هذه هي المجموعة القصصية الأولى للكاتبة هبة سالم التي صدرت عن دار " كتبنا " في ( 152 ) صفحة من القطع المتوسط في غلاف ( 4 ) لون معبر وأنيق.
وتشي المجموعة التي تضم ( 21 ) قصة بكاتبة موهوبة تعي الأصول التي يقف عليها العمل القصصي دون عثرات، وتثير فيها العديد من القضايا والأفكارولجأت إلى حيل وتقنيات فنية سنتناول بعضها في هذه القراءة.
1 - من القضايا الموضوعية :
1 – المرأة وهمومها وأفراحها، وأحلامها وانكساراتها وتطلعاتها.
2 – الاقتراب الحميم من قضايا الطفل وعالمه.
3 – الإهتمام بقضايا الوطن والأمة.
4 – الحضور الطاغي للثقافة والأدب وهموم المثقفين والأدباء.
5 – كسر سياج الصمت حول بعض الهامشيين.
6 – النظرة الموضوعية إلى الرجل.
2 - ومن القضايا الفنية :
بعيدا عن الخصائص الفنية للقصة، سنتناول :
1 - استخدام الكاتبة للرمز كوسيلة لا غاية استخداما فنيا راقيا.
2 – محاولة الكاتبة بناء أسطورتها الخاصة.
3 – الاستفادة من تجارب العبث والفنتازيا.
4 – الغرام بالوصف.
5 – استرفاد شخصيات أدبية وفنية وشخصيات روائية.
.....
العنوان :
بداية كنت أتمنى أن تختار الكاتبة " الأديبة والملك حظريوس " عنوانا لمجموعتها القصصية بدلا من العنوان " ما تبقى من أنوثتها "، فالعنوان الذي اختارته كاشف ويكاد يحصر المتلقي في هموم المرأة ومشاكلها وقضاياها، ويذكرنا أيضا بعناوين بعض الروايات التي تكشف نفسها للقارئ من خلال العنوان.
وقبل أن أقدم مبرراتي الفنية والموضوعية للعنوان الذي اقترحته، سأتناول قصة " الأديبة والملك حظريوس " في قراءة سريعة :
الأديبة .. والملك حظريوس :
أعتبر هذه القصة للكاتبة هبة سالم قصة مثال ونموذج للقصة القصيرة من الناحية الفنية، فكل كلمة في مكانها، بل كل حرف، ونقطة، وعلامة استفهام، وعلامة تعجب، وعلامة ترقيم، وكأن الكاتبة تزن حروفها وكلماتها بميزان الذهب.
ولم تستخدم الكاتبة اللغة المباشرة ولا اللغة المجانية، فهي تومئ ولا تصرح، لغتها أقرب إلى الهمس منه إلى الزعيق، وتغلف الموضوع / الخطاب القصصي، بغلالة من الرمز الشفيف غير المستغلق تماما على المتلقي.
وبداية القصة بداية قوية، فهي تؤطر للعنوان، الملك حظ / ريوس، هذا الملك الذي يتمنى الجميع أن يصادفونه ليحقق لهم الأحلام والأمنيات!.
والكاتبة تصنع أسطورة للملك حظ / ريوس، وتحاول أن تأسطر هذا الملك قائلة :
( يصيح كصياح الديكة ولكنه ليس ديكا، يطير ولا يُرى، ويخرج كالدخان من جوف الأرض .. ).
في أقل من عشرة كلمات في ثلاثة جمل، أقامت الكاتبة هبة سالم أسطورة للملك حظ / ريوس، وهي لا تلجأ إلى أسطورة تراثية أو شعبية، ولكنها تصنع هي أسطورته، وتضع القارئ في أجواء أسطورية، ويتهيأ نفسيا وعقليا ووجدانيا لهذه الأجواء الأسطورية التي لا يحكمها عقل أو منطق، والقارئ يتهيأ تماما ليقيس بمقاييس اللاعقل واللا منطق واللا زمان واللامكان. ويشتعل خياله.
فالملك حظ / ريوس :
( يظهر في أول الشهر العربي مرة واحدة في العام .. لا نعلم في أي شهر يظهر .. ).
وتتحول الكاتبة ببراعة من الأسطورة إلى الواقع، ومن الخرافة والوهم إلى الحقيقة، حقيقة المرأة التي تعشق الحرف، وتكتب القصة، وتحلم بالذيوع والانتشار، والوصول إلى العالمية، وتكون في دائرة الضوء، ويُشار لها بالبنان.
هل هذا الحلم يمكن أن يتحقق لهذه المرأة حتى لو صادفت الملك حظ / ريوس؟ ..فالحلم جاء للمرأة في لحظة استثنائية، لحظة تصفو فيها النفس، وتتألق الروح، وهذه الحالة الاستثنائية تذكرنا بحالة الصوفي، حيث الزمن غير الزمن، والمكان غير المكان.
( صادفته في يوم ليس كالأيام .. كانت صافية بما يكفي عندما غسلت ما بها بدموع غزيرة، وهي وحيدة بين أدراج الزمن ).
هكذا تعبر الكاتبة بكلمات قليلة، ولكنها مشحونة بانفعالات بطلة النص الأديبة الحالمة بالشهرة، ومعبرة عن حالتها الاستثنائية في اللازمان واللامكان.
ولغة هبة سالم لغة مراوغة، هي لغة فن القصة، والمعنى أيضا مراوغ، يحاول المتلقي أن يقبض عليه من خلف هذه اللغة المراوغة، المعنى زئبقي مخاتل ومراوغ، بل مثل ساعة البندول المتأرجحة، لا تستطيع أن تقبض عليه كل القبض، وهذه المراوغة الجميلة في المعنى أو في الوصول إلى الأمثولة التي تقولها القصة، تمنح المتلقي فضاءات واسعة للتخيل، بل تدفعه إلى إعادة القراءة مرة بعد مرة، وفي كل مرة تبوح القصة بسر جديد، فالقصة الجيدة لا تبوح بأسرارها مرة واحدة، ولا تمنح نفسها للمتلقي من القراءة الأولى، ومثل هذه القصة تعيش أزمانا كثيرة، والكاتبة جعلت المتلقي يعيد انتاج النص وكل ينتج النص وفقا لثقافته ومستوى تعليمه وذائقته الأدبية، هذه النصوص تجعل المتلقي شريكا في انتاج النص كما يقول " رولان بارت ".
والكاتبة تسعى لأسطرة الواقع، واقع المرأة الصعيدية، التي تحاول بإرادة حديدية أن تتجاوز هذا الواقع، لتؤكد أن الصعيد بتراكماته الثقافية وعاداته وتقاليده لا يستطيع أن يقهر المرأة، المرأة التي تطمح أن تكون كاتبة، ولكن هذه الكاتبة توزع حظوظها التي منحها إياها الملك حظ / ريوس، على أبنائها وزوجها، لتسعدهم، وبدلا من أن تؤثر نفسها بهذه الحظوظ آثرت الزوج والأبناء، وهذا هو حال المرأة المصرية عموما، التي تعطي بلا حدود، وتبذل كل غال ونفيس في سبيل أولادها وزوجها، وهذه المرأة الرائعة يدركها الموت قبل أن تضع النهاية للقصة التي تكتبها، وفي عدم كتابة النهاية فضاءات واسعة للتأويل، وتبقى هذه القصة بلغتها المقطرة، والمصفاة، من أجمل القصص التي قرأتها.
....
المرأة حاضرة وبقوة في قصة " الأديبة والملك حظريوس "، وهي بطلة النص، وأديبة، ورسالة قصتي ماتبقي من أنوثتها ( 1 ) و ( 2 ) تحملها المرأة الأديبة في هذه القصة، ومعظم قصص المجموعة من الناحية الموضوعية تدور في فلكها وكل قصة من قصص المجموعة أخذت منها نصيب، وبعيدا عن الناحية الموضوعية، فالقصة تعبر فنيا عن الكاتبة أجمل تعبير، سواء في محاولة بناء اسطورتها الخاصة أو استخدام الرمز كوسيلة فنية والعديد من التقنيات الفنية الأخرى التي سنتناولها لاحقا وبذورها مبثوثة بطريقة أو بأخرى في هذه القصة.
إذن موضوعيا وفنيا أرى أن هذه القصة كانت الأجدر بأن تأخذ المجموعة عنوانها.
.....
صورة المرأة :
ناقشت الكاتبة هموم المرأة ومشاكلها، أحلامها وتطلعاتها، وانكساراتها، ورأينا في قصصها المرأة المتعلمة والمثقفة والمرأة التي لم تنل حظا من التعليم، والمرأة الحبيبة والمرأة الزوجة، والمطلقة، والمرأة كزوجة أخرى، والمخادعة، والمأزومة نفسيا، و .. و ... والمرأة عموما عند الكاتبة وفي معظم حالاتها إيجابية وفاعلة.
1 - في قصة " ترنيمة " المرأة التي تقف إلى جانب زوجها الطبيب، وعندما يذيع صيته ويصبح من اشهر الأطباء ومن أثرى الأثرياء، تزوغ عينه ويتزوج من ممرضته، فتسوء حالتها النفسية، ولكنها سرعان ما تخرج من حالة الاكتئاب والحزن، وتعود إلى الدراسة التي تركتها من أجله، وتحصل على الدكتوراه في الاقتصاد، وتسافر إلى معظم دول العالم لحضور الندوات والمؤتمرات، وتصير أكثر شهرة وأكثر مالا، ولا تجد غضاضة من ممارسة حقها في الزواج من آخر، لتبدأ الحياة من جديد وبشكل مختلف.
2 - المرأة الأربعينية في قصة " ما تبقى من أنوثتها ( 2 ) " والتي لم تنجب، فتختار لزوجها عروس صغيرة لتنجب له، ( تمنحه شقة تمتلكها – تمنحه عفشا من عفش عرسها ) .. ( تمنحه دون انتظار الأخذ ) وهكذا تقدم لنا الكاتبة المرأة المعطاءة في أروع صور العطاء حتى لو ( مرت بأوقات تُذبح فيها الروح ).
ومن القصص الجياد أيضا التي تناولت المرأة أيضا:
3 - قصة " وردة لا عطر فيها " وهي قصة كابوسية عن إمرأة تعيش قصة حب مع رجل متزوج.
4 - وقصة " عزف على أوتار الهيام " شاب وفتاة، وكل يقدم وجهة نظره في الحب والحياة.
المرأة الأديبة والمثقفة :
1 - في " الأديبة والملك حظريوس " تقدم أيضا المرأة المعطاءة والتي توزع حظوظها على أولادها وزوجها وحماتها، وتؤثرهم على نفسها.
واهتمت الكاتبة بالأدب والثقافة، وناقشت هموم الأدباء الشبان، وعدم مد يد العون لهم من الدولة.
2 - ففي قصة " أمل مفقود " ترصد انتهازية دور النشر الخاصة، وسرقة الأعمال الأولى للشباب الموهوب ونشرها بأسماء آخرين من المتحققيين والمشهورين!
3 - في قصة " قطعة ثلج " تقدم لنا المرأة المثقفة دارسة الأدب، والتي تكشف خيانة زوجها لها بعد أن قرأت روايته الأولى " روح هائمة في فتاة دمشقية " والتي تصر على الانفصال.
4 - قصة " عزاء في غروب الشمس " بطلتها هي الأخرى أديبة وباحثة.
5 - والمرأة أديبة أيضا في قصة من أروع قصص المجموعة وهي قصة " وعد من الطيب صالح " والتي تتماهى معه ومع أعماله، وتخلق أسطورته.
