ذات يوم.. 7 يونيو 1969
كان عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، وزوجته «سوزان»، على موعد لركوب الباخرة المتجهة إلى ميناء «جنوا» بإيطاليا، لبدء عطلته الصيفية السنوية فى أوروبا، يوم 7 يونيو، مثل هذا اليوم، 1969، وفى نفس اليوم كان القراء على موعد معه لقراءة حوار أجراه الكاتب الصحفى كمال الملاخ، ونشرته الأهرام على صفحتها الأخيرة، يروى فيه مقتطفات من رحلة «الفقر والعلم» فى حياته، منذ أن كان طفلا حتى صار هذا المفكر الاستثنائى فى تاريخ الفكر العربى.
لم يشمل الحوار الحديث عن مؤلفاته أو معاركه، لكنه تحدث سريعًا بفخر عن بيئة الفقر التى تربى فيها، والقاهرة التى نزلها أول مرة، ودراسته فى الأزهر، والموسيقار محمد عبدالوهاب وكوكب الشرق أم كلثوم، قال إنه لا يحب البحر لكنه يلجأ إليه كارها.. يتذكر أول رحلة فوق أمواجه، قائلا: «كانت حكاية، أخذنا السفينة من الإسكندرية فى 14 نوفمبر 1914، وصادف أن هذا يوم مولدى، وكان معنا أعضاء البعثة الجامعية، الله يرحمه أحمد ضيف «باريس» وعبدالرحمن فكرى «لندن».. كنا رايحين على فرنسا.. المركب كان صغيرا.. كان «ضيف» أكثرنا جزعا واضطرابا.. أذكر أنه قضى ليلة ويوما فى سريره، وكلما اشتد اضطراب المركب يهتف مناديًا والدته».
سأله «الملاخ»: «وأنت؟».. أجاب: «كنت سايب البحر يهتز وأنا لا أهتز معه.. أخاف من البحر ليه.. إن غرق المركب غرقنا.. ماذا نجنى من خوفنا؟.. سأله: ألم تخاف من بحر الحياة؟.. أجاب: لا، لا أخاف إلا الله.. سأله: هل تذكر أول ما لفت نظرك وانتباهك عندما وصلت إلى القاهرة أول مرة قادمًا من بلدة «الكوم» مركز «مغاغة» المنيا.. أجاب: أول مرة ركبت فيها القطار، كنت مسافرًا مع أخويا الله يرحمه الشيخ أحمد «اللى كان بعدين فى وزارة الأوقاف»، نزلنا من المحطة عشان نوصل «الأوضة»، أخذتنا عربية كارو، قعدنا عليها احنا والعفش.. «الأوضة» كانت مناسبة، لا تزال موجودة فى الجمالية بحوش عطا «1969».. كانت عبارة عن حجرة فى مبنى وكالة تجارة، وفيه «ربع» دور أول، ودور ثانى اسمه ربع «السلحدار»..كان فى «الأوضة»، «أوضة» صغيرة تؤدى إليها بندفع أجرتها 25 قرشا فى الشهر، وبعدين أقام معانا ابن خالتى.. «الأوضة» كانت عبارة عن محل أدب «حمام» محدود، وحنفية ومفيش مياه على طول، والسقا يملاها كل يوم و«كانون صناعى»، وكان الزاد يصلنا من البلد، من مغاغة، العيش، السمن، العسل، وجبنة.. أنا عمرى ما حبيت الجبنة المصرية.. أحيانًا كان معاه حاجة من الطير.
أنا وابن خالتى أحيانًا كان أكلنا اليومى فى الصباح فول نابت أو طعمية، ولا شىء فى الظهر.. الظهر ما كانش فيه أكل فى الأزهر..وفى العصر طحينة وعسل حتى قرب المغرب.. كان عندنا دروس «نحو» فى الست سنوات الأولى، وبعدئذ دروس البلاغة.. كان الشيخ أحمد أخى له جراية 4 أرغفة فى اليوم، وأنا بعد 4 سنوات كان لى، لكن والدتى الله يرحمها كانت ترسل لى العيش الشمسى المنياوى، وكان عندنا سحارة كبيرة نضع فيها كل الأشياء.
سأله الملاخ: «الرحلة من الأضوة حتى الأزهر.. ألم تركب بعد تراما؟.. أجاب: «قعدت مدة طويلة فى الجمالية كل ما أعرفه فى القاهرة المسافة من حوش عطا إلى الأزهر الشريف.. أول درس سمعته كان فى سيدنا الحسين.. كان للشيخ بخيت، درس الفقه، موضوعه كان عن «الطلاق» واستمريت من الصباح حتى بعد صلاة المغرب، وانصرفت مشى».. يضيف: «أول ما أنشئت الجامعة الحرة «1908» كان لى 6 سنوات فى الأزهر.. كانت فى مكان الجامعة الأمريكية حاليًا فى قلب القاهرة.. كنا نروح ماشيين من الجمالية إلى الجامعة، ونرجع ماشيين بكل بساطة».
