يوصل له رسالة: إذا كنت تريد الموت على تسليم المفتاح أستطيع أن أعطيه لك برمحي، وفي جميع الأحوال سآخذ المفتاح!
لقد كان المفتاح عنوان السطوة والمكانة والنفوذ. في مصر القديمة، كانت أهمية «رأس البيت» يحدّدها عدد المفاتيح التي يمتلكها؛ حيث كانت ضخمة يحملها العبيد على أكتافهم، سائرين وراء صاحب البيت. وكلما كثُر عبيد ربّ الدار أو حاملو مفاتيحه كلما دلَّ ذلك على درجة ثرائه ومكانته. لكن الحظوة في البيت الاسكندينافي كانت للمرأة. ففي حقبة الفايكنغ، التي امتدّت من القرن الثامن حتى القرن الحادي عشر ميلادية، احتلت المرأة المتزوجة مكانة بارزة في التراتبية الاجتماعية، وكانت المفاتيح رمز هذه المكانة. فعند الزواج، كانت عروس الفايكنغ تُمنح مجموعة من المفاتيح، للدلالة على مكانتها الجديدة، والمسؤوليات التي باتت تتولاها بوصفها ربّة البيت، وكانت المفاتيح البرونزية تتدلّى من ملابسها، أمام العيان، إلى جانب سكين صغيرة أو مقص كي يعرف الجميع -أينما حلّت- أنها متزوجة. ليس هذا فحسب، بل كانت امرأة الفايكنغ تحمل معها مفتاحها حتى إلى قبرها، إذ جرت العادة في ذاك الزمان على أن تُدفن مع قطعة أو أكثر من مقتنياتها، أهمّها المفتاح وإلى جانبه مقصّ أو إبرة خياطة أو قطعة مجوهرات أو أي شيء آخر.
تطوره عبر التاريخ
لعلّ حرص الإنسان على أمنِه وسعيه إلى حماية ملكيّته ووجوده وُلد منذ أن دبّ على الأرض، ويمكننا القول في هذا السياق إنّ أوّل «مفتاح» طوّعته البشرية كان عبارة عن غصن شجرة، وذلك حين كان رجل الكهف -أو «الإنسان الصياد» كما يُلقَّب آركيولوجياً- يستخدمه كعتلة لتحريك الحجر الجلمودي الضخم الذي يحرس فتحة كهفه. ولم يكن الخيال الإنساني يتورّع عن المضي قُدُماً بغية التماس الخصوصية وحماية الغالي والأغلى. في الهند القديمة، كان يتمّ الاحتفاظ بالممتلكات القيّمة لأهل الحكم والمال في حاويات محكمة الإغلاق، ومن ثم تُغمر في البحيرات التي تحيط بالقصور، يحميها «حرس خاص» قوامه مجموعة من التماسيح الشرسة، التي يتمّ إطعامها كميات قليلة من الطعام، بحيث تظل جائعة معظم الوقت، حتى إذا ما تجرأ أحدهم وغاص في البحيرة، التهمه تمساح في لحظات. كانت هذه أمتن الأقفال العصية على النسخ. فلبلوغ الكنوز الدفينة في الماء، كان يتعيّن قتل المفاتيح، أي التماسيح، أو تخديرها!
تاريخياً، يمكن تتبّع أول نظام للقفل والمفتاح، بالمفهوم التقليدي الذي شكّل الأساس لتطور نظام الأقفال والمفاتيح الحديث، حتى قبل نحو أربعة آلاف عام. وبحسب الموسوعة الأمريكية والموسوعة العربية الشاملة فإن أقدم قفل في العالم طوَّره المصريون في العام 2000 قبل الميلاد. أما الموسوعة البريطانية، فتشير إلى أن أقدم نظام للقفل هو الذي عُثر عليه في أطلال قصر خور ساباد في مدينة نينوى العراقية ويعود إلى ما قبل نحو أربعة آلاف عام. وبسبب استخدامه على نطاق واسع في مصر في الفترة ذاتها بات يُعرف بالقفل المصري، وهو لقب ظل يشكِّل المرجع لتطوير آلية عمل الأقفال والمفاتيح لقرون طويلة لاحقة. يعرف هذا النوع من الأقفال بقفل الوتد/الريشة، ومنه تطوَّر نظام القفل الحديث واسع الاستخدام في القرن التاسع عشر، حيث لا يزال يشكِّل الأساس النظري لآلية عمل نظام الأقفال عموماً.
يتكون القفل المصري أو الآشوري من مزلاج خشبي كبير يؤمِّن الباب، تتخلله عدة ثقوب على سطحه الخارجي. ثمة قطعة مثبتة على الباب تحتوي على العديد من الخوابير الخشبية مصمّمة في وضعية بحيث تنزلق في هذه الثقوب، بفعل الجاذبية الأرضية، وتثبت المزلاج، فتمنعه من التحرك وبالتالي لا يمكن فتح الباب. أما المفتاح فعبارة عن قضيب خشبي كبير، يشبه فرشاة الأسنان، ذي أوتاد بأطوال مختلفة في وضع عمودي تطابق الثقوب والخوابير. عند وضع المفتاح في ثقب المفتاح الكبير تحت الخوابير العمودية، يرتفع ببساطة بحيث يعمل على رفع الخوابير، مُفسحاً المجال للمزلاج والمفتاح في داخله كي ينزلق ثانية. ولقد عُثر على نماذج مشابهة لهذا القفل في حضارات قديمة عدة في شمال أوروبا وفي الهند والصين واليابان.
وفي تقنية أكثر بدائية اعتمدها اليونانيون، كان يتم تحريك المزلاج بواسطة مفتاح من الحديد على هيئة منجل بمقبض خشبي. وكان يُمرَّر المفتاح المنجلي الشكل في ثقب في الباب ثم يُدار، بحيث يشتبك رأس المنجل بالمزلاج المثبت داخل الباب ويرفعه أو يسحبه إلى الخلف. على أن هذه التقنية لم توفر أماناً كبيراً. هنا، جاء دور الرومان الذين قطعوا بصناعة الأقفال والمفاتيح خطوات نوعية. فحتى آنذاك، كانت الأقفال تُصنع من الخشب، في حين كانت المفاتيح من الخشب أو البرونز أو الحديد، فكانت المفاتيح المعدنية تعمل على اهتراء الأقفال الخشبية بسرعة. فطوَّر الرومان أول أقفال معدنية قابلة للصمود زمنياً، حيث كانت الأقفال مصنوعة من الحديد الصلب بينما كانت المفاتيح في الغالب من البرونز. ولقد جمع الرومان بين خصائص النموذجين المصري واليوناني في صنع الأقفال، مطورين تقنية أقفال ميكانيكية مبتكرة تم تثبيتها داخل الباب، بحيث تعمل بمفتاح من الخارج عبر ثقب مخصص له. علماً بأن ابتكار ثقب المفتاح التقليدي ينسب إلى اليونانيين، في حين أن الرومان هم الذين حسّنوه وشذّبوه.
