عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث صدر في الرباط كتاب الباحثة التونسية وفاء الدريسي (الجواري والغلمان في الثقافة الإسلامية.. مقاربة جندرية)، وهو أطروحتها للدكتوراه بكلية الآداب في منوبة.
ما هو معروف أن نظام وجود "الجواري والغلمان قد قام على أقليات عرقية وإثنية شاركت في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية"؛ ولذلك ترى الباحثة أن هذه الفئات "فعلت الكثير في الثقافة الإسلامية، وتركت فيها بصمات متفاوتة، بمعنى أنهم خطوا في التاريخ أسطراً لا يمكن إغفالها"، وتروم الدريسي "الحفر فيها علّها ترسم صورة تقريبية لهذا الماضي"، رغم التأخير بل التغييب الذي تعرَّضت له مباحث هكذا دراسة في التراث العربي الإسلامي.
يذهب مجرى الكتاب في حفرياته الجندرية إلى مرحلة ما قبل الإسلام حتى القرن التاسع عشر الميلادي لبيان "حضور الجواري والغلمان مشرقا ومغرباً". لكنها تقدم مسحاً لجملة من الدراسات السابقة في هذا الموضوع بالعالم العربي، لكنها الدريسي ستركز حفرياتها في التأريخ على الجارية والغلام، ولا تخفي حقيقة استبعاد الباحثين لتناول موضوع الغلمان (الذكور) مقارنة بالجواري (الإناث)؛ ولذلك بدت مؤمنة بأن التاريخ يكتبه الذكور.
جندر
وضعت الدريسي كلمة جندر (Gendre) في عنوان كتابها حتى لتبدو هذه المفردة عنصراً رئيساً في مشروعها البحثي برمته. ونراها تعرِّف الجندر بأنها "مقولة ثقافية تاريخية تقوم على التمييز بين الجنس باعتباره معطىً بيولوجياً"، كما أن الجندر هو " البناء الثقافي والاجتماعي للجنس"، بمعنى أن الجندر هو "الجسد الذي صنعته الثقافة".
خلقت هذه التعريفات مقاربة جندريّة في البحث المعاصر والتي تعود إلى سبعينيات القرن الماضي (القرن العشرون). لكن الباحثة تستكشف تطوّرات الدراسات الجندرية حتى ترى أنها أمست تبحث عن "الاختلافات غير الطبيعية ولا البيولوجية بين الذكر والأنثى"، أي تختص بأكثر من الباعث البيولوجي بين الجنسين لتفتح أفق البحث على تشكيلات اجتماعية وسياسية وثقافية وتاريخية تصنع العلاقات الجندرية وأصناف الجندر بين الشعوب والأمم احتفاء بفكرة الاختلاف الثقافي والحضاري وليس اختلاف الأرومة البشرية بين الجنسين.
أما الدراسات العربية الخاصة بالجندر فلم تظهر إلا في ثمانينات القرن العشرين، هذا ما يوكّد كتابها (الجواري والغلمان في الثقافة الإسلامية.. مقاربة جندرية)، لكن المؤلِّفة ستميز دراستها بأنها وظفت الثالوث المقدَّس، أي: الطبقة، والعرق، والجندر، وهي تُقبِل على دراسة ظاهرة الجواري والغلمان، والبحث في الجوانب الخفية لهاتين الفئتين في المجتمع العربي الإسلامي.
تنشئة الجواري
يتألف هذا الكتاب من أربعة أبواب تحليلية مفصلة؛ في الأول تدرس الباحثة تنشئة الجارية والغلام في الأسواق، أي إعداد النخاسين للعبيد قبل بيعهم، ومن ثم تنشئة السيد لجواريه وغلمانه بعد شرائهم وتكوينهم للقيام بمهامهم على أحسن وجه ممكن أن يلبي طموحه، وهي عملية تدخل في باب صناعة هذه الفئة لتنتهي الدريسي إلى أن تنشئة هؤلاء إنما تصب في الاختلاف بين الجنسين، والطبقة التي سيندمج فيها العبد، وأخيراً الدور الذي ينتظر منه تأديته.
