أولاً - النص
كهلٌ
مَحتِ الشَّظيَّةُ ذاكرتَه...
خَوى جوفُه؛ قُدَّ قميصُ إنسانيّتِه.
أسعَفَه الشّارعُ بالحكمةِ.
سألْتُه عن عمرِه...
-أنا منِ التهمتِ الأَرَضَةُ صحيفةَ طفولتِه.
لين الأشعل/تونس
***
ثانيا - القراءة
رغم أن القصة القصيرة جداً من أحدث الفنون السردية -عند الكتّاب العرب على الأقلّ- فإنها باتت أكثرها انتشاراً وكتابة، ساعد على هذا الانتشار الشبكة العنكبوتية، وحرية النشر وسهولته، إذ لا يكاد يخلو قطر عربي من رابطة للقصة القصيرة جداً على منصة الفيسبوك.
ورغم أنّ النقّاد المؤسسين لهذا الفنّ السردي قد وضعوا لها قواعد وشروطاً، فإنّ القصة القصيرة جداً لا تزال خاضعةً للتجريب، قادرةً على توليد شروطها وأساليبها التي تكتمل بها، لتكون نوعاً كتابياً خليقاً بأن يصبح جنساً مستقلاً له مكانه في ديوان السرد.
ومع اختلاف المسميّات فإنّ الكلّ مجمعون أنّ التكثيف هو أهمّ شروط القصة القصيرة جداً. وبرأيي الشخصي فإنّ التكثيف هو عين القصة القصيرة جداً، وهو مبرر وجودها، فما القصة القصيرة جداً إلا موقفٌ من الحياة أو في الحياة، يكثّفه الكاتب ويركّزه ويطلقه سرداً على شكل قصة قصيرةٍ جداً.
وكي يكون التكثيف ذا جدوى، ولا يزعزع كيان الحكاية، أو يفقدها تماسكها، يستعين الكاتب بعددٍ من التقنيات التي تساعده في اكتناز الدلالات، كالرمز والتناص والحذف... إلخ.
إن الكاتب في لحظة الإبداع يكون في حالة فكرٍ مطلق، وحالما يبدأ بتجسيد هذا الفكر، لغةً، برموزٍ وإشارات ينفجر الإبداع كالبرق يحمل طاقةً هائلة، في وميضٍ خاطف، باهر الضوء، يحدّد، بذاته، اتجاهه و مساره وشكله وطبيعته، بحيث تنثال مساحة الضوء بعد انطلاق شرارة البرق على اتساع الفضاء المتاح أمامه... هذه هي القصة القصيرة جداً، وهذه هي قراءاتها: شرارةٌ مكتنزة بالطاقة،تومض في لحظةٍ قصيرة جداً، يعقبها ضوءٌ ينداح في جميع الفضاءات وبجميع الأطياف. التكثيف إّنما هو اكتناز النص بطاقة دلالية شديدة التركيز، والقارئ حين يفرد هذه الشحنة الدلالية، إنما يرى الانثيال الشاسع الذي يغمره ضوء النص في أفق التأويل.
القراءة الصمّاء
أو القراءة في المستوى الأول:
وأقصد بالمستوى الأول، المستوى المنظور، مستوى القراءة المباشرة لمفردات القصة كما وردت على الورق، دون أي انزياح تأويلي.
نص كهل بني على لسان راوٍ متكلم يحكي قصة طفلٍ أصيب بشظية في حرب من حروبنا التي لا تنتهي، ما أدى إلى فقدانه الذاكرة، وتشرّده في الشوارع التي أرضعته التجربة بسبب غياب الإنسانية من المجتمع، والقفلة تأتي جواباً على سؤال من الراوي تؤكّد شخصية القصة بأن طفولته ضاعت بسبب الحرب التي أفقدتنا ليس فقط حياتنا، لكن إنسانيتنا وتركتنا كائناتٍ مشوّهةً، تلك القفلة التي كشفت مغزى العنوان، فالطفولة في مجتمعات الحروب الدائمة لا مكان لها، الطفل يخلق كهلاً، بلا ذاكرة، مدرسته الشارع، وداخله أجوف.
