لقد ساد الاعتقاد ولازال, لدى العيد من المهتمين بواقع الحركات السياسية المغربية وخاصة اليسار الجديد, أو الحركة الماركسية-المغربية كما كان متداولا آنذاك, بأن هذه الأخيرة, انتهت كفعل سياسي, وكتنظيم في منتصف عقد السبعينات على إثر الاعتقالات الكبرى التي مست تلك التنظيمات في سنة 1974, وأن بعض الحركات السياسية التي كانت تظهر بين الفينة والأخرى, والتي كانت تحمل بصمات تلك الحركات لم تكن في واقع الأمر سوى تمظهرات لفعل وممارسة بعض الحلقات المنفلتة من حملة الاعتقالات السابقة الذكر التي ظلت تشتغل في دوائر محدودة ومغلقة, وبشكل معزول. الشيء الذي جعل من فعلها السياسي محدود التأثير, ولا يرقى بها إلى مستوى التشكل كإطار تنظيمي بالشكل المتعارف عليه.
والحال, أن واقع حركات اليسار السبعيني, وكذا الكيفية التي تطور بها في الواقع السياسي المغربي, قد أخذ منحى مغايرا لما كانت عليه في بداية انطلاقتها ومراحل فوراتها في السنوات الأولى لنشأتها, كما تشهد على ذلك الأحزاب السياسية التي عرفها المغرب في تلك الحقبة التاريخية, مع تفاوت واختلاف في قراءة تلك التجربة.
لقد خضعت هذه التجربة السياسية لتقييمات متباينة ومتعارضة أحيانا من طرف نفس التنظيمات التي أطلقت دينامية التأسيس, بحيث تراوحت آفاق هذه الصيرورة بين طموح الحفاظ عن جدوتها الثورية مع التجديد والتطوير, وبين الاعتقاد بانسداد أفق هذه التجربة, وبالتالي انتهت باعتقال كل أطرها. وداخل هذا السياق العام, مارست منظمة 23 مارس نقدا ذاتيا جذريا لتجربتها وتجربة اليسار الجديد عموما, وهو النقد الذي بدأت بوادره سنة 1972 ولتكتمل معالمه في منتصف عقد السبعينات لدى قيادة المنظمة بالخارج, بحيث تبنت آنذاك ما سمته وقتها بخط النضال الديمقراطي, وهو الخط السياسي الذي تخلت من خلاله عن مواقفها الكلاسيكية التي ميزت مواقف اليسار الماركسي اللينيني المغربي, كالملكية والنظام السياسي, وقضية الصحراء وتبنت المسلسل الديمقراطي والإجماع الوطني...
وإذا كانت منظمة 23 مارس, قد جعلها تقييمها للتجربة, تقطع مع التجربة اليسراوية كما كانت تسميها آنذاك, وفتح لها المجال للعمل في العمل لقانوني, فإن تجربة منظمة "إلى الأمام" هي الأخرى, قد عرفت تقييمات مختلفة ومتعارضة. ولم تعرف معها انشطارات تنظيمية كما هو شأن منظمة 23 مارس (1), أسفرت إحدى تلك التقييمات عن انطلاق تجربة مغايرة منذ سنة 1979.
تقييم تجربة " إلى الأمام" بين نزوع تصفية التجربة, وطموح انطلاقة جديدة
لقد ظلت تجربة منظمة " إلى الأمام" التنظيمية والسياسية, متماسكة منذ انطلاقتها, بحيث حافظت على انسجامها, مقارنة ببقية تنظيمات اليسار ولم تعرف اختلافات سياسية سواء على مستوى الخط السياسي أو الإيديولوجي ولا على مستوى التقدير السياسي العام للظرفية ومتطلبات المرحلة. ولقد ساعدها في ذلك هيكلها التنظيمي الحديدي, الذي مكنها من الاستمرار السياسي والتنظيمي خلال فترات القمع الشرسة الممتدة من بداية السبعينات إلى سنة 1976, ولم تتم مساءلة التجربة, وتقييمها إلا في نهاية السبعينات, بعد الاعتقالات التي تعرضت لها المنظمة, والتي قوضت هياكلها التنظيمية, وشلت فعلها السياسي. لقد ولدت الانهيارات التنظيمية التي تعرضت لها المنظمة العديد من التساؤلات السياسية حول وجودها السياسي وشرعيتها التاريخية والموضوعية, وكذا ضرورة استمرارها, وإمكانية تحقيق مشروعها المجتمعي في ظل الشروط التي كان يمر منها المغرب آنذاك, وعلاقتها ببقية المكونات السياسية. إنها أسئلة محورية شكلت مفاصل التقييمات السياسية التي ستعرفها التجربة داخل زنازن السجن المركزي بالقنيطرة, وهي التقييمات التي ستتوزع عل ثلاث وجهات نظر, يمكن أن نوجزها, مع التوقف, عند التقييم الذي سوف يطلق دينامية, إعادة بناء منظمة "إلى الأمام" موضوع مقالنا:
أ?- حل تنظيمات اليسار والعودة إلى حظيرة الأحزاب الوطنية.
- لقد انطلق هذا التقييم من الفشل التام لعموم فصائل الحركة الماركسية اللينينية بشكل عام ومنظمة "إلى الأمام" بشكل خاص, معتبرا أن دور اليسار الجديد يفتقد المشروعية التاريخية والموضوعية, بحيث تحكمت النزعة الإرادوية لفئة عريضة من الشبيبة المغربية العاملة والناشطة داخل الأحزاب الوطنية الديمقراطية, والتي تبنت الفكر الماركسي ذو النزعة اليسراوية المغامرة, كما اعتبرت هاته الوجهة النظر التقييمية,أن فعل اليسار الجديد لم يكن في واقع الأمر سوى ردة فعل انفعالية حول لحظة سياسية مأزومة, لم ترق إلى مستوى الفعل السياسي المؤثر في مجريات الوضع السياسي داخل البلاد, الشيء الذي أضفى على نشاطها السياسي كما مارسته وقتذاك, سمة طفولية يسراوية, لا تقيم أي اعتبار للقوانين المتحكمة في بنية الصراع الاجتماعي داخل المغرب, ليخلص هذا التقييم إلى ضرورة حل هذه التنظيمات, والعودة إلى حضيرة الأحزاب الوطنية(2).
ب?- حل التنظيمات اليسارية والالتحاق بالطبقة العاملة كأفراد ودعمها لبلورة حزبها الطليعي الثوري من داخلها:
لقد انطلقت وجهة النظر التقييمية هاته, من منطلقات مغايرة للرأي السابق, بحيث اعتبر هذا التقييم أن المشروع السياسي والإيديولوجي, الذي نهضت عليه هذه الحركة الثورية, لازال مطروحا في جدول أعمال الحركة الثورية المغربية, ولازالت ضرورته السياسية قائمة, غير أن الأعطاب والانزلاقات التي حالت دون إنجاز المهام الثورية لدى الحركة الماركسية اللينينية المغربية, ومنظمة "إلى الأمام" بالخصوص هو اعتمادها على عنصر البورجوازية الصغيرة (المثقفين بشكل عام ). والاشتغال في حقولها كالقطاع الطلابي والتلاميذي, وداخل الشبيبة المدرسية بشكل كبير, دون الانغراس في القلعات البروليتارية لبناء الحزب الثوري البروليتاري لإنجاز التغيير الثوري, ليخلص هذا التقييم إلى ضرورة حل التنظيمات اليسارية, والتحاق مناضليها بالطبقة العامة كأفراد, للمساهمة معها فكريا وسياسيا لبلورة حزبها الثوري من داخل صيرورة عملها, لإنجاز مهام التغيير الثوري ذي الأفق الاشتراكي.
ج- ضرورة صيانة الرصيد التاريخي والكفاحي لليسار وإطلاق دينامية إعادة البناء السياسي والتنظيمي لمنظمة "إلى الأمام"
إن هذا التقييم وإن كان يتقاطع مع وجهات النظر السابقة في نقد التجربة, على أكثر من مستوى , فإن تحليله و تقييمه سوف لن يصل إلى مستوى خلاصات تصفوية للرصيد اليساري الذي راكمته الحركة. لهذا فهو سينطق من التمسك بجوهر الفكر الثوري الماركسي اللينيني, كفكر تحرري من كل أشكال الاستبداد والاستغلال, والتشبث بالمنظمة كأداة ثورية, للضرورة التاريخية للتغيير الثوري الذي كانت نتيجة إرادات ذاتية لمجموعات شبابية معزولة, وإنما كانت نتاجا موضوعيا للتحولات التي عرفتها البلاد وقتذاك, وكذا الجمود السياسي الذي أصاب الأحزاب الوطنية, ولجنوحها إلى التفاوض السياسي مع الحكم على حساب التصاعد النضالي للحركة الجماهيرية.
