الحرب مأساة كبرى، لكن في منطواها مآس قد تبدو أصغر لكن قسوتها ومداها وآثارها قد تكون أشد مأساوية من الحرب نفسها. رواية إبراهيم حريري " أحلام " تنفذ إلى واحدة من هذه المآسي ليس في بعدها التاريخي بقدر ما هو في بعدها الإنساني الحميم، وهذا هو فضل كتابة الرواية وامتيازها على كتابة التاريخ.
المأساة هنا هي مأساة الأسرى المغاربة جنودا وضباطا وقعوا في الأسر أثناء حرب الصحراء بعد استرجاع المغرب ترابها. حرب حقيقية وغير حقيقية: حقيقية لأنها معارك عنيفة وقتلى وجرحى وأسرى وضحايا مباشرين أو غير مباشرين، وحرب غير حقيقية لأنها ليست بين دولتين وبين جيشين معترف بهما. الأسير المغربي في هذه الحرب مفقود تطويه الصحراء، وكأنما هو مثال صادق على القول المأثور: الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود.
هذه الصحراء كانت جزءاً من بلاد لا تعرف الحدود، رجال مثل ابن خلدون أو ابن بطوطة، أو أبسط تاجر أو حاج أو سائح يسافر دون أن يسأله أحد عن جواز أو تأشيرة أو يراقبه شرطي أو جمركي. ثم قرَّر قادة سياسيون وعسكريون أن يحتازوا المغرب الأوسط ويضموه إلى فرنسا ما وراء البحار دون استشارة أهله، فاستولوا على البلاد والعباد كما يُقال. وأمسك ضباط فرنسيون خرائطيون بأقلامهم ليرسموا حدودا تروقهم، طاش بهم القلم شرقا وغربا وجنوبا ليحتازوا الصحراء بأجمعها دونما اعتبار لا للبشر أو التاريخ أو الواقع السياسي. وبدأ التاريخ المأساوي الذي نعرفه.
مأساة الأسرى المغاربة هي أدهى من الأسر، إذ هو النسيان. الجبهة التي أسرتهم تنفي وجودهم، ووطنهم لا يعترف بمن أسرهم، وهكذا تتوالى السنون لتقارب ربع قرن من المعاناة والموت السريع أو البطيء. ثلاث شخصيات تنبني عليها رواية " أحلام "، فهي رواية شخصيات قبل أن تكون رواية أحداث. أحلام ابنة الأسير غيبته حرب الصحراء وهي في الخامسة من عمرها، ليست لها عنه سوى ذكريات غائمة وصور له تتأملها. صارت الآن شابة مثقفة ذات آفاق، لكن همّها الوحيد وحلمها المستحوذ عليها هو البحث عن سماع كلمة وحيدة عن أبيها: كلمة "حيّ". تريد أن تصل إلى يقين فتسافر وتبحث وتتصل، وتقبل كلَّ التضحيات وتتخطى كل الحدود فتلتقي بممثل للجبهة رغم غضب وتهديد المخابرات المغربية، تحرك منظّمات إنسانية للاستطلاع. كل هذا الجهد لتنجح أخيرا في أن يلفظ ممثل الجبهة رغما عنه بالكلمة السحرية التي تستعيد أباها من صحراء المجهول، وكأنها عثرت على مدينة النحاس الأسطورية بكنوزها وبدائعها. الأمّ لم تعترف أبدا بالغياب ولا بالموت ولا بالاختفاء، رغم بعض أفراد الأسرة الطّامعين في الإرث وتيئيسهم الكريه. الأم تتصرَّف في حياتها اليومية وتلبس وتتزيّن وتتعطّر وكأنّ زوجها الضابط سيغادر عمله مساء ويسلك الطّريق بجانب النهر العظيم ليدخل البيت كعادته. إنها تسلك نفس الطّريق وترتاد نفس الأماكن وكأنه معها يرافقها. وكأنه لم يغب أو لم يمت. مأساتها أنها لا تعرف كيف يمكن أن تطابق حلمها مع الواقع، تستخبر وتسأل في المكاتب والإدارات العسكرية دون جدوى.
الضابط الطيَّار الأسير محمد بن صالح يختزن في ذاكرته، وهو في السّجن الصّحراوي، مشاهد القسوة، قسوة السّجانين وقسوة الطبيعة، ورفاقه يموتون من حوله دون عزاء أو أمل. خواء ونسيان من العالم كلّه على تعاقب السّنين.
