" ليت «أسماء» تعرف أن أباها صَعَدْ
لم يمت
هل يموت الذى كان يحيا "
(أمل دنقل -1981)
***
{القاهرة - 1981}
على باب شقتها بحى "جاردن سيتى" وقفت الفنانة الراحلة «نادية لطفى»، تودع الأديب الشاب يحيى الطاهر عبدالله{ 30 إبريل- 1938 - 9 إبريل -1981} الأسانسير وصل. وضع يده على بابه حتى ينتهى من كلامه معها:
- "مع السلامة يا يحيى".
- "الله يسلمك...فى المرة القادمة، سنواصل الكلام عن ملامح سيناريو الفيلم الذى يدور فى ذهنى، والذى أراكِ أنت البطلة فيه.
- تبتسم وهى تقول: "اتفقنا"! ثم تغيب البسمة من على ملامح جهها قليلاً وتكمل كلامها:"بمناسبة الحلم الذى رأيته، أنا أقول لك إنه لن يتحقق.. أعتقد يا صديقى العزيز أن الموت أذكى من أن يخطف أمثالك"!.
ثم تكمل:" أما عن حادث السيارة الذى رأيته فى حلمك، فهو - من الآخر - مجرد حلم؛ فلا تفكر فيه كثيراً".. كانت نجمة ذلك الزمان، وما قبله، وفاتنة أجيال كاملة، وحلمهم الأسطورى، تتحدث إلى الشاب الصعيدى الواقف أمامها، والذى جاء للقاهرة قبل سنوات حاملاً معه إبداعه، وعبقريته، وتفرده فى كتابة القصة القصيرة وهو يهز رأسه، ويضغط بيده على باب الأسانسير حتى لا يهرب منه، وقلبه يهفو إلى حديثها، وصوتها الدافئ. أما عقله فقد استسلم تماماً، دون أدنى مقاومة لفكرة الموت!
***
{ الأسانسير - بعد دقائق}
رد بصوت هامس:"عموماً.. أعمار"!
سألته: "هل سأراك الإسبوع القادم، لنكمل معاً العمل على مشروع الفيلم"؟.
- قال بعدما وضع قدمه فى الأسانسير:"لا أظن".. ثم ألقى نظرة حزينة عليها قائلاً:".. وداعاً"!
- ردت:" مع السلامة يا يحيى"!.
***
{العمارة - بعد 5 دقائق}
- خرج من باب العمارة إلى الشارع وفى يده علبة سجائره وقلمه، وفى ذهنه «الحلم» -أو الكابوس- الذى حكاه لصديقته «نادية لطفى» والذى يرى فيه نفسه «يموت» فى حادث سير!.
***
{القاهرة - بعد أيام }
بعد 15 يوماً تقريباً - كما ذكرت نادية لطفى - يُسافر يحيى ومعه - وقتها - د. عبدالحميد حواس وزوجته د. ألفت الروبى وباحثة إنجليزية، وابنته «أسماء» ذات الأعوام الخمسة فى رحلة بحث عن التراث والفلكلور فى صحراء الواحات.
***
{الواحات - صحراء مصر}
السيارة تسير بسرعتها العادية، فى الخلف يجلس الدكتور «حواس» وزوجته. الباحثة الإنجليزية تقود السيارة، وبجوارها يجلس «يحيى». والطفلة تلهو فى المقعد الخلفى، بعد دقائق يستدعيها أبوها لتجلس بجواره. يفك حزام الأمان من فوق جسده، ويلفه حولها، يضع يده على الشباك بعدما أنزل زجاجه بعض الشىء. الصمت يخيم عليهم جميعاً، بعد سلسلة من النقاشات عن التراث والإبداع والفلكلور.
«يحيى» ينظر لطفلته بعمق، وكأنه يشعر أنها النظرة الأخيرة. الباحثة تزداد تركيزاً فى القيادة، الطفلة تضع رأسها على كتف أبيها.