إن طموح هذا التوجه داخل منظمة "إلى الأمام" في إعادة بناء المنظمة, والتمسك بمشروعها الثوري الذي تأسست على قاعدته, سوف لن يخفي عن هذا التصور, البعد النقدي الصارم في الرؤية للتجربة. حيث سجل هذا التقييم انزلاق وانحراف التنظيمات من القواعد التنظيمية والسياسية المفترضة لإنجاز المهام. حيث ظلت هذه المنظمات وفق هذا التقييم أسيرة البرجوازية الصغرى, ولم تستطع تجاوز وضع التأسيس-وهو الوضع الذي كان يقتضي بقوة الواقع الموضوعي الانطلاق من المثقفين الثوريين داخل الشبيبة المدرسية والطلابية- وانتقال الاشتغال في عمق الطبقات الأساسية ذات المصلحة في التغيير (العمال والفلاحين) . كما ربط هذا التقييم أزمة منظمة "إلى الأمام" وبقية تنظيمات اليسار, بالأزمة العامة الخانقة التي تعيشها التنظيمات الثورية المغربية(الاختيار الثوري الذي ارتبط بالفقيه البصري) (4).
لقد حدد هذا التقييم أبرز مظاهر الأزمة, في عدم قدرة التنظيمات الثورية على الصمود أمام القمع المسلط عليها خلال سنوات 1973-1977 , وتعثرها في عملية إعادة بناء قواها الذاتية, وتوحيد نضالها ضد العدو المشترك, وضعف مواكبتها للتطورات التي عرفها الصراع الطبقي في نهاية السبعينات.
ولقد حددت الوثيقة التقييمية لمنظمة "إلى الأمام" مظاهر أزمة هذه الأخيرة (5) في كونها فشلت في إنجاز المهام التي طرحتها على نفسها كالتجذر وسط الجماهير الشعبية, و على رأسها الطبقة العاملة, وتوحيد الحركة الماركسية-اللينينية في طريق بناء حزب البروليتاريا المغربي, والمساهمة في لف القوى الثورية والتقدمية من اجل توحيد كفاح الجماهير ضد أعدائها الطبقيين, وقد أضافت الوثيقة "أن الشروط أصبحت متوفرة أكثر من أي وقت مضى لإنجاز هذه المهمة" معتبرة أن المدخل المركزي لذلك هو إنجاز تقييم نقدي صريح لتجربة المنظمة منذ التأسيس, وذلك لمعرفة الأسباب الموضوعية والذاتية التي أدت إلى الأزمة الراهنة, ومن تسليط الأضواء على الخط الإيديولوجي, والسياسي, والتنظيمي للمنظمة. مع ضرورة التخلص من النظرة أحادية الجانب التي تعتبر خط المنظمة سديدا في جوهره, وأن أسباب الإخفاقات تكمن في عدم قدرة أعضاء المنظمة على استيعاب خطها وتطبيقه, وفي نفس الوقت يجب التصدي بكل حزم, لكل نظرة عدمية تنطلق من فشل المنظمة في بناء نفسها كمنظمة ماركسية-لينينية صلبة, وراسخة جماهيريا, لنفي الرصيد الإيجابي الإيديولوجي والتنظيمي, والسياسي والنضالي للمنظمة.
وسيخلص هذا التقييم, بعد توقفه على الأعطاب والاختلالات السياسية والتنظيمية التي جعلت المنظمة لا ترقى إلى مستوى إنجاز طموحاتها السياسية, ومهامها في فترة السبعينات, إلى إطلاق دينامية إعادة هيكلة التنظيم برؤية جديدة وعلى ضوء التحولات التي مست المجتمع, وهي المهمة المركزية لمنظمة "إلى الأمام" بعد هذا التقييم الأولي, والتي سيتحدد في الشعار: إعادة البناء السياسي والتنظيمي لمنظمة "إلى الأمام" كمنظمة ماركسية-لينينية صلبة وراسخة جماهيريا, وهي عملية مزدوجة تربط بين البناء التنظيمي, وبلورة الخط السياسي والإيديولوجي والتدقيق فيهما, ربطا جدليا, على قاعدة برنامج عمل داخلي, واستيعاب التطورات والتحولات التي عرفها المجتمع المغربي, علاوة على التواجد والعمل داخل الطبقات الأساسية (الطبقة العاملة وصغار الفلاحين, وعموم الكادحين). وهي المهمة التي توجت بعقد الندوة الوطنية بالداخل في شهر فبراير من سنة 1983.
وإذا كانت الندوة الوطنية المشار إليها أعلاه, لم تخرج على مستوى التصور العام السابق للمنظمة, وأكدت على بعض الثوابت الإيديولوجية, وجوهر البرنامج السياسي الرامي إلى التغيير الثوري ذي الأفق الاشتراكي. كما بلورته الأرضيات التأسيسية لمنظمة "إلى الأمام", فإنها مع كل ذلك حققت مكتسبات غاية في الأهمية, كاستبعاد بعض الأطروحات السياسية الاستراتيجية والتاكتيكية (حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد-الشبيبة المدرسية كطليعة تاكتيكية, إعادة النظر في كيفية التعاطي مع الأحزاب الوطنية...) والخروج من أسر التكلس الفكري الذي أصاب الفكر الماركسي, وتشجيع إطلاق روح مبادرة الاجتهاد في المجال الإيديولوجي وفق خصوصيات المجتمع المغربي وتطوره التاريخي, أما على المستوى التنظيمي, فقد أعادت الندوة الوطنية النظر في التصور التنظيمي وبسطت من تعتقد الهيكل التنظيمي السابق وتخلصها من التدرج الهرمي, لترتبط البنى التنظيمي بشكل مباشر بحقول الإشتغال الجماهيري دون وسائط.
إن أهم إنجاز تم تحقيقه من خلال هذه المرحلة من التطور السياسي لمنظمة "إلى الأمام", هو إعادة هيكلتها التنظيمية والسياسية في حدها الأدنى, وهيكلة أجهزتها الوطنية والمحلية والقطاعية, كما وضعت اللبنات الأساسية للتجديد النظري والسياسي الذي ستعرفه منظمة " إلى الأمام" في عقد الثمانينات.
التجديد الفكري والسياسي في خط "إلى الأمام"
أ?- التجديد على المستوى الفكري:
تعتبر الاجتهادات الفكرية والإيديولوجية التي عرفتها منظمة "إلى الأمام" خلال هذه الفترة من أخصب الفترات في الإبداع الفكري الخلاق, لقد استطاع التنظيم أن يتعاطى بشكل خلاق مع الواقع المغربي على مستوى الطرح الإيديولوجي, بحيث تبلور خلال هذه المرحلة تصور إيديولوجي تجاوز التحديدات الطبقية الاقتصادية, وأدمج بعض خصوصيات المجتمع المغربي, عبر تشكله التاريخي, وتنوعه الثقافي, وتفاوته الجغرافي. أي استطاعت المنظمة أن تقارب المغرب في تعدده وتنوعه الثقافي. ولقد أدخل العامل الثقافي في تحليل المجتمع, وبالخصوص المسألة الإثنوية, ليس بالمفهوم العرقي, وإنما من المنظور الثقافي.
إن كل هذا جعل المنظمة تؤسس لمعرفة وفهم عميقين حول المسألة الأمازيغية كبعد من أبعاد الهوية الثقافية المغربية, كما أن إدخال العامل الثقافي بمفهومه العام ساهم في فهم الجذور التاريخية لتشكل الأمة المغربية. وهي المسألة التي لم تتوقف لتشكل الأمة المغربية كما هو متداول في التاريخ الرسمي, بل يعود ذلك التشكل إلى ألفي (2000) سنة قبل ذلك.
لهذا سوف تتجاوز منظمة "إلى الأمام" في تصورها النظرة الخاطئة للتاريخ المغربي التي تنطلق من تصور ممركز ويعقوبي للدولة "Vision centraliste et jacobine " معتبرة "أن الوحدة الحقيقية للوطن المغربي لا يمكن أن تنبني على نفي الخصوصيات الإثنو-ثقافية, وأن الارتقاء إلى وحدة ترغب فيها حقا مختلف مكونات الشعب المغربي لا يمكن أن يتم فقط بواسطة مركزة الدولة, بل إن هذا الارتقاء يتطلب معالجة ديمقراطية للخصوصيات لا تقتصر على الاعتراف بها كخصوصيات ثقافية لغوية أو اقتصادية-اجتماعية, بل تهيء كل الشروط لتنمية مستقلة ومتحررة من كل أشكال القمع والاضطهاد لهذه الخصوصيات التي تشكل مكونا أساسيا من تراث الشعب, وتعبر عن التنوع الخارق للعادة, والغنى الكبير للتراث التاريخي لشعبنا"(6).
ولقد وصلت مقاربة الوضع في المغرب بناء على التحليل السابق, إلى تحديد بنيتين اجتماعيتين متفاوتتي التطور فيما بينهما, وكانتا محددتين في التشكل الثقافي –الإثني في المغرب, بنية تقليدانية, ارتبطت بمناطق (بلاد السيبة), والتي تتطابق مع جزء مع "المغرب غير النافع" , وهي المناطق التي استطاعت أن تحافظ على البنيات الاجتماعية القبلية الأساسية التي تشكل الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج (الماء والأرض أساسا) قاعدتها المادية. إن نمط الإنتاج هذا سوف يشكل الأساس المادي للثقافة الخاصة لهذه المناطق, كما شكل القاعدة المادية للخصوصيات الإثنو-ثقافية في مناطق "السيبة". وتوجد إلى جانب هذه البنية التقليدانية, بنية اجتماعية متطورة عنها, والمرتبطة بما يمكن تسميته بلاد "المخزن" والتي ستتعرض إلى الانحلال والتلاشي, وهي المناطق الغنية بثرواتها الطبيعية, والتي برزت فيها أوليغارشيا قبلية انتصبت بفضل سيطرتها على تجارة القوافل, واستحواذها على الأراضي الجماعية, ستشهد هذه المناطق بروز الملاكين العقاريين الكبار التي ستشكل القاعدة الطبقة للمخزن(7).
وكخلاصة لهذا التحليل, يعتبر هذا التصور: "إن الأسس الموضوعية لنمو وعي طبقي توجد في المغرب النافع, وأن وعي الجماهير في هذا الجزء من البلاد يتطور أساسا كوعي طبقي, وذلك رغم أن هذا الوعي لم يستطع لحد الآن أن يجد تعبيره السياسي الملائم. وعلى عكس ذلك, هناك عوامل موضوعية في المناطق الأخرى تجعل من الوعي الطبقي رغم كونه غير غائب, ومحجوب في كثير من الأحيان بوعي إثنو-ثقافي يشكل في كثير من الأحيان رد فعل دفاعي لسكان المناطق المهمشة, والخاضعة لسيرورة التصحر والتي تعاني ثقافتها, ولغاتها من احتقار الأفكار السائدة. وإذا كانت الأسس المادية للخصوصيات الإثنو-ثقافية قد دمرت إلى حد كبير من طرف الرأسمالية التبعية, لكن الذاكرة الجماعية ظلت حية والتشبث باللغة والثقافة الخاصتين يساهم في الحفاظ على التراث التاريخي المجيد حيا في أعماق القلوب... إن البديل لا يتمثل في الاعتراف بثقافات, ولغات هذه المناطق فقط, في نفس الوقت الذي تستمر فيه "اليد الخفية للرأسمالية في تحطيم ما تبقى من هياكل اجتماعية جماعية, ومن تضامن ومساعدة متبادلين وفي زرع اليأس وتفكيك مجتمع بأكمله واجتثاته من أرضه وإخضاعه لميكانيزمات التهميش.
إن البديل الوحيد يكمن في وحدة كفاح الجماهير الكادحة المضطهدة في هذه المناطق المهمشة من أجل الخصوصيات الإثنو-ثقافية مع كفاح الطبقات الشعبية الأساسية, ومجموع الجماهير الشعبية في البلاد من أجل تحطيم السيطرة الإمبريالية والاستغلال الرأسمالي, لكن التظافر الضروري بين هذين النضالين لن يحدث إلا إذا تبنت القوى الثورية الطموح العميق للجماهير الشعبية في المناطق المهمشة إلى حكم ذاتي يمكنها من ازدهار ثقافتها ولغاتها وشخصياتها الخاصة كمكونات قادرة على إخصاب وإغناء التراث المشترك لشعبنا في إطار جمهورية المجالس الشعبية.
إن بنية الطبقات السائدة هي المسؤولة في نفس الوقت على الاستغلال والاضطهاد الطبقيين, وعلى تهميش وتصحر, وتفقير بعض المناطق واجتثاث سكانها, وهنا يكمن الأساس للتداخل بين الصراع الطبقي, والنضال من أجل الخصوصيات الإثنو-ثقافية"(8)
ب?- التجديد على المستوى السياسي:
لقد ترافق التجديد على المستوى الفكري والنظري العام, بتجديد بنية الفكر السياسي لدى منظمة "إلى الأمام", تطلبت هذه العملية إعادة النظر في الخط السياسي والبرنامج العام.
ولقد انطلقت هذه العملية من رؤية نقدية صارمة حول التجارب الماركسية في العالم, بغية تجاوز الدوغمائية والتحجر التي عرفتها الماركسية مع التجربة السوفياتية, والعديد من الأحزاب الشيوعية في العالم, حيث افتقدت منظومة الفكر الماركسي خلال هذه المرحلة الكثير من الحيوية والدينامية, لتصبح فكرا جامدا غير قادر على إطلاق المبادرات الخلاقة في الفكر والإبداع.
لذلك اتجه تفكير المنظمة إلى الاستفادة من الاجتهادات النظرية في مجال الماركسية, وبالتالي سيتم التعامل مع الماركسية كميتودولوجيا للدينامية الاجتماعية ومن مفهوم البراكسيس وما يعنيه من تطور الفكر والنظرية من العمل الملموس دون الارتهان في سجن النظرية بشكل معزول. لذا سوف تعتمد المنظمة في الممارسة السياسية على التفاعل السياسي, بارتباط مع تطور نضالها الثوري, بعيدا عن جمود الفكر الماركسي, والنماذج السياسيةالجامدة, وكان من نتائج ذلك السقوط في استنساخ التجارب الجامدة. حيث تم تجاوز نظرية الفوكو التي كانت سائدة في تجارب العالم الثالث, خاصة في أمريكا اللاتينية, وهي النظرية التي تعتمد العمل الثوري المسلح الذي تقوده النخبة بشكل معزول عن الجماهير, وعلى العكس من ذلك اتجهت المنظمة إلى العمل الثوري السري مع الكادحين, وفي اتجاه تنظيم الجماهير, وإشراكها في عملية التغيير الثوري, والذي قد يصل إلى ممارسة العمل المسلح في الفترات المتقدمة من الصراع الاجتماعي والسياسي الذي سيعرفه المجتمع.
وبناء على ذلك أصبحت الرؤية السياسية للمنظمة حول التغير, عملية شاملة, يؤسس لها في المجتمع القائم مختلف الفئات والطبقات ذلت المصلحة الحقيقية في التغيير الثوري, بواسطة تنظيمات الدفاع الذاتي المستقلة, في أفق المجتمع الديمقراطي كمرحلة ضرورية لبناء المجتمع الاشتراكي المنشود, بحيث سيحتل الحزب من خلال هذا الطرح والفهم دورا جزئيا ومكملا لدور تنظيمات الدفاع الذاتي الجماهيري في عملية التغيير.
لقد استلهمت المنظمة جوهر تصورها هذا, من واقع التحولات البنيوية والسياسية التي عرفها المجتمع المغربي في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات (9), وهي الفترة التي تمكنت فيها المؤسسات المالية الدولية من إحكام سيطرتها على المغرب بواسطة سياسة التقويم الهيكلي (1983), وغيرها من الإجراءات السياسية التي جعلت القوى السياسية الديمقراطية تتوارى خلف المشهد السياسي, وتقزم وجودها في حدود المؤسسات التمثيلية بشكلها المشوه. وسوف يترك غياب المؤسسات الحزبية حضور للشارع المغربي كقوة فاعلة ومؤثرة في المسارات التي كان يجتازها المغرب, وهو الحضور الذي اتخذ شكل انتفاضات جماهيرية عارمة وعفوية والتي أعطت مؤشرات قوية داخل المنظمة للمزيد من التدقيق في الخط السياسي, وكذلك التفاعل الإيجابي مع المتغيرات التي يعرفها المجتمع آنذاك. في هذا السياق بدأ التفكير في كيفية استثمار هذه المقاومة الشعبية, وإدراجها كمعطى من المعطيات الضرورية التي يجب أن تجد مكانتها في أفق التفكير السياسي الاستراتيجي للتغيير الثوري, والذي وجد ترجمته العملية والإجرائية في التدابير التنظيمية, للعمل في الأحياء الشعبية وتنظيم الإمكانات المتوفرة داخلها في إطار المفهوم العام لتنظيمات الدفاع الذاتي. وكشكل من أشكال التنظيم الجماهيري المستقل, ولقد برزت ملامح هذا العمل في الانتفاضة الجماهيرية العارمة التي عرفها المغرب في مراكش والشمال في يناير 1984.
كما عكس التطور السياسي الذي تراكم داخل المنظمة, البرنامج الذي اقترحته هذه الأخيرة على القوى الثورية المغربية في شهر يناير 1991(10), وهو البرنامج الذي عكس نضج أفكار التنظيم حول الديمقراطية, وبالتحديد دمج مفهوم الديمقراطية المباشرة ودور المجالس الشعبية المنبني على أسس ماركسية, مع المفهوم الآخر للديمقراطية المرتكزة على أسس احترام حقوق الإنسان والتعددية الحزبية, وأيضا احترام الخصوصيات الإقليمية عن طريق اللامركزية ونوع من التسيير الذاتي للمناطق التي تتوفر على هذه الخصوصيات, مع احترام اللغة والثقافة الأمازيغية داخل هذا المشروع, أما الجانب الاقتصادي, فقد حاول البرنامج أن يقيم جدلية بين التخطيط غير البيروقراطي الذي يسمى بالتخطيط التوجيهي "Plan indicatif" الذي تتم بلورته بشكل ديمقراطي بإشراك جميع العناصر الفاعلة المرتبطة بالقطاع الاقتصادي من جهة, وبين السوق من جهة ثانية, ويرسم التخطيط التوجيهي استراتيجية التطور الاقتصادي الاجتماعي للبلاد, التي تتبلور هي أيضا بطريقة ديمقراطية بين جميع ممثلي الشعب والقوى الاقتصادية, سواء الشغالين, أو أرباب العمل, أكانوا في القطاع العام أو القطاع الخاص, إن هذه الاستراتيجية, أي التخطيط التوجيهي هو بمثابة خطوط عريضة لتطور نشاط جميع الشركات, في المدن كما في البوادي, وكذلك بالنسبة لاستثمارات الدولة. إن هذا المفهوم يأخذ بعين الاعتبار فشل التخطيط البيروقراطي الذي كان سائدا في أوروبا الشرقية, وفي نفس الوقت يأخذ بعين الاعتبار طبيعة حدود السوق الحرة المتوحشة, الذي لا يمكنه أن يساعد على تطوير بلدان العالم الثالث كما هو حال بلادنا.
ولقد ركزت المنظمة في برنامجها الآنف على مسألة التأميم, مع منح تعويض أو بدون تعويض المجموعات المالية الأساسية. إن هذا التأميم كما طرحته منظمة " إلى الأمام" سيساعد الدولة, ليكون لها موقع أساسي في النشاط والتطور الاقتصادي, وذلك بشكل واقعي, وانطلاقا من نفس الروح الواقعية يطرح البرنامج العديد من المقترحات, تدور حول المواقف الوطنية والدولية, والتي تأخذ بعين الاعتبار المحيط الدولي, كإيجاد حل لقضية سبتة ومليلية, والعلاقات المستقبلية بين المغرب, والمغرب العربي من جهة, واوروبا من جهة أخرى.
كما تمكنت المنظمة من خلال هذه الفترة, تقديم مجموعة من الإضاءات والتدقيقات حول العلاقة بين النضال الاستراتيجي والتاكتيكي والتمفصل القائم بينهما, وكيف توصل التنظيم إلى تحديد المافيا المخزنية التي تبلورت كقوة سياسية ومالية خارج مسلسل الإنتاج, وأصبحت بارزة منذ سنة 1984, حيث أصبحت لوزارة الداخلية أهمية خاصة في الحياة السياسية والاقتصادية من موقع السلطة من طرف كبار المسؤولين في العمالات والبوليس والدرك. ومن هؤلاء تتكون المافيا المخزنية التي أصبحت على مسافة من الطبقات السائدة. فبناء على هذا التناقض, وكذا التناقضات التي تطورت داخل جهاز الدولة نفسه والجيش, وصلت المنظمة إلى خلاصة أساسية حددت على أساسها مهمة اعتبرتها مركزية في شروط تلك المحطة وهي عزل المافيا المخزنية برموزها في أعلى هرم السلطة السياسية بالبلاد, وهي مهمة قد تستقطب فئات متضررة من واقع ابتزاز المافيا المخزنية ومن داخل الطبقات السائدة. ولإنجاز ما أسمته المنظمة بالإختراق الديمقراطي حددت منظمة "إلى الأمام" هذه المهمة, دون أن تغفل برنامجها الديمقراطي الذي يساير المتطلبات اليومية لعموم الشعب المغربي, والمطالب الآنية (11), معتبرة أن هناك تمفصلا بين هذا البرنامج, وبين مشروع تأسيس جبهة الثوريين المغاربة وغير متناقضين, لأن هذا الأخير (أي البرنامج الثوري) سيتيح إمكانية توضيح الآفاق التي بدونها سيبقى البرنامج الآني مهددا بالإنزلاق في مطلب الإصلاحية, والتي لا يمكنها تكسير بنيات التبعية, والاضطهاد والتقدم نحو الديمقراطية الحقيقية. لذا سيفتح البرنامج الثوري أفق إنجاز المهام, وتحقيق الأهداف في مداها الأقصى, وبالتالي فإذا كان المشروع الثاني سيتيح اختراقا ديمقراطيا, فإنه بالضرورة سيصطدم بدينامية إلى الوراء لبنية الطبقات السائدة التي تعيق أي تطور نحو الديمقراطية. وهذه الدينامية النضالية, ستفتح هي الأخرى دينامية متجددة ستشق الطريق الثوري إلى نهايته, والذي سيؤدي إلى تحقيق البرنامج الكفيل حقا بالإجابة بشكل ناجع على الإشكالات الملموسة للمجتمع المغربي, والاستجابة للطموحات التحررية والديمقراطية لشعبنا.
الخلاصة
لقد انطلقت عملية إعادة البناء السياسي والتنظيمي لمنظمة "إلى الأمام" في ظروف ذاتية وموضوعية استثنائية ومغايرة كلية لسنوات التأسيس, التي عرفت فورة تنظيمية وسياسية, لما أضافته هذه الحركة من تجديد في المشهد السياسي المغربي في تلك الفترة, ولراديكالية عموم تنظيمات اليسار, وكتحد تاريخي للسلطة السياسية القائمة. غير أن استمرارية منظمة "إلى الأمام" في إطار عملية إعادة البناء السياسي والتنظيمي, قد تمت في ظروف سياسية بالغة التعقيد, بحيث بوشرت هذه العملية في ظروف قمع شامل قوض البنى التنظيمية للمنظمة, واعتقال شبه كلي لأطرها, وفي ظروف انحسار المد الثوري في العالم, وأزمة الفكر الماركسي , الشيء الذي جعل من تلك المهمة المركزية تأخذ طابع البناء الداخلي بعيدا عن حركية الفعل السياسي في معمعان النضال الجماهيري, مما قلص من قوة إشعاعها السياسي كما كانت عليه في السنوات الأولى لهذه الحركة.
وعلى الرغم من كل هذه الإكراهات, فلقد مكنت عملية إعادة البناء السياسي والتنظيمي لمنظمة "إلى الأمام" ضمان استمرارية التنظيم بقوة تفكيره الثوري كأفق, مع إطلاق دينامية للتجديد الفكري والسياسي, إعادة فهم المغرب, في خصوصية تشكله التاريخي والحضاري, والثقافي, وأعطت فهما جديدا للديمقراطية بأبعادها الشاملة التي تعيد للإنسان المغربي الاعتبار, وتمنحه السيادة في تقرير شأنه اليومي, ومصيره السياسي.
إن هذه الاجتهادات التي تبلورت, عبر تفكير داخل منظمة "إلى الأمام" والتي لامست العديد من القضايا المتعلقة بالهوية المغربية, وتاريخ الأمة المغربية, وتاريخ الأمة المغربية والعلائق الناظمة للمجتمع, وغيرها من الإشكاليات, والتي شكلت أسس تفكير جديد, لم تلق للأسف من ورثة التراث الفكري والسياسي لمنظمة "إلى الأمام" المزيد من التدقيق والتطوير والإضافة.
هوامش :
(1) لقد توزعت منظمة (23 مارس) على إثر الاعتقالات وتنظيمات مختلفة, ك 23 مارس الخارج, التي ستتحول إلى منطقة العمل الديمقراطي الشعبي, ورابطة الثوريين المغاربة, و23 مارس الداخل التي حافظت على الخط القديم.
(2) لقد وردت الخلاصات الجوهرية لهذا التقييم في بيان صدر عن بعض المناضلين وأطر قيادية للمنظمة في سنة 1980, وهو البيان الموجه إلى الشباب المغربي.
(3) لقد تم التعبير عن جوهر التصور في مجلة آفاق التي كانت تصدر بفرنسا.
(4) وثيقة داخلية معنونة ب "البرنامج الوطني" وضعية المنظمة والمتطلبات العاجلة لإعادة البناء, اللجنة الوطنية 23/9/79 .
(5) نفس المصدر
(6) الخصوصية الإثنو-ثقافية في المغرب : الأسس التاريخية / جريدة النهج الديمقراطي ع 60/20 فبراير 2001 مترجم عن كتاب:
Majdi Majid: la lutte de classes au Maroc depuis l independence Ed. Hiwar Rotterdam 1987.
(7) نفس المرجع
(8) نفس المصدر
(9) انظر الكتاب : صراع الطبقات في المغرب, ماجدي ماجد –مرجع مذكور ص 52-82
Les luttes des classes
(10) يوجد مشروع هذا البرنامج في كتاب ابراهام السفاتي
Dans les prisons du Roi Ecrits de Kenitra sur le Maroc
Missidor /Eddition sociales Pris 1992-p.222
(11) انظر : وثيقة العمل الديمقراطي الجماهيري المنشورة في هذا العدد والتي تتضمن البرنامج الآني المرحلي, وهي الوثيقة التي نشرت في العدد 1 من مجلة إلى الأمام, الصادرة في فرنسا –أبريل 1992.