وصمّم الرومان أقفالاً بخوابير وأوتاد ذات أشكال عدّة مع مفاتيح تناسبها وثقوب مفاتيح غير مألوفة، الأمر الذي قلّل من إمكانية قيام أحدهم بنسخ المفتاح. كما صاغوا الأقفال بنقوش وزخرفات ورسومات تمويهية، فجعلوها على شكل حيوانات وأزهار وطيور. كذلك، نالت المفاتيح نصيبها من الزخرفة، فدلت غزارة النقش وطبيعته وتعقيداته على مكانة صاحبها، بل إن بعض المفاتيح كانت ذات تشكيل جمالي موشَّى بالذهب أو الفضة فجاز معه التباهي بها إذ تدلّتْ من القلائد حول الأعناق وفوق الصدور.
ويُنسب للرومان أيضاً أنهم اخترعوا الأقفال المسنّنة، حيث لا يزال المبدأ الذي تقوم عليه معتمداً في أقفال اليوم. كما يشير الاسم، توجد الأسنان أو النتوءات، داخل القفل حيث تمنع المفتاح من الدوران إلا إذا كان وجه المفتاح المسطح، أي لسانه، فيه شقوق صغيرة بطريقة يمكن للنتوءات أن تتخللها؛ فقط المفتاح ذو الشقوق المناسبة يمكن أن يفتح القفل المسنّن. ولما كانت الأسنان تُنحت من أجزاء معدنية صغيرة، فقد كان الرومان أول من صنعوا الأقفال والمفاتيح الصغيرة، بل إن بعض المفاتيح كانت من الصغر بحيث كان بالإمكان ارتداؤها كخواتم، فيما استحال موضة رائجة في الحقب البعيدة. ومن جديد، يستثمر الرومان خبرتهم، التي صقلتها المعرفة، في ابتكار الأقفال المحمولة، وإن كانت مراجع عدة تشير إلى أن الصين هي الموطن الذي شهد ولادة الأقفال المحمولة، أسلاف الأقفال الأسطوانية المحمولة حالياً، في حين عمل الرومان على ترويجها وتوسيع قاعدة استخداماتها. إذ راجت هذه الأقفال تحديداً وسط التجار والرحالة، ممن كانوا يسافرون بالصناديق التي تحمل بضائعهم في طرق التجارة البرية والبحرية، دون أن تردع هذه الأقفال، التي عرفت بـ «أقفال السفر»، قطَّاع الطرقات ولصوص القوافل وقراصنة البحار من السطو على الصناديق!
مجدُ «القفّالين»
من المفارقة القول إن العصور الوسطى في أوروبا، المعروفة تاريخياً بعصر الظلام، أضاءتها الأقفال، وربما الأقفال فقط، التي شهدت أوج تطورها وإبداعيتها. وبلغت حرفة صانعي الأقفال أو «القفّالين» الذرى، فبنوا مجدهم الخاص في صناعة استحالت فناً، بعد أن كانت عِلماً، مع سيادة ذائقة مترفة ومبهرجة. كانت العصور الوسطى بحق ساحة سجال فنّي تبارى فيها القفّالون في استعراض ابتكاراتهم. فقد تحولت الأقفال من الخارج إلى ما يشبه «الكنفا»، مستوعبة من النقوش والرسوم ما أحالها إلى لوحات فنية. على أن تطور شكل القفل خارجياً لم يُضف كثيراً إلى عمل آليته. ومن التحسينات التي شهدتها تلك الحقبة إخفاء ثقب المفتاح في القفل من خلال مصاريع أو أغطية سرية، كما تم تصميم بعض الأقفال بحيث تطلق دبابيس أو سهاماً صغيرة مسمومة أو سكاكين متناهية في الصغر حين كان يتم إدخال مفتاح غريب في القفل، وهو ما خاطب الخيال «القرن أوسطي» المفتون بالخرافة والغموض!
وبدأ بعض القفَّالين المهرة يحققون شهرة عالمية، فكانوا يُدعون لصنع أقفال تحت الطلب لنبلاء أوروبا تضم شعارات النبالة وأشكالاً رمزية، مع اعتماد نقوش تتناسب والبناء المعماري المصمَّم له القفل.
وحين شارفت العصور الوسطى على الانتهاء، شهدت صناعة الأقفال المزيد من التفنن، إذ اكتسبت أوروبا بعضاً من عافية حضارية فحفَّزتْ القلاع والقصور والمعابد التي تجلَّت فيها كل أشكال البذخ الهندسي حدّ الصلف والتكلّف أحياناً، من القوطي إلى النهوضي فالباروك، الإبداع الأجمل للقفّالين البارعين. فأثناء النهضة تمت إضافة الرافعة إلى الأقفال المسننة لمزيد من الأمن؛ وإلى جانب مروره من خلال النتوءات الثابتة، بات يتعين على المفتاح رفع شريط -بمثابة رافعة- ليحرك المزلاج في القفل. وبحلول القرن السادس عشر، دُشِّنت في أوروبا ما يعرف بـ«الأقفال التوافقية» أو أقفال بلا مفاتيح، التي استعارت مفهومها وآلية عملها من الصين القديمة. وللقفل التوافقي قرص مدرج تحيط به مجموعة أرقام، ولفتح القفل يتعين تحريك القفل إلى اليمين وإلى اليسار في تتابع أرقام بعينها، حتى إذا ما تطابقت الأرقام مع الشقوق في القرص فُتح القفل. ولقد استُخدمت هذه الأقفال في الخزائن وصناديق المجوهرات.