هذه القراءة أسميها قراءةً صمّاء، لأنها لا تسمع أيّ صوتٍ آخر سوى الصوت الذي تنطق به لغة النص حرفياً، فالنصّ، بالنسبة للقارئ، يكون أصمّ، كالصخرة الصلدة، لا يُرى منها إلا قشرتها.
وهذا النص، حتى في هذا المستوى من القراءة، هو نصّ جميل حقق الإمتاع بالتكثيف، والقفلة البلاغية المنفتحة، والعنوان الساخر الجاذب المشوّق، ويسجّل موقفا للكاتبة من خلال إنسانية الموضوع وانحيازها المبطّن إلى شخصيّة النص، التي تمثّل الإنسان المقهور، الضحية الدائمة لحروب الكبار.
القراءة في الدرجة صفر
الكاتب، حين يضع نصاً، لا يقرر كيف سيكون شكل نصّه، لأن الإبداع ليس قراراً إرادياً، إنما هو حالة إشراق لا واعية. والكاتب، في لحظة الإشراق الإبداعي، يكون في تماهٍ تامٍ مع الفكرة، أشبه بالغيبوبة، أو السكر الصوفي، يصبح كلّه فكرة.
وحين يتحول هذا اللاوعي إلى لحظة واعية من أجل نقل الفكرة المجردة إلى رموز وعلامات، هذا الانتقال الفجائي أشبه بلحظة تماس بين قطبين متعاكسين: قطب الفكر الخالص، المجرّد، وقطب اللغة التي تحتاج إلى إرادة واعية لإنتاجها، يعبر عنه الكاتب بطرق تختلف باختلاف طبيعة الكاتب وثقافته ومزاجه وطقوسه. هو أشبه بشرارة برق تمزّق حجب الوعي تخترق الفكرةُ فيه اللغةَ، تتوحّد معها توحّداً تاماً، فلا يكون أي انزياح بين الفكرة واللغة. هذه حالة أشبه بحالة حلمية تخلق اللغةُ رموزَها وإشاراتها المناسبة لطبيعة الفكرة وعمقها واتساعها ومقدار ضغطها على الوعي... هنا يخلق النص بشكل ومضة أو قصة قصيرة جداً، أو قصة قصيرة… حسب طبيعة الدفق الإبداعي وحاجاته.
هذه الحالة هي التي أسماها بارت الكتابة في درجة الصفر، كتابة تكون فيها اللغة مساويةً تماما للوعي، اللغة والفكرة متوحّدان واللغة تحتوي الفكرة وتعبر عنها بشكلٍ تامّ.
هذه الكتابة في الدرجة صفر تحتاج قارئاً من الدرجة صفر أيضاً، ذاك الذي سيقرأ "وعي الكاتب" متمثلاً في لغة النص المتحدة مع الروح، فلا حاجة للقارئ أن يبحث عن مقاصد الكاتب ورؤاه وطبائعه، إذ يكون كل ذلك متضمناً في اللغة التي يقرؤها... إنه القارئ في درجة الصفر، يقرأ وعي الكاتب مباشرةً... هذه هي الفكرة الأساسية لموت المؤلف لدى البنيويين.
الكاتب حين ينقل وعيه الخالص إلى نصٍّ مكثّف، يتوسّل بكلّ ما أمكنه من تقنياتٍ أسلوبية وكتابية، مجرّباً أحياناً، مبتكراً أحياناً، حسب مقتضيات النص وحاجته. وكل هذا يتم بشكل لا إرادي بفعل التجربة الطويلة والاعتياد الذي تولده الخبرة والمهارة.
وكل فكرة أو حالة تستدعي أساليبها، رموزها أو تناصّاتها، بغفلة عن وعي الكاتب؛ لكن مستفيدة في الوقت ذاته من مخزونه الثقافي والوجداني، أي يعكس جزءاً من روحه في نصّه بكلّ أبعاد الروح الثقافية والوجدانية والحسّية، تلك التي رسّختها التجربة الطويلة في لا وعيه، ذاكرته العميقة التي هيّجتها لحظة الإبداع المتوهجة والحارة للإمساك بالفكرة التي تشكل في الجانب الكتابي هدف النص وقصده... هذا هو جوهر القصة القصيرة جدا، وهذه هي فلسفتها ومبرر وجودها، ومن هنا تأتي عناصرها وشروطها.
الوظيفة التأويلية للعنوان
يُعدّ العنوان بؤرةً تأويلية تخضع لقراءاتٍ عدّة، وتنتج معاني متشابكة.
كهل: من جاوز الثلاثين ووخطه الشيب، وقيل من بلغ الأربعين. والكهل أصل يدلّ على قوّة في الشيء.
الرجل كهل، بلغ أشده وقوته وبدا يميل نحو الشيخوخة.
وكهل في تجلّيها التراثي والتاريخي والديني أيضاً تأخذ دلالات كثيرة:
جاء في القرآن عن السيد المسيح: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)، آل عمران، يأخذ العنوان دلالات غيبية قدسية.
المجتمعات البشرية، عند ابن خلدون، تمرّ بدورة حياة كالإنسان، من الشباب حتى الشيخوخة، فالمجتمع، بعد قوّة الجيل الأول القائمة على العصبية والبناء، يصل إلى كهولته وعزّته، التي يميل بعدها نحو الشيخوخة والفناء.
وكالمجتمعات، تكون الحضارة الإنسانية برمتها، في مرحلةٍ من التاريخ، في قوة عاتية؛ لكنّها القوة التي يبدأ عندها غروب الشيخوخة.
كل هذه الدلالات وأكثر يمكن أن يضعها القارئ للعنوان أمامه؛ لكنّ قراءة النص وتمثّله بتأويلاته الممكنة، هي التي تحدّد أيٌّ من هذه التأويلات صالح وأي منها بعيد، لكن لنأخذ في اعتبارنا أن النص الأدبي، خاصة القصة القصيرة جداً، يُقرأ قراءاتٍ متعددة، تكاد تكون بعدد قُرّاء النص، وهذا يرتبط بمقدرة القارئ وثقافته، ولكلّ قراءةٍ جمالياتها الخاصة، وتأويلها الذي يرتبط بهذه الجماليات.
التناص وآفاق التأويل
التناص هو جوهرة التاج في هذا النص، وهو الرافعة التي بواسطته استطاعت الكاتبة أن تبلغ بنصها مصافّ النصوص الكبيرة المتربّعة في بانثيون السرد العربي.
هذه الدراسة تهدف إلى الولوج إلى البنية الداخلية للنصّ، من مدخل التناص، وتفكيك بنياته أينما وجدت، وتحليل التأويلات الممكنة التي تشعّ بها التناصات، واكتشاف الدلالات الكامنة بين عناصره، وإعادة تركيب النص بدلالاته الجديدة؛ وبهذه الصيرورة التحليلية التركيبية سنجد أن التكثيف قد صنع من حكاية واسعة ممتدة فكرةً فلسفيةً عميقة، تحوّل من اندياح السرد إلى تركيز الفكرة.
بنت الكاتبة لين الأشعل نصها كهل بلغة إيحائية مكتنزة الدلالات مكثفة تكثيفاً شديداً، بمجموعةٍ من التناصات، لا يكاد يخلو سطرٌ أو عبارة من تناصٍّ يحمل دلالاتٍ أوسع من الدلالة المباشرة، ولا يخفى على القارئ أن جميع هذه التناصات نهلت من منهلٍ لغويٍّ ودلاليٍّ واحد.
خوى جوفه:{ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4]. الجوف: باطن الإنسان، قلبه الروحاني، نفسه.
قدّ قميص إنسانيته: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف الآية 27(
التهمت الأرَضَة صحيفة طفولته: صحيفة قريش التي اتفقوا فيها على مقاطعة بني هاشم وحصارهم في شعب أبي طالب.
قراءة النص في أحد مستويات التأويل تنطلق من طبيعة التناصات التي تتفق بمشترك واحد هو الخطاب الإسلامي، قرآناً وتراثاً.
الشظية: كل ما يمكن أن يخترق الجسد، وبالقياس إليه، وبالمجاز ما يخر ق النفس، الروح، الفكر... حتى تصل إلى المجتمع، التراث، التقاليد، القيم.