صورة المرأة الهامشية:
اهتمت الكاتبة أيضا بالمرأة المهمشة، وتحاول كسر سياج الصمت المضروب حولها.
1 - في قصة " السبت " الأم القروية التي تذهب إلى السوق للتسوق، ويؤلمها ألا تعود لأولادها بالسمك، وتعود لهم بأرجل الدجاج!!
2 - وفي قصة " عتبات ألم – عفوا دوامات " الفتاة الفقيرة التي تعاني من الحرمان وتحلم بالزواج والخروج من الغرفة المظلمة، ورغبتها في تحسين أحوالها، وتستخدم الكاتبة فيها أسلوب الصدمات، وأعنف الصدمات التي تلقتها الفتاة هي صدمة اغتصابها على يد اللص الذي ارتدى ثوب الشحاذ حتى تتعاطف معه وما تركه الحادث البشع في داخلها من آلام نفسية مبرحة.
......
صورة الطفل :
قدمت لنا الكاتبة الطفلة في قصة " عندما تعزف البيانولا "، والأطفال الذين يعيشون في دار للأيتام في قصة " عبء مسجون "، والطفلة التي تحبسها أسرتها دون سبب واضح في قصة " إشراقة رحمة "، والتي تشير إلى سجن الطفولة عموما، وتبقى قصة " تحديق الصمت " من أجمل القصص، ورغم كثرة القصص التي تناولت العلاقة بين الطفل وزوجة الأب، ولكن هذه القصة تأتي استثناء، وجديرة بأن تكون القصة النموذج والمثال التي تناولت هذا الموضوع.
فالعنوان " تحديق الصمت " من العناوين التي تثير القارئ، وتجعله يعاود تأمله، ويثير في داخله الأسئلة، ويأتي كصورة شعرية مبهرة ومبتكرة وأظنها غير مسبوقة، التقطتها القاصة ببراعة بفضل خيالها المحلق، والكاتبة تربط الصمت بالظلام وتحاول أن تقيم علاقة بينهما:
" قد يولد الصمت عندما يجن الليل! فيبدأ الصمت مولودا غير محدد المعالم، غير أنه لا يلبث أن تتحدد قسماته بمرور الوقت، يبدو هذا المولود ناضجا كامل التكوين "
وتربط بذكاء شديد ذاك الصمت المولود من رحم الليل، بالصبي الصغير :
" بنظرة واحدة إلى الولد ذي العينين المتسعتين، يفضل الصمت جل وقته، وهو لا يتعدى السنوات الست "
وأزمة الطفل الحقيقية في زوجة الأب :
" ترى زوجة أبيه أن نجم السماء لأقرب إليه منالا مما يدور بخاطره "
وتتعامل الساردة مع الطفل برهافة شديدة، مبرزة معاناته بسبب زوجة أبيه، وقسوتها في التعامل معه، وتقدم لنا الحياة ذاتها من منظور الطفل، وتتحسس ببراعة براءة عالمه الطفولي، وولعه باللعب مع أقرانه، وتأخره عن زوجة أبيه في إلقاء سلة القمامه، وانشغاله عنها بمتابعة أقرانه في ملعب الكرة، وهنا أستدعي قصة " نظرة " ليوسف إدريس، فصبية يوسف إدريس قد انشغلت هي الأخرى عن سيدتها بمتابعة أقرانها أيضا الذين يلعبون في الشارع .. وتتميز قصة هبة سالم بأنها استطاعت أن تجد حلا لأزمة الصبي الذي يعاني من الصمت و " اللجلجة " وعدم قدرته على الكلام بسبب الأزمات التي تسببها له زوجة الأب، فما أن اقترب من الملعب وأندمج في تشجيع فريق من الفريقين حتى بدأ يستعيد قدرته على الكلام، وساعده أحد المتفرجين الأكبر منه على الكلام، وهي لحظة عبقرية تلك التي فجر فيها صديقه الأكبر منه الوعي، لدي الطفل، عندما راحا يتنافسان أو يتباريان في إلقاء الشعر والسجع، وانفرجت أزمة الطفل الذي يعاني من اللجلجة وعدم القدرة على الكلام، وشنف آذاننا بقصيدة، أعتقد أنها أكبر كثيرا من مستوى تفكيره وأكبر من قدراته اللغوية، فقاموس الطفل يظل محدودا، قيقول لصديقه الطويل :
" الظلام حولنا،
يسترنا يخفي عيوننا،
كم تمنينا الظهور،
العلا،
اللمعان في هذا الظلام،
لكننا يئسنا لكسر أقدامنا،
كلما سرنا في طريقنا صدمتنا ربوة،
أفقدتنا جل أمالنا،
استندنا العصا،
وقفنا،
تفرح الربوة،
مالك يا ربوة؟ أتفرحين بكسر أقدامنا؟!
كلا!
فأنا أستوقفكم،
أريد العز،
أريد الرفعة،
أريد الهنا،
ولكن علينا أن نهشم أغلال عقولنا. "
والمبالغة أو التضخيم أو التكبير هنا جاء كتقنية فنية من تقنيات الكتابة استخدمتها القاصة.
ولكن سرعان ما ينتكس الطفل مرة أخرى، فقد تأخر عن زوجة الأب، التي تسعى بحثا عنه وعن السلة، فقد تأخر في إالقاء القمامة.
فجأة تنقض عليه يدان متضخمتان انقضاض نسرعلى فريسته، فتدفعانه حتى انبطح على الأرض تتناثر حوله القمامة "
وتستمر الكاتبه في نسج مشهد عقابه من زوجة الأب بتؤدة وعلى مهل، وتمنحه المساحة الأكبر، فهذا الفعل هو سبب الأزمة، وهو الحدث الأبرز.
" يصرخ، تمسك بقميصه تجره بيد، وتمسك بالأخرى سلة المهملات خاوية، .. "
" يحتضن الصغير الأرض، تجره زوجة أبيه، يستعطفها، ترفعه ثم تهوي به إلى الأرض، يستمر في الصراخ حتى بُحّ صوته فأصبح فح أفعى، .. "
وتنحرف الكاتبة بالقصة انحرافا حادا وخطيرا، فالطفل يستطيع أن يفلت من يد زوجة الأب، ويهرب، ويجري في الشارع.
" وبجريانه تجري الأيام، فالسنون "
وتترك الكاتبة للقارئ تصور مكابداته ومعاناته في رحلة الهروب، وتصر أن تفرض هذه النهاية المأساوية :
" كأيقونات الشطرنج، يترنح الولد على طاولة الحياة محققا ذاته المستقلة على بساط من جثث الأحياء، كتلك التي يجالسها في سجن طُرة، برقمه المميز " مسجون 2020 ".
وإصرار الكاتبة على تلك النهاية لتأتي إدانتها قوية لسلبية الأب الفاقعة وضعفه أمام زوجته وصمته على ما تفعله بإبنه، والصمت يمتد إلى المجتمع كله، بتركه لأطفال الشوارع دون أن تمتد إليهم يد الرعاية، وانتشالهم من وهدة اليأس والحرمان، وكأنها أرادت أن تصرخ فينا بأن صمتنا هو السبب، والقصة قد تذهب في مراميها البعيدة، وخطابها ورسالتها لأبعد من ذلك، و قد يذهب بعض القراء بتأويل النص الذي يشير في نهايته إلى 2020، تأويلا لا يُؤمن عواقبه!!.
......
هموم الوطن والأمة :
الكاتبة ليست منفصلة عن واقعها، وليست بمعزل عن هموم وقضايا الوطن والأمة، وكانت هذه الهموم والقضايا حاضرة وبقوة في أكثر من قصة، وتناولتها تناولا شديد التميز والثراء سواء من الناحية الموضوعية أو من الناحية الفنية.
أ – من منظور طفلة :
في قصة " عندما تعزف البيانولا " :
الطفلة تمني نفسها بأن يأخذها عازف " البيانولا " إلى عوالم من السحر والخيال، ولكن الواقع مؤلم ومفجع، فاللقطات الدائرية، والدنا المسحورة، تقدم واقع العرب والمسلمين المزري.
لقطة دائرية ..
دنيا مسحورة ( 1 ) :
يمتزج ضوء ووتر حزين وأمواج أتراب هبت مع هبوب عاصفة إعلان إنفصال مصر والسودان، بعد أن كانتا مجتمعتين من دون الواو بينهما.
.....
لقطة دائرية ..
دنيا مسحورة ( 2 )
يعزف راع عراقي وحيد على أوتار ليله السجين، متمايلا كأمواج أتعبها الاهتزاز يدندن :
-القهر وكرسي الحكم توأمان .. راميا ببصره إلى نقطة التلاقي بين دجلة والفرات السابحين في عروق السُّنة فقط، ويجف حينما تقترب منه أرواح شريرة من ديانات أخرى، يراها الداعشي مدنسة، فيزهقها تقربا لخليفته العباسي.
.....
لقطة دائرية ..
دنيا مسحورة ( 3 ) ..
بجعات تتراقص على وتيرة محسوبة، غير أن بجعة بعيدة تحدق في أطراف نهر النيل وقد أصابته عين حسد، فتشقق وطرد الكثير من البلدان المحيطة به، وخاصة التي لم تتقبل فكرة التماهي في أعماقه كفتاة النيل من الموروث الفرعوني، يغرق بصرها في العتمة، ويتدرج الظلام في الصعود، حتى تذوب الفواصل بين البلدان.
.....
لقطة دائرية ..
دنيا مسحورة ( 4 ) ..
يتبدى لها قصر جميل مزدان برطوش دموية، تهدّم على ساكنيه الحيارى في طرقات " غزة ". ضحكة طفل، قدماه مخضبتان بدم أبيض غريب، لم تره من قبل، حتى أصبح شبحا يجعلها تهذي بهمهمات غير مفهومة لا تشبه الكلمات. رجل تهرول إليه ابنته لتنقذ ما تبقى منه أسفل المدرعة الصهيونية، جثث محترقة، وأنات ألم، مجنون هذا الألم يفتك بالجميع.
.....
لقطة دائرية ..
دنيا مسحورة ( 5 ) ..
مؤذن بورمي يرفع صوته المبحوح في بوق من ورق.
....
لقطة دائرية ..
دنيا مسحورة ( 10 )، ( 11 )، ...، ( 100 ) لم ترهم الطفلة بعد!.
ونقول الكاتبة :
وعلى هامش الدوائر، لا يلهو طفل سوري، وآخر ليبي، حينما قتلوا اللعب!,
ويخيب أمل الطفلة في البحر، والحديقة الجميلة، والتزلج على الجليد، والرقص تحت المطر.
.......
ب – من منظور أديبة وباحثة :
في قصة " عزاء في غروب الشمس " تقدم الكاتبة من خلال بطلة نصها مفارقة مدهشة.
بطلة النص تستعد لإلقاء بحث في مؤتمر عقد بدبي عن التربية في وطننا العربي، وتأمل مشاهدات هذه الباحثة :
" مبكرا بدأ المؤتمر.
نظرت إلى الأساتذة الصاعدين إلى المنصة، وتأملت أناقتهم، لتتذكر أناقة الطفل السوري القابع في رصيف شارعها بمصر، بنطاله الممزق يشبه ( كرافت ) أحدهم، أحادي الرجل، والرجل الثانية يكملها بكيس " بلاستيكي ".
خدا أحدهم شديدا الاحمرار يشبهان عين أم الشهيد الفلسطيني.