هواية الملوك
استحوذت فتنة الأقفال على الألباب، وشكّل اقتناؤها غايةً ورجاءً لمن استطاع إلى الجمال والفن وثمنهما سبيلاً. وكانت كاترين الثانية إمبراطورة روسيا القيصرية -التي حكمت البلاد من العام 1762م حتى وفاتها عام 1796م- تملك واحدة من أجمل وأغلى مجموعات الأقفال في عصرها. ولم تخف الإمبراطورة إعجابها بحرفية وفنيّة صانعي الأقفال الذين كانوا يتبارون في ترجمة خيالهم في لوحات آسرة حملتها أسطح الأقفال، مبدعين أقفالاً محمولة ذات أشكال مبتكرة ومثيرة. يُقال إن صانع أقفال روسياً مشهوراً نال حريته بفضل حرفيته! فقد قام بصنع سلسلة من الأقفال والمفاتيح المزخرفة للإمبراطورة التي بلغ انبهارها بمهارته حدّ إصدارها قراراً بالعفو عنه بعدما كان على وشك ترحيله إلى سيبيريا لقضاء عقوبة بالسجن هناك، غالباً ما تنتهي إلى موت محتوم. وكما تقول القصة، فإن هذه الواقعة وراء المثل القائل: «يستلزم الأمر 89 مفتاحاً لفتح قفل سجن»، كناية عن عدد مفاتيح الأقفال التي صممها الحرفي للإمبراطورة كاترين.
ولم يكتف النبلاء وسادة الأقوام باقتناء الأقفال والمفاتيح، بل بلغ الشغف بها حد تورط الملك لويس السادس عشر بصنعها! نعم.. فالملك الفرنسي الشاب، الذي أطاحت به الثورة الفرنسية في العام 1792م، لم ينشغل بأمور الحكم كثيراً، وكانت أحب الأوقات إليه عندما يخلو إلى ورشته في القصر يصنع الأقفال المعدنية، هو الذي تعلَّم الصنعة على يد قفّال فرنسي يدعى غامين. وكان لويس فخوراً على وجه التحديد بخزنة حديد سرية، احتفظ فيها بأوراقه الشخصية ومقتنياته الخاصة جداً، كان يخبّئها في أحد جدران قصره. لكن الثوار -بمساعدة غامين- تمكنوا من معرفة موقع الخزنة. ويا ليت لويس، كما يقول الفرنسيون، «حكم البلاد بمستوى كفاءته في صنع الأقفال»..
على عتبة العصر الحديث
يمكن الزعم بأن أول محاولة جادة لتعزيز مستوى الأمان للقفل وتطوير آليته تحققت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر على يد صانعي الأقفال الإنجليز، أمثال روبرت بارون وجوزيف براماه وجيريمايا تشاب. وقد واصلت صناعة الأقفال ومعها المفاتيح تطورها حيث بلغت أوجها في منتصف القرن الثامن عشر، مع صانع الأقفال الأمريكي لينوس ييل الأب، الذي سعى إلى إدخال تحديثات جوهرية على الأقفال. لكن القفزة النوعية تحققت على يد لينوس ييل الابن، الذي اخترع «قفل الوتد/الريشة» الحديث في العام 1865م، منطلقاً في فكرته من فكرة القفل الآشوري أو المصري القديم؛ وهو قفل ذو مفتاح صغير مسطّح، بحافة مُشرشرة، حيث كان أول قفل يُنتج بكميات كبيرة، كما يُعدّ حالياً الأكثر أماناً والأكثر استخداماً للأبواب في العالم.
ومع اتخاذ التقنية منحنىً تصاعدياً في القرن العشرين، وتطور طرائق التصنيع بموازاة استشراء عصر الآلات، شهدت الأقفال والمفاتيح تحسينات مطردة مع إنتاجها بدقة أكبر لجهة آلية عملها وتشذيبها وتعزيز خصائصها الأمنية على نحو قلَّص من احتمالات فتحها عُنوة. وشهد القرن الفائت ظهور العديد من الأقفال والمفاتيح متنوعة التقنيات، متعددة الاستخدامات، لا نهائية المزايا. فتم تطوير الأقفال الإلكترونية، التي تستخدم مفتاحاً لتشغيل دائرة كهربائية، كمفاتيح السيارات والطائرات، وهناك الأقفال الموقوتة، كنوع من الأقفال التوافقية، حيث تستخدم في خزائن المصارف والمؤسسات المالية، وهي ذات مزاليج إغلاق آلية تعمل بجهاز توقيت. وقد يكون من الصعب حصر أنواع المفاتيح والأقفال، التي تعكس كثرتها وبنيتها المعقدة نتيجة لتراكم الخبرة البشرية، هوس الإنسان بمفهوم الأمان، وهوسه الأكبر -بالمقابل- لسلب هذا الأمان.
من مفتاح الباب الخشبي الضخم الشبيه بعتلة مدجّجة بالأوتاد إلى مفتاح البيت المعدني الصغير، فمفتاح تشغيل السيارة ومفتاح تشغيل الطائرة، إلى المفتاح الكهربائي، الذي يتحكم في سريان التيار الكهربائي في دائرة كهربائية، كمفتاح تشغيل المصابيح أو تشغيل الأجهزة الكهربائية، فمفتاح التحكم عن بعد ومفتاح «كرت» أو بطاقة بلاستيكية، يا له من بون شاسع بين مفتاح ومفتاح، حافل بالفروقات والتمايزات. بعد أن كان يتطلب الأمر شخصاً ذا بأس -أو عدة أنفار- لحمل المفاتيح، باتت مفاتيح البيت والمكتب والسيارة والريموت كونترول الخاص بفتح السيارة عن بعد، ومفاتيح أخرى تتدلى من سلسلة واحدة، تخشخش بخفة في اليد!
فنّ «سرقة الخزينة» في الشاشة..
لصوص الأقفال
على غرار الممنوع مرغوب، فإن «المقفول» يحفِّز الرغبة لفتحه، ويثير الشهية لافتضاض مكنوناته. في ثنيات التاريخ الواقعي والمُتخيَّل، أغوت الأبواب الموصدة اللصوص الذين لم يتورّعوا عن استنباط كافة الأساليب لـ «هتك» الأقفال وفك شِفرة الخزينة البنكية المعقدة أو حتى تفجيرها، إذا لزم الأمر.
البدايةُ بدائية كانت، أو هكذا قدَّمتها بعض الأفلام في السينما العربية؛ فثقب الباب العريض، الذي نتلصّص منه على ما يدور خلف الباب، كان سهل الاقتحام، بصورة كاريكاتورية! إذ كان يكفي أن ندسّ ورقة تحت الباب، ثم بدبوس أو مشبك صغير ندفع المفتاح من الثقب في الجهة المقابلة فيسقط على الورقة، ومن ثم نسحب الورقة من تحت الباب إلينا ليصبح المفتاح بحوزتنا! إذ تضاءل حجم ثقب الباب ولم تعد العين ترى ما خلفه، اعتمد اللصوص تقنية بسيطة في فتح الباب، قوامها نسخ المفتاح، بعد طبعه على لوح من الصابون أو الشمع، وذلك منذ اختراع أول آلة لقص و«خراطة» المفاتيح في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1917م، أو ببساطة شديدة الاستعانة بأداة مدببة، كدبوس أو مبرد مستدق الرأس، للتلاعب بالنوابض أو تحريك المسننات داخل القفل لفتحه دون حاجة لمفتاح، في مشهد متكرر في السينما العالمية.
