أمل الكردفاني- عندما يوهمك السياسيون بالدموقراطية

لن نستطيع أن نقول بأنه لا توجد دموقراطية بمعناها المثالي المطروح في الكتب وما صدرته لنا أمريكا من أوهام ضمن صادراتها الأخرى. فكما لم يعد بإمكاننا الإشارة لكرونا بأي همس سلبي، ولا نقد نظرية التطور والإنفجار العظيم، أضحت الدموقراطية تابوه جديد يضاف للجنس والدين. رغم أن واقعنا كله ضد المفهوم المتوهم للدموقراطية. واقعنا المحتشد بالصراعات والإقصاءات والعنصرية والتهميش والحروب والموت، بل حتى على مستوى العلاقات في وسائل التواصل الاجتماعي التي كشفت وهم ما يسمى بالدموقراطية وقبول الرأى الآخر. لقد تم -عبر مصطلح الدموقراطية- قمع طبيعتنا البشرية، داخل مفاهيم صناعية، لتحقيق مصالح قوى محددة تدير العالم أو تؤثر فيه. لقد فُرضت الدموقراطية بالدكتاتورية، وهذا قمة السخرية، وتأكيد على بلاهة الشعوب، وضعف قدرتها على تمحيص المعطيات لفهم الحقيقة. لم أجد بحثاً علمياً -وأؤكد (علمياً)- يوجه مجرد انتقادات طفيفة للدموقراطية، إلا وكانت بدايته التنبيه على أن الباحث ليس ضد الدموقراطية. لقد أصبحت الدموقراطية بعبعاً جديداً، كلمة مقدسة، لا يجوز حتى المساس بعذريتها؛ وإلا ستتعرض -ويا للسخرية- للقمع. من هو ذاك الذي يمارس القمع؟ إنه السلطة، السلطة هنا ليست الحكومات، بل المؤسسات، والمؤسسات هنا هي المؤسسات التي تضع أقنعة مدنية على وجهها الأمني. الفيس بوك وتويتر والجامعات، والفضائيات، والنوادي الثقافية،...الخ. تلك المؤسسات المصنوعة لأداء عمليات محددة، أهمها هو حماية قداسة كلمة الدموقراطية. ليس من المهم أن تمارس الدكتاتورية، ولكن مارسها بدموقراطية. ليس من المهم أن تدافع عن الدموقراطية، ولكن لا تهاجمها، ليس من المهم أن تؤمن بها ولكن يكفي أن تعلن إيمانا زائفاً بأهميتها، والأخطر من ذلك، أن الدموقراطية امتلكت بعداً أخلاقياً، وكل من وما يحاول نزع قداستها شيطان مارق. لذلك لن يأتِ سياسي واحد ليقول بأنه لن يكون دموقراطياً، فحتى في أعتى أنظمة حكم الرجل الواحد أو الحزب الواحد سيتم اختلاق انتخابات مزيفة لتأكيد الدموقراطية. إنك في الواقع -كفرد- لن تلتقي بالدموقراطية في أي مكان. فمديرك في العمل، لن يجمع الموظفين ليقترعوا حول إقالتك من الوظيفة، وإذا أقلت فأنت لن تلجأ للاستفتاء بل إلى القضاء والقضاء لن يحتكم إلى الشعب بل إلى القانون، والقانون (في حقيقته غير المزيفة) لم يضعه الشعب بل وضعته القوى المنتصرة في الحرب. فقانون لجنة التفكيك وضعته القوى المحمية ولم يتم وضعه عبر برلمان منتخب. وحتى لو عبر برلمان منتخب فستضعه أغلبية نسبية ستصادر على رأي أقلية، وقد لا يكون الفرق بينهما سوى صوت واحد. (هذا لو تجاهلنا) حقيقة قوى الضغط من اللوبيات والراسماليين المتحالفين مع العسكر. وأنت لن تقابل الدموقراطية في علاقاتك الإجتماعية، ولا حتى في قروبات الواتس أب، ذلك أنك في كل قروب ستتعرض للدكتاتورية أو تمارسها بحسب من يملك هذا القروب، توجهاته وآرائه. إنك لن تقابل الدموقراطية في المستشفيات ولا المدارس ولا المعابد. ولن تطلب من الوزير الذي يتخذ قرارات تضر بمصلحتك أن يقيم استفتاءً جماهيرياً قبل أن يتخذ ذلك القرار. في الواقع أنت ليس فقط -لن تلتقي بالدموقراطية- بل فوق هذا لن تمارسها. أنت ستعجز عن ممارسة الدموقراطية. لأنك إنسان، أي بكل خصائصك البشرية وبأهم غريزة تحدد كل سلوكياتك وهي غريزة البقاء. إنك لن تمارس الدموقراطية عندما توظف عاملاً في مصنعك أو موظفاً في شركتك. إنك لن تمارس الدموقراطية عندما تقرر طرد المستأجر من منزلك. إن كل قراراتك تتخذها أنت بناء على مصلحتك الشخصية جداً، وقد تضحي بمصالح الآخرين عندما تتعارض مصلحتك مع مصلحة غيرك. إنك لن تختار الدموقراطية عندما ينعدم الخبز، بل ستقاتل لكي تحصل على الخبز قبل الآخرين، كما حدث إثر كورونا حتى في أمريكا والجماهير تهاجم المحال التجارية خوفاً من الجوع. إنك لن تمارس الدموقراطية لكي تشرب زجاجة الماء الوحيدة التي وجدتها في الصحراء عندما ضعت فيها مع مجموعة من البشر. إن الدموقراطية في الواقع صنيعة أخلاقية زائفة. ولذلك فهي لا يمكن أن تكون نظاماً للحكم، إلا تحت حماية دكتاتورية قمعية، وهي حماية المؤسسات. وهي المؤسسات المختلقة التي تعمل على ضبطك نفسيا وعقلياً، وكما قال ميشيل فوكو: (تأديب عقلك لا تأديب جسدك). والتأديب هنا، يعني ترويضك وتطويعك. ولكنه ترويض صناعي زائف، سينهار أمام أول تجربة حياة أو موت حقيقية؛ أي تجربة تحفز غريزة البقاء عندك. (كما في رواية العمى عن جوزيه ساراماغو). تبدو الدكتاتورية أو حكم الفرد، أقرب إلى الطبيعة الإنسانية. بل أن التاريخ برمته (منذ ظهور الإنسان العاقل) وحتى اليوم، يؤكد أصالة إلتصاق الدكتاتورية بالطبيعة البشرية.