الدقائق تمر، السرعة عادية فى المتوسط، وفجأة تنقلب السيارة، وتطير فوق الرمال. إطار السيارة.. انفجر!
***
{ الرمال - بعد دقائق}
الجميع غير مستوعب الصدمة. الكل يحاول الاطمئنان على نفسه، ثم يطمئن على الآخرين. الكل عاد للحياة سالماً من الحادث، إلا شخص واحد، رفضت رمال الواحات أن تتركه يعود للحياة، وكأنها كانت فى حاجة شديدة لسلب حياته، ليمنحها هو الحياة. الآن يحيى الطاهر عبدالله.. مات! وعاشت رمال الواحات!
***
ولد عبدالفتاح يحيى(اسمه الأول مركب) الطاهر محمد عبدالله بقرية الكرنك، التابعة لمدينة الأقصر بجنوب مصر من أسرة بسيطة. كان أبوه شيخاً معمماً. وظل بقريته حتى حصل على دبلوم الزراعة المتوسطة. عمل فى إدارة تتبع وزارة الزراعة فترة قصيرة، ثم انتقل عام 1959 إلى قنا. التقى هناك بالشاعرين «عبدالرحمن الأبنودى» و«أمل دنقل»، كانت هذه بداية صداقة عميقة بينهم الثلاثة.
فى عام 1962 كتب أولى قصصه القصيرة «محبوب الشمس» وتزوج فى مارس 1975. اُعتقل مع مجموعة من الكتاب والفنانين وأطلق سراحه فى أبريل 1967 قبل هزيمة يونيه بشهرين. أنجب أسماء وهالة ومحمد. والأخير مات فى حياته وعمره عام ونصف العام. توفيت أمه فقامت على تربيته «خالته» التى أصبحت فيما بعد زوجة أبيه، وكانت سبباً - حسب رواية الأبنودى نفسه - فى أن تجعله يهرب من البيت ويعيش لمدة عامين فى بيت الأبنودى فى قنا مع «فاطمة قنديل» والدة الأبنودى التى كانت تقول عنه كل يوم «الولد ده هيموت بكره»! وكأن الموت يطارده مبكراً. كانت تعتبره أحد أولادها حتى بعد سفر الأبنودى للقاهرة، وعاش فى بيت الشيخ محمود بعدما ترك بيت الأسرة قبل أن يترك قنا كلها ويأتى للقاهرة لينضم إلى رفيقى دربه «عبدالرحمن الأبنودى» و«أمل دنقل»
***
{القاهرة - 2016}
التقيت بالابنة أسماء - الآن دكتورة فى جامعة حلوان - وسألتها: كيف تعرف على والدتك؟ قالت:"أبى.. لم يكن يعترف بأى مؤسسة، حتى مؤسسة الزواج. هو فى الأصل لم يكن يريد أن يتزوج. وذات يوم جاء وحضر الندوة التى كان يقيمها - خالى الراحل- د. عبدالمنعم تليمة، وندوة وراء
أخرى شعر د. عبدالمنعم تليمة أنه أمام أديب متفرد ومتميز، فوقع فى غرامه وقرر أن يزوجه أخته الصغرى « مديحة»، وكانت تعمل مدرسة للغة العربية، وقريبة بصورة أو بأخرى من الثقافة، وبالفعل سارت الأمور نحو زواجه رغم شعوره أنه غير محب لفكرة الزواج من الأساس، والدليل على ذلك أنه جاء متأخراً ليلة زفافه، حيث جلست أمى فى الكوشة بمفردها لفترة، وهو لا أحد يعلم عنه شيئاً، فقرر صديقه الأبنودى - إنقاذاً للموقف أمام العروس والمعازيم - أن يصعد ويجلس بجوارها وكأنه هو العريس!! وبعد فترة من الوقت لا تقل عن ساعتين جاء وفى يده طفل من أطفال الشوارع، فيما يبدو التقاه وهو قادم للفرح، فوقف يتحدث إليه، ووجد من غير الملائم وليس من العقل والمنطق أن يترك هذا الطفل البائس الفقير لحال سبيله ويذهب هو للفرح؟! ثم أكملت: "وعندما جاء.. سألوه: أين كنت؟ ولماذا تأخرت؟ ومن هذا؟ قال: "هذا طفل من أطفال الشوارع، رأيت أن يأتى معى ليأكل قطعة (جاتوه)"!! هنا ترك «الأبنودى» مقعده، وطلب منه أن يصعد مكانه بجوار العروس. وقد كان!
