- ترافع الوكيل (سارلتون) ممثل الاتهام أمام القضاة فقال:
ـ يا أيها القضاة:
إن المنَاحة العامة والحزن العظيم الذي نحن مشمولون بهما الآن، يُخبران بعِظم الخُسران الذي حصل الآن بعسكرنا، ذلك أن ساري عسكرنا وهو في غمرة انتصاراته ومَماجده ارتفع بَغتة من بيننا، بحديد قاتل رذيل، ومن يد مُستأجَره من كبراء ذوي الخيانة والغيرة الخبيثة.
والآن أنا مُعيَّن ومأمور لاستدعاء الانتقام للمقتول من القاتل وشركائه وذلك بموجب الشريعة، لكن دعوني ولو لحظة لأخلط فيض دموع عينيَّ وحسَراتي بدموعكم ولوعاتكم، التي سبَّبها هذا المفدَّى الأسيف والمكرَّم المنيف، فقلبي احتسب اهتياجًا لتأدية تلك الجزية لمستحقها، فوظيفتي كأنها ليست في الرؤية إلا ألمًا بتغريق المهيب بماء هذه الصنيعة الشنيعة التي ارتُكبت.
سمِعتم الآن فحص المتهمين وباقي المكتوبات عما جرى منهم، وقط ما ظهر سيئة أظهر من هذه السيئة التي أنتم محاكمون فيها من صفة الغدارين ببيان الشهود وإقرار القاتل وشركائه.
إني وأنا أروي لكم سرعة الأعمال، أجاهد نفسي إن ظفرتُ لمنع غضبي منهم، فلتعلم بلاد الروم والدنيا بأكملها، أن الوزير الأعظم للسلطنة العثمانية ورؤساء جنود عسكرها ذلوا أنفسهم حتى أرسلوا قاتل معدوم العِرض إلى الجريء والأنجب كليبر، الذي ما استطاعوا قهره.
تذكروا هذه الجملة، تلك الدولة العثمانية المحاربة من اسلامبول ومن أقاصي أرض الروم والأناضول، وصلوا منذ ثلاثة شهور بواسطة الوزير لتسخير بر مصر والشام لقتل عموم الفرنساوية، لانتقامهم لقتل عسكرهم واستخدموا لذلك أغا مغضوبا عليه، ارتضى هذا الصنع الشنيع وهو المغوي أحمد أغا المحبوس بغزة منذ أن ذهب إلى العريش والقدس بعد انهزام الوزير.
أما سليمان الحلبي فهو شاب مجنون وعمره أربعة وعشرون سنة وقد كان بلا ريب متدنس بالخطايا عند هذا الأغا يوم وصوله إلى القدس ويترجى صيانته لحراسة أبيه التاجر بحلب من أذى إبراهيم باشا والي حلب ولما علم أنه يعمل بجامع بين قرَّاء القرآن، وأن العتَه النُّسكي منصوب في أعلى رأسه المضطرب، وجَّهه إلى الجهاد وقتل غير المؤمنين، وأقنعه أن هذا هو الإيمان تحت زعم الجهاد، وأنه هذا هو الجهاد.
ومنذ ذلك التاريخ، لم يتردد أحمد أغا في بيان ما انتوى عليه فوعده بحمايته، وأرسله إلى ياسين أغا ضابط مقدار من جيوش الوزير بغزة، وبعثه بعد أيام لمعاملته وإعطائه الدراهم اللازمة له.
وقد امتلأ سليمان من خيانته، وسلك الطرق فمكث واحد وعشرين يوما في بلد الخليل ينتظر قبيلة ذاهبة إلى البادية، فوصل غزة وأسكنه ياسين أغا في الجامع، وأخذ يقابله مرارا وتكررا، ويُعلمه لمدة عشرة أيام، بعدما أعطاه أربعين قرشا ليتهيأ لما هو مبعوث من أجله، وأركبه هجين ليصل إلى مصر التي سكنها من قبل ثلاث سنين وهو يحمل خنجرا، فوصل بعد ستة أيام وسكن بالجامع الكبير ويستعد للقتل الذي أرسل من أجله.
وقد أخبر سليمان المشايخ الذين يسكنون معه وهم معه من المتآمرين محمد الغزي، وأحمد الوالي، وعبد الله الغزي، وعبد القادر الغزي، الذين يقرأون القرآن مثله، ولم يمنعوه وداوموا سكوتهم، واشتركوا معه في قُبحه وانتظر واحد وثلاثون يوما بمصر.