هذه الشخصيات المركزية الثّلاث مفصولة عن بعضها سواء بالسّجن والمسافات أو بالتفكير والسّلوك والسّعي، لكن حركة الرّواية بأكملها هي أن تجتمع هذه الشخصيات وأن تنتصر على المستحيل. ويأتي المستحيل في البداية في شكل الكتابة: صار مسموحا للأسرى المغاربة بالكتابة إلى أسرهم. وهنا مشهد من أعمق ما في الرواية من مشاهد: أسرى بائسون كانوا في عداد المفقودين، بل في عداد الموتى، يمكن لسطور من الكتابة أن تبعثهم من قبور رمال السّجن الصحراوي، وأسر تستطيع قراءة الكلمة السحرية "حيّ" من صوت طواه النسيان لربع قرن. لكن الكتابة ليست سهلة بعد كلّ هذا العذاب والغياب. محمد بن صالح عاجر عن الكتابة، بحدّق في الورقة البيضاء أمامه ولا يجد كلمات، أيّ كلمات يمكن أن تكون في مستوى المأساة. لكن الكتابة أخيرا ستكون هي سبيل بعث الأموات من صحراء الموت.
والشخصيات الأخرى في الرّواية هي شخصيات وسيطة تعمل بإرادة منها أو بغير إرادة إما لإنجاز حلم الشخوص المركزية أو لإعاقته. شخصيات وسيطة عديدة من بلدان مختلفة ومن مواقع سياسية وايديولوجية متضاربة، إنها في خطاباتها ونقاشاتها أشبه بالجوقة في التراجيديا العتيقة، تعلق على الأحداث وتفسرها وفق مواقعها الأيدولوجية والفكرية وحسب انتمائها السياسي، لكنها دائما في موقع الوسيط المرافق لمصائر الشخصيات المركزية.
القدر والمصير هنا هو التاريخ، تاريخ حافل بالصخب والعنف، يمزّق الوطن المغاربي وخلّف ويخلِّف كثيرا من الضحايا الذين يتناساهم التاريخ والمؤرخون، وما يُسمّى بقضية الصحراء بدأت بضحايا التهجير القسري للمغاربة من الجزائر وتدمير أُسر بأكملها ورمي أفرادها المغاربة للعراء، ورواية مصطفى لغتيري " أسلاك شائكة " قد سردت هذه المأساة الأولى. ورواية إبراهيم حريري تسرد مأساة أعمق وأطول وأغرب لضحايا نسيهم العالم بأجمعه لأكثر من ربع قرن. إنها ليست رواية تاريخية تروي التّاريخ وأحداثه بل رواية إنسانية تشترك مع الرواية العربية الحديثة في خصيصة أساسية، وهي أنها تاريخ من لا تاريخ لهم.
الدكتور عبد الكبير الشرقاوي
المأساة هنا هي مأساة الأسرى المغاربة جنودا وضباطا وقعوا في الأسر أثناء حرب الصحراء بعد استرجاع المغرب ترابها. حرب حقيقية وغير حقيقية: حقيقية لأنها معارك عنيفة وقتلى وجرحى وأسرى وضحايا مباشرين أو غير مباشرين، وحرب غير حقيقية لأنها ليست بين دولتين وبين جيشين معترف بهما. الأسير المغربي في هذه الحرب مفقود تطويه الصحراء، وكأنما هو مثال صادق على القول المأثور: الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود.
هذه الصحراء كانت جزءاً من بلاد لا تعرف الحدود، رجال مثل ابن خلدون أو ابن بطوطة، أو أبسط تاجر أو حاج أو سائح يسافر دون أن يسأله أحد عن جواز أو تأشيرة أو يراقبه شرطي أو جمركي. ثم قرَّر قادة سياسيون وعسكريون أن يحتازوا المغرب الأوسط ويضموه إلى فرنسا ما وراء البحار دون استشارة أهله، فاستولوا على البلاد والعباد كما يُقال. وأمسك ضباط فرنسيون خرائطيون بأقلامهم ليرسموا حدودا تروقهم، طاش بهم القلم شرقا وغربا وجنوبا ليحتازوا الصحراء بأجمعها دونما اعتبار لا للبشر أو التاريخ أو الواقع السياسي. وبدأ التاريخ المأساوي الذي نعرفه.