تشبه دماء ضحايا العبارة، ضحايا العشوائيات، ضحايا الإرهاب .."
ج – الغوص في أعماق حبيب إرهابي :
في قصة " توسلات " تقترب فيها الكاتبة من الإرهاب الذي نعاني منه في العقود الأخيرة، ومازال يضرب بأطنابه في مصر ومعظم دولنا العربية والإسلامية، بل لم تسلم دولة من دول العالم من إرهاب تلك الجماعات، وبطلة النص هي حبيبة هذا الإرهابي، ورغم أنها اقتنعت برأي شقيقها ورفضت الارتباط به، ولكنها لم تستطع أن تتخلص من حبه تماما.
تقول :
" غموضك سر بقائك في ذاكرتي، وتلك القلادة في عنقي لا أحد يعرف أنها منك. كم من السنوات تفصل بيني وبينك، غير أن عطرك في أنفي لن يزول، ومداعباتك لأناملي باقية، وأنفاسك الملتهبة أشعر بها كل يوم "
وعن التقاطهم لحبيبها وأمثاله وتدريبهم :
" بين وجوه الناس المكفهرة والأتربة المتناثرة بين الجبال الشاهقة يلهث في أثناء تدريبه، علامات الزهذ رُسمت على وجهه العابس، ثوبه شبه العسكري يليق بجسده الممشوق، وبقامته الطويلة "
وتطرح السؤال الصعب والأهم :
" متى وكيف وصل هنا، كيف أصبح إرهابيا، متى تعلم القتل، الذبح، التفجير ".
والإعلام لا حديث له إلاعن الجماعة الإرهابية التي ينتمي إليها حبيبها، وهذا الحبيب الذي تم تجنيده هو من وجهة نظرها ( كمبارس ) ويقف هناك في الخلف ملثما لا يُسمح له بإظهار صورته.
والكاتبة على وعي بأزمته الداخلية، فترصدها :
" توسل إلى الله كي يعافيه من الإدمان، وتعافى.
توسل كي يشفى من حبها، ولم يحدث. توسل كي ينزع عن نفسه ثوب الإرهاب، ففشل، ... "
وبعد كل تلك التوسلات المتكررة، يجئ اليوم الموعود، ويفجر نفسه في المبنى الذي تعمل به حبيبته!!.
أعتقد أن الكاتبة قدمت معالجة ممتازة لقصتها، قصة غير نمطية وغير تقليدية، وقدمت بأمانة وموضوعية شديدة نموذجا مختلفا عما تقدمه " الميديا " عن الإرهابي، وأما إرهابي هبة سالم فله ماله وعليه ما عليه، ويبقى السؤال من الذي ترك شبابنا ليقعوا فرائس سهلة في شباك هذه الجماعات؟.
والإجابة مؤلمة وموجعة.
د – ثورة يناير :
وتقدم أيضا محاولات البعض ركوب ثورة 25 يناير بعد نجاحها، مثل الفنانة ( توحة ) في قصة " الحدود، وتقارب الكاتبة بين هؤلاء المتسلقين والانتهازين وبين من بذل دمه حتى تنجح الثورة.
........
صورة الرجل :
تميزت قصص هبة سالم التي قدمت فيها الرجل بالنظرة الموضوعية، والوعي بطبيعته ودراسة أحواله النفسية والمزاجية، وسنقارب في عجالة قصة " على مشارف الأربعين " كنموذج للقصة التي تناولت فيها الرجل.
أ – على مشارف الأربعين :
تختلف قصة ” على مشارف الأربعين ” للكاتبة هبة سالم عن قصتها ” الأديبة .. والملك حظريوس ” في الشكل والمضمون، وفي اللغة أيضا، فالجمل في ” الأديبة .. والملك حظريوس ” سريعة، ومتدفقة، ومكثفة، بينما الجمل في ” على مشارف الأربعين ” تميل إلى الطول، والنفس الطويل، وكأن الكاتبة تهيأ نفسها لخوض غمار الرواية.
اهتمت الكاتبة بالشخصيات، وبرسمها من الخارج ومن الداخل، ويبدو هذا جليا في رسمها لشخصية ” نور ” وشخصية ” آدم “.
وإذا كانت القصة القصيرة عمادها الوصف، والرواية عمادها السرد، فالكاتبة جمعت في ” على مشارف الأربعين ” بين الوصف والسرد، واهتمت بالتفاصيل الصغيرة، وتعدت الحدث الواحد إلى حوادث متعددة، بل الحوادث في شخصية البطلة ” نور ” أحداثا مركبة ومعقدة.
والكاتبة تعالج أزمة الرجل في سن الأربعين، فالرجل ” آدم ” الملتزم أخلاقيا، وكان متيما وعاشقا لزوجته التي لم تعمر معه لأكثر من ستة أشهر، وأدركها الموت، وظل وفيا لذكراها، ورغم أنه برح مصر حزنا وكمدا إلى إيطاليا، ولكنه عف نفسه عن اشباع رغباته ونزواته رغم قوته وفحولته الواضحتين.
هذا الآدم المحافظ والذي امتلك المال، وأصبح واحدا من رجال الأعمال، وعندما يصل إلى سن الأربعين، يصبح صيدا سهلا في براثن الأنثى / الفتاة الجميلة التي تملك كل مقومات الغواية.
والشابة ” نور ” تستخدم جمالها الأنثوي الفاتن، ودموعها التي تشبه حبات اللؤلؤ في سرقة حافظة / أموال وقلب وعقل الرجل الطيب، الذي على مشارف الأربعين، وقصتها مع آدم قصة مكررة، مجرد حلقة في حلقات كثيرة تتكرر مع كل رجل في مثل ظروف آدم، فغوايتها للرجال مستمرة، ولذا كانت الكاتبة موفقة في اختيار اسم آدم، فكل رجل من السهل أن يكون صيدا سهلا لهذه الشابة الجميلة، التي تسرق ماله وقلبه وعقله، وتجعله يدمنها، وتصبح كل دنياه، وحين يعرض عليها الزواج ، تهرب منه ، وتبدأ في نصب شباكها على غيره.
وتنتقل الفتاة من آدم إلى آدم، وجاءت القصة في شكل دائري.
وشخصية ” نور ” شخصية مركبة ومعقدة، وتعاني من عقدة نفسية، وأزمتها الكبرى مع والدها الذي يعاقبها وهي طفلة عقابا بدنيا قاسيا، لأتها مصابة بداء السرقة، واحساسها بكراهيته لها، وتفضيله لأخوتها عليها، واحتضانه الحنون لهم دونها.
هل تنتقم ” نور ” من والدها في صورة هؤلاء الرجال، هل تجد سعادتها في سرقة عواطفهم، تلك العاطفة التي حُرمت منها في الطفولة، ثم تنتقم منهم بترك كل عاشق لها ومتيم بها يعاني قسوة الهجر والبُعد والحرمان، هل تتلذذ بترك الرجل حطاما؟
امتلأ دولاب ملابسها بالفساتين الجميلة الأنيقة الغالية الثمن، ووراء كل فستان قصة رجل، رجال بعدد الفساتين أوقعت بهم.
والقصة مكررة، وبنفس التفاصيل تقريبا، وفي نفس المكان تقريبا، ونفس الأدوات، الفتاة الجميلة والأنيقة والبريئة والتي تنهمر دموعها وتتساقط مثل حبات اللؤلؤ، فتثير عطف وانتباه الرجل الأربعيني الطيب فيقترب منها ويعرف مأساتها، وهي غرامها بفستان شيك وأنيق، ورغبتها المحمومة في ارتدائه، وليس معها المال الكافي لشرائه، فتأخذه الشهامة ويدفع لها ثمن الفستان، وتأخذ مع الفستان عقله وقلبه، وتبدأ قصة حب لهذا الأربعيني، قصة حب عنيفة، ويتحول مائة وثمانين درجة.
الكاتبة على وعي كبير بالزمن، ويزداد وعينا بالزمن كلما تقدم بنا العمر
ب – قصة " قطعة ثلج " :
وتؤكد فيها الكاتبة على ضعف الرجل أمام الأنثى، حتى لو كان شابا ومتزوجا، فالكاتب الشاب يقضي ليلة مع شابة سورية في الساحل الشمالي خلسة من زوجته التي تحبه ويحبها.
" بخفة ظل جرت أمامه متمايلة، لتقف أمام النافذة المطلة على البحر، وتقول له :
- يا حبيبي!
يجري عليها، ويحملها، ثم يُلقي بها على السرير الذي أعده العامل سابقا، الذي أتى إليه بهذه الجمرة الأنثوية المتقدة ".
ج– قصة " ما تبقى من أنوثتها ( 2 ) :
ومن القصص الجياد التي قدمت فيها الرجل أيضا، قصة " ما تبقى من أنوثتها ".
ومن المشاهد القصيرة جدا والدالة على وعي الكاتبة البصير بطبيعة الرجل وبفطرته التي فطره الله عليها، وقد صدرته على الغلاف أيضا.
" أكلا معا، لعبا معا، كبرا معا، في ظل أب يميل بقلبه إلى الغضاضة والبكارة، ويميل بجسده المتكهل على فخد أم " زين " المتعب، وأم غضة، رمشها سهم في قلب زوجها، وهناك أخرى أربعينية تقف بما تبقى من أنوثتها في مهب الريح ".
………..
………..
من التقنيات الفنية :
1 -الرمز :
كل فن حقيقي رامز، والرمز يتخلل نسيج قصص هبة سالم، وليس هو الهدف الذي تسعى لتقديمه لقارئها، وإنما تلجأ إليه كوسيلة فنية متخفية قادرة على الإشارة والإيحاء.
وقد استخدمت الرمز الكلي في قصتها البديعة " السمكة العاشقة "، الرمز الذي يتمرد في ثنايا القصة كلها، فتتعدد الرؤى والتأويلات.
والقصة قصيرة جدا، ومكثفة، وتُقرأ على أكثر من مستوى :
أ - ما تحكيه القصة بدلالتها المباشرة.
ب - ما يستتر خلف الحكاية المباشرة وخلف شعرية اللغة.
ج - الأمثولة التي تريد أن تفصح عنها هذه الحكاية.
( أ، ب، ج مأخوذ بتصرف من كتاب جماليات القصة القصيرة للدكتور حسين علي محمد ).
وبناء على ما سبق يمكننا قراءة القصة كالتالي :
الرمز الإيحائي البسيط : السمكة هي الأنثى، والعصفور هو الذكر، والسمكة قد وقعت في غرام العصفور وعشقته.
" وكلما اشتاقت إليه، تُخرج رأسها لتراه، مبتسمة سعيدة "
أما العصفور :
" فينقرها في رأسها نقرة مدمية "
ولأنها تعشقه، فتبرر فعلته :
" إنه يقبلني في رأسي قبلة لكنها – دون أن يقصد – ليست رقيقة "
هل تخدع السمكة نفسها؟ هل العشق جعلها تنظر بعين الرضى وهي عن كل عيب كليلة؟.
وراحت السمكة تبرر وتبرر أفعاله :
" وفي النقرة الأخيرة لم تستطع أن تنطق كي تبرر فعلته مرة أخرى "
لأنها قد ماتت.
وهو أي العصفور :
" شرب ماء مختلطا بدمائها " .. " وعاد منتشيا إلى عصفورته المنتظرة في العش ".
وكأن الأمثولة التي نخرج بها من القصة هي خلاصة المثل الشعبي :
" ومن الحب ما قتل ".