وفي يوم الحادث أخبر شركائه بسرِّه، ثم توجه من مصر إلى الجيزة وطوى الطريق ولاحَق المجني عليه والحراس يطردونه أكثر من مرَّة، حتى دخل الجنينة وتظاهر بتقبيل يد ساري عسكر كليبر، ولما ترك له يده ضربه سليمان بخنجره عدة ضربات، ثم ضرب بروتاين رئيس المعمار فسقط على الأرض جريحًا هو الآخر على يد قاتل ساري عام العسكر، الذي كان من الأماجد في الحرب، والمخُاطر في الغزو، وأول مَن مضوا برياسة عسكر دولة الجمهور الفرنساوي، وفتح بَر مصر ليقيها سُحب العثمانية.
إنني أضم وجَعي العميق إلى دموع الأجناد، إلى لوعات الرؤساء وأنتم جميعا تنعوه.
إن ثياب القاتل سُليمان، والدم الظاهر في خنجره، واضطرابه ووحشة وجهه وحاله، كشف عن جُرمه، كما أقر بذنبه بلسانه، وسَمَّى شركائه، الذين كانوا يُخفون سرَّه، ولو أرادوا منعه لمنعوه، ولكنهم كاذبون وكانوا يتمنون هلاك القتيل، وأعتقد أنه يليق أن تضعوا لهم من العذاب المهيب الذي يتناسب مع عَظمة الإثم، لقد قَتل سليمان وهو مستريح البال، ينظر إلى ثمار فِعلته على أنها التقوى.
- طلب الحكم بالخوزقة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإن سألتموني أجيب:
أولا: سليمان الحلبي تُحرق يده اليمنى، ويُوضع فوق الخازوق حتى يموت وتبقى جيفته حتى يأكل الطير منها، ليعلم الوزير والعثملية الظالمين جزاء الآثمين.
ثانيا: الثلاثة مشايخ محمد الغزي وعبد الله الغزي وأحمد الغزي فتقطع رؤوسهم.
ثالثا: الشيخ عبد القادر الغزي يعاقب بذات العذاب.
رابعا: يكون عذابهم بحضور المجتمعين لدفن ساري عسكر كليبر وأهل البلد.
خامسا: مصطفى أفندي ليس مدينا.
- تنفيذ الحكم:
ــــــــــــــــــــ
لما وصلت الجنازة تل العقاب حيث سيدفن كليبر، كانوا قد أحضروا سليمان الحلبي والمتهمين الثلاثة الآخرين.
تقدَّم محافظ القاهرة اليوناني "بارتليمي" وقطّع رؤوس طُلاَّب الأزهر الثلاثة بسيفه، وتمَّ رفعها فوق نبابيت غُرسَت في الأرض، ووُضعت أجسامهم تحت كومة كبيرة من الحَطب وأُضرمت فيها النيران.
ثم تقدَّم إلى سليمان الحلبي ووضع يده اليُمنى في كمية كبيرة من الفحم المشتعل، وبعد حرق يده اليُمنى، قام بارتليمي بعملية الخوزقة فأحضروا خازوق مُدبَّب من الحديد، ثم بدأ إدخاله في شرَج سليمان الحلبي بالدَّق بمطرقة، ثم رُفع الخازوق وعليه سليمان، ثم غُرس في الأرض وبَقي عدة أيام حتى تنهشه الطيور الجوارح.
ولما انتهى تنفيذ الحكم، ساروا بالجنازة إلى أن وصلوا باب قصر العيني، فرفعوا الصندوق ووضعوه على علوة من التراب بوسط تخشيبة صنعوها وأعدوها لذلك، وأقاموا من حولها درابزين وفوقه كساء أبيض وزرعوا حوله أعواد السَّرْو، وعيَّنوا عليها الحراسة حيث وقف عند بابها شخصان من العسكر ـ ملازمان ـ ببنادقهما ليلا ونهارا يتناوبان الملازمة على الدوام.
ـ(*) كانت المحاكمة في 17 يونيو سنة 1800 في اليوم الثالث لاغتيال كليبر وتنفيذ الحكم في اليوم التالي. .