لكن من ذا الذي يمكن أن يقول هذا؟.
ها نحن نمرق من سنتين وأكثر، منذ سقوط نظام دكتاتوري، مع ذلك، فنحن دخلنا إلى نظام دكتاتوري آخر، تحت حماية قواعد عسكرية أمريكية في بورتسودان وكادقلي، وأموال إماراتية. ومجموعة قليلة تشير إلى وجهك بسبابتها وتقول لك: (من ليس معنا فلن يحكم). إنها دكتاتورية أصيلة تتدثر بكلمات رنانة (كالثورة، والشهداء، والمدنية). لكنها في الواقع امتداد دكتاتوري للماضي. لا أكثر ولا أقل. وهذا ليس شيئاً غريباً، فكما أسلفت، ليست الدموقراطية سوى كلمة مصطنعة أحيطت بقداسة ورابط أخلاقي. غير أن الصراع يظل هو هو. هناك فقط أشخاص يصلون إلى السلطة واشخاص يمرقون منها عبر هذا الصراع. المنتصر يعلن نفسه ملاكاً، ويُعلن المنهزم شيطاناً، ويلغي قانون المنهزم ليضع قانونه كمنتصر. وليس للدموقراطية أي حضور في كل هذه اللعبة.
فلنتتبع كل التاريخ الممكن تتبعه، في كل الحضارات وكل الدول والأمم والشعوب. إن هذا التاريخ لم يكن للدموقراطية أبداً أي حضور فيه. كانت الدموقراطية هي دموقراطية المنتصر، الذي يعلن دوماً أنه جاء على صيحات الشعب الثائر. إنه دوماً المعبر عن رأي الشعب، وعلينا دائماً أن نصدق ما يقوله المنتصر، لأنه المنتصر، وليس لأن الدموقراطية تسمح لنا بأن نصدق. فلنلاحظ الوسائط الرقمية، والصراع فيها، والأخبار والمقالات الزائفة والإشاعات، والهجوم والهجوم المضاد، هذا ليس من أجل الحقيقة، بل من أجل خلق بيئة مواتية للإنتصار. لا يوجد هنا إقناع عقلي منطقي، بل عنف لفظي، وسلطة قمعية، تحاول إخجالك حتى لا تقاوم. إن هذا أسوأ من العنف الجسدي. إن سلطة المؤسسات أخطر من سلطة العسكر. وهذا ما تمارسه الدول الإمبريالية كأمريكا على الشعوب الفقيرة. إنها تصنع منظماتها الإنسانية، والنسوية، والدينية، والعلمانية، والسياسية، والصحية، والتعليمية، والإعلامية، والثقافية، إنها تحاصرك في كل مكان ومن كل مكان. لكي تجعلك دائماً خجلاً من أن تفكر بنفسك وبعيداً عن كل ذلك الضغط السلطوي. إن المدارس والجامعات بدورها هي سلطة المنتصر، لا تختلف عن القانون، فكما أراد القراي حذف القرآن ووضع مناهج تتفق ومفاهيم المنتصرين، كان الإسلاميون قد استخدموا ذات الوسيلة في تعزيز انتصارهم. إنه صراعي لا أخلاقي من كل الوجوه، ولكن المنتصر هو من يفرض عليك أن تصدق بأن قيمه هي الوحيدة التي تمتلك الحقيقة الأخلاقية المطلقة.
إنه صراع لا ينتهي، صراع يحتاج لنَفَس طويل جداً. تماما كما فعلت البرجوازية عقب الثورة الصناعية، حين بدأت بتقليم أظافر الإقطاعيين أول شيء بإلغاء العبودية (التي كانت تمثل ثروة الإقطاعيين الأساسية). لقد استمر البرجوازيون الأمريكيون (وهم امتداد البرجوازية البريطانية) يهيئون المجتمع الأمريكي لمدة لا تقل عن مائة عام قبل أن ينتصروا في الحرب الأهلية، التي اختلقوها اختلاقاً لكي ينسفوا ما تبقى من الإقطاعيات الجنوبية. فهي حرب ليست سهلة، ولا تنشب هكذا فجأة. إنها في الواقع حروب ضروس، تحتاج لعمل شاق وطويل. ولن تكون الدموقراطية -بأي حال من الأحوال- هي ما سيحسمها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى