الأشياء التي نحبها تهرب منا، والأشياء التي نكرهها تلتصق بنا إلتصاق الألم بالجسد. ليس هذا في علاقاتنا العاطفية فقط، بل في كل شيء، والمال هو أهم هذه الأشياء. فبقدر حبك للمال لن تشعر أبداً بأنك امتلكته، بل ستجده يفر منك فرار الصحيح من المجذوم. وتعتبر مهنة المحاماة إحدى تلك الأشياء التي تلاحقني ملاحقة العشيقة المهووسة بعشيقها، رغم كرهي لها. ومحاولاتي المتكررة للابتعاد عنها.
إن مهنة المحاماة تكشف لك الدولة التي تعيش فيها بالكامل، تفضح كل اسرارها، من فاسدين ومناطق نفوذ، ومحسوبية، وستعرف سايكولوجية الرأسماليين الخنزيرية، وسيكولوجية السياسيين الفاشية، وسيكولوجية رجال السلطة (شرطة، ووكلاء نيابة، وقضاة)، وستعرف أن للقانون ذراع واهن، وأن القوة تخلق الحق وتحميه، وأن العدالة نفسها مؤسسة لحماية الأقوياء لا الضعفاء، وستعلم جهل الشعوب المستضعفة وتجهيلها المتعمد، وسترى استخدام القانون لمرمطة أصحاب الحقوق، والتسويف الذي دعا فقهاءَ القانون إلى القول بأن "العدالة البطيئة ظلم سريع". وسترى في المحاكم ما يسد نفسك ويطممها، إذ يحتشد فيها الفقراء في قضاياهم التافهة التي لا تتجاوز قيمة الدعوى فيها بضعة آلاف من الجنيهات، وفي القاعة المقابلة دعوى من فاسدين بملايين الدولارات. وسترى فساد المؤسسات العدلية، والرشاوى، والتنطع، واللا مؤسسية، والفوضى، وسترى أغلب المحامين، يحاولون بشق الأنفس أن يجازفوا في هذه المهنة الشاقة، وهم يتنططون من وسيلة مواصلات لأخرى من محكمة في أقصى الشمال إلى محكمة في أقصى الجنوب. وستقابل الموكلين الكئيبين من الجلابة العروب الذين يرتدون العمامات المتسخة، ويظن الواحد منهم أنه أكثر شخص فهلوي ومفتح، وستقابل العمال الكادحين الذين تأكل الشركات الكبيرة حقوقهم بلا ضمير، وسترى المجرمين طبقات، فهناك طبقة المجرمين الفقراء، من قتلة ونشالين، يعانون داخل السجون، وسترى المجرمين الكبار، وهم نظيفو الملبس ويأكلون داخل السجون ما يرسل إليهم من طعام فاخر، ويعيشون الرفاهية داخلها كما لو كانوا خارجها، وسترى المطرودين من مساكنهم، والمطلقات، والمعلقات طالبات الطلاق، ووالدات الأطفال أصحاب النفقات، وسترى الأعمى والمكسح، فأي لعنة أكبر من أن تشاهد كل هذا البؤس يومياً. فما الذي يجرني إلى كل ماسبق، ولماذا لا أجد مهنة أخرى، أعيش بها حياة الدعة والهناءة، ولو كان فتح محل صعوط في أقصى أطراف المدينة؟..
والأغرب من كل هذا أنه ورغم هذا الكره المتأصل في أعماقي تجاه هذه المهنة الشاقة، إلا أنني "مرزق" فيها جداً، ولا أعرف السبب. ولكأن القدر يعاند روحي الفنانة، وقلبي المشتاق للجمال، وعقلي المشغول بقضايا الحب لا قضايا المنازعات والكره المستبطن بين الخصوم في الدعاوى. فأصرخ في سري: لا..لست محامياً. وترد المحاماة على صراخاً بصراخ: ستظل محامياً. فأعقب عليها: شخصيتي لا تصلح لأنني أنفعل بقضايا الحق والعدل كما لو كنت أنا المظلوم. فترد هي بفحيحها الناري: مهما قلت فلا فكاك لك مني.