والسمكة هنا وقعت في خطأ فادح أودى بحياتها، وهو انسياقها وراء غواية العشق، فأعماها عن رؤية الواقع رؤية صحيحية، فهي تعيش في وسط وبيئة مختلفة عن الوسط والبيئة التي يعيش فيها العصفور، وهي من جنس وهو من جنس آخر مختلف عنها تماما، ومن الصعب بل ومن المستحيل أن يلتقيا، وهكذا كانت عدم رؤية السمكة الصحيحة لواقعها، طريقا لنهايتها المأساوية.
.......
2 - من تجارب العبث والفنتازيا :
في قصة " عصفورة بلا جناحين " تستعير الحبيبة جناحي العصفور، لتستطيع أن تحلق، وتمضي إلى حبيبها، وتعبر بحرية عن مكنونات قلبها، ..
......
3 – محاولة الكاتبة خلق أسطورتها الخاصة :
الباحث عن الأسطورة في هذه المجموعة القصصية، سيجدها مبثوثة في ثلاثة قصص على الأقل:
1 - قصة " الأديبة والملك حظريوس " :
تحاول الكاتبة فيها أن " تأسطر " هذا الملك قائلة :
( يصيح كصياح الديكة ولكنه ليس ديكا، يطير ولا يُرى، ويخرج كالدخان من جوف الأرض .. ).
وتضيف :
( يظهر في أول الشهر العربي مرة واحدة في العام .. لا نعلم في أي شهر يظهر .. ).
2 – قصة " عندما تعزف البيانولا " :
في ( لقطة دائرية ) ..
دنيا مسحورة ( 3 ) ..
في هذه اللقطة تتماهى فيها الكاتبة مع أسطورة فتاة " عروس " النيل، وهي أسطورة تعود لزمن الفراعين، واستعادتها الكاتبة لتلفت الأنظار إلى الأخطار المحدقة بالنيل.
3 – قصة " وعد من الطيب صالح " :
وتقدم الطيب صالح كبطل أسطوري :
" حينما بدأنا المعركة الطويلة حول علاقة لون بشرته بطين النيل، ولم يعترف يوما بأنه يشبهه، فثقته بأنه يأخذ لون ذكر " حورية النيل " الذي خرج إلى دنيا الشمس الحارقة التي لفحت بشرته، وعقدت معه اتفاقا ارتضاه، أن يتقبل هذا اللون كي يخرج من شقائق النيل إلى دنيا البشر العاديين .. على أن يعود إلى مملكته بعد الانتهاء من الثمانين عاما المفترضة لرحلته ".
" من اتفاقهما غير العادل هذا، أنه سيرافقه جن يحرضه على الكتابة، على أن ينام هذا الجن على لسانه وقتما شاء وحيثما شاء ".
........
4 – استرفاد أمكنة وشخصيات تراثية وأدبية :
1 - برج إيقل بباريس، برج بيزا المائل بإيطاليا، بساط ريح علاء الدين، عروس النيل .. ( قصة عندما تغزف البيانولا ).
2 – دعاء الكروان لطه حسين، سيمفونيات بيتهوفن، جبران خليل جبران .. ( قصة عزاء في غروب الشمس ).
3 – موسم الهجرة إلى الشمال، عرس الزين، ضو البيت، دومة، .. ( قصة وعد من الطيب صالح ).
4 – كتاب طوق الحمامة لابن حزم، حبابة، قيس، .. ( قصة عزف على أوتار الهيام )
5 – السندريلا، نجيب محفوظ، توفيق الحكيم، .. ( قصة عتبات ألم .. عفوا " دوامات " ).
.....ز
5 – الغرام بالوصف :
قصة " السّبت " من بدايتها إلى نهايتها، قائمة على الوصف، الوصف البديع والماتع، انظر إلى مهارة الكاتبة، وهي تصف المرأة القروية الفقيرة الذاهبة إلى السوق في صباح شتوي من صباحات القرية :
" قطرات المطر تتراقص مداعبة يدها القابضة على ( السّبت ) فوق دماغها، الذي صنع لنفسه مكانا فيها، تتشبث أناملها الرفيعة الطويلة بأطراف ( السّبت ) .. "
وتشير إلى أنها إمرأة ولود :
" وبطنها التي تدفئ الجنين الخامس بداخلها، محميا من الصقيع "
" الممر الذي تمشي عليه بقدمين متشققين، فقدت الإحساس بهما منذ أن خرجت فجرا "
" واضعة جاكيت زوجها الخلق فوق أكتافها الهزيلة "
وعن أولادها التي تركتهم في الدار :
" ترتعش أجسادهم تحت اللحاف الثقيل، يتبارى كل منهم في تخبئة قدمه تحت اللحاف المرقع البالي "
وابنها البكر :
" يجر المعزة بقوة ليخبئها داخل الغرفة التي لا تتساقط من سقفها المياه "
وأما الزوج :
" يأتي كاشفا عن ساقيه المحبوستين في حذاء من " بلاستيك " يصل إلى ركبتيه، واضعا الفأس بجوار الحائط ".
......
6 - بدايات القصص :
يقول أنطون تشيكوف " القصة الجيدة هي القصة المنزوعة المقدمة، وهبة سالم تعي ذلك تماما، فهي تدخل في الحدث مباشرة قي معظم القصص، وعلى سبيل المثال لا الحصر :
1- قصة " توسلات " :
" كنت أقول لك مرارا : من فضلك لا تجعل آمالي تتحطم على عتبات عبوسك القاتل.
واليوم أقول : إن ضحكتك المصطنعة الباهتة تُشبه شعوري المختلط الآن، بعد أن رفض أخي طلبك الارتباط بي. "
2 – قصة " ما تبقى من أنوثتها ( 1 ) :
" يناقشها فيما يحب ويكره، تحدث نفسها : سأفعل ما في جهدي حتى أحب كل ما يحبه .. سأسهر لراحته .. سأعيد ترتيب أولوياتي .. ماذا يحدث لي .. فرحتي به تقلب تفكيري رأسا على عقب ... "
3 – قصة ما تبفى من أنوثتها ( 2 ) :
" فرحة غامرة .. تصفيق مُجامل ..
لم تؤرقها فرحته الغامرة بزوجته الجديدة، هي من اختارتها له، ... "
......
7 - عناوين القصص :
وفقت الكاتبة في اختيار عناوين معظم قصصها، وخاصة العناوين التي جاءت لأسباب فنية وموضوعية معا، ومنها على سبيل المثال :
السمكة العاشقة، الأديبة والملك حظريوس، توسلات، السّبت، وعد من الطيب صالح، وردة لا عطر فيها، عصفورة بلا جناحين، عتبات ألم .. عفوا " دوامات "
....
8 – القصة الكابوسية :
وتأتي قصة " وردة لا عطر فيها " نموذجا للقصة الكابوسية، وفيها تقع فتاة في حب رجل متزوج ولديه طفل، فيجافيها النوم :
" يا نوم! رأسي يكاد ينفجر! "
ويؤنبها ضميرها :
" أهذه دموع تسبب فيها الضمير، الذي يناديني بصوت لا يخلو من زجر وعنف : أفيقي، إنه متزوج ".
وتقدم الكاتبة الصراع الرهيب الذي ينشأ في داخلها، وتأنيب الضمير، وتقدم صور حلمية كثيرة، وحوارات عنيفة بينها وبين زوجته، تنتهي بأن تقبل عليها الزوجة بالحبل وتقتحم منامها :
" إنني زوجته، وحقي الآن أن أقتل تلك النفس التي تفسد علىّ حياتي بغير الحق، وجعلتني أفقد ابني منذ ساعات بسبب إهمال والده إياه، .. "
تحكي الكابوس :
" تقترب بالحبل، انتفض في مضجعي، صارخة، منهمرة الدمع، أستشعر بغضا شديدا لكل ما في الدنيا، بل للدنيا بأسرها، ولنفسي، .. "
هل تطهرت هذه المرأة؟
" أنهض من مضجعي، ودموعي تتسايل على خدي "
ويبدو أنها تطهرت فانزاح عنها هما عظيما، وألقت عن قلبها ما يثقله، وتأتي نهاية القصة جميلة، فتقيم الكاتبة علاقة جميلة بين بطلتها والوردة التي بالحديقة،..
" أتمنى لو أنني وردة من أزهارها، إنني هكذا حقا، لكن يبدو أنني وردة ذابلة لا عطر فيها، بعد أن اشتمها بلا حق ولا هوادة ".
....
9 – اللغة الشعرية :
لغة هبة سالم ليست جافة وخشنة، ولكنها لغة تصويرية، والألفاظ التي تنتقيها بعناية فائقة، تحرص على أن تُحملها بشحنات عاطفية، وتنثرها في تراكيب جملها، التي تتراوح بين القصر والطول ، وتتراوح أيضا بين الأساليب الخبرية والإنشائية، وتشي أحيانا وتصرح أحيانا، وكل ذلك حسب حاجة " فعل القص "
.......
ملاحظات :
1 – نهايات بعض القصص لم تأتي مثل البدايات القوية لتلك القصص، وعلى سبيل المثال لا الحصر :
أ – نهاية قصة " عزاء في غروب الشمس " الحوارالذي دار بين الباحثة بطلة النص وبين باحثة أخرى تعرفت عليها في التو غير منطقي وغير مبرر فنيا، وكان من الممكن أن تلجأ الكاتبة إلى حيلة فنية أخرى لتبوح بطلتها بمكنونات قلبها، وتكشف للقراء عن حبها القديم لأحد الباحثين الذي فوجئت به في المؤتمر، فعاد هذا الحب إلى الحياة بعد ظنت أنه قد مات، وتواجده المفاجئ في المؤتمر غير مبرر أيضا، لأن مثل هذه المؤتمرات العلمية الكبرى يتم نشر أسماء الباحثين وتسليط الضوء عليهم قبل وبعد المؤتمر، وبدلا من هذا الحوار الذي جاء عبئا على النص، كان من الممكن أن تلجأ إلى البوح أو المذكرات، وخاصة أن البطلة باحثة وروائية ورأيناها تراجع روايتها الأخيرة في الفندق، وتحاول أن تختار عنوانا لها من بين عناوين أخرى ، فكان من السهل عليها وهي الروائية، أن تتناول قلمها، وتعبر على الورق عن مشاعرها، وتستعيد الحبيب وأيامه، وتكتب ما شاءت، وكانت رسالتها ستصل إلى القراء بطريقة أكثر اقناعا.
2 – كان من الممكن أن تنهي قصتها " عندما تعزف البيانولا " بهذه الكلمات التي وردت على لسان الطفلة :
" يا عمو .. البيانولا بايظة .. فين البحر، والحديقة الجميلة، والتزلج على الجليد، والرقص تحت المطر " ولا ضرورة فنية لصفحات 24، 25، 26، ويمكن حذفها، فهي لا تضيف جديدا إلى القصة.
وأرجو ألا تثير هذه الملاحظات سحابا، وألا تعكر صفوا، وأرجو أن أكون قد نثرت بعض قطرات الضوء على مجموعتها القصصية الأولى التي تؤكد على أنها كاتبة جادة وموهوبة، وليست الكتابة عندها حلية أو وردة في عروة " الجاكيت " كما عند الكثيرات، ونثق أنها قادرة على التجاوز والإضافة، وقادرة على إثراء حقل السرد العربي، وأرجو أن أكون عند حُسن الظن وعلى مستوى الثقة، ومن الله التوفيق.
مجدي جعفر
ورقة نقدية في المجموعة القصصية – للمناثشة بقصر ثقافة العاشر من رمضان – مساء الثلاثاء الموافق 22 / 6 / 2021م.
