ما تسنَّى لفيلسوف غربي حديث النظر في إشكاليات الفكر الفلسفي، مثلما تسنى للفيلسوف الألماني إمانويل كانط (1724 ـ 1805) الذي أمعن في تلك الإشكاليات برؤية نقدية فلسفية / تأسيسية عُدَّت، حتى الآن، مفصلاً ثورياً في تاريخ الفلسفة الحديثة لا أقلّ قيمةً عمّا كرَّسهُ كل من فرنسيس بيكون في مجال دعوته إلى إقامة المعرفة على أُسس تجريبية، ورينيه ديكارت في مجال دعوته إلى إقامة المعرفة على أُسس تأملية مطلع العصر الغربي بوصفهما يمثلان قطبي التجديد الفلسفي الحديث.
مع كانط، كنا قد قرأنا (نقد العقل المحض/ 1781)، ومعه أيضا كنا قد قرأنا (نقد العقل العملي/ 1787)، ونقرأ أيضاً النقد الثالث أو ما أُطلق عليه بـ (نقد مَلَكَة الحُكم/ 1790). إنها ثلاثية فيلسوف عرفَ قيمة النقد، وكالَ للنقد الاحترام والتقدير، وفي الوقت ذاته حفر في قلب النقد بحثاً عن معنىً جديد له، وأعملَ كل قُدراته العقلية والذهنية والفهميَّة والكتابية من أجل بناء نظام فلسفي نقدي ذي طابع تكاملي طال أغلب مباحث الفلسفة المعهودة حتى زمانه.
إن الفلسفة، من منظور كانط، هي النقد، والنقد الكانطي هو الفلسفة بعينها، ومجال الفلسفة في نظره ليس البحث عن حقيقة مُطلقة تقع خارج الذات ينبغي الوصول إلى معرفةٍ متطابقة معها، بل أصبح مجالها البحث في إمكان المعرفة أو شكل هذه المعرفة وقوانين هذا الشكل. والنقد، حسب معطيات كتاب (نقد العقل المحض) ليس نقداً للكتب والأنظمة، بل لقدرة العقل عامة.
وفي ضوء هذه الرؤية للنقد، درس كانط في الكتاب الأول نظرية المعرفة، ودرس في الثاني فلسفة الإرادة، بينما درس في الثالث الفن الجميل. وموضوع دراستنا هنا هو: كيف نظر كانط إلى الفن بوجه عام؟ وما هو الفن الجميل؟ وما هي العبقرية التي وراء هذا الفن الجميل؟ وكيف قسَّم كانط الفنون الجميلة؟.
حفل عصر كانط بجملة من المفاهيم المهيمنة التي كان يتداولها الفلاسفة والعلماء التجريبيون، وكلاهما مثَّل طبقة تشاركت في مهمة خلق وبناء المشهد الفلسفي الجديد في الغرب الحديث، ومن تلك المفاهيم ما دخل في صميم خطاب هؤلاء المشتغلون في المشهد الفكري والفلسفي والعلمي الغربي في ذلك العصر، مثل: الطبيعة، العمل، الفعل، العلم، النقد، وغيرها من المفاهيم. ولما كان كانط قد شرع في بناء رؤية للفن بوجه عام حتى يتمكن من بناء رؤيته الفلسفية الكاملة في الفن، فإنه عمد إلى تخليص مفهوم الفن من جملة ما أُحيط به من غموض والتباس جراء الخلط بين الفن والعلم والطبيعة.