سبق نشره بجريدة النهج الديمقراطي العدد 65/66/1 نونبر 2001
والحال, أن واقع حركات اليسار السبعيني, وكذا الكيفية التي تطور بها في الواقع السياسي المغربي, قد أخذ منحى مغايرا لما كانت عليه في بداية انطلاقتها ومراحل فوراتها في السنوات الأولى لنشأتها, كما تشهد على ذلك الأحزاب السياسية التي عرفها المغرب في تلك الحقبة التاريخية, مع تفاوت واختلاف في قراءة تلك التجربة.
لقد خضعت هذه التجربة السياسية لتقييمات متباينة ومتعارضة أحيانا من طرف نفس التنظيمات التي أطلقت دينامية التأسيس, بحيث تراوحت آفاق هذه الصيرورة بين طموح الحفاظ عن جدوتها الثورية مع التجديد والتطوير, وبين الاعتقاد بانسداد أفق هذه التجربة, وبالتالي انتهت باعتقال كل أطرها. وداخل هذا السياق العام, مارست منظمة 23 مارس نقدا ذاتيا جذريا لتجربتها وتجربة اليسار الجديد عموما, وهو النقد الذي بدأت بوادره سنة 1972 ولتكتمل معالمه في منتصف عقد السبعينات لدى قيادة المنظمة بالخارج, بحيث تبنت آنذاك ما سمته وقتها بخط النضال الديمقراطي, وهو الخط السياسي الذي تخلت من خلاله عن مواقفها الكلاسيكية التي ميزت مواقف اليسار الماركسي اللينيني المغربي, كالملكية والنظام السياسي, وقضية الصحراء وتبنت المسلسل الديمقراطي والإجماع الوطني...
وإذا كانت منظمة 23 مارس, قد جعلها تقييمها للتجربة, تقطع مع التجربة اليسراوية كما كانت تسميها آنذاك, وفتح لها المجال للعمل في العمل لقانوني, فإن تجربة منظمة "إلى الأمام" هي الأخرى, قد عرفت تقييمات مختلفة ومتعارضة. ولم تعرف معها انشطارات تنظيمية كما هو شأن منظمة 23 مارس (1), أسفرت إحدى تلك التقييمات عن انطلاق تجربة مغايرة منذ سنة 1979.
تقييم تجربة " إلى الأمام" بين نزوع تصفية التجربة, وطموح انطلاقة جديدة
لقد ظلت تجربة منظمة " إلى الأمام" التنظيمية والسياسية, متماسكة منذ انطلاقتها, بحيث حافظت على انسجامها, مقارنة ببقية تنظيمات اليسار ولم تعرف اختلافات سياسية سواء على مستوى الخط السياسي أو الإيديولوجي ولا على مستوى التقدير السياسي العام للظرفية ومتطلبات المرحلة. ولقد ساعدها في ذلك هيكلها التنظيمي الحديدي, الذي مكنها من الاستمرار السياسي والتنظيمي خلال فترات القمع الشرسة الممتدة من بداية السبعينات إلى سنة 1976, ولم تتم مساءلة التجربة, وتقييمها إلا في نهاية السبعينات, بعد الاعتقالات التي تعرضت لها المنظمة, والتي قوضت هياكلها التنظيمية, وشلت فعلها السياسي. لقد ولدت الانهيارات التنظيمية التي تعرضت لها المنظمة العديد من التساؤلات السياسية حول وجودها السياسي وشرعيتها التاريخية والموضوعية, وكذا ضرورة استمرارها, وإمكانية تحقيق مشروعها المجتمعي في ظل الشروط التي كان يمر منها المغرب آنذاك, وعلاقتها ببقية المكونات السياسية. إنها أسئلة محورية شكلت مفاصل التقييمات السياسية التي ستعرفها التجربة داخل زنازن السجن المركزي بالقنيطرة, وهي التقييمات التي ستتوزع عل ثلاث وجهات نظر, يمكن أن نوجزها, مع التوقف, عند التقييم الذي سوف يطلق دينامية, إعادة بناء منظمة "إلى الأمام" موضوع مقالنا:
أ?- حل تنظيمات اليسار والعودة إلى حظيرة الأحزاب الوطنية.
- لقد انطلق هذا التقييم من الفشل التام لعموم فصائل الحركة الماركسية اللينينية بشكل عام ومنظمة "إلى الأمام" بشكل خاص, معتبرا أن دور اليسار الجديد يفتقد المشروعية التاريخية والموضوعية, بحيث تحكمت النزعة الإرادوية لفئة عريضة من الشبيبة المغربية العاملة والناشطة داخل الأحزاب الوطنية الديمقراطية, والتي تبنت الفكر الماركسي ذو النزعة اليسراوية المغامرة, كما اعتبرت هاته الوجهة النظر التقييمية,أن فعل اليسار الجديد لم يكن في واقع الأمر سوى ردة فعل انفعالية حول لحظة سياسية مأزومة, لم ترق إلى مستوى الفعل السياسي المؤثر في مجريات الوضع السياسي داخل البلاد, الشيء الذي أضفى على نشاطها السياسي كما مارسته وقتذاك, سمة طفولية يسراوية, لا تقيم أي اعتبار للقوانين المتحكمة في بنية الصراع الاجتماعي داخل المغرب, ليخلص هذا التقييم إلى ضرورة حل هذه التنظيمات, والعودة إلى حضيرة الأحزاب الوطنية(2).
ب?- حل التنظيمات اليسارية والالتحاق بالطبقة العاملة كأفراد ودعمها لبلورة حزبها الطليعي الثوري من داخلها:
لقد انطلقت وجهة النظر التقييمية هاته, من منطلقات مغايرة للرأي السابق, بحيث اعتبر هذا التقييم أن المشروع السياسي والإيديولوجي, الذي نهضت عليه هذه الحركة الثورية, لازال مطروحا في جدول أعمال الحركة الثورية المغربية, ولازالت ضرورته السياسية قائمة, غير أن الأعطاب والانزلاقات التي حالت دون إنجاز المهام الثورية لدى الحركة الماركسية اللينينية المغربية, ومنظمة "إلى الأمام" بالخصوص هو اعتمادها على عنصر البورجوازية الصغيرة (المثقفين بشكل عام ). والاشتغال في حقولها كالقطاع الطلابي والتلاميذي, وداخل الشبيبة المدرسية بشكل كبير, دون الانغراس في القلعات البروليتارية لبناء الحزب الثوري البروليتاري لإنجاز التغيير الثوري, ليخلص هذا التقييم إلى ضرورة حل التنظيمات اليسارية, والتحاق مناضليها بالطبقة العامة كأفراد, للمساهمة معها فكريا وسياسيا لبلورة حزبها الثوري من داخل صيرورة عملها, لإنجاز مهام التغيير الثوري ذي الأفق الاشتراكي.
ج- ضرورة صيانة الرصيد التاريخي والكفاحي لليسار وإطلاق دينامية إعادة البناء السياسي والتنظيمي لمنظمة "إلى الأمام"
إن هذا التقييم وإن كان يتقاطع مع وجهات النظر السابقة في نقد التجربة, على أكثر من مستوى , فإن تحليله و تقييمه سوف لن يصل إلى مستوى خلاصات تصفوية للرصيد اليساري الذي راكمته الحركة. لهذا فهو سينطق من التمسك بجوهر الفكر الثوري الماركسي اللينيني, كفكر تحرري من كل أشكال الاستبداد والاستغلال, والتشبث بالمنظمة كأداة ثورية, للضرورة التاريخية للتغيير الثوري الذي كانت نتيجة إرادات ذاتية لمجموعات شبابية معزولة, وإنما كانت نتاجا موضوعيا للتحولات التي عرفتها البلاد وقتذاك, وكذا الجمود السياسي الذي أصاب الأحزاب الوطنية, ولجنوحها إلى التفاوض السياسي مع الحكم على حساب التصاعد النضالي للحركة الجماهيرية.
إن طموح هذا التوجه داخل منظمة "إلى الأمام" في إعادة بناء المنظمة, والتمسك بمشروعها الثوري الذي تأسست على قاعدته, سوف لن يخفي عن هذا التصور, البعد النقدي الصارم في الرؤية للتجربة. حيث سجل هذا التقييم انزلاق وانحراف التنظيمات من القواعد التنظيمية والسياسية المفترضة لإنجاز المهام. حيث ظلت هذه المنظمات وفق هذا التقييم أسيرة البرجوازية الصغرى, ولم تستطع تجاوز وضع التأسيس-وهو الوضع الذي كان يقتضي بقوة الواقع الموضوعي الانطلاق من المثقفين الثوريين داخل الشبيبة المدرسية والطلابية- وانتقال الاشتغال في عمق الطبقات الأساسية ذات المصلحة في التغيير (العمال والفلاحين) . كما ربط هذا التقييم أزمة منظمة "إلى الأمام" وبقية تنظيمات اليسار, بالأزمة العامة الخانقة التي تعيشها التنظيمات الثورية المغربية(الاختيار الثوري الذي ارتبط بالفقيه البصري) (4).