وتشي المجموعة التي تضم ( 21 ) قصة بكاتبة موهوبة تعي الأصول التي يقف عليها العمل القصصي دون عثرات، وتثير فيها العديد من القضايا والأفكارولجأت إلى حيل وتقنيات فنية سنتناول بعضها في هذه القراءة.
1 - من القضايا الموضوعية :
1 – المرأة وهمومها وأفراحها، وأحلامها وانكساراتها وتطلعاتها.
2 – الاقتراب الحميم من قضايا الطفل وعالمه.
3 – الإهتمام بقضايا الوطن والأمة.
4 – الحضور الطاغي للثقافة والأدب وهموم المثقفين والأدباء.
5 – كسر سياج الصمت حول بعض الهامشيين.
6 – النظرة الموضوعية إلى الرجل.
2 - ومن القضايا الفنية :
بعيدا عن الخصائص الفنية للقصة، سنتناول :
1 - استخدام الكاتبة للرمز كوسيلة لا غاية استخداما فنيا راقيا.
2 – محاولة الكاتبة بناء أسطورتها الخاصة.
3 – الاستفادة من تجارب العبث والفنتازيا.
4 – الغرام بالوصف.
5 – استرفاد شخصيات أدبية وفنية وشخصيات روائية.
.....
العنوان :
بداية كنت أتمنى أن تختار الكاتبة " الأديبة والملك حظريوس " عنوانا لمجموعتها القصصية بدلا من العنوان " ما تبقى من أنوثتها "، فالعنوان الذي اختارته كاشف ويكاد يحصر المتلقي في هموم المرأة ومشاكلها وقضاياها، ويذكرنا أيضا بعناوين بعض الروايات التي تكشف نفسها للقارئ من خلال العنوان.
وقبل أن أقدم مبرراتي الفنية والموضوعية للعنوان الذي اقترحته، سأتناول قصة " الأديبة والملك حظريوس " في قراءة سريعة :
الأديبة .. والملك حظريوس :
أعتبر هذه القصة للكاتبة هبة سالم قصة مثال ونموذج للقصة القصيرة من الناحية الفنية، فكل كلمة في مكانها، بل كل حرف، ونقطة، وعلامة استفهام، وعلامة تعجب، وعلامة ترقيم، وكأن الكاتبة تزن حروفها وكلماتها بميزان الذهب.
ولم تستخدم الكاتبة اللغة المباشرة ولا اللغة المجانية، فهي تومئ ولا تصرح، لغتها أقرب إلى الهمس منه إلى الزعيق، وتغلف الموضوع / الخطاب القصصي، بغلالة من الرمز الشفيف غير المستغلق تماما على المتلقي.
وبداية القصة بداية قوية، فهي تؤطر للعنوان، الملك حظ / ريوس، هذا الملك الذي يتمنى الجميع أن يصادفونه ليحقق لهم الأحلام والأمنيات!.
والكاتبة تصنع أسطورة للملك حظ / ريوس، وتحاول أن تأسطر هذا الملك قائلة :
( يصيح كصياح الديكة ولكنه ليس ديكا، يطير ولا يُرى، ويخرج كالدخان من جوف الأرض .. ).
في أقل من عشرة كلمات في ثلاثة جمل، أقامت الكاتبة هبة سالم أسطورة للملك حظ / ريوس، وهي لا تلجأ إلى أسطورة تراثية أو شعبية، ولكنها تصنع هي أسطورته، وتضع القارئ في أجواء أسطورية، ويتهيأ نفسيا وعقليا ووجدانيا لهذه الأجواء الأسطورية التي لا يحكمها عقل أو منطق، والقارئ يتهيأ تماما ليقيس بمقاييس اللاعقل واللا منطق واللا زمان واللامكان. ويشتعل خياله.
فالملك حظ / ريوس :
( يظهر في أول الشهر العربي مرة واحدة في العام .. لا نعلم في أي شهر يظهر .. ).
وتتحول الكاتبة ببراعة من الأسطورة إلى الواقع، ومن الخرافة والوهم إلى الحقيقة، حقيقة المرأة التي تعشق الحرف، وتكتب القصة، وتحلم بالذيوع والانتشار، والوصول إلى العالمية، وتكون في دائرة الضوء، ويُشار لها بالبنان.
هل هذا الحلم يمكن أن يتحقق لهذه المرأة حتى لو صادفت الملك حظ / ريوس؟ ..فالحلم جاء للمرأة في لحظة استثنائية، لحظة تصفو فيها النفس، وتتألق الروح، وهذه الحالة الاستثنائية تذكرنا بحالة الصوفي، حيث الزمن غير الزمن، والمكان غير المكان.
( صادفته في يوم ليس كالأيام .. كانت صافية بما يكفي عندما غسلت ما بها بدموع غزيرة، وهي وحيدة بين أدراج الزمن ).
هكذا تعبر الكاتبة بكلمات قليلة، ولكنها مشحونة بانفعالات بطلة النص الأديبة الحالمة بالشهرة، ومعبرة عن حالتها الاستثنائية في اللازمان واللامكان.
ولغة هبة سالم لغة مراوغة، هي لغة فن القصة، والمعنى أيضا مراوغ، يحاول المتلقي أن يقبض عليه من خلف هذه اللغة المراوغة، المعنى زئبقي مخاتل ومراوغ، بل مثل ساعة البندول المتأرجحة، لا تستطيع أن تقبض عليه كل القبض، وهذه المراوغة الجميلة في المعنى أو في الوصول إلى الأمثولة التي تقولها القصة، تمنح المتلقي فضاءات واسعة للتخيل، بل تدفعه إلى إعادة القراءة مرة بعد مرة، وفي كل مرة تبوح القصة بسر جديد، فالقصة الجيدة لا تبوح بأسرارها مرة واحدة، ولا تمنح نفسها للمتلقي من القراءة الأولى، ومثل هذه القصة تعيش أزمانا كثيرة، والكاتبة جعلت المتلقي يعيد انتاج النص وكل ينتج النص وفقا لثقافته ومستوى تعليمه وذائقته الأدبية، هذه النصوص تجعل المتلقي شريكا في انتاج النص كما يقول " رولان بارت ".
والكاتبة تسعى لأسطرة الواقع، واقع المرأة الصعيدية، التي تحاول بإرادة حديدية أن تتجاوز هذا الواقع، لتؤكد أن الصعيد بتراكماته الثقافية وعاداته وتقاليده لا يستطيع أن يقهر المرأة، المرأة التي تطمح أن تكون كاتبة، ولكن هذه الكاتبة توزع حظوظها التي منحها إياها الملك حظ / ريوس، على أبنائها وزوجها، لتسعدهم، وبدلا من أن تؤثر نفسها بهذه الحظوظ آثرت الزوج والأبناء، وهذا هو حال المرأة المصرية عموما، التي تعطي بلا حدود، وتبذل كل غال ونفيس في سبيل أولادها وزوجها، وهذه المرأة الرائعة يدركها الموت قبل أن تضع النهاية للقصة التي تكتبها، وفي عدم كتابة النهاية فضاءات واسعة للتأويل، وتبقى هذه القصة بلغتها المقطرة، والمصفاة، من أجمل القصص التي قرأتها.
....
المرأة حاضرة وبقوة في قصة " الأديبة والملك حظريوس "، وهي بطلة النص، وأديبة، ورسالة قصتي ماتبقي من أنوثتها ( 1 ) و ( 2 ) تحملها المرأة الأديبة في هذه القصة، ومعظم قصص المجموعة من الناحية الموضوعية تدور في فلكها وكل قصة من قصص المجموعة أخذت منها نصيب، وبعيدا عن الناحية الموضوعية، فالقصة تعبر فنيا عن الكاتبة أجمل تعبير، سواء في محاولة بناء اسطورتها الخاصة أو استخدام الرمز كوسيلة فنية والعديد من التقنيات الفنية الأخرى التي سنتناولها لاحقا وبذورها مبثوثة بطريقة أو بأخرى في هذه القصة.
إذن موضوعيا وفنيا أرى أن هذه القصة كانت الأجدر بأن تأخذ المجموعة عنوانها.
.....
صورة المرأة :
ناقشت الكاتبة هموم المرأة ومشاكلها، أحلامها وتطلعاتها، وانكساراتها، ورأينا في قصصها المرأة المتعلمة والمثقفة والمرأة التي لم تنل حظا من التعليم، والمرأة الحبيبة والمرأة الزوجة، والمطلقة، والمرأة كزوجة أخرى، والمخادعة، والمأزومة نفسيا، و .. و ... والمرأة عموما عند الكاتبة وفي معظم حالاتها إيجابية وفاعلة.
1 - في قصة " ترنيمة " المرأة التي تقف إلى جانب زوجها الطبيب، وعندما يذيع صيته ويصبح من اشهر الأطباء ومن أثرى الأثرياء، تزوغ عينه ويتزوج من ممرضته، فتسوء حالتها النفسية، ولكنها سرعان ما تخرج من حالة الاكتئاب والحزن، وتعود إلى الدراسة التي تركتها من أجله، وتحصل على الدكتوراه في الاقتصاد، وتسافر إلى معظم دول العالم لحضور الندوات والمؤتمرات، وتصير أكثر شهرة وأكثر مالا، ولا تجد غضاضة من ممارسة حقها في الزواج من آخر، لتبدأ الحياة من جديد وبشكل مختلف.
2 - المرأة الأربعينية في قصة " ما تبقى من أنوثتها ( 2 ) " والتي لم تنجب، فتختار لزوجها عروس صغيرة لتنجب له، ( تمنحه شقة تمتلكها – تمنحه عفشا من عفش عرسها ) .. ( تمنحه دون انتظار الأخذ ) وهكذا تقدم لنا الكاتبة المرأة المعطاءة في أروع صور العطاء حتى لو ( مرت بأوقات تُذبح فيها الروح ).
ومن القصص الجياد أيضا التي تناولت المرأة أيضا:
3 - قصة " وردة لا عطر فيها " وهي قصة كابوسية عن إمرأة تعيش قصة حب مع رجل متزوج.
4 - وقصة " عزف على أوتار الهيام " شاب وفتاة، وكل يقدم وجهة نظره في الحب والحياة.
المرأة الأديبة والمثقفة :
1 - في " الأديبة والملك حظريوس " تقدم أيضا المرأة المعطاءة والتي توزع حظوظها على أولادها وزوجها وحماتها، وتؤثرهم على نفسها.
واهتمت الكاتبة بالأدب والثقافة، وناقشت هموم الأدباء الشبان، وعدم مد يد العون لهم من الدولة.
2 - ففي قصة " أمل مفقود " ترصد انتهازية دور النشر الخاصة، وسرقة الأعمال الأولى للشباب الموهوب ونشرها بأسماء آخرين من المتحققيين والمشهورين!
3 - في قصة " قطعة ثلج " تقدم لنا المرأة المثقفة دارسة الأدب، والتي تكشف خيانة زوجها لها بعد أن قرأت روايته الأولى " روح هائمة في فتاة دمشقية " والتي تصر على الانفصال.
4 - قصة " عزاء في غروب الشمس " بطلتها هي الأخرى أديبة وباحثة.
5 - والمرأة أديبة أيضا في قصة من أروع قصص المجموعة وهي قصة " وعد من الطيب صالح " والتي تتماهى معه ومع أعماله، وتخلق أسطورته.
صورة المرأة الهامشية:
اهتمت الكاتبة أيضا بالمرأة المهمشة، وتحاول كسر سياج الصمت المضروب حولها.