الفن، من منظور كانط، هو نتاج عن "الحرية، أي عن إرادة تضع العقل أساساً لأفعالها". وأي شكل فني لا يعتمد الحرية، وإن بدا فنياً كهيكل النحل الشمعي الذي لا يؤسِّس النحل عمله فيه على إرادة عقل وتفكير حر إنما على طاقة غريزية، فإنهُ لا يمكن اعتباره فناً. ولهذا ميز كانط بين الطبيعة والفن؛ فللطبيعة أشكال جميلة، لكن تلك الأشكال لا تُعتبر فناً شارك الإنسان في عمله وإنتاجه، إنما هي للخالق (الله) الذي أنتجها على نحو جميل ينمُّ عن إرادة حرة. وهنا قال كانط: "أما إذا قلنا عن شيء إنه عملٌ فنيٌ بإطلاق، كي نميِّزه عن عمل الطبيعة، فإن هذا يعني دائماً أنه عمل الإنسان". ولكن هل هناك فن من دون الطبيعة؟
ناقش كانط هذه المسألة بعناية فائقة، والمعروف عن كانط أنه كان يتغنى في كل مساء بالنجوم المتألقة في السماء، كان يعشقها، ويتأمَّل السماء فجر اليوم التالي، ويتأمَّل شروق الشمس، وحركة الغيوم، وانتظامات هطول الأمطار في فصل الشتاء، وهذا يعني أن كانط كان يحس بجمال الطبيعة أيما إحساس، ولم يفكِّر يوماً أنه يمكن له تجاوز نظام الطبيعة الذي يمنحها جمالاً متساوقاً وأخّاذاً. ولهذا، وهو يهمُّ في بناء فلسفته في الفنون الجميلة، ناقش كانط العلاقة بين جمال الطبيعة وجمال الفن الجميل، فقال: "يجب أن نعي أمام ناتج الفن الجميل أنه فنٌ وليس طبيعة، ولا نستطيع وصف الفن بالجميل إلا ونحنُ نعي أنه فنٌ ويظهرُ لنا مع ذلك وكأنه طبيعة. ويجب أن يتخذ الفن مظهر الطبيعة على رغم من أننا على وعي بأننا بإزاء عمل فني". كذلك يميز كانط بين (الفن، بوصفه مهارة إنسانية، والعلم بوصفه القدرة على الفعل عن معرفة كيفية القيام به)، وهذا يعني أن الفنان لا يمكن له أن يعرف عمله بكل مراحله تفصيلياً كما لو كان العمل الفني وصفة جاهزة أمامه ليتبع خطوات إنجازه تالياًَ، في حين أن هذا الفعل ممكن مع العلم، فالمشتغل بالعلم النظري والتجريبي يعرف خطوات بناء نظريته ويعرف خطوات بناء منجزه العلمي/ التجريبي مثل مكائن الإنتاج والأبنية الهندسية وما أشبه، وهذا لا يعني أن الفنان لا يعرف طريقه جيداً أو لا يستطيع أن يرسم خطواته بوضوح، فمن "باب الفن أن نكون على معرفة كاملة بشيء، لكننا لا نملكُ بعدُ المهارة الكافية لصنعه في الحال". أما الفرق بين الفن والصناعة فإن كانط يعتقد "أن الفن يسمى حراً، بينما الصناعة تسمى مهنة أو حرفة مأجورة. ويُنظر إلى الفن على أنه لا يمكن أن يكون غائياً إلاّ إذا كان لَعِبَاً، أي نشاطاً لذيذاً لذاته، أما الصناعة فبما أنها مجهود أو نشاط غير مُمتع في ذاته" فهي مقرونة بالأجرة والغاية المادية.
واضح هنا أن كانط ميز بين الفن والعلم، لكنه عاد وأكَّد مرَّة أخرى على أنه لا يمكن أن نصف الجمال بأنه علم، ولا يمكن أن نصف الفنون الجميلة بأنها علوم، وقال في هذا الصدد: "لا يوجد علم للجميل بل نقدٌ للجميل فقط، ولا يوجد علمٌ جميل بل فنٌ جميل فقط".
لطالما اعتقدَ كانط أن مفهوم الفن هو مفهوم ملتبس بسبب ما تمَّ تحميله من دلالات ومعان وتأويلات خارجة عن طبيعته وحقيقته، فإنه ما فتئ يتوغَّل في البحث عن المعنى الحقيقي للفن ليخلص إلى بناء مفهوم واضح عن الفنون الجميلة. ولهذا نظر كانط كثيراً في مفهوم الفن فوجد أن للفن اتجاهاً ميكانيكياً وآخر جمالياً، كما أن له غاية جمالية وأخرى امتاعية. فإذا لجأ الإنسان إلى صناعة صندوق خشبي وفقاً لخريطة مُعدَّة سلفاً، ووظَّف فيه مهاراته التصنيعية والجمالية لغرض استخدامات شخصية غير جمالية، فإنه اعتمدَ على صناعة شكل لغاية غير استمتاعية ولا لذَّوية راقية. لكنَّه إذا ما أراد أن يصنع صندوقاً خشبياً بمواصفات فنية يعرفها بدايةً لكنه يجهل نهاياتها، بحيث يتركها إلى آنية الفعل الفني، ويهدف من وراء صناعته للصندوق إلى استشعار اللذَّة لدى الآخرين، فإن عمله هذا يعتبر فناً جمالياً أو فناً من الفنون الجميلة. وكانط أيضاً يفرِّق في الفن الجميل بين فن ممتع وفن جميل، الأول يخاطب الإحساس لدى الإنسان، وتكون غايته التأثير الحسي المؤقَّت في الغير، ويكون الإحساس معياره في الحكم. أما الثاني فيخاطب المعرفة لدى الإنسان، وتكون غايته لذاته وإن بدا أنه "يسهم في تثقيف ملكات النفس من أجل التواصل الاجتماعي"، وتكون مَلَكَة الحُكم مقياسه في الحكم والتقييم.