والإثارة تتصاعد، على الأقل في السينما، بعدما شكَّل السطو على الخزائن المصرفية سيناريو متكرراً، مشحوناً بالإثارة التي تعلو معها ضربات القلوب، وهو ما يتوافق وتطور التقنيات الأمنية في صناعة الخزينة، في المصارف والكازينوهات والمتاحف. لعل المشهد الدارج في المخيلة السينمائية قيام أحدهم بالتنصت إلى صوت حركة القفل التوافقي، الذي يعمل بتوليفة رقمية، بالاعتماد على أذنه أو بالاستعانة بسماعة طبية لاقتناص حركة القفل إذ يصيب الرقم الصحيح مكانه المخصص في القرص المدرج، محدثاً صوت طقطقة لا تخطئها الأذن الخبيرة! ومع تطوير تقنية الأقفال التوافقية في الخزائن، لجأ اللصوص إلى خيار يائس عبر تفجير الخزينة، ثم في مرحلة لاحقة من لعبة «القط والفأر» بين اللصوص والقيِّمين على الخزائن، اعتمدت مصارف العالم الكبرى خزائن ذات أبواب مصفحة، مضادة لأقوى أنواع التفجيرات الأمر الذي عنى سعي اللصوص إلى البحث عن وسائل أكثر دهاءً للاحتيال عليها.
من أشهر الأفلام العالمية التي صورت عملية الاستيلاء على المصارف أو الخزائن، بطريقة عمدت بعضها إلى «تبجيل» اللصوص، فِلم «غابة الإسفلت» (1950م)، والفِلم الفرنسي «ريفيفي» (1955م)، وسلسلة الأفلام الدنماركية «عصابة أولسن» (1968 – 1998م)، والفِلم الأمريكي «اللص» (1981م)، والجزء الأول من سلسلة أفلام الآكشن الأمريكية «الموت بصعوبة» (1988م)، وفِلم «قتل زو» (1994م)، وفِلم «حرارة» (1995م) وفِلم «الأشقاء نيوتن» (1998م)، و«أوشن 11» (2001م) وعشرات الأفلام التي تظهر حنكة اللص في مواجهة المؤسسة الأمنية!
لكن الخيال التصويري يتخطى الواقع بكثير؛ ففي تنافس محموم بين الواقع الأمني والرواية السينمائية، يتحول «الجسد البشري» إلى مفتاح يقهر أكثر أنواع الأقفال غير القابلة للكسر أو التحطيم! في فِلم «المصيدة» (1999م)، تتمكن النجمة كاترين زيتا جونز، مستعينة برشاقة استثنائية، من الاحتيال على قفل قوامه شبكة أمنية متقاطعة من أشعة الليزر، عبر القفز فيما بين الأشعة، حيث تنجح في تجنب أي احتكاك معها قد يؤدي إلى إطلاق دوي صفارات الإنذار، وهو مشهد يتكرر في فِلم «أوشن 12» (2004م)، الجزء الثاني من «أوشن 11»، حين ينجح لص رشيق جداً، يجسِّد دوره النجم الفرنسي فينسنت كاسيل، في تخطِّي شبكة الإنذار الليزيرية، عبر أداء جمبازي بهلواني يصعب تصديقه!
كأن بالسينما تعلنها حكمة في نهاية المطاف؛ وهي أن الأمان يصبح في خبر كان!
مفاتيح لا تشبه المفاتيح
إن المفتاح في منشئه هو الأداة التي تحرِّك وتدير وتشغِّل، وهو في المبتدأ الأساس الذي تعمل به الأشياء، لذا فإنه كفكرة يمكن قولبته في أكثر من مصطلح وفي أكثر من هيئة. وبالتالي، لا يتعيَّن أن يكون المفتاح -من حيث الشكل- هو المفتاح التقليدي إياه، بالهيكل المعدني ذي المقبض والطرف المسنّن أو المشرشر! فثمة مفاتيح لا تشبه المفاتيح، تقوم بمهمّة الفتح والتشغيل، أو قد تلعب دور الموجِّه والمحدِّد.
فالموسيقى لها مفتاح، وهو مصطلح مجازي، لا أداة، يُستخدم للدلالة على الأساس الذي كتبت به مقطوعة موسيقية بعينها، كأن تُكتب مثلاً بالمفتاح C، وهو ما يعني أن مركز النغم فيها هو المقياس C، حيث يضم المفتاح الموسيقي نغمات المقياس وكل الأوتار التي تصوغ هذه النغمات.
في الموسيقى أيضاً، تستخدم كلمة «مفاتيح» للإشارة إلى الأصابع الصغيرة، باللونين الأبيض والأسود، التي تَفتَح وتُغلِق فتحات الصوت الهوائية الموجودة على الآلات الموسيقية، مثل الكلارينيت. وهناك آلات كالبيانو والأرغن لها روافع تُسمّى مفاتيح، حيث يضغط العازف عليها لإخراج الصوت. تُعرف مفاتيح البيانو والأرغن وغيرهما من الآلات الموسيقية بالـ «كيبورد» Keyboard أي «لوحة المفاتيح».
ونستخدم لوحة المفاتيح أيضاً في الكمبيوتر، وهي عبارة عن لوحة أو أداة لإدخال البيانات، مصممة على نمط الآلة الطابعة، بترتيب معيَّن من المفاتيح أو الأزرار، تحمل أحرف وأرقاماً ورموزاً، تعمل بمثابة رافعات ميكانيكية أو مفاتيح إلكترونية. ويحمل كل مفتاح على لوحة المفاتيح نقشاً لحرف أو رمز أو رقم، بحيث يتم إدخاله في الكمبيوتر من خلال الضغط عليه، أو الضغط على أكثر من مفتاح في الوقت نفسه.
ولا يصح أن نغفل «مفتاحاً» توضيحياً حيوياً في الخرائط والرسوم البيانية يُطلق عليه «مفتاح الخريطة»، وهو عبارة عن مقياس يضم قائمة من الكلمات والتعبيرات والألوان، عادة ما يوجد في إطار صغير داخل الخريطة، بحيث يشرح معنى الرموز والإشارات الموجودة في الخريطة.