1 - في قصة " السبت " الأم القروية التي تذهب إلى السوق للتسوق، ويؤلمها ألا تعود لأولادها بالسمك، وتعود لهم بأرجل الدجاج!!
2 - وفي قصة " عتبات ألم – عفوا دوامات " الفتاة الفقيرة التي تعاني من الحرمان وتحلم بالزواج والخروج من الغرفة المظلمة، ورغبتها في تحسين أحوالها، وتستخدم الكاتبة فيها أسلوب الصدمات، وأعنف الصدمات التي تلقتها الفتاة هي صدمة اغتصابها على يد اللص الذي ارتدى ثوب الشحاذ حتى تتعاطف معه وما تركه الحادث البشع في داخلها من آلام نفسية مبرحة.
......
صورة الطفل :
قدمت لنا الكاتبة الطفلة في قصة " عندما تعزف البيانولا "، والأطفال الذين يعيشون في دار للأيتام في قصة " عبء مسجون "، والطفلة التي تحبسها أسرتها دون سبب واضح في قصة " إشراقة رحمة "، والتي تشير إلى سجن الطفولة عموما، وتبقى قصة " تحديق الصمت " من أجمل القصص، ورغم كثرة القصص التي تناولت العلاقة بين الطفل وزوجة الأب، ولكن هذه القصة تأتي استثناء، وجديرة بأن تكون القصة النموذج والمثال التي تناولت هذا الموضوع.
فالعنوان " تحديق الصمت " من العناوين التي تثير القارئ، وتجعله يعاود تأمله، ويثير في داخله الأسئلة، ويأتي كصورة شعرية مبهرة ومبتكرة وأظنها غير مسبوقة، التقطتها القاصة ببراعة بفضل خيالها المحلق، والكاتبة تربط الصمت بالظلام وتحاول أن تقيم علاقة بينهما:
" قد يولد الصمت عندما يجن الليل! فيبدأ الصمت مولودا غير محدد المعالم، غير أنه لا يلبث أن تتحدد قسماته بمرور الوقت، يبدو هذا المولود ناضجا كامل التكوين "
وتربط بذكاء شديد ذاك الصمت المولود من رحم الليل، بالصبي الصغير :
" بنظرة واحدة إلى الولد ذي العينين المتسعتين، يفضل الصمت جل وقته، وهو لا يتعدى السنوات الست "
وأزمة الطفل الحقيقية في زوجة الأب :
" ترى زوجة أبيه أن نجم السماء لأقرب إليه منالا مما يدور بخاطره "
وتتعامل الساردة مع الطفل برهافة شديدة، مبرزة معاناته بسبب زوجة أبيه، وقسوتها في التعامل معه، وتقدم لنا الحياة ذاتها من منظور الطفل، وتتحسس ببراعة براءة عالمه الطفولي، وولعه باللعب مع أقرانه، وتأخره عن زوجة أبيه في إلقاء سلة القمامه، وانشغاله عنها بمتابعة أقرانه في ملعب الكرة، وهنا أستدعي قصة " نظرة " ليوسف إدريس، فصبية يوسف إدريس قد انشغلت هي الأخرى عن سيدتها بمتابعة أقرانها أيضا الذين يلعبون في الشارع .. وتتميز قصة هبة سالم بأنها استطاعت أن تجد حلا لأزمة الصبي الذي يعاني من الصمت و " اللجلجة " وعدم قدرته على الكلام بسبب الأزمات التي تسببها له زوجة الأب، فما أن اقترب من الملعب وأندمج في تشجيع فريق من الفريقين حتى بدأ يستعيد قدرته على الكلام، وساعده أحد المتفرجين الأكبر منه على الكلام، وهي لحظة عبقرية تلك التي فجر فيها صديقه الأكبر منه الوعي، لدي الطفل، عندما راحا يتنافسان أو يتباريان في إلقاء الشعر والسجع، وانفرجت أزمة الطفل الذي يعاني من اللجلجة وعدم القدرة على الكلام، وشنف آذاننا بقصيدة، أعتقد أنها أكبر كثيرا من مستوى تفكيره وأكبر من قدراته اللغوية، فقاموس الطفل يظل محدودا، قيقول لصديقه الطويل :
" الظلام حولنا،
يسترنا يخفي عيوننا،
كم تمنينا الظهور،
العلا،
اللمعان في هذا الظلام،
لكننا يئسنا لكسر أقدامنا،
كلما سرنا في طريقنا صدمتنا ربوة،
أفقدتنا جل أمالنا،
استندنا العصا،
وقفنا،
تفرح الربوة،
مالك يا ربوة؟ أتفرحين بكسر أقدامنا؟!
كلا!
فأنا أستوقفكم،
أريد العز،
أريد الرفعة،
أريد الهنا،
ولكن علينا أن نهشم أغلال عقولنا. "
والمبالغة أو التضخيم أو التكبير هنا جاء كتقنية فنية من تقنيات الكتابة استخدمتها القاصة.
ولكن سرعان ما ينتكس الطفل مرة أخرى، فقد تأخر عن زوجة الأب، التي تسعى بحثا عنه وعن السلة، فقد تأخر في إالقاء القمامة.
فجأة تنقض عليه يدان متضخمتان انقضاض نسرعلى فريسته، فتدفعانه حتى انبطح على الأرض تتناثر حوله القمامة "
وتستمر الكاتبه في نسج مشهد عقابه من زوجة الأب بتؤدة وعلى مهل، وتمنحه المساحة الأكبر، فهذا الفعل هو سبب الأزمة، وهو الحدث الأبرز.
" يصرخ، تمسك بقميصه تجره بيد، وتمسك بالأخرى سلة المهملات خاوية، .. "
" يحتضن الصغير الأرض، تجره زوجة أبيه، يستعطفها، ترفعه ثم تهوي به إلى الأرض، يستمر في الصراخ حتى بُحّ صوته فأصبح فح أفعى، .. "
وتنحرف الكاتبة بالقصة انحرافا حادا وخطيرا، فالطفل يستطيع أن يفلت من يد زوجة الأب، ويهرب، ويجري في الشارع.
" وبجريانه تجري الأيام، فالسنون "
وتترك الكاتبة للقارئ تصور مكابداته ومعاناته في رحلة الهروب، وتصر أن تفرض هذه النهاية المأساوية :
" كأيقونات الشطرنج، يترنح الولد على طاولة الحياة محققا ذاته المستقلة على بساط من جثث الأحياء، كتلك التي يجالسها في سجن طُرة، برقمه المميز " مسجون 2020 ".
وإصرار الكاتبة على تلك النهاية لتأتي إدانتها قوية لسلبية الأب الفاقعة وضعفه أمام زوجته وصمته على ما تفعله بإبنه، والصمت يمتد إلى المجتمع كله، بتركه لأطفال الشوارع دون أن تمتد إليهم يد الرعاية، وانتشالهم من وهدة اليأس والحرمان، وكأنها أرادت أن تصرخ فينا بأن صمتنا هو السبب، والقصة قد تذهب في مراميها البعيدة، وخطابها ورسالتها لأبعد من ذلك، و قد يذهب بعض القراء بتأويل النص الذي يشير في نهايته إلى 2020، تأويلا لا يُؤمن عواقبه!!.
......
هموم الوطن والأمة :
الكاتبة ليست منفصلة عن واقعها، وليست بمعزل عن هموم وقضايا الوطن والأمة، وكانت هذه الهموم والقضايا حاضرة وبقوة في أكثر من قصة، وتناولتها تناولا شديد التميز والثراء سواء من الناحية الموضوعية أو من الناحية الفنية.
أ – من منظور طفلة :
في قصة " عندما تعزف البيانولا " :
الطفلة تمني نفسها بأن يأخذها عازف " البيانولا " إلى عوالم من السحر والخيال، ولكن الواقع مؤلم ومفجع، فاللقطات الدائرية، والدنا المسحورة، تقدم واقع العرب والمسلمين المزري.
لقطة دائرية ..
دنيا مسحورة ( 1 ) :
يمتزج ضوء ووتر حزين وأمواج أتراب هبت مع هبوب عاصفة إعلان إنفصال مصر والسودان، بعد أن كانتا مجتمعتين من دون الواو بينهما.
.....
لقطة دائرية ..
دنيا مسحورة ( 2 )
يعزف راع عراقي وحيد على أوتار ليله السجين، متمايلا كأمواج أتعبها الاهتزاز يدندن :
-القهر وكرسي الحكم توأمان .. راميا ببصره إلى نقطة التلاقي بين دجلة والفرات السابحين في عروق السُّنة فقط، ويجف حينما تقترب منه أرواح شريرة من ديانات أخرى، يراها الداعشي مدنسة، فيزهقها تقربا لخليفته العباسي.
.....
لقطة دائرية ..
دنيا مسحورة ( 3 ) ..
بجعات تتراقص على وتيرة محسوبة، غير أن بجعة بعيدة تحدق في أطراف نهر النيل وقد أصابته عين حسد، فتشقق وطرد الكثير من البلدان المحيطة به، وخاصة التي لم تتقبل فكرة التماهي في أعماقه كفتاة النيل من الموروث الفرعوني، يغرق بصرها في العتمة، ويتدرج الظلام في الصعود، حتى تذوب الفواصل بين البلدان.
.....
لقطة دائرية ..
دنيا مسحورة ( 4 ) ..
يتبدى لها قصر جميل مزدان برطوش دموية، تهدّم على ساكنيه الحيارى في طرقات " غزة ". ضحكة طفل، قدماه مخضبتان بدم أبيض غريب، لم تره من قبل، حتى أصبح شبحا يجعلها تهذي بهمهمات غير مفهومة لا تشبه الكلمات. رجل تهرول إليه ابنته لتنقذ ما تبقى منه أسفل المدرعة الصهيونية، جثث محترقة، وأنات ألم، مجنون هذا الألم يفتك بالجميع.
.....
لقطة دائرية ..
دنيا مسحورة ( 5 ) ..
مؤذن بورمي يرفع صوته المبحوح في بوق من ورق.
....
لقطة دائرية ..
دنيا مسحورة ( 10 )، ( 11 )، ...، ( 100 ) لم ترهم الطفلة بعد!.
ونقول الكاتبة :
وعلى هامش الدوائر، لا يلهو طفل سوري، وآخر ليبي، حينما قتلوا اللعب!,
ويخيب أمل الطفلة في البحر، والحديقة الجميلة، والتزلج على الجليد، والرقص تحت المطر.
.......
ب – من منظور أديبة وباحثة :
في قصة " عزاء في غروب الشمس " تقدم الكاتبة من خلال بطلة نصها مفارقة مدهشة.
بطلة النص تستعد لإلقاء بحث في مؤتمر عقد بدبي عن التربية في وطننا العربي، وتأمل مشاهدات هذه الباحثة :
" مبكرا بدأ المؤتمر.
نظرت إلى الأساتذة الصاعدين إلى المنصة، وتأملت أناقتهم، لتتذكر أناقة الطفل السوري القابع في رصيف شارعها بمصر، بنطاله الممزق يشبه ( كرافت ) أحدهم، أحادي الرجل، والرجل الثانية يكملها بكيس " بلاستيكي ".
خدا أحدهم شديدا الاحمرار يشبهان عين أم الشهيد الفلسطيني.
تشبه دماء ضحايا العبارة، ضحايا العشوائيات، ضحايا الإرهاب .."