وبحسب كل اختراق يكون المحو في الذاكرة:
ذاكرة الإنسان تاريخه الشخصي،
ذاكرة المجتمعات تاريخها، تراثها الذي تعتز به،
وفي كل هذا يصبح الباطن خاوياً.
خوى جوف الإنسان: بلا شعور، بلا ماض، ولا أهل يذكرهم،
خوى جوف المجتمعات: صارت بلا تاريخ ولا تراث،
خوى جوف الحضارة: صارت بلا قيم إنسانية.
قدّ قميص إنسانيته، تثبيت لخواء الإنسان من ذاكرته، والمجتمع العربي من تاريخه، والحضارة البشرية من قيمها الإنسانية.
والمهارة الكتابية تتجلّى في هذا الطباق بين الجوف والقميص، بين الباطن والظاهر، بين المستور وما يستره.
سألته عن عمره:
العمر ليس مجرّد سنين نعيشها ، عمر الأنسان هي مراحل حياته الحقيقية، طفولة، فشباب، فكهولة، فشيخوخة؛ وفي كل من هذه المراحل يملؤها بالحياة والعطاء.
عمر المجتمعات ما بنت، وما تركت من عمران، حسب وصف ابن خلدون للمجتمعات.
عمر الحضارة البشرية، ما خلّفت من قيم تعزّز سعادة الإنسان ومكانته.
في كل هذا نجد بطل القصة يقول: "أنا من التهمت الأرضة صحيفة عمره" .
الأرضة (جندٌ من الله مسخّرة) كما يخبرنا التراث الإسلامي، إنها التي التهمت صحيفة المشركين وانتصرت للمظلومين.
وهي من أكلت عصا سليمان، تعلِم الجموع الخائفة بأنه مات.
الأرضة هي الدابة الصغيرة التي وضعت حداً بين زمن وزمن، بين تاريخ وتاريخ، بين حضارة وحضارة؛ مأساة كبرى ومظالم يتبعها، أو ينتج عنها تجاوزٌ لعهدٍ قديم، وعبور لعهدٍ جديد، يكون الجديد فيه هو الأفضل، زمن الرسول محمد ومجتمع المدينة بعد زمن الجاهليين، زمن الجموع التي تحرّرت من قوة الملك سليمان وسطوته.
هي زمن الحضارة الإنسانية القادمة بلا ريب، وعلى أهون الأسباب "مثل الأرضة الضعيفة"، بعد أن غابت عنها القيم الإنسانية.
القفلة تعيد النص من البداية، فيها أملٌ كبيرٌ يولد من الجراح، انتصارٌ للإنساني في كلّ تجليات الإنسان، فرداً، أم مجتمعاً، أم حضارةً كونية.
في التجلّي الجريء للتأويل يحق لقارئٍ ما أن يقرأ بالكهل صورة السيد المسيح حين صَلْبِه وعمره ثلاث وثلاثون سنةً.
والشظية مسمار الصليب الذي، وهو يخترق جسده، يسحب منه، شيئاً فشيئاً، تاريخه البشري على الأرض، حتى إذا ما أنتهى الأقنوم البشريّ منه، تحوّل إلى الأقنوم الروحي المطلق القدسي.
والأرَضة هي كلّ صغير من البشر يخون كما خان الإسخريوطي، ليسلّمه بيلاطس إلى جند الرومان. هذه الأرضة التي فصلت بين حياتين، وحالتين، وافتتحت تاريخاً جديداً للبشرية تمثل بصلب المسيح ورفعه، سواء كان الصلب حقيقياً، أم "شبّه لهم".
في الخاتمة أورد ما ذكره الكاتب أحمد جاسم الحسين:
"لا توجد قراءة جامعة مانعة لأي عمل إبداعي مهما كان مستوى العمل أو مستوى القراءة... القصة القصيرة جداً نصّ إبداعي يترك أثره ليس قيما يخصّه فقط، بل يتحوّل ليصير نصاًّ معرفياً دافعاً لمزيد من القراءة والبحث... فهو محرّض ثقافيّ يسهم في تشكيل المتلقي عبر تناصّاته ورموزه وقراءاته".