كم من سنين وأنا أهرب من هذه المهنة، وكم من سنين وهي تلاحقني وتتشبث بتلابيبي، وتعرقل أفراحي. وكلما ظننت أنني أفلت منها، سمعت قهقهاتها الساخرة تحيط بي من كل مكان. ورغم ذلك كله، سيستمر الهروب، ولن آلو جهداً حتى أخرج من بلد هي فيها، فتتقطع بيننا السبل، وتنأى بنا الحقب، وتستطيل بيننا المسافات..فإن بعد الدار خير من القرب.
إن مهنة المحاماة تكشف لك الدولة التي تعيش فيها بالكامل، تفضح كل اسرارها، من فاسدين ومناطق نفوذ، ومحسوبية، وستعرف سايكولوجية الرأسماليين الخنزيرية، وسيكولوجية السياسيين الفاشية، وسيكولوجية رجال السلطة (شرطة، ووكلاء نيابة، وقضاة)، وستعرف أن للقانون ذراع واهن، وأن القوة تخلق الحق وتحميه، وأن العدالة نفسها مؤسسة لحماية الأقوياء لا الضعفاء، وستعلم جهل الشعوب المستضعفة وتجهيلها المتعمد، وسترى استخدام القانون لمرمطة أصحاب الحقوق، والتسويف الذي دعا فقهاءَ القانون إلى القول بأن "العدالة البطيئة ظلم سريع". وسترى في المحاكم ما يسد نفسك ويطممها، إذ يحتشد فيها الفقراء في قضاياهم التافهة التي لا تتجاوز قيمة الدعوى فيها بضعة آلاف من الجنيهات، وفي القاعة المقابلة دعوى من فاسدين بملايين الدولارات. وسترى فساد المؤسسات العدلية، والرشاوى، والتنطع، واللا مؤسسية، والفوضى، وسترى أغلب المحامين، يحاولون بشق الأنفس أن يجازفوا في هذه المهنة الشاقة، وهم يتنططون من وسيلة مواصلات لأخرى من محكمة في أقصى الشمال إلى محكمة في أقصى الجنوب. وستقابل الموكلين الكئيبين من الجلابة العروب الذين يرتدون العمامات المتسخة، ويظن الواحد منهم أنه أكثر شخص فهلوي ومفتح، وستقابل العمال الكادحين الذين تأكل الشركات الكبيرة حقوقهم بلا ضمير، وسترى المجرمين طبقات، فهناك طبقة المجرمين الفقراء، من قتلة ونشالين، يعانون داخل السجون، وسترى المجرمين الكبار، وهم نظيفو الملبس ويأكلون داخل السجون ما يرسل إليهم من طعام فاخر، ويعيشون الرفاهية داخلها كما لو كانوا خارجها، وسترى المطرودين من مساكنهم، والمطلقات، والمعلقات طالبات الطلاق، ووالدات الأطفال أصحاب النفقات، وسترى الأعمى والمكسح، فأي لعنة أكبر من أن تشاهد كل هذا البؤس يومياً. فما الذي يجرني إلى كل ماسبق، ولماذا لا أجد مهنة أخرى، أعيش بها حياة الدعة والهناءة، ولو كان فتح محل صعوط في أقصى أطراف المدينة؟..
والأغرب من كل هذا أنه ورغم هذا الكره المتأصل في أعماقي تجاه هذه المهنة الشاقة، إلا أنني "مرزق" فيها جداً، ولا أعرف السبب. ولكأن القدر يعاند روحي الفنانة، وقلبي المشتاق للجمال، وعقلي المشغول بقضايا الحب لا قضايا المنازعات والكره المستبطن بين الخصوم في الدعاوى. فأصرخ في سري: لا..لست محامياً. وترد المحاماة على صراخاً بصراخ: ستظل محامياً. فأعقب عليها: شخصيتي لا تصلح لأنني أنفعل بقضايا الحق والعدل كما لو كنت أنا المظلوم. فترد هي بفحيحها الناري: مهما قلت فلا فكاك لك مني.
كم من سنين وأنا أهرب من هذه المهنة، وكم من سنين وهي تلاحقني وتتشبث بتلابيبي، وتعرقل أفراحي. وكلما ظننت أنني أفلت منها، سمعت قهقهاتها الساخرة تحيط بي من كل مكان. ورغم ذلك كله، سيستمر الهروب، ولن آلو جهداً حتى أخرج من بلد هي فيها، فتتقطع بيننا السبل، وتنأى بنا الحقب، وتستطيل بيننا المسافات..فإن بعد الدار خير من القرب.