لقد حدد هذا التقييم أبرز مظاهر الأزمة, في عدم قدرة التنظيمات الثورية على الصمود أمام القمع المسلط عليها خلال سنوات 1973-1977 , وتعثرها في عملية إعادة بناء قواها الذاتية, وتوحيد نضالها ضد العدو المشترك, وضعف مواكبتها للتطورات التي عرفها الصراع الطبقي في نهاية السبعينات.
ولقد حددت الوثيقة التقييمية لمنظمة "إلى الأمام" مظاهر أزمة هذه الأخيرة (5) في كونها فشلت في إنجاز المهام التي طرحتها على نفسها كالتجذر وسط الجماهير الشعبية, و على رأسها الطبقة العاملة, وتوحيد الحركة الماركسية-اللينينية في طريق بناء حزب البروليتاريا المغربي, والمساهمة في لف القوى الثورية والتقدمية من اجل توحيد كفاح الجماهير ضد أعدائها الطبقيين, وقد أضافت الوثيقة "أن الشروط أصبحت متوفرة أكثر من أي وقت مضى لإنجاز هذه المهمة" معتبرة أن المدخل المركزي لذلك هو إنجاز تقييم نقدي صريح لتجربة المنظمة منذ التأسيس, وذلك لمعرفة الأسباب الموضوعية والذاتية التي أدت إلى الأزمة الراهنة, ومن تسليط الأضواء على الخط الإيديولوجي, والسياسي, والتنظيمي للمنظمة. مع ضرورة التخلص من النظرة أحادية الجانب التي تعتبر خط المنظمة سديدا في جوهره, وأن أسباب الإخفاقات تكمن في عدم قدرة أعضاء المنظمة على استيعاب خطها وتطبيقه, وفي نفس الوقت يجب التصدي بكل حزم, لكل نظرة عدمية تنطلق من فشل المنظمة في بناء نفسها كمنظمة ماركسية-لينينية صلبة, وراسخة جماهيريا, لنفي الرصيد الإيجابي الإيديولوجي والتنظيمي, والسياسي والنضالي للمنظمة.
وسيخلص هذا التقييم, بعد توقفه على الأعطاب والاختلالات السياسية والتنظيمية التي جعلت المنظمة لا ترقى إلى مستوى إنجاز طموحاتها السياسية, ومهامها في فترة السبعينات, إلى إطلاق دينامية إعادة هيكلة التنظيم برؤية جديدة وعلى ضوء التحولات التي مست المجتمع, وهي المهمة المركزية لمنظمة "إلى الأمام" بعد هذا التقييم الأولي, والتي سيتحدد في الشعار: إعادة البناء السياسي والتنظيمي لمنظمة "إلى الأمام" كمنظمة ماركسية-لينينية صلبة وراسخة جماهيريا, وهي عملية مزدوجة تربط بين البناء التنظيمي, وبلورة الخط السياسي والإيديولوجي والتدقيق فيهما, ربطا جدليا, على قاعدة برنامج عمل داخلي, واستيعاب التطورات والتحولات التي عرفها المجتمع المغربي, علاوة على التواجد والعمل داخل الطبقات الأساسية (الطبقة العاملة وصغار الفلاحين, وعموم الكادحين). وهي المهمة التي توجت بعقد الندوة الوطنية بالداخل في شهر فبراير من سنة 1983.
وإذا كانت الندوة الوطنية المشار إليها أعلاه, لم تخرج على مستوى التصور العام السابق للمنظمة, وأكدت على بعض الثوابت الإيديولوجية, وجوهر البرنامج السياسي الرامي إلى التغيير الثوري ذي الأفق الاشتراكي. كما بلورته الأرضيات التأسيسية لمنظمة "إلى الأمام", فإنها مع كل ذلك حققت مكتسبات غاية في الأهمية, كاستبعاد بعض الأطروحات السياسية الاستراتيجية والتاكتيكية (حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد-الشبيبة المدرسية كطليعة تاكتيكية, إعادة النظر في كيفية التعاطي مع الأحزاب الوطنية...) والخروج من أسر التكلس الفكري الذي أصاب الفكر الماركسي, وتشجيع إطلاق روح مبادرة الاجتهاد في المجال الإيديولوجي وفق خصوصيات المجتمع المغربي وتطوره التاريخي, أما على المستوى التنظيمي, فقد أعادت الندوة الوطنية النظر في التصور التنظيمي وبسطت من تعتقد الهيكل التنظيمي السابق وتخلصها من التدرج الهرمي, لترتبط البنى التنظيمي بشكل مباشر بحقول الإشتغال الجماهيري دون وسائط.
إن أهم إنجاز تم تحقيقه من خلال هذه المرحلة من التطور السياسي لمنظمة "إلى الأمام", هو إعادة هيكلتها التنظيمية والسياسية في حدها الأدنى, وهيكلة أجهزتها الوطنية والمحلية والقطاعية, كما وضعت اللبنات الأساسية للتجديد النظري والسياسي الذي ستعرفه منظمة " إلى الأمام" في عقد الثمانينات.
التجديد الفكري والسياسي في خط "إلى الأمام"
أ?- التجديد على المستوى الفكري:
تعتبر الاجتهادات الفكرية والإيديولوجية التي عرفتها منظمة "إلى الأمام" خلال هذه الفترة من أخصب الفترات في الإبداع الفكري الخلاق, لقد استطاع التنظيم أن يتعاطى بشكل خلاق مع الواقع المغربي على مستوى الطرح الإيديولوجي, بحيث تبلور خلال هذه المرحلة تصور إيديولوجي تجاوز التحديدات الطبقية الاقتصادية, وأدمج بعض خصوصيات المجتمع المغربي, عبر تشكله التاريخي, وتنوعه الثقافي, وتفاوته الجغرافي. أي استطاعت المنظمة أن تقارب المغرب في تعدده وتنوعه الثقافي. ولقد أدخل العامل الثقافي في تحليل المجتمع, وبالخصوص المسألة الإثنوية, ليس بالمفهوم العرقي, وإنما من المنظور الثقافي.
إن كل هذا جعل المنظمة تؤسس لمعرفة وفهم عميقين حول المسألة الأمازيغية كبعد من أبعاد الهوية الثقافية المغربية, كما أن إدخال العامل الثقافي بمفهومه العام ساهم في فهم الجذور التاريخية لتشكل الأمة المغربية. وهي المسألة التي لم تتوقف لتشكل الأمة المغربية كما هو متداول في التاريخ الرسمي, بل يعود ذلك التشكل إلى ألفي (2000) سنة قبل ذلك.
لهذا سوف تتجاوز منظمة "إلى الأمام" في تصورها النظرة الخاطئة للتاريخ المغربي التي تنطلق من تصور ممركز ويعقوبي للدولة "Vision centraliste et jacobine " معتبرة "أن الوحدة الحقيقية للوطن المغربي لا يمكن أن تنبني على نفي الخصوصيات الإثنو-ثقافية, وأن الارتقاء إلى وحدة ترغب فيها حقا مختلف مكونات الشعب المغربي لا يمكن أن يتم فقط بواسطة مركزة الدولة, بل إن هذا الارتقاء يتطلب معالجة ديمقراطية للخصوصيات لا تقتصر على الاعتراف بها كخصوصيات ثقافية لغوية أو اقتصادية-اجتماعية, بل تهيء كل الشروط لتنمية مستقلة ومتحررة من كل أشكال القمع والاضطهاد لهذه الخصوصيات التي تشكل مكونا أساسيا من تراث الشعب, وتعبر عن التنوع الخارق للعادة, والغنى الكبير للتراث التاريخي لشعبنا"(6).
ولقد وصلت مقاربة الوضع في المغرب بناء على التحليل السابق, إلى تحديد بنيتين اجتماعيتين متفاوتتي التطور فيما بينهما, وكانتا محددتين في التشكل الثقافي –الإثني في المغرب, بنية تقليدانية, ارتبطت بمناطق (بلاد السيبة), والتي تتطابق مع جزء مع "المغرب غير النافع" , وهي المناطق التي استطاعت أن تحافظ على البنيات الاجتماعية القبلية الأساسية التي تشكل الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج (الماء والأرض أساسا) قاعدتها المادية. إن نمط الإنتاج هذا سوف يشكل الأساس المادي للثقافة الخاصة لهذه المناطق, كما شكل القاعدة المادية للخصوصيات الإثنو-ثقافية في مناطق "السيبة". وتوجد إلى جانب هذه البنية التقليدانية, بنية اجتماعية متطورة عنها, والمرتبطة بما يمكن تسميته بلاد "المخزن" والتي ستتعرض إلى الانحلال والتلاشي, وهي المناطق الغنية بثرواتها الطبيعية, والتي برزت فيها أوليغارشيا قبلية انتصبت بفضل سيطرتها على تجارة القوافل, واستحواذها على الأراضي الجماعية, ستشهد هذه المناطق بروز الملاكين العقاريين الكبار التي ستشكل القاعدة الطبقة للمخزن(7).