منذر فالح الغزالي
بون 3/2/2021
كهلٌ
مَحتِ الشَّظيَّةُ ذاكرتَه...
خَوى جوفُه؛ قُدَّ قميصُ إنسانيّتِه.
أسعَفَه الشّارعُ بالحكمةِ.
سألْتُه عن عمرِه...
-أنا منِ التهمتِ الأَرَضَةُ صحيفةَ طفولتِه.
لين الأشعل/تونس
***
ثانيا - القراءة
رغم أن القصة القصيرة جداً من أحدث الفنون السردية -عند الكتّاب العرب على الأقلّ- فإنها باتت أكثرها انتشاراً وكتابة، ساعد على هذا الانتشار الشبكة العنكبوتية، وحرية النشر وسهولته، إذ لا يكاد يخلو قطر عربي من رابطة للقصة القصيرة جداً على منصة الفيسبوك.
ورغم أنّ النقّاد المؤسسين لهذا الفنّ السردي قد وضعوا لها قواعد وشروطاً، فإنّ القصة القصيرة جداً لا تزال خاضعةً للتجريب، قادرةً على توليد شروطها وأساليبها التي تكتمل بها، لتكون نوعاً كتابياً خليقاً بأن يصبح جنساً مستقلاً له مكانه في ديوان السرد.
ومع اختلاف المسميّات فإنّ الكلّ مجمعون أنّ التكثيف هو أهمّ شروط القصة القصيرة جداً. وبرأيي الشخصي فإنّ التكثيف هو عين القصة القصيرة جداً، وهو مبرر وجودها، فما القصة القصيرة جداً إلا موقفٌ من الحياة أو في الحياة، يكثّفه الكاتب ويركّزه ويطلقه سرداً على شكل قصة قصيرةٍ جداً.
وكي يكون التكثيف ذا جدوى، ولا يزعزع كيان الحكاية، أو يفقدها تماسكها، يستعين الكاتب بعددٍ من التقنيات التي تساعده في اكتناز الدلالات، كالرمز والتناص والحذف... إلخ.
إن الكاتب في لحظة الإبداع يكون في حالة فكرٍ مطلق، وحالما يبدأ بتجسيد هذا الفكر، لغةً، برموزٍ وإشارات ينفجر الإبداع كالبرق يحمل طاقةً هائلة، في وميضٍ خاطف، باهر الضوء، يحدّد، بذاته، اتجاهه و مساره وشكله وطبيعته، بحيث تنثال مساحة الضوء بعد انطلاق شرارة البرق على اتساع الفضاء المتاح أمامه... هذه هي القصة القصيرة جداً، وهذه هي قراءاتها: شرارةٌ مكتنزة بالطاقة،تومض في لحظةٍ قصيرة جداً، يعقبها ضوءٌ ينداح في جميع الفضاءات وبجميع الأطياف. التكثيف إّنما هو اكتناز النص بطاقة دلالية شديدة التركيز، والقارئ حين يفرد هذه الشحنة الدلالية، إنما يرى الانثيال الشاسع الذي يغمره ضوء النص في أفق التأويل.
القراءة الصمّاء
أو القراءة في المستوى الأول:
وأقصد بالمستوى الأول، المستوى المنظور، مستوى القراءة المباشرة لمفردات القصة كما وردت على الورق، دون أي انزياح تأويلي.
نص كهل بني على لسان راوٍ متكلم يحكي قصة طفلٍ أصيب بشظية في حرب من حروبنا التي لا تنتهي، ما أدى إلى فقدانه الذاكرة، وتشرّده في الشوارع التي أرضعته التجربة بسبب غياب الإنسانية من المجتمع، والقفلة تأتي جواباً على سؤال من الراوي تؤكّد شخصية القصة بأن طفولته ضاعت بسبب الحرب التي أفقدتنا ليس فقط حياتنا، لكن إنسانيتنا وتركتنا كائناتٍ مشوّهةً، تلك القفلة التي كشفت مغزى العنوان، فالطفولة في مجتمعات الحروب الدائمة لا مكان لها، الطفل يخلق كهلاً، بلا ذاكرة، مدرسته الشارع، وداخله أجوف.