د. رسول محمَّد رسول
مع كانط، كنا قد قرأنا (نقد العقل المحض/ 1781)، ومعه أيضا كنا قد قرأنا (نقد العقل العملي/ 1787)، ونقرأ أيضاً النقد الثالث أو ما أُطلق عليه بـ (نقد مَلَكَة الحُكم/ 1790). إنها ثلاثية فيلسوف عرفَ قيمة النقد، وكالَ للنقد الاحترام والتقدير، وفي الوقت ذاته حفر في قلب النقد بحثاً عن معنىً جديد له، وأعملَ كل قُدراته العقلية والذهنية والفهميَّة والكتابية من أجل بناء نظام فلسفي نقدي ذي طابع تكاملي طال أغلب مباحث الفلسفة المعهودة حتى زمانه.
إن الفلسفة، من منظور كانط، هي النقد، والنقد الكانطي هو الفلسفة بعينها، ومجال الفلسفة في نظره ليس البحث عن حقيقة مُطلقة تقع خارج الذات ينبغي الوصول إلى معرفةٍ متطابقة معها، بل أصبح مجالها البحث في إمكان المعرفة أو شكل هذه المعرفة وقوانين هذا الشكل. والنقد، حسب معطيات كتاب (نقد العقل المحض) ليس نقداً للكتب والأنظمة، بل لقدرة العقل عامة.
وفي ضوء هذه الرؤية للنقد، درس كانط في الكتاب الأول نظرية المعرفة، ودرس في الثاني فلسفة الإرادة، بينما درس في الثالث الفن الجميل. وموضوع دراستنا هنا هو: كيف نظر كانط إلى الفن بوجه عام؟ وما هو الفن الجميل؟ وما هي العبقرية التي وراء هذا الفن الجميل؟ وكيف قسَّم كانط الفنون الجميلة؟.
حفل عصر كانط بجملة من المفاهيم المهيمنة التي كان يتداولها الفلاسفة والعلماء التجريبيون، وكلاهما مثَّل طبقة تشاركت في مهمة خلق وبناء المشهد الفلسفي الجديد في الغرب الحديث، ومن تلك المفاهيم ما دخل في صميم خطاب هؤلاء المشتغلون في المشهد الفكري والفلسفي والعلمي الغربي في ذلك العصر، مثل: الطبيعة، العمل، الفعل، العلم، النقد، وغيرها من المفاهيم. ولما كان كانط قد شرع في بناء رؤية للفن بوجه عام حتى يتمكن من بناء رؤيته الفلسفية الكاملة في الفن، فإنه عمد إلى تخليص مفهوم الفن من جملة ما أُحيط به من غموض والتباس جراء الخلط بين الفن والعلم والطبيعة.
الفن، من منظور كانط، هو نتاج عن "الحرية، أي عن إرادة تضع العقل أساساً لأفعالها". وأي شكل فني لا يعتمد الحرية، وإن بدا فنياً كهيكل النحل الشمعي الذي لا يؤسِّس النحل عمله فيه على إرادة عقل وتفكير حر إنما على طاقة غريزية، فإنهُ لا يمكن اعتباره فناً. ولهذا ميز كانط بين الطبيعة والفن؛ فللطبيعة أشكال جميلة، لكن تلك الأشكال لا تُعتبر فناً شارك الإنسان في عمله وإنتاجه، إنما هي للخالق (الله) الذي أنتجها على نحو جميل ينمُّ عن إرادة حرة. وهنا قال كانط: "أما إذا قلنا عن شيء إنه عملٌ فنيٌ بإطلاق، كي نميِّزه عن عمل الطبيعة، فإن هذا يعني دائماً أنه عمل الإنسان". ولكن هل هناك فن من دون الطبيعة؟
ناقش كانط هذه المسألة بعناية فائقة، والمعروف عن كانط أنه كان يتغنى في كل مساء بالنجوم المتألقة في السماء، كان يعشقها، ويتأمَّل السماء فجر اليوم التالي، ويتأمَّل شروق الشمس، وحركة الغيوم، وانتظامات هطول الأمطار في فصل الشتاء، وهذا يعني أن كانط كان يحس بجمال الطبيعة أيما إحساس، ولم يفكِّر يوماً أنه يمكن له تجاوز نظام الطبيعة الذي يمنحها جمالاً متساوقاً وأخّاذاً. ولهذا، وهو يهمُّ في بناء فلسفته في