وكخلاصة لهذا التحليل, يعتبر هذا التصور: "إن الأسس الموضوعية لنمو وعي طبقي توجد في المغرب النافع, وأن وعي الجماهير في هذا الجزء من البلاد يتطور أساسا كوعي طبقي, وذلك رغم أن هذا الوعي لم يستطع لحد الآن أن يجد تعبيره السياسي الملائم. وعلى عكس ذلك, هناك عوامل موضوعية في المناطق الأخرى تجعل من الوعي الطبقي رغم كونه غير غائب, ومحجوب في كثير من الأحيان بوعي إثنو-ثقافي يشكل في كثير من الأحيان رد فعل دفاعي لسكان المناطق المهمشة, والخاضعة لسيرورة التصحر والتي تعاني ثقافتها, ولغاتها من احتقار الأفكار السائدة. وإذا كانت الأسس المادية للخصوصيات الإثنو-ثقافية قد دمرت إلى حد كبير من طرف الرأسمالية التبعية, لكن الذاكرة الجماعية ظلت حية والتشبث باللغة والثقافة الخاصتين يساهم في الحفاظ على التراث التاريخي المجيد حيا في أعماق القلوب... إن البديل لا يتمثل في الاعتراف بثقافات, ولغات هذه المناطق فقط, في نفس الوقت الذي تستمر فيه "اليد الخفية للرأسمالية في تحطيم ما تبقى من هياكل اجتماعية جماعية, ومن تضامن ومساعدة متبادلين وفي زرع اليأس وتفكيك مجتمع بأكمله واجتثاته من أرضه وإخضاعه لميكانيزمات التهميش.
إن البديل الوحيد يكمن في وحدة كفاح الجماهير الكادحة المضطهدة في هذه المناطق المهمشة من أجل الخصوصيات الإثنو-ثقافية مع كفاح الطبقات الشعبية الأساسية, ومجموع الجماهير الشعبية في البلاد من أجل تحطيم السيطرة الإمبريالية والاستغلال الرأسمالي, لكن التظافر الضروري بين هذين النضالين لن يحدث إلا إذا تبنت القوى الثورية الطموح العميق للجماهير الشعبية في المناطق المهمشة إلى حكم ذاتي يمكنها من ازدهار ثقافتها ولغاتها وشخصياتها الخاصة كمكونات قادرة على إخصاب وإغناء التراث المشترك لشعبنا في إطار جمهورية المجالس الشعبية.
إن بنية الطبقات السائدة هي المسؤولة في نفس الوقت على الاستغلال والاضطهاد الطبقيين, وعلى تهميش وتصحر, وتفقير بعض المناطق واجتثاث سكانها, وهنا يكمن الأساس للتداخل بين الصراع الطبقي, والنضال من أجل الخصوصيات الإثنو-ثقافية"(8)
ب?- التجديد على المستوى السياسي:
لقد ترافق التجديد على المستوى الفكري والنظري العام, بتجديد بنية الفكر السياسي لدى منظمة "إلى الأمام", تطلبت هذه العملية إعادة النظر في الخط السياسي والبرنامج العام.
ولقد انطلقت هذه العملية من رؤية نقدية صارمة حول التجارب الماركسية في العالم, بغية تجاوز الدوغمائية والتحجر التي عرفتها الماركسية مع التجربة السوفياتية, والعديد من الأحزاب الشيوعية في العالم, حيث افتقدت منظومة الفكر الماركسي خلال هذه المرحلة الكثير من الحيوية والدينامية, لتصبح فكرا جامدا غير قادر على إطلاق المبادرات الخلاقة في الفكر والإبداع.
لذلك اتجه تفكير المنظمة إلى الاستفادة من الاجتهادات النظرية في مجال الماركسية, وبالتالي سيتم التعامل مع الماركسية كميتودولوجيا للدينامية الاجتماعية ومن مفهوم البراكسيس وما يعنيه من تطور الفكر والنظرية من العمل الملموس دون الارتهان في سجن النظرية بشكل معزول. لذا سوف تعتمد المنظمة في الممارسة السياسية على التفاعل السياسي, بارتباط مع تطور نضالها الثوري, بعيدا عن جمود الفكر الماركسي, والنماذج السياسيةالجامدة, وكان من نتائج ذلك السقوط في استنساخ التجارب الجامدة. حيث تم تجاوز نظرية الفوكو التي كانت سائدة في تجارب العالم الثالث, خاصة في أمريكا اللاتينية, وهي النظرية التي تعتمد العمل الثوري المسلح الذي تقوده النخبة بشكل معزول عن الجماهير, وعلى العكس من ذلك اتجهت المنظمة إلى العمل الثوري السري مع الكادحين, وفي اتجاه تنظيم الجماهير, وإشراكها في عملية التغيير الثوري, والذي قد يصل إلى ممارسة العمل المسلح في الفترات المتقدمة من الصراع الاجتماعي والسياسي الذي سيعرفه المجتمع.
وبناء على ذلك أصبحت الرؤية السياسية للمنظمة حول التغير, عملية شاملة, يؤسس لها في المجتمع القائم مختلف الفئات والطبقات ذلت المصلحة الحقيقية في التغيير الثوري, بواسطة تنظيمات الدفاع الذاتي المستقلة, في أفق المجتمع الديمقراطي كمرحلة ضرورية لبناء المجتمع الاشتراكي المنشود, بحيث سيحتل الحزب من خلال هذا الطرح والفهم دورا جزئيا ومكملا لدور تنظيمات الدفاع الذاتي الجماهيري في عملية التغيير.
لقد استلهمت المنظمة جوهر تصورها هذا, من واقع التحولات البنيوية والسياسية التي عرفها المجتمع المغربي في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات (9), وهي الفترة التي تمكنت فيها المؤسسات المالية الدولية من إحكام سيطرتها على المغرب بواسطة سياسة التقويم الهيكلي (1983), وغيرها من الإجراءات السياسية التي جعلت القوى السياسية الديمقراطية تتوارى خلف المشهد السياسي, وتقزم وجودها في حدود المؤسسات التمثيلية بشكلها المشوه. وسوف يترك غياب المؤسسات الحزبية حضور للشارع المغربي كقوة فاعلة ومؤثرة في المسارات التي كان يجتازها المغرب, وهو الحضور الذي اتخذ شكل انتفاضات جماهيرية عارمة وعفوية والتي أعطت مؤشرات قوية داخل المنظمة للمزيد من التدقيق في الخط السياسي, وكذلك التفاعل الإيجابي مع المتغيرات التي يعرفها المجتمع آنذاك. في هذا السياق بدأ التفكير في كيفية استثمار هذه المقاومة الشعبية, وإدراجها كمعطى من المعطيات الضرورية التي يجب أن تجد مكانتها في أفق التفكير السياسي الاستراتيجي للتغيير الثوري, والذي وجد ترجمته العملية والإجرائية في التدابير التنظيمية, للعمل في الأحياء الشعبية وتنظيم الإمكانات المتوفرة داخلها في إطار المفهوم العام لتنظيمات الدفاع الذاتي. وكشكل من أشكال التنظيم الجماهيري المستقل, ولقد برزت ملامح هذا العمل في الانتفاضة الجماهيرية العارمة التي عرفها المغرب في مراكش والشمال في يناير 1984.
كما عكس التطور السياسي الذي تراكم داخل المنظمة, البرنامج الذي اقترحته هذه الأخيرة على القوى الثورية المغربية في شهر يناير 1991(10), وهو البرنامج الذي عكس نضج أفكار التنظيم حول الديمقراطية, وبالتحديد دمج مفهوم الديمقراطية المباشرة ودور المجالس الشعبية المنبني على أسس ماركسية, مع المفهوم الآخر للديمقراطية المرتكزة على أسس احترام حقوق الإنسان والتعددية الحزبية, وأيضا احترام الخصوصيات الإقليمية عن طريق اللامركزية ونوع من التسيير الذاتي للمناطق التي تتوفر على هذه الخصوصيات, مع احترام اللغة والثقافة الأمازيغية داخل هذا المشروع, أما الجانب الاقتصادي, فقد حاول البرنامج أن يقيم جدلية بين التخطيط غير البيروقراطي الذي يسمى بالتخطيط التوجيهي "Plan indicatif" الذي تتم بلورته بشكل ديمقراطي بإشراك جميع العناصر الفاعلة المرتبطة بالقطاع الاقتصادي من جهة, وبين السوق من جهة ثانية, ويرسم التخطيط التوجيهي استراتيجية التطور الاقتصادي الاجتماعي للبلاد, التي تتبلور هي أيضا بطريقة ديمقراطية بين جميع ممثلي الشعب والقوى الاقتصادية, سواء الشغالين, أو أرباب العمل, أكانوا في القطاع العام أو القطاع الخاص, إن هذه الاستراتيجية, أي التخطيط التوجيهي هو بمثابة خطوط عريضة لتطور نشاط جميع الشركات, في المدن كما في البوادي, وكذلك بالنسبة لاستثمارات الدولة. إن هذا المفهوم يأخذ بعين الاعتبار فشل التخطيط البيروقراطي الذي كان سائدا في أوروبا الشرقية, وفي نفس الوقت يأخذ بعين الاعتبار طبيعة حدود السوق الحرة المتوحشة, الذي لا يمكنه أن يساعد على تطوير بلدان العالم الثالث كما هو حال بلادنا.