هذه القراءة أسميها قراءةً صمّاء، لأنها لا تسمع أيّ صوتٍ آخر سوى الصوت الذي تنطق به لغة النص حرفياً، فالنصّ، بالنسبة للقارئ، يكون أصمّ، كالصخرة الصلدة، لا يُرى منها إلا قشرتها.
وهذا النص، حتى في هذا المستوى من القراءة، هو نصّ جميل حقق الإمتاع بالتكثيف، والقفلة البلاغية المنفتحة، والعنوان الساخر الجاذب المشوّق، ويسجّل موقفا للكاتبة من خلال إنسانية الموضوع وانحيازها المبطّن إلى شخصيّة النص، التي تمثّل الإنسان المقهور، الضحية الدائمة لحروب الكبار.
القراءة في الدرجة صفر
الكاتب، حين يضع نصاً، لا يقرر كيف سيكون شكل نصّه، لأن الإبداع ليس قراراً إرادياً، إنما هو حالة إشراق لا واعية. والكاتب، في لحظة الإشراق الإبداعي، يكون في تماهٍ تامٍ مع الفكرة، أشبه بالغيبوبة، أو السكر الصوفي، يصبح كلّه فكرة.
وحين يتحول هذا اللاوعي إلى لحظة واعية من أجل نقل الفكرة المجردة إلى رموز وعلامات، هذا الانتقال الفجائي أشبه بلحظة تماس بين قطبين متعاكسين: قطب الفكر الخالص، المجرّد، وقطب اللغة التي تحتاج إلى إرادة واعية لإنتاجها، يعبر عنه الكاتب بطرق تختلف باختلاف طبيعة الكاتب وثقافته ومزاجه وطقوسه. هو أشبه بشرارة برق تمزّق حجب الوعي تخترق الفكرةُ فيه اللغةَ، تتوحّد معها توحّداً تاماً، فلا يكون أي انزياح بين الفكرة واللغة. هذه حالة أشبه بحالة حلمية تخلق اللغةُ رموزَها وإشاراتها المناسبة لطبيعة الفكرة وعمقها واتساعها ومقدار ضغطها على الوعي... هنا يخلق النص بشكل ومضة أو قصة قصيرة جداً، أو قصة قصيرة… حسب طبيعة الدفق الإبداعي وحاجاته.
هذه الحالة هي التي أسماها بارت الكتابة في درجة الصفر، كتابة تكون فيها اللغة مساويةً تماما للوعي، اللغة والفكرة متوحّدان واللغة تحتوي الفكرة وتعبر عنها بشكلٍ تامّ.
هذه الكتابة في الدرجة صفر تحتاج قارئاً من الدرجة صفر أيضاً، ذاك الذي سيقرأ "وعي الكاتب" متمثلاً في لغة النص المتحدة مع الروح، فلا حاجة للقارئ أن يبحث عن مقاصد الكاتب ورؤاه وطبائعه، إذ يكون كل ذلك متضمناً في اللغة التي يقرؤها... إنه القارئ في درجة الصفر، يقرأ وعي الكاتب مباشرةً... هذه هي الفكرة الأساسية لموت المؤلف لدى البنيويين.
الكاتب حين ينقل وعيه الخالص إلى نصٍّ مكثّف، يتوسّل بكلّ ما أمكنه من تقنياتٍ أسلوبية وكتابية، مجرّباً أحياناً، مبتكراً أحياناً، حسب مقتضيات النص وحاجته. وكل هذا يتم بشكل لا إرادي بفعل التجربة الطويلة والاعتياد الذي تولده الخبرة والمهارة.
وكل فكرة أو حالة تستدعي أساليبها، رموزها أو تناصّاتها، بغفلة عن وعي الكاتب؛ لكن مستفيدة في الوقت ذاته من مخزونه الثقافي والوجداني، أي يعكس جزءاً من روحه في نصّه بكلّ أبعاد الروح الثقافية والوجدانية والحسّية، تلك التي رسّختها التجربة الطويلة في لا وعيه، ذاكرته العميقة التي هيّجتها لحظة الإبداع المتوهجة والحارة للإمساك بالفكرة التي تشكل في الجانب الكتابي هدف النص وقصده... هذا هو جوهر القصة القصيرة جدا، وهذه هي فلسفتها ومبرر وجودها، ومن هنا تأتي عناصرها وشروطها.