***
{ القاهرة - بعد الحادث - 1981}
قلت لها: تركت البيت وعمرك 5 سنوات للعيش مع والدتك الثانية - أو الأولى- عطيات الأبنودى؟ أليس كذلك؟ ردت: "بالفعل.. غادرت البيت بعد ثلاثة أيام من الحادث.. وأذكر هذا اليوم جيداً، حيث كنت ألعب فى الشارع مع أطفال فى مثل سنى، ومن بعيد لمحتنى (ماما عطيات) التى كانت قادمة لمنزلنا لتفتش على أوراق وكتابات أبى، لتحتفظ بها، ولولا هذا الذى فعلته ما كنا استطعنا الاستمتاع بآخر ما كتبه. يومها نظرت لى جيداً، حيث لم تكن قد رأتنى إلا مرات قليلة من قبل، ثم احتضنتى. ومنذ تلك اللحظة قررت أن أكون ابنتها التى لم تنجبها، وأنا ارتميت فى حضنها ولم أتركها منذ ذلك اليوم، وأظن أن هذا اللقاء غيَّر حياتى تماماً، فمن الوارد أن حياتى - بعيداً عن ماما عطيات - كانت ربما ذهبت إلى اتجاهات أخرى.
قلت لها: ألم تعرفى حتى اليوم كيف مات؟ ردت: "لا أذكر تفاصيل الحادث غير أنه كان راقداً على الرمال وبعض الدم يتساقط من فمه، ثم حملونا إلى مستشفى الهرم.. بعدها ذهبنا إلى البيت وذهب هو إلى العالم الآخر. وحاولت كثيراً مع د. عبدالحميد حواس رفيق الرحلة أن أعرف منه كيف مات؟ لكنه رفض بشدة. وقال:" لن أتحدث فى هذا الأمر ما حييت"! ومات منذ فترة هو أيضاً ومات معه السر"! ثم تكمل:" هل قفز من باب السيارة قبل ارتطامها؟ هل ارتطم بالأرض؟ هل بسقف السيارة؟ أكثر من سؤال ليس له إجابة.. غير أن النتيجة والحقيقة هو إنه فى النهاية.. مات"!
***
{الأهرام - 1981}
الكاتب الكبير يوسف إدريس يكتب عن النجم الذي هوى ينعيه قائلاً:" يا شعبنا المصرى الطيب.. يؤسفنى أن أنعى لكم واحداً من أنبغ كتابنا، ربما لم تعرفوه إلى الآن كثيراً، ربما لم يكن حديث الناس كنجوم السينما، ولكنى متأكد أنه سيخلد فى تاريخ أدبنا وحياتنا"!
***
..وكم من نجم فى سمائنا هوى، ولكن - رغم الغياب - يبقى الخلود عنواناً، لمثل هؤلاء الصادقين، الموهوبين، ومنهم (يحيي الطاهر عبدالله) الذي جاء يوم الخميس 9 أبريل 1981- فى مثل هذا اليوم - ليوقف الجمَّال جمله على رمال الواحات، ليموت فى هذا الحادث المأساوى.. ويكتب الأبنودى ينعيه قائلاً:
"الحمل فوق الكتاف مال
والدم نازل قنايه
يا جمل ما يوم خزمه جمَّال
ولا قتله عشق الصبايا"!
•خيري حسن - إبريل - 2021
•••
••الأحداث حقيقة...السيناريو من خيال الكاتب
•• الصور المصاحبة:
يحيي الطاهر عبدالله.