قلبي ومفتاحه
إن القلوبَ مستودعُ الأسرار ومُحتضنُ الهمس ومأوى العواطف الشجيّة. وقد لا يكون من الحكمة أن نفتح باب القلب لكل من هب ودبّ. علينا أن نوصد على نبض الفؤاد، نضنّ بفرحه كما نُغلق على حزنه، فلا نأتمن غير الحبيب على مفتاحه، ألم يُغنِّ فريد الأطرش: «قلبي ومفتاحه، دول ملك إيديك، ومساه وصباحه، يسألني عليك»؟
وثمة طقس عالمي لما يعرف بـ «أقفال المحبة»، كعادة مستحدثة ضمن بدع عالمية «شعبوية» -لا تنفع كما لا تضر- يقوم فيها الأحبة الشغوفون بتثبيت أقفال على سياج أو عمود أو جدار في سلسلة معدنية، كرمز للحبّ الأبدي، بحيث تُحفر أسماء الأحبّة أو الأحرف الأولى منها على القفل، ثم يُرمى المفتاح بعيداً، ويا حبذا في قاع نهر أو بحر لضمان ألا يستعيده أحد. بذلك، يُقفل على الحب إلى الأبد، ولا يتسنَّى لكائن من يكون أن يفتح القفل الموصد على القلوب.
لا توجد مرجعية أكيدة لجهة أصل هذه البدعة، أو للجغرافيا الأم التي ولدتها قبل أن تستشري في جغرافيات متعددة، وإن كان يُعتقد على نطاق عريض أن هذا التقليد وُلد في الصين، حيث يُمكن لمح أقفال المحبة، من مختلف الأحجام والأشكال بنقوش وكتابات منمنمة، مثبتة في مواقع عدة على طول سور الصين العظيم، متراصّة بالآلاف في صفوف لا تنتهي من السلاسل الحديدية المتشابكة. وعادةً ما تشكِّل أبراج المراقبة الموزّعة في نقاط استراتيجية بعينها في سور الصين مواقع منتخبة لعقد الزيجات، حيث يتبادل العروسان نذور الزواج، أمام الأقرباء والأصدقاء، بينما يعلّقان قفلاً محكم الإغلاق في سلسلة الأقفال، ثم يقذفان المفتاح بعيداً على أمل أن يبقى حبهما ويعمّر، كما عمّر سور بلدهما الأعظم.
ولقد انتشر تقليد أقفال الحب وراج في أماكن عدة في مختلف أنحاء العالم مثل مدن روما وفلورنسا وتورين في إيطاليا ومدينة بيكس في هنغاريا وريغا في لاتفيا، ومونتيفيديو في الأرغواي، وسيئول في كوريا الجنوبية وطوكيو في اليابان، وكولون بألمانيا، وكييف في أوكرانيا، وإشبيلية في إسبانيا، واستوكهولم في السويد وموسكو في روسيا وغيرها. الطريف أن تقليد أقفال المحبة، وإن كان يوحي بطقس موروث عتيق وخرافة غابرة، يُعد مستحدثاً جداً؛ ففي هنغاريا ذاعت هذه الأقفال في ثمانينيات القرن الماضي، أما في إيطاليا، فإن عمرها لا يزيد على سنوات أربع، في تمثيل عجيب للواقع إذ يُحاكي الأدب والفن. ذلك أن البدعة اختلقتها بنات أفكار الكاتب الإيطالي فيدريكو موتشيا في روايته الرومانسية «أريدك»، التي نشرت في العام 2006م والتي تحوَّلت إلى فِلم سينمائي في العام 2007م لقي نجاحاً شعبياً. فبحسب وقائع الحكاية/الفِلم، يحاول شاب أن يظفر بقلب فتاة، زاعماً أن هناك تقليداً يقوم فيه الحبيبان بموجبه بتثبيت قفل في سلسلة حول عمود إنارة على جسر بونتي ميليفيو القديم في روما، ثم يلقيان بمفتاح القفل في نهر التيبر ليظل قفلهما بمنأى عن أن يفتحه أحد، وبالتالي يظل الحب قائماً وصامداً إلى الأبد. ولقد عمل الفِلم على تأجيج حمى أقفال الحب لتصيب القاصي والداني، ابن البلد والسائح الوافد إلى مدينة الرومانسية، يتدفقون على الجسر بالعشرات يومياً، معلقِّين أقفالاً تحمل نقوش أسمائهم ورسومات لقلوبهم في سلاسل مثبتة حول أعمدة الجسر، حتى لم يعد ثمة عمود بلا سلاسل وأقفال، وقد فاض النهر بالمفاتيح وغصت بها الأسماك المسكينة التي تدفع ثمن تهور مجانين الحب، الأمر الذي دفع مسؤولو المدينة (حماية للجسر وأعمدته التاريخية من أن يلحقها تشوه أو ضرر وليس دفاعاً عن الحب) إلى نصب أعمدة من الفولاذ مخصصة رسمياً لأقفال الحب. وسرعان ما امتدت سلاسل الأقفال إلى مدن إيطالية أخرى.
متحف الأقفال
يظل لأقفال الأمس ومفاتيحها وهجها وصدى خشخشة المعدن البارد عبر التاريخ، فيثير ذكريات ينتفض معها عصب الروح. لهذه الذكريات مساحة حية في متاحف عالمية مختصة، لعل أشهرها متحف الأقفال في سيئول في كوريا الجنوبية، الذي يضم تشكيلة غنية من الأقفال وميداليات المفاتيح ومزاليج البوابات وسقّاطات الأبواب.
وتحظى الأقفال والمفاتيح بأهمية خاصة في كوريا، فالأقفال ليست مصمّمة لتكون أداة أمنية فقط، وإنما تنطوي على سمات جمالية بحيث يمكن استخدامها كزينة داخلية أو تحفة فنية. ومن خلال الجمع بين أشكال وأنماط رمزية، تحوّلت الأقفال إلى مظهر حيوي من مظاهر الثقافة الكورية عبر الأزمان. وغالباً ما شملت التصاميم المستخدمة في تزيين الأقفال وزخرفتها على موتيفات نباتية وحيوانية للتعبير عن آمال صاحبها وأمنياته للمستقبل. وإلى جانب الأقفال، يؤوي المتحف تشكيلة بالغة التنوع من ميداليات وعلاّقات المفاتيح، كإكسسوارات شخصية غنية بالنقوش، حيث تورثها الأمهات الكوريات لبناتهن لتذكيرهن بواجباتهن إزاء تدبير شؤون بيوتهن وأسرهن. وفي العديد من المناطق الكورية، كان إهداء حديثي الزواج ميداليات مفاتيح تتدلَّى منها قطع نقدية تذكارية هدية أثيرة، وكانت هذه الميداليات تُستخدم لتزيين الجدران أو الأثاث في بيت العروسين، لعلّها تكون مفتاحاً للسعادة والعَمار المديد الذي يسم أيامهما.