ج – الغوص في أعماق حبيب إرهابي :
في قصة " توسلات " تقترب فيها الكاتبة من الإرهاب الذي نعاني منه في العقود الأخيرة، ومازال يضرب بأطنابه في مصر ومعظم دولنا العربية والإسلامية، بل لم تسلم دولة من دول العالم من إرهاب تلك الجماعات، وبطلة النص هي حبيبة هذا الإرهابي، ورغم أنها اقتنعت برأي شقيقها ورفضت الارتباط به، ولكنها لم تستطع أن تتخلص من حبه تماما.
تقول :
" غموضك سر بقائك في ذاكرتي، وتلك القلادة في عنقي لا أحد يعرف أنها منك. كم من السنوات تفصل بيني وبينك، غير أن عطرك في أنفي لن يزول، ومداعباتك لأناملي باقية، وأنفاسك الملتهبة أشعر بها كل يوم "
وعن التقاطهم لحبيبها وأمثاله وتدريبهم :
" بين وجوه الناس المكفهرة والأتربة المتناثرة بين الجبال الشاهقة يلهث في أثناء تدريبه، علامات الزهذ رُسمت على وجهه العابس، ثوبه شبه العسكري يليق بجسده الممشوق، وبقامته الطويلة "
وتطرح السؤال الصعب والأهم :
" متى وكيف وصل هنا، كيف أصبح إرهابيا، متى تعلم القتل، الذبح، التفجير ".
والإعلام لا حديث له إلاعن الجماعة الإرهابية التي ينتمي إليها حبيبها، وهذا الحبيب الذي تم تجنيده هو من وجهة نظرها ( كمبارس ) ويقف هناك في الخلف ملثما لا يُسمح له بإظهار صورته.
والكاتبة على وعي بأزمته الداخلية، فترصدها :
" توسل إلى الله كي يعافيه من الإدمان، وتعافى.
توسل كي يشفى من حبها، ولم يحدث. توسل كي ينزع عن نفسه ثوب الإرهاب، ففشل، ... "
وبعد كل تلك التوسلات المتكررة، يجئ اليوم الموعود، ويفجر نفسه في المبنى الذي تعمل به حبيبته!!.
أعتقد أن الكاتبة قدمت معالجة ممتازة لقصتها، قصة غير نمطية وغير تقليدية، وقدمت بأمانة وموضوعية شديدة نموذجا مختلفا عما تقدمه " الميديا " عن الإرهابي، وأما إرهابي هبة سالم فله ماله وعليه ما عليه، ويبقى السؤال من الذي ترك شبابنا ليقعوا فرائس سهلة في شباك هذه الجماعات؟.
والإجابة مؤلمة وموجعة.
د – ثورة يناير :
وتقدم أيضا محاولات البعض ركوب ثورة 25 يناير بعد نجاحها، مثل الفنانة ( توحة ) في قصة " الحدود، وتقارب الكاتبة بين هؤلاء المتسلقين والانتهازين وبين من بذل دمه حتى تنجح الثورة.
........
صورة الرجل :
تميزت قصص هبة سالم التي قدمت فيها الرجل بالنظرة الموضوعية، والوعي بطبيعته ودراسة أحواله النفسية والمزاجية، وسنقارب في عجالة قصة " على مشارف الأربعين " كنموذج للقصة التي تناولت فيها الرجل.
أ – على مشارف الأربعين :
تختلف قصة ” على مشارف الأربعين ” للكاتبة هبة سالم عن قصتها ” الأديبة .. والملك حظريوس ” في الشكل والمضمون، وفي اللغة أيضا، فالجمل في ” الأديبة .. والملك حظريوس ” سريعة، ومتدفقة، ومكثفة، بينما الجمل في ” على مشارف الأربعين ” تميل إلى الطول، والنفس الطويل، وكأن الكاتبة تهيأ نفسها لخوض غمار الرواية.
اهتمت الكاتبة بالشخصيات، وبرسمها من الخارج ومن الداخل، ويبدو هذا جليا في رسمها لشخصية ” نور ” وشخصية ” آدم “.
وإذا كانت القصة القصيرة عمادها الوصف، والرواية عمادها السرد، فالكاتبة جمعت في ” على مشارف الأربعين ” بين الوصف والسرد، واهتمت بالتفاصيل الصغيرة، وتعدت الحدث الواحد إلى حوادث متعددة، بل الحوادث في شخصية البطلة ” نور ” أحداثا مركبة ومعقدة.
والكاتبة تعالج أزمة الرجل في سن الأربعين، فالرجل ” آدم ” الملتزم أخلاقيا، وكان متيما وعاشقا لزوجته التي لم تعمر معه لأكثر من ستة أشهر، وأدركها الموت، وظل وفيا لذكراها، ورغم أنه برح مصر حزنا وكمدا إلى إيطاليا، ولكنه عف نفسه عن اشباع رغباته ونزواته رغم قوته وفحولته الواضحتين.
هذا الآدم المحافظ والذي امتلك المال، وأصبح واحدا من رجال الأعمال، وعندما يصل إلى سن الأربعين، يصبح صيدا سهلا في براثن الأنثى / الفتاة الجميلة التي تملك كل مقومات الغواية.
والشابة ” نور ” تستخدم جمالها الأنثوي الفاتن، ودموعها التي تشبه حبات اللؤلؤ في سرقة حافظة / أموال وقلب وعقل الرجل الطيب، الذي على مشارف الأربعين، وقصتها مع آدم قصة مكررة، مجرد حلقة في حلقات كثيرة تتكرر مع كل رجل في مثل ظروف آدم، فغوايتها للرجال مستمرة، ولذا كانت الكاتبة موفقة في اختيار اسم آدم، فكل رجل من السهل أن يكون صيدا سهلا لهذه الشابة الجميلة، التي تسرق ماله وقلبه وعقله، وتجعله يدمنها، وتصبح كل دنياه، وحين يعرض عليها الزواج ، تهرب منه ، وتبدأ في نصب شباكها على غيره.
وتنتقل الفتاة من آدم إلى آدم، وجاءت القصة في شكل دائري.
وشخصية ” نور ” شخصية مركبة ومعقدة، وتعاني من عقدة نفسية، وأزمتها الكبرى مع والدها الذي يعاقبها وهي طفلة عقابا بدنيا قاسيا، لأتها مصابة بداء السرقة، واحساسها بكراهيته لها، وتفضيله لأخوتها عليها، واحتضانه الحنون لهم دونها.
هل تنتقم ” نور ” من والدها في صورة هؤلاء الرجال، هل تجد سعادتها في سرقة عواطفهم، تلك العاطفة التي حُرمت منها في الطفولة، ثم تنتقم منهم بترك كل عاشق لها ومتيم بها يعاني قسوة الهجر والبُعد والحرمان، هل تتلذذ بترك الرجل حطاما؟
امتلأ دولاب ملابسها بالفساتين الجميلة الأنيقة الغالية الثمن، ووراء كل فستان قصة رجل، رجال بعدد الفساتين أوقعت بهم.
والقصة مكررة، وبنفس التفاصيل تقريبا، وفي نفس المكان تقريبا، ونفس الأدوات، الفتاة الجميلة والأنيقة والبريئة والتي تنهمر دموعها وتتساقط مثل حبات اللؤلؤ، فتثير عطف وانتباه الرجل الأربعيني الطيب فيقترب منها ويعرف مأساتها، وهي غرامها بفستان شيك وأنيق، ورغبتها المحمومة في ارتدائه، وليس معها المال الكافي لشرائه، فتأخذه الشهامة ويدفع لها ثمن الفستان، وتأخذ مع الفستان عقله وقلبه، وتبدأ قصة حب لهذا الأربعيني، قصة حب عنيفة، ويتحول مائة وثمانين درجة.
الكاتبة على وعي كبير بالزمن، ويزداد وعينا بالزمن كلما تقدم بنا العمر
ب – قصة " قطعة ثلج " :
وتؤكد فيها الكاتبة على ضعف الرجل أمام الأنثى، حتى لو كان شابا ومتزوجا، فالكاتب الشاب يقضي ليلة مع شابة سورية في الساحل الشمالي خلسة من زوجته التي تحبه ويحبها.
" بخفة ظل جرت أمامه متمايلة، لتقف أمام النافذة المطلة على البحر، وتقول له :
- شو بدك مني يا زلمة .. أم تحب أن أناديك يا دكتور .. مثل ما ينادوك؟! "
- يا حبيبي!
يجري عليها، ويحملها، ثم يُلقي بها على السرير الذي أعده العامل سابقا، الذي أتى إليه بهذه الجمرة الأنثوية المتقدة ".
ج– قصة " ما تبقى من أنوثتها ( 2 ) :
ومن القصص الجياد التي قدمت فيها الرجل أيضا، قصة " ما تبقى من أنوثتها ".
ومن المشاهد القصيرة جدا والدالة على وعي الكاتبة البصير بطبيعة الرجل وبفطرته التي فطره الله عليها، وقد صدرته على الغلاف أيضا.
" أكلا معا، لعبا معا، كبرا معا، في ظل أب يميل بقلبه إلى الغضاضة والبكارة، ويميل بجسده المتكهل على فخد أم " زين " المتعب، وأم غضة، رمشها سهم في قلب زوجها، وهناك أخرى أربعينية تقف بما تبقى من أنوثتها في مهب الريح ".
………..
………..
من التقنيات الفنية :
1 -الرمز :
كل فن حقيقي رامز، والرمز يتخلل نسيج قصص هبة سالم، وليس هو الهدف الذي تسعى لتقديمه لقارئها، وإنما تلجأ إليه كوسيلة فنية متخفية قادرة على الإشارة والإيحاء.
وقد استخدمت الرمز الكلي في قصتها البديعة " السمكة العاشقة "، الرمز الذي يتمرد في ثنايا القصة كلها، فتتعدد الرؤى والتأويلات.
والقصة قصيرة جدا، ومكثفة، وتُقرأ على أكثر من مستوى :
أ - ما تحكيه القصة بدلالتها المباشرة.
ب - ما يستتر خلف الحكاية المباشرة وخلف شعرية اللغة.
ج - الأمثولة التي تريد أن تفصح عنها هذه الحكاية.
( أ، ب، ج مأخوذ بتصرف من كتاب جماليات القصة القصيرة للدكتور حسين علي محمد ).
وبناء على ما سبق يمكننا قراءة القصة كالتالي :
الرمز الإيحائي البسيط : السمكة هي الأنثى، والعصفور هو الذكر، والسمكة قد وقعت في غرام العصفور وعشقته.
" وكلما اشتاقت إليه، تُخرج رأسها لتراه، مبتسمة سعيدة "
أما العصفور :
" فينقرها في رأسها نقرة مدمية "
ولأنها تعشقه، فتبرر فعلته :
" إنه يقبلني في رأسي قبلة لكنها – دون أن يقصد – ليست رقيقة "
هل تخدع السمكة نفسها؟ هل العشق جعلها تنظر بعين الرضى وهي عن كل عيب كليلة؟.
وراحت السمكة تبرر وتبرر أفعاله :
" وفي النقرة الأخيرة لم تستطع أن تنطق كي تبرر فعلته مرة أخرى "
لأنها قد ماتت.
وهو أي العصفور :
" شرب ماء مختلطا بدمائها " .. " وعاد منتشيا إلى عصفورته المنتظرة في العش ".
وكأن الأمثولة التي نخرج بها من القصة هي خلاصة المثل الشعبي :
" ومن الحب ما قتل ".