د. أسماء يحيى الطاهر.
www.facebook.com
لم يمت
هل يموت الذى كان يحيا "
(أمل دنقل -1981)
***
{القاهرة - 1981}
على باب شقتها بحى "جاردن سيتى" وقفت الفنانة الراحلة «نادية لطفى»، تودع الأديب الشاب يحيى الطاهر عبدالله{ 30 إبريل- 1938 - 9 إبريل -1981} الأسانسير وصل. وضع يده على بابه حتى ينتهى من كلامه معها:
- "مع السلامة يا يحيى".
- "الله يسلمك...فى المرة القادمة، سنواصل الكلام عن ملامح سيناريو الفيلم الذى يدور فى ذهنى، والذى أراكِ أنت البطلة فيه.
- تبتسم وهى تقول: "اتفقنا"! ثم تغيب البسمة من على ملامح جهها قليلاً وتكمل كلامها:"بمناسبة الحلم الذى رأيته، أنا أقول لك إنه لن يتحقق.. أعتقد يا صديقى العزيز أن الموت أذكى من أن يخطف أمثالك"!.
ثم تكمل:" أما عن حادث السيارة الذى رأيته فى حلمك، فهو - من الآخر - مجرد حلم؛ فلا تفكر فيه كثيراً".. كانت نجمة ذلك الزمان، وما قبله، وفاتنة أجيال كاملة، وحلمهم الأسطورى، تتحدث إلى الشاب الصعيدى الواقف أمامها، والذى جاء للقاهرة قبل سنوات حاملاً معه إبداعه، وعبقريته، وتفرده فى كتابة القصة القصيرة وهو يهز رأسه، ويضغط بيده على باب الأسانسير حتى لا يهرب منه، وقلبه يهفو إلى حديثها، وصوتها الدافئ. أما عقله فقد استسلم تماماً، دون أدنى مقاومة لفكرة الموت!
***
{ الأسانسير - بعد دقائق}
رد بصوت هامس:"عموماً.. أعمار"!
سألته: "هل سأراك الإسبوع القادم، لنكمل معاً العمل على مشروع الفيلم"؟.
- قال بعدما وضع قدمه فى الأسانسير:"لا أظن".. ثم ألقى نظرة حزينة عليها قائلاً:".. وداعاً"!
- ردت:" مع السلامة يا يحيى"!.
***
{العمارة - بعد 5 دقائق}
- خرج من باب العمارة إلى الشارع وفى يده علبة سجائره وقلمه، وفى ذهنه «الحلم» -أو الكابوس- الذى حكاه لصديقته «نادية لطفى» والذى يرى فيه نفسه «يموت» فى حادث سير!.
***
{القاهرة - بعد أيام }
بعد 15 يوماً تقريباً - كما ذكرت نادية لطفى - يُسافر يحيى ومعه - وقتها - د. عبدالحميد حواس وزوجته د. ألفت الروبى وباحثة إنجليزية، وابنته «أسماء» ذات الأعوام الخمسة فى رحلة بحث عن التراث والفلكلور فى صحراء الواحات.
***
{الواحات - صحراء مصر}
السيارة تسير بسرعتها العادية، فى الخلف يجلس الدكتور «حواس» وزوجته. الباحثة الإنجليزية تقود السيارة، وبجوارها يجلس «يحيى». والطفلة تلهو فى المقعد الخلفى، بعد دقائق يستدعيها أبوها لتجلس بجواره. يفك حزام الأمان من فوق جسده، ويلفه حولها، يضع يده على الشباك بعدما أنزل زجاجه بعض الشىء. الصمت يخيم عليهم جميعاً، بعد سلسلة من النقاشات عن التراث والإبداع والفلكلور.
«يحيى» ينظر لطفلته بعمق، وكأنه يشعر أنها النظرة الأخيرة. الباحثة تزداد تركيزاً فى القيادة، الطفلة تضع رأسها على كتف أبيها.
الدقائق تمر، السرعة عادية فى المتوسط، وفجأة تنقلب السيارة، وتطير فوق الرمال. إطار السيارة.. انفجر!