وهناك أيضاً متحف أمريكا للأقفال الكائن في بلدة تيريفيل بولاية كونيكتيكت الأمريكية، حيث يضم ثماني قاعات عرض، تحتضن كل أنواع الأقفال والمفاتيح التي تغطي حقباً تاريخية عدة، من بينها قاعة مخصصة لأقفال خزائن البنوك وقاعة لـ «أقفال ييل»، التي صنعتها شركة ييل (نسبة إلى لينوس ييل الأب والابن) في الفترة الممتدة من 1860 وحتى 1950م، من بينها نموذج الاختراع الأصلي لـ «قفل الوتد/الريشة» الذي ابتكره لينوس ييل (الابن) عام 1865م، الذي يُعد أعظم اختراع في تاريخ صنع الأقفال.
في الحكايات والأدب
منذ الأزل، دخل المفتاح في التجربة البشرية من بوابة الواقع كما بوابة الخيال والحكايات، في معانٍ عديدة كشفت الرغبة الإنسانية المتحرّقة أبداً إلى كشف المستور وفضّ المغاليق، والوقوع على الغريب والغامض والآسر والمستجدّ والمثير والخطير. وطالما شكّلت المفاتيح مادة محفِّزة للخيال في التراث الحكائي العالمي، تفتح الصناديق الملغزة والحجرات السرية، وتفضّ الأحاجي المعقّدة، فتتكشَّف عن سرّ عظيم وقدر مبيّت يرتقي إلى درجة السحر أحياناً.
إن المفتاح هو الفتح والكشف، هو الجلاء والتبدي للعيان، هو الإقليد والإغْليق، وهو المغلاق ونقيض الإغلاق، هو مادي جداً كما أنه رمزي ودلالي. أو ليس «الصبر مفتاح الفرج»؟ هو رمز الانتقال من فضاء إلى فضاء، من عالم إلى آخر، ومن قناعة إلى أخرى. قد يقودنا إلى أفق طلق حر كما قد يوصد علينا زنازين الأسر؛ قد يُدخلنا حجرة مضاءة بالأمل، وقد يدفعنا إلى حجرة معتمة غارقة في ظلمات الوحشة؛ قد يفتح لنا صندوق عِلمٍ مغلق ومعرفة مبهمة، كما قد يشرع لنا صندوق «باندورا» المليء بالشرور! وباندورا في الأسطورة الإغريقية، هي المرأة التي أعطاها زيوس، ملك الملوك وحاكم جبل أوليمبوس، جرة كبيرة وأمرها بألا تفتحها مهما كانت المغريات، لكن فضول باندورا تخطى أوامر زيوس، وفي النهاية لم تستطع مقاومة غواية الأسرار المستكينة في الجرة، فما إن فتحتها حتى خرجت منها كل الشرور والأمراض والبلايا والرزايا التي لم يعرفها الإنسان. على أن الأساطير اليونانية بما تحمله من رمزية لم تشأ أن تكون النهاية مأساوية تماماً، ذلك أنه في قاع الجرّة كمن الأمل، الأمل بأن يتخطّى الإنسان ما يصيبه من بلوى وبلاء، وبالتالي قد لا يكون فتح الجرة/الصندوق بالأمر السيئ بالمطلق.
قد لا يكون المفتاح الحكائي مفتاحاً بالمفهوم التقليدي، فـ «افتح يا سمسم» ليس مفتاحاً مصنوعاً من معدن وإنما مصبوبٌ من «كلمات»! في قصة «علي بابا والأربعين حرامي»، إحدى قصص «ألف ليلة وليلة» التي افتتن بها العالم، فإن مفتاح مغارة الكنز هي «افتح يا سمسم»، إنها الكلمات المفتاح الذي يقع عليه علي بابا البغدادي فتقوده إلى الكنز الذي يحتفظ به اللصوص في مغارتهم. يا له من مفتاح سحري، يوشك أن يقود علي بابا إلى التهلكة إذ اكتشف اللصوص أمره. لكن من جديد، نحتاج إلى امرأة مثل مرجانة، زوجة علي بابا، التي تكون «مفتاح» نجاة زوجها، فتنقذه من عاقبة وشاية جار حسود به! ونساء «ألف ليلة وليلة» قادرات، يتخطين الإغلاق حتى وإن أُقفل عليهن بسبعة أقفال. لعلنا نتذكر قصة العروس، التي يشهدها الملك شهريار في مستهل كتاب الحكايات، والتي اختطفها عفريت ليلة عرسها، ثم وضعها في علبة وجعل العلبة داخل الصندوق ورمى على الصندوق سبعة أقفال وجعلها في قاع البحر «العجاج المتلاطم بالأمواج». ومع ذلك، فإن العروس البهية استطاعت في غفلة من الجني أن تفعل الأفاعيل، في حكمة خَلُصتْ إليها حكايا الليالي وهي أن «المرأة منّا إذا أرادت أمراً لم يغلبها شيء»، كما جاء على لسان العروس حبيسة الصندوق.
في الخيال الحكائي العالمي، نستعين بقصّة «القلعة التي وقفتْ على أعمدة ذهبية» للدلالة على قيمة المفتاح في صورته غير التقليدية؛ ففي الحكاية التي تندرج في الفولكلور السويدي تقوم قطة بتحويل نفسها إلى رغيف خبز في ثقب مفتاح قلعة عملاق، لتمنع العملاق من دخول قلعته. «افتحي الباب!» صرخ العملاق غاضباً، لكن القطة ظلت تقصّ له مغامراتها الكثيرة إلى أن طلعت الشمس وانهار العملاق.