ـ يا أيها القضاة:
إن المنَاحة العامة والحزن العظيم الذي نحن مشمولون بهما الآن، يُخبران بعِظم الخُسران الذي حصل الآن بعسكرنا، ذلك أن ساري عسكرنا وهو في غمرة انتصاراته ومَماجده ارتفع بَغتة من بيننا، بحديد قاتل رذيل، ومن يد مُستأجَره من كبراء ذوي الخيانة والغيرة الخبيثة.
والآن أنا مُعيَّن ومأمور لاستدعاء الانتقام للمقتول من القاتل وشركائه وذلك بموجب الشريعة، لكن دعوني ولو لحظة لأخلط فيض دموع عينيَّ وحسَراتي بدموعكم ولوعاتكم، التي سبَّبها هذا المفدَّى الأسيف والمكرَّم المنيف، فقلبي احتسب اهتياجًا لتأدية تلك الجزية لمستحقها، فوظيفتي كأنها ليست في الرؤية إلا ألمًا بتغريق المهيب بماء هذه الصنيعة الشنيعة التي ارتُكبت.
سمِعتم الآن فحص المتهمين وباقي المكتوبات عما جرى منهم، وقط ما ظهر سيئة أظهر من هذه السيئة التي أنتم محاكمون فيها من صفة الغدارين ببيان الشهود وإقرار القاتل وشركائه.
إني وأنا أروي لكم سرعة الأعمال، أجاهد نفسي إن ظفرتُ لمنع غضبي منهم، فلتعلم بلاد الروم والدنيا بأكملها، أن الوزير الأعظم للسلطنة العثمانية ورؤساء جنود عسكرها ذلوا أنفسهم حتى أرسلوا قاتل معدوم العِرض إلى الجريء والأنجب كليبر، الذي ما استطاعوا قهره.
تذكروا هذه الجملة، تلك الدولة العثمانية المحاربة من اسلامبول ومن أقاصي أرض الروم والأناضول، وصلوا منذ ثلاثة شهور بواسطة الوزير لتسخير بر مصر والشام لقتل عموم الفرنساوية، لانتقامهم لقتل عسكرهم واستخدموا لذلك أغا مغضوبا عليه، ارتضى هذا الصنع الشنيع وهو المغوي أحمد أغا المحبوس بغزة منذ أن ذهب إلى العريش والقدس بعد انهزام الوزير.
أما سليمان الحلبي فهو شاب مجنون وعمره أربعة وعشرون سنة وقد كان بلا ريب متدنس بالخطايا عند هذا الأغا يوم وصوله إلى القدس ويترجى صيانته لحراسة أبيه التاجر بحلب من أذى إبراهيم باشا والي حلب ولما علم أنه يعمل بجامع بين قرَّاء القرآن، وأن العتَه النُّسكي منصوب في أعلى رأسه المضطرب، وجَّهه إلى الجهاد وقتل غير المؤمنين، وأقنعه أن هذا هو الإيمان تحت زعم الجهاد، وأنه هذا هو الجهاد.
ومنذ ذلك التاريخ، لم يتردد أحمد أغا في بيان ما انتوى عليه فوعده بحمايته، وأرسله إلى ياسين أغا ضابط مقدار من جيوش الوزير بغزة، وبعثه بعد أيام لمعاملته وإعطائه الدراهم اللازمة له.
وقد امتلأ سليمان من خيانته، وسلك الطرق فمكث واحد وعشرين يوما في بلد الخليل ينتظر قبيلة ذاهبة إلى البادية، فوصل غزة وأسكنه ياسين أغا في الجامع، وأخذ يقابله مرارا وتكررا، ويُعلمه لمدة عشرة أيام، بعدما أعطاه أربعين قرشا ليتهيأ لما هو مبعوث من أجله، وأركبه هجين ليصل إلى مصر التي سكنها من قبل ثلاث سنين وهو يحمل خنجرا، فوصل بعد ستة أيام وسكن بالجامع الكبير ويستعد للقتل الذي أرسل من أجله.
وقد أخبر سليمان المشايخ الذين يسكنون معه وهم معه من المتآمرين محمد الغزي، وأحمد الوالي، وعبد الله الغزي، وعبد القادر الغزي، الذين يقرأون القرآن مثله، ولم يمنعوه وداوموا سكوتهم، واشتركوا معه في قُبحه وانتظر واحد وثلاثون يوما بمصر.