وفي الباث الثاني ستنصرف الدريسي إلى تبيان مكانة الجارية والغلام في الحياة الاجتماعية، لا سيما بعد إعدادهما وتنشئتهما حتى يصبحون في نمط عيش مختلف، لكن الباحثة تجري مقارنات مجدولة عن طباع الجواري وأثر تلطك الطباع في حياتهن الجديد عند أسيادهن، وأثر ذلك أيضاً في بناء العلاقات سواء فيما بينهن أو مع أسيادهن، لتنتهي الباحثة إلى أن "الأدوار التي اضطلع بها الجواري والغلمان في المجتمع العربي الإسلامي لم تُحدَّد انطلاقاً من جنس الجارية أو الغلام؛ بل يتلقّى كُل العبيد مهما كان عرقهم أو طبقتهم تكويناً اجتماعياً وثقافياً يلائم ما ينتظر منهم عند الأسياد، فالثقافة قد حوّلت الطبيعي إلى ما اقتضته مصالح الأحرار" أو السادة.
الجواري والسياسة
لعل الباب الثالث من الكتاب هو الأكثر كشفاً عن أدوار الجواري والغلمان في الحياة الثقافية بعد أدوارهما الاجتماعية، ولهذا الغرض ستذهب وفاء الدريسي إلى دراسة مختلف العلوم التي يتلقّها هذا الصنف من الجواري والغلمان، وستعمل على إبراز مدى اختلاف الثقافة التي يتلقاها الجواري والغلمان باختلاف الطبقة التي ينتمون إليها، والحقبة التاريخية التي عاشوا فيها، والمكان الذي تعلّموا فيه، لتكشف، في كُل مرة، الفرق بين ثقافة الجارية وثقافة الغلام.
ليس هذا فحسب، بل تبيّن خصائص المنتوج الثقافي الذي خلفه الجواري والغلمان استناداً إلى التمييز بين جنسي الجواري والغلمان، حتى تنتهي إلى القول إن "القصور احتضنت جُل إبداعات العبيد، وجُل ما قيل فيهم، شعراً ونثراً، مثلما احتضنت هؤلاء المبدعين الذين كانوا في جُل الأحوال الأقرب من السيد والأقدر على التأثير فيه وفي قراراته".
ولكن، حتى لو كانت الجواري وكان الغلمان من العبيد، فهل يعفهم ذلك من التأثير في الحراك السياسي للسادة في الدولة والمجتمع؟ يبدو هكذا سؤال منطقياً لأن الجواري والغلمان هم جزء من حياة هؤلاء السادة؛ بل هم الأقرب اليهم من عامّة الناس.
ولهذا، تنهي الباحثة كتابها بباب رابع تتناول فيه مساهمة الجارية والغلام في الحياة السياسية، انطلاقاً من المقاربة الجندرية كدليل يرشدها في البحث لجلاء حضور هاتين الفئتين في تلك الحياة التي هي أكثر تعقيداً من مجرد الخدمة اليومية والمتعة الجنسية، لتصل إلى حقيقة أساسية هي أن "أبرز ما تركه الجواري والغلمان في التأريخ الإسلامي تأسيسهم لدول خاصّة بهم، وهي وراثة السلطة عن الأب أو الزوج، وبدأت الخطوة الأولى لوراثة السلطة عن الزوج من الفراش، أي: من الفضاء الحميمي".
أخيراً، وبقدر ما يكون عليه هذا الكتاب من منحى أنثروبولوجي، هو في الوقت نفسه ينحى صوب الجانب الأدبي والجمالي، لا سيما الشعري منه، فقد استوفت الدكتورة وفاء الدريسي شرط بحثها من حيث الاستعانة بالشعر والمقولات الجمالية، ويبدو أنه الأمر الذي لا
فكاك عنه، فواقع الجواري والغلمان يصوره الشعراء والأدباء في قصور الأسياد.
مع ذلك، يبقى الجانب الأنثروبولوجي سيداً في هذا الكتاب، وقد أبدعت الدريسي في مضانه حتى أينعت للقارئ العربي زهرة عاطرة من زهور البحث العلمي الرصين في المكتبة العربية على مدى أبواب وفصول كتابها التي بلغ تعداد صفحاتها 450 صفحة من القطع الكبير.