ولقد ركزت المنظمة في برنامجها الآنف على مسألة التأميم, مع منح تعويض أو بدون تعويض المجموعات المالية الأساسية. إن هذا التأميم كما طرحته منظمة " إلى الأمام" سيساعد الدولة, ليكون لها موقع أساسي في النشاط والتطور الاقتصادي, وذلك بشكل واقعي, وانطلاقا من نفس الروح الواقعية يطرح البرنامج العديد من المقترحات, تدور حول المواقف الوطنية والدولية, والتي تأخذ بعين الاعتبار المحيط الدولي, كإيجاد حل لقضية سبتة ومليلية, والعلاقات المستقبلية بين المغرب, والمغرب العربي من جهة, واوروبا من جهة أخرى.
كما تمكنت المنظمة من خلال هذه الفترة, تقديم مجموعة من الإضاءات والتدقيقات حول العلاقة بين النضال الاستراتيجي والتاكتيكي والتمفصل القائم بينهما, وكيف توصل التنظيم إلى تحديد المافيا المخزنية التي تبلورت كقوة سياسية ومالية خارج مسلسل الإنتاج, وأصبحت بارزة منذ سنة 1984, حيث أصبحت لوزارة الداخلية أهمية خاصة في الحياة السياسية والاقتصادية من موقع السلطة من طرف كبار المسؤولين في العمالات والبوليس والدرك. ومن هؤلاء تتكون المافيا المخزنية التي أصبحت على مسافة من الطبقات السائدة. فبناء على هذا التناقض, وكذا التناقضات التي تطورت داخل جهاز الدولة نفسه والجيش, وصلت المنظمة إلى خلاصة أساسية حددت على أساسها مهمة اعتبرتها مركزية في شروط تلك المحطة وهي عزل المافيا المخزنية برموزها في أعلى هرم السلطة السياسية بالبلاد, وهي مهمة قد تستقطب فئات متضررة من واقع ابتزاز المافيا المخزنية ومن داخل الطبقات السائدة. ولإنجاز ما أسمته المنظمة بالإختراق الديمقراطي حددت منظمة "إلى الأمام" هذه المهمة, دون أن تغفل برنامجها الديمقراطي الذي يساير المتطلبات اليومية لعموم الشعب المغربي, والمطالب الآنية (11), معتبرة أن هناك تمفصلا بين هذا البرنامج, وبين مشروع تأسيس جبهة الثوريين المغاربة وغير متناقضين, لأن هذا الأخير (أي البرنامج الثوري) سيتيح إمكانية توضيح الآفاق التي بدونها سيبقى البرنامج الآني مهددا بالإنزلاق في مطلب الإصلاحية, والتي لا يمكنها تكسير بنيات التبعية, والاضطهاد والتقدم نحو الديمقراطية الحقيقية. لذا سيفتح البرنامج الثوري أفق إنجاز المهام, وتحقيق الأهداف في مداها الأقصى, وبالتالي فإذا كان المشروع الثاني سيتيح اختراقا ديمقراطيا, فإنه بالضرورة سيصطدم بدينامية إلى الوراء لبنية الطبقات السائدة التي تعيق أي تطور نحو الديمقراطية. وهذه الدينامية النضالية, ستفتح هي الأخرى دينامية متجددة ستشق الطريق الثوري إلى نهايته, والذي سيؤدي إلى تحقيق البرنامج الكفيل حقا بالإجابة بشكل ناجع على الإشكالات الملموسة للمجتمع المغربي, والاستجابة للطموحات التحررية والديمقراطية لشعبنا.
الخلاصة
لقد انطلقت عملية إعادة البناء السياسي والتنظيمي لمنظمة "إلى الأمام" في ظروف ذاتية وموضوعية استثنائية ومغايرة كلية لسنوات التأسيس, التي عرفت فورة تنظيمية وسياسية, لما أضافته هذه الحركة من تجديد في المشهد السياسي المغربي في تلك الفترة, ولراديكالية عموم تنظيمات اليسار, وكتحد تاريخي للسلطة السياسية القائمة. غير أن استمرارية منظمة "إلى الأمام" في إطار عملية إعادة البناء السياسي والتنظيمي, قد تمت في ظروف سياسية بالغة التعقيد, بحيث بوشرت هذه العملية في ظروف قمع شامل قوض البنى التنظيمية للمنظمة, واعتقال شبه كلي لأطرها, وفي ظروف انحسار المد الثوري في العالم, وأزمة الفكر الماركسي , الشيء الذي جعل من تلك المهمة المركزية تأخذ طابع البناء الداخلي بعيدا عن حركية الفعل السياسي في معمعان النضال الجماهيري, مما قلص من قوة إشعاعها السياسي كما كانت عليه في السنوات الأولى لهذه الحركة.
وعلى الرغم من كل هذه الإكراهات, فلقد مكنت عملية إعادة البناء السياسي والتنظيمي لمنظمة "إلى الأمام" ضمان استمرارية التنظيم بقوة تفكيره الثوري كأفق, مع إطلاق دينامية للتجديد الفكري والسياسي, إعادة فهم المغرب, في خصوصية تشكله التاريخي والحضاري, والثقافي, وأعطت فهما جديدا للديمقراطية بأبعادها الشاملة التي تعيد للإنسان المغربي الاعتبار, وتمنحه السيادة في تقرير شأنه اليومي, ومصيره السياسي.
إن هذه الاجتهادات التي تبلورت, عبر تفكير داخل منظمة "إلى الأمام" والتي لامست العديد من القضايا المتعلقة بالهوية المغربية, وتاريخ الأمة المغربية, وتاريخ الأمة المغربية والعلائق الناظمة للمجتمع, وغيرها من الإشكاليات, والتي شكلت أسس تفكير جديد, لم تلق للأسف من ورثة التراث الفكري والسياسي لمنظمة "إلى الأمام" المزيد من التدقيق والتطوير والإضافة.
هوامش :
(1) لقد توزعت منظمة (23 مارس) على إثر الاعتقالات وتنظيمات مختلفة, ك 23 مارس الخارج, التي ستتحول إلى منطقة العمل الديمقراطي الشعبي, ورابطة الثوريين المغاربة, و23 مارس الداخل التي حافظت على الخط القديم.
(2) لقد وردت الخلاصات الجوهرية لهذا التقييم في بيان صدر عن بعض المناضلين وأطر قيادية للمنظمة في سنة 1980, وهو البيان الموجه إلى الشباب المغربي.
(3) لقد تم التعبير عن جوهر التصور في مجلة آفاق التي كانت تصدر بفرنسا.
(4) وثيقة داخلية معنونة ب "البرنامج الوطني" وضعية المنظمة والمتطلبات العاجلة لإعادة البناء, اللجنة الوطنية 23/9/79 .
(5) نفس المصدر
(6) الخصوصية الإثنو-ثقافية في المغرب : الأسس التاريخية / جريدة النهج الديمقراطي ع 60/20 فبراير 2001 مترجم عن كتاب:
Majdi Majid: la lutte de classes au Maroc depuis l independence Ed. Hiwar Rotterdam 1987.
(7) نفس المرجع
(8) نفس المصدر
(9) انظر الكتاب : صراع الطبقات في المغرب, ماجدي ماجد –مرجع مذكور ص 52-82
Les luttes des classes
(10) يوجد مشروع هذا البرنامج في كتاب ابراهام السفاتي
Dans les prisons du Roi Ecrits de Kenitra sur le Maroc
Missidor /Eddition sociales Pris 1992-p.222
(11) انظر : وثيقة العمل الديمقراطي الجماهيري المنشورة في هذا العدد والتي تتضمن البرنامج الآني المرحلي, وهي الوثيقة التي نشرت في العدد 1 من مجلة إلى الأمام, الصادرة في فرنسا –أبريل 1992.
سبق نشره بجريدة النهج الديمقراطي العدد 65/66/1 نونبر 2001
عبد المومن الشباري - إعادة البناء السياسي والتنظيمي لتجربة - إلى الأمام-: التجديد الفكري والسياسي للمنظمة
عبد المومن الشباري - إعادة البناء السياسي والتنظيمي لتجربة - إلى الأمام-: التجديد الفكري والسياسي للمنظمة
www.ahewar.org