الفنون الجميلة، ناقش كانط العلاقة بين جمال الطبيعة وجمال الفن الجميل، فقال: "يجب أن نعي أمام ناتج الفن الجميل أنه فنٌ وليس طبيعة، ولا نستطيع وصف الفن بالجميل إلا ونحنُ نعي أنه فنٌ ويظهرُ لنا مع ذلك وكأنه طبيعة. ويجب أن يتخذ الفن مظهر الطبيعة على رغم من أننا على وعي بأننا بإزاء عمل فني". كذلك يميز كانط بين (الفن، بوصفه مهارة إنسانية، والعلم بوصفه القدرة على الفعل عن معرفة كيفية القيام به)، وهذا يعني أن الفنان لا يمكن له أن يعرف عمله بكل مراحله تفصيلياً كما لو كان العمل الفني وصفة جاهزة أمامه ليتبع خطوات إنجازه تالياًَ، في حين أن هذا الفعل ممكن مع العلم، فالمشتغل بالعلم النظري والتجريبي يعرف خطوات بناء نظريته ويعرف خطوات بناء منجزه العلمي/ التجريبي مثل مكائن الإنتاج والأبنية الهندسية وما أشبه، وهذا لا يعني أن الفنان لا يعرف طريقه جيداً أو لا يستطيع أن يرسم خطواته بوضوح، فمن "باب الفن أن نكون على معرفة كاملة بشيء، لكننا لا نملكُ بعدُ المهارة الكافية لصنعه في الحال". أما الفرق بين الفن والصناعة فإن كانط يعتقد "أن الفن يسمى حراً، بينما الصناعة تسمى مهنة أو حرفة مأجورة. ويُنظر إلى الفن على أنه لا يمكن أن يكون غائياً إلاّ إذا كان لَعِبَاً، أي نشاطاً لذيذاً لذاته، أما الصناعة فبما أنها مجهود أو نشاط غير مُمتع في ذاته" فهي مقرونة بالأجرة والغاية المادية.
واضح هنا أن كانط ميز بين الفن والعلم، لكنه عاد وأكَّد مرَّة أخرى على أنه لا يمكن أن نصف الجمال بأنه علم، ولا يمكن أن نصف الفنون الجميلة بأنها علوم، وقال في هذا الصدد: "لا يوجد علم للجميل بل نقدٌ للجميل فقط، ولا يوجد علمٌ جميل بل فنٌ جميل فقط".
لطالما اعتقدَ كانط أن مفهوم الفن هو مفهوم ملتبس بسبب ما تمَّ تحميله من دلالات ومعان وتأويلات خارجة عن طبيعته وحقيقته، فإنه ما فتئ يتوغَّل في البحث عن المعنى الحقيقي للفن ليخلص إلى بناء مفهوم واضح عن الفنون الجميلة. ولهذا نظر كانط كثيراً في مفهوم الفن فوجد أن للفن اتجاهاً ميكانيكياً وآخر جمالياً، كما أن له غاية جمالية وأخرى امتاعية. فإذا لجأ الإنسان إلى صناعة صندوق خشبي وفقاً لخريطة مُعدَّة سلفاً، ووظَّف فيه مهاراته التصنيعية والجمالية لغرض استخدامات شخصية غير جمالية، فإنه اعتمدَ على صناعة شكل لغاية غير استمتاعية ولا لذَّوية راقية. لكنَّه إذا ما أراد أن يصنع صندوقاً خشبياً بمواصفات فنية يعرفها بدايةً لكنه يجهل نهاياتها، بحيث يتركها إلى آنية الفعل الفني، ويهدف من وراء صناعته للصندوق إلى استشعار اللذَّة لدى الآخرين، فإن عمله هذا يعتبر فناً جمالياً أو فناً من الفنون الجميلة. وكانط أيضاً يفرِّق في الفن الجميل بين فن ممتع وفن جميل، الأول يخاطب الإحساس لدى الإنسان، وتكون غايته التأثير الحسي المؤقَّت في الغير، ويكون الإحساس معياره في الحكم. أما الثاني فيخاطب المعرفة لدى الإنسان، وتكون غايته لذاته وإن بدا أنه "يسهم في تثقيف ملكات النفس من أجل التواصل الاجتماعي"، وتكون مَلَكَة الحُكم مقياسه في الحكم والتقييم.
د. رسول محمَّد رسول
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com