مأساة الأسرى المغاربة هي أدهى من الأسر، إذ هو النسيان. الجبهة التي أسرتهم تنفي وجودهم، ووطنهم لا يعترف بمن أسرهم، وهكذا تتوالى السنون لتقارب ربع قرن من المعاناة والموت السريع أو البطيء. ثلاث شخصيات تنبني عليها رواية " أحلام "، فهي رواية شخصيات قبل أن تكون رواية أحداث. أحلام ابنة الأسير غيبته حرب الصحراء وهي في الخامسة من عمرها، ليست لها عنه سوى ذكريات غائمة وصور له تتأملها. صارت الآن شابة مثقفة ذات آفاق، لكن همّها الوحيد وحلمها المستحوذ عليها هو البحث عن سماع كلمة وحيدة عن أبيها: كلمة "حيّ". تريد أن تصل إلى يقين فتسافر وتبحث وتتصل، وتقبل كلَّ التضحيات وتتخطى كل الحدود فتلتقي بممثل للجبهة رغم غضب وتهديد المخابرات المغربية، تحرك منظّمات إنسانية للاستطلاع. كل هذا الجهد لتنجح أخيرا في أن يلفظ ممثل الجبهة رغما عنه بالكلمة السحرية التي تستعيد أباها من صحراء المجهول، وكأنها عثرت على مدينة النحاس الأسطورية بكنوزها وبدائعها. الأمّ لم تعترف أبدا بالغياب ولا بالموت ولا بالاختفاء، رغم بعض أفراد الأسرة الطّامعين في الإرث وتيئيسهم الكريه. الأم تتصرَّف في حياتها اليومية وتلبس وتتزيّن وتتعطّر وكأنّ زوجها الضابط سيغادر عمله مساء ويسلك الطّريق بجانب النهر العظيم ليدخل البيت كعادته. إنها تسلك نفس الطّريق وترتاد نفس الأماكن وكأنه معها يرافقها. وكأنه لم يغب أو لم يمت. مأساتها أنها لا تعرف كيف يمكن أن تطابق حلمها مع الواقع، تستخبر وتسأل في المكاتب والإدارات العسكرية دون جدوى.
الضابط الطيَّار الأسير محمد بن صالح يختزن في ذاكرته، وهو في السّجن الصّحراوي، مشاهد القسوة، قسوة السّجانين وقسوة الطبيعة، ورفاقه يموتون من حوله دون عزاء أو أمل. خواء ونسيان من العالم كلّه على تعاقب السّنين.
هذه الشخصيات المركزية الثّلاث مفصولة عن بعضها سواء بالسّجن والمسافات أو بالتفكير والسّلوك والسّعي، لكن حركة الرّواية بأكملها هي أن تجتمع هذه الشخصيات وأن تنتصر على المستحيل. ويأتي المستحيل في البداية في شكل الكتابة: صار مسموحا للأسرى المغاربة بالكتابة إلى أسرهم. وهنا مشهد من أعمق ما في الرواية من مشاهد: أسرى بائسون كانوا في عداد المفقودين، بل في عداد الموتى، يمكن لسطور من الكتابة أن تبعثهم من قبور رمال السّجن الصحراوي، وأسر تستطيع قراءة الكلمة السحرية "حيّ" من صوت طواه النسيان لربع قرن. لكن الكتابة ليست سهلة بعد كلّ هذا العذاب والغياب. محمد بن صالح عاجر عن الكتابة، بحدّق في الورقة البيضاء أمامه ولا يجد كلمات، أيّ كلمات يمكن أن تكون في مستوى المأساة. لكن الكتابة أخيرا ستكون هي سبيل بعث الأموات من صحراء الموت.
والشخصيات الأخرى في الرّواية هي شخصيات وسيطة تعمل بإرادة منها أو بغير إرادة إما لإنجاز حلم الشخوص المركزية أو لإعاقته. شخصيات وسيطة عديدة من بلدان مختلفة ومن مواقع سياسية وايديولوجية متضاربة، إنها في خطاباتها ونقاشاتها أشبه بالجوقة في التراجيديا العتيقة، تعلق على الأحداث وتفسرها وفق مواقعها الأيدولوجية والفكرية وحسب انتمائها السياسي، لكنها دائما في موقع الوسيط المرافق لمصائر الشخصيات المركزية.
القدر والمصير هنا هو التاريخ، تاريخ حافل بالصخب والعنف، يمزّق الوطن المغاربي وخلّف ويخلِّف كثيرا من الضحايا الذين يتناساهم التاريخ والمؤرخون، وما يُسمّى بقضية الصحراء بدأت بضحايا التهجير القسري للمغاربة من الجزائر وتدمير أُسر بأكملها ورمي أفرادها المغاربة للعراء، ورواية مصطفى لغتيري " أسلاك شائكة " قد سردت هذه المأساة الأولى. ورواية إبراهيم حريري تسرد مأساة أعمق وأطول وأغرب لضحايا نسيهم العالم بأجمعه لأكثر من ربع قرن. إنها ليست رواية تاريخية تروي التّاريخ وأحداثه بل رواية إنسانية تشترك مع الرواية العربية الحديثة في خصيصة أساسية، وهي أنها تاريخ من لا تاريخ لهم.
الدكتور عبد الكبير الشرقاوي