إذ تقطع حكايا المفاتيح قروناً من التداول البشري، فإن المغزى لا يغيب عن الأدب الراهن، المفتون بالأحاجي والألغاز، تماماً كما هو مفتون بالبحث عن «المفتاح» الذي يفضّ مغاليق الأسرار، ويقود إلى الكشف النهائي، أياً كانت عواقب هذا الكشف. قد يكون المفتاح بمثابة «الشفرة» التي تفك أحجية معقدة، كما هو الحال في رواية «شفرة دافنشي» (2003م) ذائعة الصيت للكاتب الأمريكي الشهير دان براون أو روايته الأحدث «الرمز المفقود»، التي نالت حظها من الترويج حتى قبل أن تصدر في سبتمبر (أيلول) الماضي تحت عنوان «مفتاح سليمان»، كعنوان تقصدّت الدعاية الإعلامية من ورائه وعْد القراء المنتظرين برواية ملغزة، تتخطى الإثارة التي توافرت في «شفرة دافنشي». ولا يبدو غريباً أن يقترن المفتاح بالقصص والروايات البوليسية، من ذلك روايتي «سبعة مفاتيح لبالدبيت» (1913م)، و»حارس المفاتيح» (1932م) للروائي والمسرحي الأمريكي إيرل دير بيغرز، علماً بأن «سبعة مفاتيح لبالدبيت» نُقلت إلى الشاشة الفضية في تسع نسخ سينمائية على الأقل، سبعة منها بالعنوان نفسه! كما اقترن المفتاح بالفانتازيا الروائية من خلال رواية «المفتاح» للكاتبة الأسترالية ماريان كيرلي ضمن ثلاثيتها الروائية المعروفة «حراس الزمن». على أنه من بين الروايات العالمية التي تناولت المفتاح كـ «تيمة» أدبية تتوسّم بوْحاً واستراقاً للمشاعر رواية «المفتاح» (1956م) للكاتب الياباني جونيشيرو تانيزاكي، حيث يكون مفتاح الدرج الذي يؤوي يوميات يدونها زوج محبط -يفترض أنها سرية- كشفاً للحياة، والأهم كشفاً للذات.
مفتاح الكعبة
يستأثر مفتاح الكعبة باهتمام فريد من نوعه في العالم الإسلامي. يوجد المفتاح «الرسمي» بيد سدنة بيت الله في مكة المكرمة، والسدنة هم المسؤولون عن شؤون الكعبة وكل ما يتعلق بها من فتحها وإغلاقها وتنظيفها وغسلها وكسوتها وإصلاح الكسوة واستقبال زوار البيت، حيث يتولى أمر المفتاح وشؤون السدانة آل الشيبي في السعودية، الذين ينتهي نسبهم إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة. وقد نقشت على المفتاح، المصنوع من النحاس والمطعم بالفضة، آيات من القرآن الكريم. ويعتقد، كما تفيد بعض السجلات، أن هناك 59 نسخة من مفاتيح الكعبة، 54 منها في متحف قصر توباكابي في أسطنبول بتركيا، واثنان ضمن مجموعة شخصية، ونسخة في متخف اللوفر بباريس وآخر في متحف الفنون الإسلامية في القاهرة.
«افتح يا سمسم» من البلاستيك
إذا كان مفتاح «ييل» قد أحدث ثورةً في صناعة المفاتيح، فإن المفتاح البلاستيكي المصمّم على هيئة بطاقة أو كرت من البلاستيك جاء بمثابة «افتح يا سمسم» عصرية، سحرية، تنشق على أثرها أعتى الأبواب و»المغارات» الموصدة. بالإنجليزية، يُشار إلى هذا المفتاح بـ «Keycard»، وهو ليس مفتاحاً بالمفهوم المتعارف عليه، وإنما عبارة عن بطاقة تشبه بطاقة الهوية، مسطحة، مستطيلة الشكل، تخزن معلومات رقمية تستخدم مع الأقفال الإلكترونية. ولقد بلغ من شيوع هذه البطاقة أن معظم فنادق العالم اليوم باتت تستخدمها في فتح غرف الضيوف. ولم يعد ثمة قلق من أن يقوم الضيف بالمغادرة دون أن يرجع المفتاح البلاستيكي؛ ذلك أنه بعملية كمبيوترية سهلة بالإمكان تغيير صيغة المعادلة الرقمية في القفل الإلكتروني للباب، واستخراج بطاقة بلاستيكية جديدة له في لحظات!
وهناك العديد من أنواع البطاقات البلاستيكية التي تعمل كمفاتيح، من بينها البطاقة الآلية المثقبة، والبطاقة الممغنطة، أي المزوَّدة بشريط مغناطيسي، و«البطاقة الذكية» المزوَّدة برقاقة إلكترونية لقراءة وكتابة البيانات، حيث تعمل هذه البطاقات إما من خلال إدخالها في قفل خاص بها وسحبها في حركة سريعة، أو تعريضها لمجس أو مسبار لقراءة البيانات المدونة فيها والتعرف إلى صاحبها. وكان العالِم النرويجي المولد تور سورنيس أول من دشّن قفل البطاقة البلاستكية، تحت اسم «فينغ كارد» VingCard، مستخدماً في فتحه بطاقة بلاستيكية تعمل آلياً فيها 32 ثقباً. كان ذلك في العام 1975م، حيث لا تزال فنادق العالم تعتمد هذه البطاقة. ولقد أعطت الثقوب الـ 32 في المفتاح/البطاقة 4.2 مليار توليفة أو تركيبة مختلفة، وهو ما كان يساوي تعداد سكان العالم على كوكب الأرض في ذلك الوقت، الأمر الذي وفَّر لكل نزيل في الفندق بطاقته البلاستيكية الفريدة التي تتألف من 32 ثقباً بترتيب معين لكل منها. ولا يزال هذا النوع من المفاتيح البلاستيكية هو المعتمد في معظم فنادق العالم.
وفي العامين 1992 – 1993م، ابتكر سورنيس القفل الإلكتروني الذي يعمل بالبطاقة البلاستيكية ذات الشريط الممغنط، التي تحمل بيانات «مشفرة». ويمكن تغيير بيانات البطاقة عبر تعديل ترتيب الجزئيات في الشريط المغناطيسي الخاص بها. وتلقى هذه البطاقة رواجاً عالمياً، من خلال استخدامها كهوية، تتيح لصاحبها دخول مؤسسة أو مرفق ما، كما تُستخدم في أجهزة الصراف الآلي، وفي تذاكر المواصلات في وسائط النقل العام في أجزاء عدة من العالم، كقطارات الأنفاق في بريطانيا.
مفاتيح وطن
لا يوجد مفتاح يثير شجناً ويستحثّ حنيناً كمفتاح البيت في فلسطين ما قبل نكبة عام 1948م، بالنسبة لمئات الآلاف من الفلسطينيين ممّن غادروا قراهم وبلداتهم كلاجئين. فقد ترك الفلسطيني وراءه البيت والأرض والوطن، وحمل معه مفتاح الدار، يعلقه حِرزاً على حوائط غربته القسرية أو يخبّئه في صندوق مقتنياته، مع أوراق «الطابو» الصفراء التي تؤكد ملكيّته لأرض نُهبت منه. وكلما رأى المفتاح، لمح فيه صورة وطن ينتظر عودة أبنائه، وبيوتاً لم تُسقَ كرومها وزيتوناتها منذ زمن. قد لا يورث أبناءه مالاً أو عقاراً، لكنه يأتمنهم على المفتاح؛ فالمفتاح توْقٌ مورَّث وباقٍ عبر الأجيال.