وفي يوم الحادث أخبر شركائه بسرِّه، ثم توجه من مصر إلى الجيزة وطوى الطريق ولاحَق المجني عليه والحراس يطردونه أكثر من مرَّة، حتى دخل الجنينة وتظاهر بتقبيل يد ساري عسكر كليبر، ولما ترك له يده ضربه سليمان بخنجره عدة ضربات، ثم ضرب بروتاين رئيس المعمار فسقط على الأرض جريحًا هو الآخر على يد قاتل ساري عام العسكر، الذي كان من الأماجد في الحرب، والمخُاطر في الغزو، وأول مَن مضوا برياسة عسكر دولة الجمهور الفرنساوي، وفتح بَر مصر ليقيها سُحب العثمانية.
إنني أضم وجَعي العميق إلى دموع الأجناد، إلى لوعات الرؤساء وأنتم جميعا تنعوه.
إن ثياب القاتل سُليمان، والدم الظاهر في خنجره، واضطرابه ووحشة وجهه وحاله، كشف عن جُرمه، كما أقر بذنبه بلسانه، وسَمَّى شركائه، الذين كانوا يُخفون سرَّه، ولو أرادوا منعه لمنعوه، ولكنهم كاذبون وكانوا يتمنون هلاك القتيل، وأعتقد أنه يليق أن تضعوا لهم من العذاب المهيب الذي يتناسب مع عَظمة الإثم، لقد قَتل سليمان وهو مستريح البال، ينظر إلى ثمار فِعلته على أنها التقوى.
- طلب الحكم بالخوزقة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإن سألتموني أجيب:
أولا: سليمان الحلبي تُحرق يده اليمنى، ويُوضع فوق الخازوق حتى يموت وتبقى جيفته حتى يأكل الطير منها، ليعلم الوزير والعثملية الظالمين جزاء الآثمين.
ثانيا: الثلاثة مشايخ محمد الغزي وعبد الله الغزي وأحمد الغزي فتقطع رؤوسهم.
ثالثا: الشيخ عبد القادر الغزي يعاقب بذات العذاب.
رابعا: يكون عذابهم بحضور المجتمعين لدفن ساري عسكر كليبر وأهل البلد.
خامسا: مصطفى أفندي ليس مدينا.
- تنفيذ الحكم:
ــــــــــــــــــــ
لما وصلت الجنازة تل العقاب حيث سيدفن كليبر، كانوا قد أحضروا سليمان الحلبي والمتهمين الثلاثة الآخرين.
تقدَّم محافظ القاهرة اليوناني "بارتليمي" وقطّع رؤوس طُلاَّب الأزهر الثلاثة بسيفه، وتمَّ رفعها فوق نبابيت غُرسَت في الأرض، ووُضعت أجسامهم تحت كومة كبيرة من الحَطب وأُضرمت فيها النيران.
ثم تقدَّم إلى سليمان الحلبي ووضع يده اليُمنى في كمية كبيرة من الفحم المشتعل، وبعد حرق يده اليُمنى، قام بارتليمي بعملية الخوزقة فأحضروا خازوق مُدبَّب من الحديد، ثم بدأ إدخاله في شرَج سليمان الحلبي بالدَّق بمطرقة، ثم رُفع الخازوق وعليه سليمان، ثم غُرس في الأرض وبَقي عدة أيام حتى تنهشه الطيور الجوارح.
ولما انتهى تنفيذ الحكم، ساروا بالجنازة إلى أن وصلوا باب قصر العيني، فرفعوا الصندوق ووضعوه على علوة من التراب بوسط تخشيبة صنعوها وأعدوها لذلك، وأقاموا من حولها درابزين وفوقه كساء أبيض وزرعوا حوله أعواد السَّرْو، وعيَّنوا عليها الحراسة حيث وقف عند بابها شخصان من العسكر ـ ملازمان ـ ببنادقهما ليلا ونهارا يتناوبان الملازمة على الدوام.
ـ(*) كانت المحاكمة في 17 يونيو سنة 1800 في اليوم الثالث لاغتيال كليبر وتنفيذ الحكم في اليوم التالي. .
بهاء المري
بهاء المري is on Facebook. Join Facebook to connect with بهاء المري and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com