***
{ الرمال - بعد دقائق}
الجميع غير مستوعب الصدمة. الكل يحاول الاطمئنان على نفسه، ثم يطمئن على الآخرين. الكل عاد للحياة سالماً من الحادث، إلا شخص واحد، رفضت رمال الواحات أن تتركه يعود للحياة، وكأنها كانت فى حاجة شديدة لسلب حياته، ليمنحها هو الحياة. الآن يحيى الطاهر عبدالله.. مات! وعاشت رمال الواحات!
***
ولد عبدالفتاح يحيى(اسمه الأول مركب) الطاهر محمد عبدالله بقرية الكرنك، التابعة لمدينة الأقصر بجنوب مصر من أسرة بسيطة. كان أبوه شيخاً معمماً. وظل بقريته حتى حصل على دبلوم الزراعة المتوسطة. عمل فى إدارة تتبع وزارة الزراعة فترة قصيرة، ثم انتقل عام 1959 إلى قنا. التقى هناك بالشاعرين «عبدالرحمن الأبنودى» و«أمل دنقل»، كانت هذه بداية صداقة عميقة بينهم الثلاثة.
فى عام 1962 كتب أولى قصصه القصيرة «محبوب الشمس» وتزوج فى مارس 1975. اُعتقل مع مجموعة من الكتاب والفنانين وأطلق سراحه فى أبريل 1967 قبل هزيمة يونيه بشهرين. أنجب أسماء وهالة ومحمد. والأخير مات فى حياته وعمره عام ونصف العام. توفيت أمه فقامت على تربيته «خالته» التى أصبحت فيما بعد زوجة أبيه، وكانت سبباً - حسب رواية الأبنودى نفسه - فى أن تجعله يهرب من البيت ويعيش لمدة عامين فى بيت الأبنودى فى قنا مع «فاطمة قنديل» والدة الأبنودى التى كانت تقول عنه كل يوم «الولد ده هيموت بكره»! وكأن الموت يطارده مبكراً. كانت تعتبره أحد أولادها حتى بعد سفر الأبنودى للقاهرة، وعاش فى بيت الشيخ محمود بعدما ترك بيت الأسرة قبل أن يترك قنا كلها ويأتى للقاهرة لينضم إلى رفيقى دربه «عبدالرحمن الأبنودى» و«أمل دنقل»
***
{القاهرة - 2016}
التقيت بالابنة أسماء - الآن دكتورة فى جامعة حلوان - وسألتها: كيف تعرف على والدتك؟ قالت:"أبى.. لم يكن يعترف بأى مؤسسة، حتى مؤسسة الزواج. هو فى الأصل لم يكن يريد أن يتزوج. وذات يوم جاء وحضر الندوة التى كان يقيمها - خالى الراحل- د. عبدالمنعم تليمة، وندوة وراء
أخرى شعر د. عبدالمنعم تليمة أنه أمام أديب متفرد ومتميز، فوقع فى غرامه وقرر أن يزوجه أخته الصغرى « مديحة»، وكانت تعمل مدرسة للغة العربية، وقريبة بصورة أو بأخرى من الثقافة، وبالفعل سارت الأمور نحو زواجه رغم شعوره أنه غير محب لفكرة الزواج من الأساس، والدليل على ذلك أنه جاء متأخراً ليلة زفافه، حيث جلست أمى فى الكوشة بمفردها لفترة، وهو لا أحد يعلم عنه شيئاً، فقرر صديقه الأبنودى - إنقاذاً للموقف أمام العروس والمعازيم - أن يصعد ويجلس بجوارها وكأنه هو العريس!! وبعد فترة من الوقت لا تقل عن ساعتين جاء وفى يده طفل من أطفال الشوارع، فيما يبدو التقاه وهو قادم للفرح، فوقف يتحدث إليه، ووجد من غير الملائم وليس من العقل والمنطق أن يترك هذا الطفل البائس الفقير لحال سبيله ويذهب هو للفرح؟! ثم أكملت: "وعندما جاء.. سألوه: أين كنت؟ ولماذا تأخرت؟ ومن هذا؟ قال: "هذا طفل من أطفال الشوارع، رأيت أن يأتى معى ليأكل قطعة (جاتوه)"!! هنا ترك «الأبنودى» مقعده، وطلب منه أن يصعد مكانه بجوار العروس. وقد كان!
***
{ القاهرة - بعد الحادث - 1981}
قلت لها: تركت البيت وعمرك 5 سنوات للعيش مع والدتك الثانية - أو الأولى- عطيات الأبنودى؟ أليس كذلك؟ ردت: "بالفعل.. غادرت البيت بعد ثلاثة أيام من الحادث.. وأذكر هذا اليوم جيداً، حيث كنت ألعب فى الشارع مع أطفال فى مثل سنى، ومن بعيد لمحتنى (ماما عطيات) التى كانت قادمة لمنزلنا لتفتش على أوراق وكتابات أبى، لتحتفظ بها، ولولا هذا الذى فعلته ما كنا استطعنا الاستمتاع بآخر ما كتبه. يومها نظرت لى جيداً، حيث لم تكن قد رأتنى إلا مرات قليلة من قبل، ثم احتضنتى. ومنذ تلك اللحظة قررت أن أكون ابنتها التى لم تنجبها، وأنا ارتميت فى حضنها ولم أتركها منذ ذلك اليوم، وأظن أن هذا اللقاء غيَّر حياتى تماماً، فمن الوارد أن حياتى - بعيداً عن ماما عطيات - كانت ربما ذهبت إلى اتجاهات أخرى.
قلت لها: ألم تعرفى حتى اليوم كيف مات؟ ردت: "لا أذكر تفاصيل الحادث غير أنه كان راقداً على الرمال وبعض الدم يتساقط من فمه، ثم حملونا إلى مستشفى الهرم.. بعدها ذهبنا إلى البيت وذهب هو إلى العالم الآخر. وحاولت كثيراً مع د. عبدالحميد حواس رفيق الرحلة أن أعرف منه كيف مات؟ لكنه رفض بشدة. وقال:" لن أتحدث فى هذا الأمر ما حييت"! ومات منذ فترة هو أيضاً ومات معه السر"! ثم تكمل:" هل قفز من باب السيارة قبل ارتطامها؟ هل ارتطم بالأرض؟ هل بسقف السيارة؟ أكثر من سؤال ليس له إجابة.. غير أن النتيجة والحقيقة هو إنه فى النهاية.. مات"!
***
{الأهرام - 1981}
الكاتب الكبير يوسف إدريس يكتب عن النجم الذي هوى ينعيه قائلاً:" يا شعبنا المصرى الطيب.. يؤسفنى أن أنعى لكم واحداً من أنبغ كتابنا، ربما لم تعرفوه إلى الآن كثيراً، ربما لم يكن حديث الناس كنجوم السينما، ولكنى متأكد أنه سيخلد فى تاريخ أدبنا وحياتنا"!
***
..وكم من نجم فى سمائنا هوى، ولكن - رغم الغياب - يبقى الخلود عنواناً، لمثل هؤلاء الصادقين، الموهوبين، ومنهم (يحيي الطاهر عبدالله) الذي جاء يوم الخميس 9 أبريل 1981- فى مثل هذا اليوم - ليوقف الجمَّال جمله على رمال الواحات، ليموت فى هذا الحادث المأساوى.. ويكتب الأبنودى ينعيه قائلاً:
"الحمل فوق الكتاف مال
والدم نازل قنايه
يا جمل ما يوم خزمه جمَّال
ولا قتله عشق الصبايا"!
•خيري حسن - إبريل - 2021
•••
••الأحداث حقيقة...السيناريو من خيال الكاتب
•• الصور المصاحبة:
يحيي الطاهر عبدالله.
د. أسماء يحيى الطاهر.
Войдите на Facebook
Войдите на Facebook, чтобы общаться с друзьями, родственниками и знакомыми.