الوظيفة التأويلية للعنوان
يُعدّ العنوان بؤرةً تأويلية تخضع لقراءاتٍ عدّة، وتنتج معاني متشابكة.
كهل: من جاوز الثلاثين ووخطه الشيب، وقيل من بلغ الأربعين. والكهل أصل يدلّ على قوّة في الشيء.
الرجل كهل، بلغ أشده وقوته وبدا يميل نحو الشيخوخة.
وكهل في تجلّيها التراثي والتاريخي والديني أيضاً تأخذ دلالات كثيرة:
جاء في القرآن عن السيد المسيح: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)، آل عمران، يأخذ العنوان دلالات غيبية قدسية.
المجتمعات البشرية، عند ابن خلدون، تمرّ بدورة حياة كالإنسان، من الشباب حتى الشيخوخة، فالمجتمع، بعد قوّة الجيل الأول القائمة على العصبية والبناء، يصل إلى كهولته وعزّته، التي يميل بعدها نحو الشيخوخة والفناء.
وكالمجتمعات، تكون الحضارة الإنسانية برمتها، في مرحلةٍ من التاريخ، في قوة عاتية؛ لكنّها القوة التي يبدأ عندها غروب الشيخوخة.
كل هذه الدلالات وأكثر يمكن أن يضعها القارئ للعنوان أمامه؛ لكنّ قراءة النص وتمثّله بتأويلاته الممكنة، هي التي تحدّد أيٌّ من هذه التأويلات صالح وأي منها بعيد، لكن لنأخذ في اعتبارنا أن النص الأدبي، خاصة القصة القصيرة جداً، يُقرأ قراءاتٍ متعددة، تكاد تكون بعدد قُرّاء النص، وهذا يرتبط بمقدرة القارئ وثقافته، ولكلّ قراءةٍ جمالياتها الخاصة، وتأويلها الذي يرتبط بهذه الجماليات.
التناص وآفاق التأويل
التناص هو جوهرة التاج في هذا النص، وهو الرافعة التي بواسطته استطاعت الكاتبة أن تبلغ بنصها مصافّ النصوص الكبيرة المتربّعة في بانثيون السرد العربي.
هذه الدراسة تهدف إلى الولوج إلى البنية الداخلية للنصّ، من مدخل التناص، وتفكيك بنياته أينما وجدت، وتحليل التأويلات الممكنة التي تشعّ بها التناصات، واكتشاف الدلالات الكامنة بين عناصره، وإعادة تركيب النص بدلالاته الجديدة؛ وبهذه الصيرورة التحليلية التركيبية سنجد أن التكثيف قد صنع من حكاية واسعة ممتدة فكرةً فلسفيةً عميقة، تحوّل من اندياح السرد إلى تركيز الفكرة.
بنت الكاتبة لين الأشعل نصها كهل بلغة إيحائية مكتنزة الدلالات مكثفة تكثيفاً شديداً، بمجموعةٍ من التناصات، لا يكاد يخلو سطرٌ أو عبارة من تناصٍّ يحمل دلالاتٍ أوسع من الدلالة المباشرة، ولا يخفى على القارئ أن جميع هذه التناصات نهلت من منهلٍ لغويٍّ ودلاليٍّ واحد.
خوى جوفه:{ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4]. الجوف: باطن الإنسان، قلبه الروحاني، نفسه.
قدّ قميص إنسانيته: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف الآية 27(
التهمت الأرَضَة صحيفة طفولته: صحيفة قريش التي اتفقوا فيها على مقاطعة بني هاشم وحصارهم في شعب أبي طالب.
قراءة النص في أحد مستويات التأويل تنطلق من طبيعة التناصات التي تتفق بمشترك واحد هو الخطاب الإسلامي، قرآناً وتراثاً.
الشظية: كل ما يمكن أن يخترق الجسد، وبالقياس إليه، وبالمجاز ما يخر ق النفس، الروح، الفكر... حتى تصل إلى المجتمع، التراث، التقاليد، القيم.