والسمكة هنا وقعت في خطأ فادح أودى بحياتها، وهو انسياقها وراء غواية العشق، فأعماها عن رؤية الواقع رؤية صحيحية، فهي تعيش في وسط وبيئة مختلفة عن الوسط والبيئة التي يعيش فيها العصفور، وهي من جنس وهو من جنس آخر مختلف عنها تماما، ومن الصعب بل ومن المستحيل أن يلتقيا، وهكذا كانت عدم رؤية السمكة الصحيحة لواقعها، طريقا لنهايتها المأساوية.
.......
2 - من تجارب العبث والفنتازيا :
في قصة " عصفورة بلا جناحين " تستعير الحبيبة جناحي العصفور، لتستطيع أن تحلق، وتمضي إلى حبيبها، وتعبر بحرية عن مكنونات قلبها، ..
......
3 – محاولة الكاتبة خلق أسطورتها الخاصة :
الباحث عن الأسطورة في هذه المجموعة القصصية، سيجدها مبثوثة في ثلاثة قصص على الأقل:
1 - قصة " الأديبة والملك حظريوس " :
تحاول الكاتبة فيها أن " تأسطر " هذا الملك قائلة :
( يصيح كصياح الديكة ولكنه ليس ديكا، يطير ولا يُرى، ويخرج كالدخان من جوف الأرض .. ).
وتضيف :
( يظهر في أول الشهر العربي مرة واحدة في العام .. لا نعلم في أي شهر يظهر .. ).
2 – قصة " عندما تعزف البيانولا " :
في ( لقطة دائرية ) ..
دنيا مسحورة ( 3 ) ..
في هذه اللقطة تتماهى فيها الكاتبة مع أسطورة فتاة " عروس " النيل، وهي أسطورة تعود لزمن الفراعين، واستعادتها الكاتبة لتلفت الأنظار إلى الأخطار المحدقة بالنيل.
3 – قصة " وعد من الطيب صالح " :
وتقدم الطيب صالح كبطل أسطوري :
" حينما بدأنا المعركة الطويلة حول علاقة لون بشرته بطين النيل، ولم يعترف يوما بأنه يشبهه، فثقته بأنه يأخذ لون ذكر " حورية النيل " الذي خرج إلى دنيا الشمس الحارقة التي لفحت بشرته، وعقدت معه اتفاقا ارتضاه، أن يتقبل هذا اللون كي يخرج من شقائق النيل إلى دنيا البشر العاديين .. على أن يعود إلى مملكته بعد الانتهاء من الثمانين عاما المفترضة لرحلته ".
" من اتفاقهما غير العادل هذا، أنه سيرافقه جن يحرضه على الكتابة، على أن ينام هذا الجن على لسانه وقتما شاء وحيثما شاء ".
........
4 – استرفاد أمكنة وشخصيات تراثية وأدبية :
1 - برج إيقل بباريس، برج بيزا المائل بإيطاليا، بساط ريح علاء الدين، عروس النيل .. ( قصة عندما تغزف البيانولا ).
2 – دعاء الكروان لطه حسين، سيمفونيات بيتهوفن، جبران خليل جبران .. ( قصة عزاء في غروب الشمس ).
3 – موسم الهجرة إلى الشمال، عرس الزين، ضو البيت، دومة، .. ( قصة وعد من الطيب صالح ).
4 – كتاب طوق الحمامة لابن حزم، حبابة، قيس، .. ( قصة عزف على أوتار الهيام )
5 – السندريلا، نجيب محفوظ، توفيق الحكيم، .. ( قصة عتبات ألم .. عفوا " دوامات " ).
.....ز
5 – الغرام بالوصف :
قصة " السّبت " من بدايتها إلى نهايتها، قائمة على الوصف، الوصف البديع والماتع، انظر إلى مهارة الكاتبة، وهي تصف المرأة القروية الفقيرة الذاهبة إلى السوق في صباح شتوي من صباحات القرية :
" قطرات المطر تتراقص مداعبة يدها القابضة على ( السّبت ) فوق دماغها، الذي صنع لنفسه مكانا فيها، تتشبث أناملها الرفيعة الطويلة بأطراف ( السّبت ) .. "
وتشير إلى أنها إمرأة ولود :
" وبطنها التي تدفئ الجنين الخامس بداخلها، محميا من الصقيع "
" الممر الذي تمشي عليه بقدمين متشققين، فقدت الإحساس بهما منذ أن خرجت فجرا "
" واضعة جاكيت زوجها الخلق فوق أكتافها الهزيلة "
وعن أولادها التي تركتهم في الدار :
" ترتعش أجسادهم تحت اللحاف الثقيل، يتبارى كل منهم في تخبئة قدمه تحت اللحاف المرقع البالي "
وابنها البكر :
" يجر المعزة بقوة ليخبئها داخل الغرفة التي لا تتساقط من سقفها المياه "
وأما الزوج :
" يأتي كاشفا عن ساقيه المحبوستين في حذاء من " بلاستيك " يصل إلى ركبتيه، واضعا الفأس بجوار الحائط ".
......
6 - بدايات القصص :
يقول أنطون تشيكوف " القصة الجيدة هي القصة المنزوعة المقدمة، وهبة سالم تعي ذلك تماما، فهي تدخل في الحدث مباشرة قي معظم القصص، وعلى سبيل المثال لا الحصر :
1- قصة " توسلات " :
" كنت أقول لك مرارا : من فضلك لا تجعل آمالي تتحطم على عتبات عبوسك القاتل.
واليوم أقول : إن ضحكتك المصطنعة الباهتة تُشبه شعوري المختلط الآن، بعد أن رفض أخي طلبك الارتباط بي. "
2 – قصة " ما تبقى من أنوثتها ( 1 ) :
" يناقشها فيما يحب ويكره، تحدث نفسها : سأفعل ما في جهدي حتى أحب كل ما يحبه .. سأسهر لراحته .. سأعيد ترتيب أولوياتي .. ماذا يحدث لي .. فرحتي به تقلب تفكيري رأسا على عقب ... "
3 – قصة ما تبفى من أنوثتها ( 2 ) :
" فرحة غامرة .. تصفيق مُجامل ..
لم تؤرقها فرحته الغامرة بزوجته الجديدة، هي من اختارتها له، ... "
......
7 - عناوين القصص :
وفقت الكاتبة في اختيار عناوين معظم قصصها، وخاصة العناوين التي جاءت لأسباب فنية وموضوعية معا، ومنها على سبيل المثال :
السمكة العاشقة، الأديبة والملك حظريوس، توسلات، السّبت، وعد من الطيب صالح، وردة لا عطر فيها، عصفورة بلا جناحين، عتبات ألم .. عفوا " دوامات "
....
8 – القصة الكابوسية :
وتأتي قصة " وردة لا عطر فيها " نموذجا للقصة الكابوسية، وفيها تقع فتاة في حب رجل متزوج ولديه طفل، فيجافيها النوم :
" يا نوم! رأسي يكاد ينفجر! "
ويؤنبها ضميرها :
" أهذه دموع تسبب فيها الضمير، الذي يناديني بصوت لا يخلو من زجر وعنف : أفيقي، إنه متزوج ".
وتقدم الكاتبة الصراع الرهيب الذي ينشأ في داخلها، وتأنيب الضمير، وتقدم صور حلمية كثيرة، وحوارات عنيفة بينها وبين زوجته، تنتهي بأن تقبل عليها الزوجة بالحبل وتقتحم منامها :
" إنني زوجته، وحقي الآن أن أقتل تلك النفس التي تفسد علىّ حياتي بغير الحق، وجعلتني أفقد ابني منذ ساعات بسبب إهمال والده إياه، .. "
تحكي الكابوس :
" تقترب بالحبل، انتفض في مضجعي، صارخة، منهمرة الدمع، أستشعر بغضا شديدا لكل ما في الدنيا، بل للدنيا بأسرها، ولنفسي، .. "
هل تطهرت هذه المرأة؟
" أنهض من مضجعي، ودموعي تتسايل على خدي "
ويبدو أنها تطهرت فانزاح عنها هما عظيما، وألقت عن قلبها ما يثقله، وتأتي نهاية القصة جميلة، فتقيم الكاتبة علاقة جميلة بين بطلتها والوردة التي بالحديقة،..
" أتمنى لو أنني وردة من أزهارها، إنني هكذا حقا، لكن يبدو أنني وردة ذابلة لا عطر فيها، بعد أن اشتمها بلا حق ولا هوادة ".
....
9 – اللغة الشعرية :
لغة هبة سالم ليست جافة وخشنة، ولكنها لغة تصويرية، والألفاظ التي تنتقيها بعناية فائقة، تحرص على أن تُحملها بشحنات عاطفية، وتنثرها في تراكيب جملها، التي تتراوح بين القصر والطول ، وتتراوح أيضا بين الأساليب الخبرية والإنشائية، وتشي أحيانا وتصرح أحيانا، وكل ذلك حسب حاجة " فعل القص "
.......
ملاحظات :
1 – نهايات بعض القصص لم تأتي مثل البدايات القوية لتلك القصص، وعلى سبيل المثال لا الحصر :
أ – نهاية قصة " عزاء في غروب الشمس " الحوارالذي دار بين الباحثة بطلة النص وبين باحثة أخرى تعرفت عليها في التو غير منطقي وغير مبرر فنيا، وكان من الممكن أن تلجأ الكاتبة إلى حيلة فنية أخرى لتبوح بطلتها بمكنونات قلبها، وتكشف للقراء عن حبها القديم لأحد الباحثين الذي فوجئت به في المؤتمر، فعاد هذا الحب إلى الحياة بعد ظنت أنه قد مات، وتواجده المفاجئ في المؤتمر غير مبرر أيضا، لأن مثل هذه المؤتمرات العلمية الكبرى يتم نشر أسماء الباحثين وتسليط الضوء عليهم قبل وبعد المؤتمر، وبدلا من هذا الحوار الذي جاء عبئا على النص، كان من الممكن أن تلجأ إلى البوح أو المذكرات، وخاصة أن البطلة باحثة وروائية ورأيناها تراجع روايتها الأخيرة في الفندق، وتحاول أن تختار عنوانا لها من بين عناوين أخرى ، فكان من السهل عليها وهي الروائية، أن تتناول قلمها، وتعبر على الورق عن مشاعرها، وتستعيد الحبيب وأيامه، وتكتب ما شاءت، وكانت رسالتها ستصل إلى القراء بطريقة أكثر اقناعا.
2 – كان من الممكن أن تنهي قصتها " عندما تعزف البيانولا " بهذه الكلمات التي وردت على لسان الطفلة :
" يا عمو .. البيانولا بايظة .. فين البحر، والحديقة الجميلة، والتزلج على الجليد، والرقص تحت المطر " ولا ضرورة فنية لصفحات 24، 25، 26، ويمكن حذفها، فهي لا تضيف جديدا إلى القصة.
وأرجو ألا تثير هذه الملاحظات سحابا، وألا تعكر صفوا، وأرجو أن أكون قد نثرت بعض قطرات الضوء على مجموعتها القصصية الأولى التي تؤكد على أنها كاتبة جادة وموهوبة، وليست الكتابة عندها حلية أو وردة في عروة " الجاكيت " كما عند الكثيرات، ونثق أنها قادرة على التجاوز والإضافة، وقادرة على إثراء حقل السرد العربي، وأرجو أن أكون عند حُسن الظن وعلى مستوى الثقة، ومن الله التوفيق.
مجدي جعفر
ورقة نقدية في المجموعة القصصية – للمناثشة بقصر ثقافة العاشر من رمضان – مساء الثلاثاء الموافق 22 / 6 / 2021م.