د. رسول محمد رسول
ما هو معروف أن نظام وجود "الجواري والغلمان قد قام على أقليات عرقية وإثنية شاركت في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية"؛ ولذلك ترى الباحثة أن هذه الفئات "فعلت الكثير في الثقافة الإسلامية، وتركت فيها بصمات متفاوتة، بمعنى أنهم خطوا في التاريخ أسطراً لا يمكن إغفالها"، وتروم الدريسي "الحفر فيها علّها ترسم صورة تقريبية لهذا الماضي"، رغم التأخير بل التغييب الذي تعرَّضت له مباحث هكذا دراسة في التراث العربي الإسلامي.
يذهب مجرى الكتاب في حفرياته الجندرية إلى مرحلة ما قبل الإسلام حتى القرن التاسع عشر الميلادي لبيان "حضور الجواري والغلمان مشرقا ومغرباً". لكنها تقدم مسحاً لجملة من الدراسات السابقة في هذا الموضوع بالعالم العربي، لكنها الدريسي ستركز حفرياتها في التأريخ على الجارية والغلام، ولا تخفي حقيقة استبعاد الباحثين لتناول موضوع الغلمان (الذكور) مقارنة بالجواري (الإناث)؛ ولذلك بدت مؤمنة بأن التاريخ يكتبه الذكور.
جندر
وضعت الدريسي كلمة جندر (Gendre) في عنوان كتابها حتى لتبدو هذه المفردة عنصراً رئيساً في مشروعها البحثي برمته. ونراها تعرِّف الجندر بأنها "مقولة ثقافية تاريخية تقوم على التمييز بين الجنس باعتباره معطىً بيولوجياً"، كما أن الجندر هو " البناء الثقافي والاجتماعي للجنس"، بمعنى أن الجندر هو "الجسد الذي صنعته الثقافة".
خلقت هذه التعريفات مقاربة جندريّة في البحث المعاصر والتي تعود إلى سبعينيات القرن الماضي (القرن العشرون). لكن الباحثة تستكشف تطوّرات الدراسات الجندرية حتى ترى أنها أمست تبحث عن "الاختلافات غير الطبيعية ولا البيولوجية بين الذكر والأنثى"، أي تختص بأكثر من الباعث البيولوجي بين الجنسين لتفتح أفق البحث على تشكيلات اجتماعية وسياسية وثقافية وتاريخية تصنع العلاقات الجندرية وأصناف الجندر بين الشعوب والأمم احتفاء بفكرة الاختلاف الثقافي والحضاري وليس اختلاف الأرومة البشرية بين الجنسين.
أما الدراسات العربية الخاصة بالجندر فلم تظهر إلا في ثمانينات القرن العشرين، هذا ما يوكّد كتابها (الجواري والغلمان في الثقافة الإسلامية.. مقاربة جندرية)، لكن المؤلِّفة ستميز دراستها بأنها وظفت الثالوث المقدَّس، أي: الطبقة، والعرق، والجندر، وهي تُقبِل على دراسة ظاهرة الجواري والغلمان، والبحث في الجوانب الخفية لهاتين الفئتين في المجتمع العربي الإسلامي.
تنشئة الجواري
يتألف هذا الكتاب من أربعة أبواب تحليلية مفصلة؛ في الأول تدرس الباحثة تنشئة الجارية والغلام في الأسواق، أي إعداد النخاسين للعبيد قبل بيعهم، ومن ثم تنشئة السيد لجواريه وغلمانه بعد شرائهم وتكوينهم للقيام بمهامهم على أحسن وجه ممكن أن يلبي طموحه، وهي عملية تدخل في باب صناعة هذه الفئة لتنتهي الدريسي إلى أن تنشئة هؤلاء إنما تصب في الاختلاف بين الجنسين، والطبقة التي سيندمج فيها العبد، وأخيراً الدور الذي ينتظر منه تأديته.