لقد زخر الأدب الفلسطيني، بكل أشكاله، بالمفتاح كرمز، وتم استغلال دلالاته سردياً ونثرياً وشعرياً في إرساء «قماشة» تعبيرية تستقرئ الشرط الفلسطيني في الشتات، ذلك أن المفتاح يُلخّص الوطن المحتَضَن في تضاعيف الذاكرة ويختصر الأمل بالعودة. من أبرز الأدباء الفلسطينيين الذين تعاملوا مع المفتاح، كتيمة قابلة لأن يتماهى فيها الوجود الفلسطيني بالغ الخصوصية أو «الذاتية»، المبدع الراحل غسان كنفاني. في لوحة «الصغير يكتشف أن المفتاح يشبه الفأس» (1967م) المشهدية ضمن مجموعته القصصية «عن الرجال والبنادق»، يستعيد الراوي مفتاح بيت أبيه في القرية، قبل أن يتركها ليدرس في القدس، وكيف أن المفتاح -كما يتذكره- كان يشبه الفأس، وهو تشبيه ينطوي على مغزى خاص، ثم إن المفتاح، الذي لم يغادر حزام أبيه، كان «المفتاح» بـ «ال» التعريف التي لازمته ما أحالته من شيء إلى فكرة حية في أكثر من وجه وأكثر من معنى، بل كان مجرد ذكره ولفظه يشيع إحساساً بالدفء. لم يكن مجرد مفتاح، بل كان هو المفتاح الذي يعرفه الجميع، كائناً علماً، غير قابل للضياع: «فهو المفتاح الوحيد الذي لم يستطع الزمن أن يضيعه، لقد كان كل رجل في القرية، كل طفل، كل امرأة، يعرفون أن هذا المفتاح هو مفتاح دار جابر، بل كان ثمة أناس في القرى المجاورة يعرفون ذلك أيضاً، فإذا ما ضاع أو سقط يعود إلى الدار كأنما من تلقاء نفسه».
راح البيت وظل المفتاح، تركه له أبوه الذي دافع عن الأرض ببسالة في مواجهة الاحتلال الصهيوني. لقد مر عشرون أياراً، أي منذ النكبة، وظل المفتاح معلقاً كلوحة في بيته في جغرافيا اللجوء، مثبتاً عرضياً بمسمارين. ظل الكاتب -الذي لم يعد طفلاً- حريصاً على أن يُلحق «ال» التعريف الدافئة بالمفتاح، مع أن مفتاحه لم يعد يذكره بفأس. لكن ابنه الصغير، ينتبه ذات يوم إلى أن المفتاح يشبه فأس، بعدما سقط أحد المسمارين اللذين يثبتانه على الحائط، ليتدلى جسد المفتاح طولياً، مستعيداً تاريخه البعيد، حين كان فأساً مهاباً ومعروفاً، في صدقة ليست صدفة، كأنه يستبشر بوعد قريب.
مفاتيح القدس
للقدس مكانةٌ غالية في القلب والتاريخ، ومفاتيح المدينة هي الأغلى ذلك أن من يملكها يملك المدينة، وقد تكون واقعة تسليم مفاتيح مدينة القدس للخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، هي الأشهر في التاريخ، كونها أرستْ ما قد يكون أول ميثاق تفاهم دولي من نوعه تحت ما عرف بـ «العهدة العمرية» يحكم شروط العلاقة بين الأمم والأديان. وكان المسلمون قد تمكنوا من فتح العديد من أجزاء بلاد الشام إثر معركة اليرموك عام 636 ميلادية، ودانت لهم مدن ودويلات، إلى أن بلغوا بيت المقدس في فلسطين، حيث خيّر أبو عبيدة بن الجراح، الذي كان يقود جيش المسلمين، أهل إيلياء، أي القدس، بين إحدى ثلاث: الإسلام أو الجزية أو القتال، فرضوا بالجزية، حيث اشترط بطريرك القدس صفرونيوس أن يسلِّم مفاتيح بيت المقدس إلى الخليفة بنفسه، فأتى عمر، رضي الله عنه، إلى القدس مسافراً يرافقه خادمه ومعهما ناقة واحدة، يركبها كل من الخليفة والخادم بالتناوب. حين بلغ عمر مشارف المدينة، صعد صفرونيوس وبطارقته إلى أسوار القدس وأبصروا الرجليْن القادميْن، دون أن يميزوا أيهما الخليفة وأيهما خادمه، إذ كان عمر، رضي الله عنه، يمسك بزمام الناقة ويخوض في الماء والوحل، فأدرك البطارقة حينئذ أن مدينتهم ستكون آمنة، ففتحوا أبواب القدس وسلَّموا مفاتيحها للخليفة الذي أبرم معهم «العهدة العمرية» التي منح بموجبها الأمان لأهل القدس؛ لأنفسهم وأموالهم ومعتقداتهم وما تمثله لهم.
تجدر الإشارة إلى أن مسيحيي القدس يأتمنون حتى اليوم المسلمين على مفاتيح كنيسة القيامة، قبلة المسيحيين في مشارق الأرض ومغاربها، إذ تتولى عائلتان فلسطينيتان مسلمتان، هما عائلة نسيبة وعائلة جودة، حمل هذه المفاتيح، في تقليد متوارث منذ مئات السنين، حيث يقوم أبناء العائلتين بفتح الكنيسة وإغلاقها وحراستها وصيانتها. وتذكر بعض المراجع التاريخية أن الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أعطى مفتاح الكنيسة لعبدالله بن نسيبة المازنية، وهي عائلة عربية خزرجية من المدينة المنورة، بعدما تسلمه من البطريرك صفرنيوس، وذلك عام 638م، إضافة إلى مفاتيح القدس. وثمة مراجع أخرى تفيد بأن صلاح الدين الأيوبي عهد بمفتاح كنيسة القيامة إلى عائلة نسيبة حين دخلها محرراً عام 1187م، وذلك حين لاحظ وجود خلافات بين الطوائف المسيحية في المدينة حول شؤون الكنيسة، فارتأى أن يقوم المسلمون بدور توفيقي بينهم. ثم تقاسمت عائلة جودة مع عائلة نسيبة مهمة حمل المفتاح إبان الحكم العثماني.
أضف تعليق