سأله «الملاخ» عن أول مسرح ومسرحية دخلها؟.. أجاب: بعد ما كبرنا وسمعت سلامة حجازى وعزيز عيد، عمرى ما أنسى رحنا تياترو، وكان فيه رواية «كليوباترا» لأحمد شوقى، تمثيل منيرة المهدية ومحمد عبدالوهاب، كان أصغر منها بكتير.. ذهبت إلى هذه المسرحية بعد ما تزوجت.. رحت مع الست بتاعتى.. عمرى ما أنسى صوت عبدالوهاب وهو ينادى منيرة: «كليوباترا».. سأله الملاخ عن «أم كلثوم».. أجاب: أول مرة فى مصر سنة 1922 أو قبل كده بشوية، فاكر يومها كان معنا محمد حسين هيكل «باشا» بعد ما غنت وخلصت أول دور.. كانت بتشوفه، كانت بلدياته.. أم كلثوم دى لطيفة قوى عزمتها فى الجامعة تغنى للطلبة، لما كنت عميدًا لكلية الآداب، أول ما حضرت كان معى على باشا إبراهيم حيتنا بحرارة، وأنا حتى الآن عندما أقابلها أود دائمًا أن أقبل يدها، وغنت للطلبة مجانًا».
سأله عن رأيه فى فنها وصوتها، أجاب: «سمعتها مرة فى حفل عائلى، كنا معزومين على العشاء، عند المرحوم سعيد لطفى، وبعد العشاء غنت لنا شعرًا من مهيار الديلمى، فاكر إن سعيد كان يبكى، وكان هناك حافظ عفيفى ولطفى السيد، وكنا مبسوطين جدًا لأنها غنت من غير عود ولا آلات.. صوت أم كلثوم هادئ.. إنها رائعة».
........................................................................
سعيد الشحات-اليوم السابع
#ذات_يوم_اليوم_السابع
www.facebook.com
كان عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، وزوجته «سوزان»، على موعد لركوب الباخرة المتجهة إلى ميناء «جنوا» بإيطاليا، لبدء عطلته الصيفية السنوية فى أوروبا، يوم 7 يونيو، مثل هذا اليوم، 1969، وفى نفس اليوم كان القراء على موعد معه لقراءة حوار أجراه الكاتب الصحفى كمال الملاخ، ونشرته الأهرام على صفحتها الأخيرة، يروى فيه مقتطفات من رحلة «الفقر والعلم» فى حياته، منذ أن كان طفلا حتى صار هذا المفكر الاستثنائى فى تاريخ الفكر العربى.
لم يشمل الحوار الحديث عن مؤلفاته أو معاركه، لكنه تحدث سريعًا بفخر عن بيئة الفقر التى تربى فيها، والقاهرة التى نزلها أول مرة، ودراسته فى الأزهر، والموسيقار محمد عبدالوهاب وكوكب الشرق أم كلثوم، قال إنه لا يحب البحر لكنه يلجأ إليه كارها.. يتذكر أول رحلة فوق أمواجه، قائلا: «كانت حكاية، أخذنا السفينة من الإسكندرية فى 14 نوفمبر 1914، وصادف أن هذا يوم مولدى، وكان معنا أعضاء البعثة الجامعية، الله يرحمه أحمد ضيف «باريس» وعبدالرحمن فكرى «لندن».. كنا رايحين على فرنسا.. المركب كان صغيرا.. كان «ضيف» أكثرنا جزعا واضطرابا.. أذكر أنه قضى ليلة ويوما فى سريره، وكلما اشتد اضطراب المركب يهتف مناديًا والدته».