وفي الباث الثاني ستنصرف الدريسي إلى تبيان مكانة الجارية والغلام في الحياة الاجتماعية، لا سيما بعد إعدادهما وتنشئتهما حتى يصبحون في نمط عيش مختلف، لكن الباحثة تجري مقارنات مجدولة عن طباع الجواري وأثر تلطك الطباع في حياتهن الجديد عند أسيادهن، وأثر ذلك أيضاً في بناء العلاقات سواء فيما بينهن أو مع أسيادهن، لتنتهي الباحثة إلى أن "الأدوار التي اضطلع بها الجواري والغلمان في المجتمع العربي الإسلامي لم تُحدَّد انطلاقاً من جنس الجارية أو الغلام؛ بل يتلقّى كُل العبيد مهما كان عرقهم أو طبقتهم تكويناً اجتماعياً وثقافياً يلائم ما ينتظر منهم عند الأسياد، فالثقافة قد حوّلت الطبيعي إلى ما اقتضته مصالح الأحرار" أو السادة.
الجواري والسياسة
لعل الباب الثالث من الكتاب هو الأكثر كشفاً عن أدوار الجواري والغلمان في الحياة الثقافية بعد أدوارهما الاجتماعية، ولهذا الغرض ستذهب وفاء الدريسي إلى دراسة مختلف العلوم التي يتلقّها هذا الصنف من الجواري والغلمان، وستعمل على إبراز مدى اختلاف الثقافة التي يتلقاها الجواري والغلمان باختلاف الطبقة التي ينتمون إليها، والحقبة التاريخية التي عاشوا فيها، والمكان الذي تعلّموا فيه، لتكشف، في كُل مرة، الفرق بين ثقافة الجارية وثقافة الغلام.
ليس هذا فحسب، بل تبيّن خصائص المنتوج الثقافي الذي خلفه الجواري والغلمان استناداً إلى التمييز بين جنسي الجواري والغلمان، حتى تنتهي إلى القول إن "القصور احتضنت جُل إبداعات العبيد، وجُل ما قيل فيهم، شعراً ونثراً، مثلما احتضنت هؤلاء المبدعين الذين كانوا في جُل الأحوال الأقرب من السيد والأقدر على التأثير فيه وفي قراراته".
ولكن، حتى لو كانت الجواري وكان الغلمان من العبيد، فهل يعفهم ذلك من التأثير في الحراك السياسي للسادة في الدولة والمجتمع؟ يبدو هكذا سؤال منطقياً لأن الجواري والغلمان هم جزء من حياة هؤلاء السادة؛ بل هم الأقرب اليهم من عامّة الناس.
ولهذا، تنهي الباحثة كتابها بباب رابع تتناول فيه مساهمة الجارية والغلام في الحياة السياسية، انطلاقاً من المقاربة الجندرية كدليل يرشدها في البحث لجلاء حضور هاتين الفئتين في تلك الحياة التي هي أكثر تعقيداً من مجرد الخدمة اليومية والمتعة الجنسية، لتصل إلى حقيقة أساسية هي أن "أبرز ما تركه الجواري والغلمان في التأريخ الإسلامي تأسيسهم لدول خاصّة بهم، وهي وراثة السلطة عن الأب أو الزوج، وبدأت الخطوة الأولى لوراثة السلطة عن الزوج من الفراش، أي: من الفضاء الحميمي".
أخيراً، وبقدر ما يكون عليه هذا الكتاب من منحى أنثروبولوجي، هو في الوقت نفسه ينحى صوب الجانب الأدبي والجمالي، لا سيما الشعري منه، فقد استوفت الدكتورة وفاء الدريسي شرط بحثها من حيث الاستعانة بالشعر والمقولات الجمالية، ويبدو أنه الأمر الذي لا
فكاك عنه، فواقع الجواري والغلمان يصوره الشعراء والأدباء في قصور الأسياد.
مع ذلك، يبقى الجانب الأنثروبولوجي سيداً في هذا الكتاب، وقد أبدعت الدريسي في مضانه حتى أينعت للقارئ العربي زهرة عاطرة من زهور البحث العلمي الرصين في المكتبة العربية على مدى أبواب وفصول كتابها التي بلغ تعداد صفحاتها 450 صفحة من القطع الكبير.
د. رسول محمد رسول
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com