وبحسب كل اختراق يكون المحو في الذاكرة:
ذاكرة الإنسان تاريخه الشخصي،
ذاكرة المجتمعات تاريخها، تراثها الذي تعتز به،
وفي كل هذا يصبح الباطن خاوياً.
خوى جوف الإنسان: بلا شعور، بلا ماض، ولا أهل يذكرهم،
خوى جوف المجتمعات: صارت بلا تاريخ ولا تراث،
خوى جوف الحضارة: صارت بلا قيم إنسانية.
قدّ قميص إنسانيته، تثبيت لخواء الإنسان من ذاكرته، والمجتمع العربي من تاريخه، والحضارة البشرية من قيمها الإنسانية.
والمهارة الكتابية تتجلّى في هذا الطباق بين الجوف والقميص، بين الباطن والظاهر، بين المستور وما يستره.
سألته عن عمره:
العمر ليس مجرّد سنين نعيشها ، عمر الأنسان هي مراحل حياته الحقيقية، طفولة، فشباب، فكهولة، فشيخوخة؛ وفي كل من هذه المراحل يملؤها بالحياة والعطاء.
عمر المجتمعات ما بنت، وما تركت من عمران، حسب وصف ابن خلدون للمجتمعات.
عمر الحضارة البشرية، ما خلّفت من قيم تعزّز سعادة الإنسان ومكانته.
في كل هذا نجد بطل القصة يقول: "أنا من التهمت الأرضة صحيفة عمره" .
الأرضة (جندٌ من الله مسخّرة) كما يخبرنا التراث الإسلامي، إنها التي التهمت صحيفة المشركين وانتصرت للمظلومين.
وهي من أكلت عصا سليمان، تعلِم الجموع الخائفة بأنه مات.
الأرضة هي الدابة الصغيرة التي وضعت حداً بين زمن وزمن، بين تاريخ وتاريخ، بين حضارة وحضارة؛ مأساة كبرى ومظالم يتبعها، أو ينتج عنها تجاوزٌ لعهدٍ قديم، وعبور لعهدٍ جديد، يكون الجديد فيه هو الأفضل، زمن الرسول محمد ومجتمع المدينة بعد زمن الجاهليين، زمن الجموع التي تحرّرت من قوة الملك سليمان وسطوته.
هي زمن الحضارة الإنسانية القادمة بلا ريب، وعلى أهون الأسباب "مثل الأرضة الضعيفة"، بعد أن غابت عنها القيم الإنسانية.
القفلة تعيد النص من البداية، فيها أملٌ كبيرٌ يولد من الجراح، انتصارٌ للإنساني في كلّ تجليات الإنسان، فرداً، أم مجتمعاً، أم حضارةً كونية.
في التجلّي الجريء للتأويل يحق لقارئٍ ما أن يقرأ بالكهل صورة السيد المسيح حين صَلْبِه وعمره ثلاث وثلاثون سنةً.
والشظية مسمار الصليب الذي، وهو يخترق جسده، يسحب منه، شيئاً فشيئاً، تاريخه البشري على الأرض، حتى إذا ما أنتهى الأقنوم البشريّ منه، تحوّل إلى الأقنوم الروحي المطلق القدسي.
والأرَضة هي كلّ صغير من البشر يخون كما خان الإسخريوطي، ليسلّمه بيلاطس إلى جند الرومان. هذه الأرضة التي فصلت بين حياتين، وحالتين، وافتتحت تاريخاً جديداً للبشرية تمثل بصلب المسيح ورفعه، سواء كان الصلب حقيقياً، أم "شبّه لهم".
في الخاتمة أورد ما ذكره الكاتب أحمد جاسم الحسين:
"لا توجد قراءة جامعة مانعة لأي عمل إبداعي مهما كان مستوى العمل أو مستوى القراءة... القصة القصيرة جداً نصّ إبداعي يترك أثره ليس قيما يخصّه فقط، بل يتحوّل ليصير نصاًّ معرفياً دافعاً لمزيد من القراءة والبحث... فهو محرّض ثقافيّ يسهم في تشكيل المتلقي عبر تناصّاته ورموزه وقراءاته".
منذر فالح الغزالي
بون 3/2/2021