سأله «الملاخ»: «وأنت؟».. أجاب: «كنت سايب البحر يهتز وأنا لا أهتز معه.. أخاف من البحر ليه.. إن غرق المركب غرقنا.. ماذا نجنى من خوفنا؟.. سأله: ألم تخاف من بحر الحياة؟.. أجاب: لا، لا أخاف إلا الله.. سأله: هل تذكر أول ما لفت نظرك وانتباهك عندما وصلت إلى القاهرة أول مرة قادمًا من بلدة «الكوم» مركز «مغاغة» المنيا.. أجاب: أول مرة ركبت فيها القطار، كنت مسافرًا مع أخويا الله يرحمه الشيخ أحمد «اللى كان بعدين فى وزارة الأوقاف»، نزلنا من المحطة عشان نوصل «الأوضة»، أخذتنا عربية كارو، قعدنا عليها احنا والعفش.. «الأوضة» كانت مناسبة، لا تزال موجودة فى الجمالية بحوش عطا «1969».. كانت عبارة عن حجرة فى مبنى وكالة تجارة، وفيه «ربع» دور أول، ودور ثانى اسمه ربع «السلحدار»..كان فى «الأوضة»، «أوضة» صغيرة تؤدى إليها بندفع أجرتها 25 قرشا فى الشهر، وبعدين أقام معانا ابن خالتى.. «الأوضة» كانت عبارة عن محل أدب «حمام» محدود، وحنفية ومفيش مياه على طول، والسقا يملاها كل يوم و«كانون صناعى»، وكان الزاد يصلنا من البلد، من مغاغة، العيش، السمن، العسل، وجبنة.. أنا عمرى ما حبيت الجبنة المصرية.. أحيانًا كان معاه حاجة من الطير.
أنا وابن خالتى أحيانًا كان أكلنا اليومى فى الصباح فول نابت أو طعمية، ولا شىء فى الظهر.. الظهر ما كانش فيه أكل فى الأزهر..وفى العصر طحينة وعسل حتى قرب المغرب.. كان عندنا دروس «نحو» فى الست سنوات الأولى، وبعدئذ دروس البلاغة.. كان الشيخ أحمد أخى له جراية 4 أرغفة فى اليوم، وأنا بعد 4 سنوات كان لى، لكن والدتى الله يرحمها كانت ترسل لى العيش الشمسى المنياوى، وكان عندنا سحارة كبيرة نضع فيها كل الأشياء.
سأله الملاخ: «الرحلة من الأضوة حتى الأزهر.. ألم تركب بعد تراما؟.. أجاب: «قعدت مدة طويلة فى الجمالية كل ما أعرفه فى القاهرة المسافة من حوش عطا إلى الأزهر الشريف.. أول درس سمعته كان فى سيدنا الحسين.. كان للشيخ بخيت، درس الفقه، موضوعه كان عن «الطلاق» واستمريت من الصباح حتى بعد صلاة المغرب، وانصرفت مشى».. يضيف: «أول ما أنشئت الجامعة الحرة «1908» كان لى 6 سنوات فى الأزهر.. كانت فى مكان الجامعة الأمريكية حاليًا فى قلب القاهرة.. كنا نروح ماشيين من الجمالية إلى الجامعة، ونرجع ماشيين بكل بساطة».
سأله «الملاخ» عن أول مسرح ومسرحية دخلها؟.. أجاب: بعد ما كبرنا وسمعت سلامة حجازى وعزيز عيد، عمرى ما أنسى رحنا تياترو، وكان فيه رواية «كليوباترا» لأحمد شوقى، تمثيل منيرة المهدية ومحمد عبدالوهاب، كان أصغر منها بكتير.. ذهبت إلى هذه المسرحية بعد ما تزوجت.. رحت مع الست بتاعتى.. عمرى ما أنسى صوت عبدالوهاب وهو ينادى منيرة: «كليوباترا».. سأله الملاخ عن «أم كلثوم».. أجاب: أول مرة فى مصر سنة 1922 أو قبل كده بشوية، فاكر يومها كان معنا محمد حسين هيكل «باشا» بعد ما غنت وخلصت أول دور.. كانت بتشوفه، كانت بلدياته.. أم كلثوم دى لطيفة قوى عزمتها فى الجامعة تغنى للطلبة، لما كنت عميدًا لكلية الآداب، أول ما حضرت كان معى على باشا إبراهيم حيتنا بحرارة، وأنا حتى الآن عندما أقابلها أود دائمًا أن أقبل يدها، وغنت للطلبة مجانًا».
سأله عن رأيه فى فنها وصوتها، أجاب: «سمعتها مرة فى حفل عائلى، كنا معزومين على العشاء، عند المرحوم سعيد لطفى، وبعد العشاء غنت لنا شعرًا من مهيار الديلمى، فاكر إن سعيد كان يبكى، وكان هناك حافظ عفيفى ولطفى السيد، وكنا مبسوطين جدًا لأنها غنت من غير عود ولا آلات.. صوت أم كلثوم هادئ.. إنها رائعة».
........................................................................
سعيد الشحات-اليوم السابع
#ذات_يوم_اليوم_السابع
ذات يوم
ذات يوم. 10,410 likes · 6,325 talking about this. إبحار في يوميات التاريخ بسهولة السرد، وتكثيف في العرض