«الدنيا
بنت الحارة أم المستحيل
والحارة
دنيا ألف جيل ورا جيل
والمشربيات
للسما طالعة عناقيد
بترضع من هواك.. يا نخيل»
85 عامًا عاشها الفيلسوف المصرى عبدالرحمن بدوى (1917–2002) يبحث عن الدنيا.. والمستحيل.. والحارة.. والنخيل!
يبحث عن دنيا الحق، ودنيا الفكر، ودنيا العقل، ودنيا الفلسفة، ودنيا المنطق، ودنيا الحرية. وعندما فشل - وهو الذى لم يعرف الفشل فى حياته العلمية - فى التعامل والتواصل مع بعض العقول الفكرية، والسياسية، والسلطوية، فى مدننا العربية قرر الهجرة إلى باريس مدينة النور والحرية، ليعيش هناك سنوات طويلة يبحث فيها عن حياته ودنياه وأفكاره ومبتغاه.. وبالفعل استطاع أن يجعل من تلك السنوات– وما قبلها– واحة للعلم والفكر والفلسفة التى يهواها، ويتمناها، ويعرفها ويريد لنا أن نعرفها من خلال ما يقرب من 150 كتابًا (تأليفًا وترجمة) قدمها للعقل العربى فى الداخل والخارج. ولقد بدأ مشواره الفلسفى بالترويج للفكر الوجودى ثم انتهى فى أخريات أيامه مدافعًا عن الإسلام ضد خصومه.
هكذا جاءت حياته غريبة، وعجيبة، ومتقلبة، ومتمردة، ورافضة لكل ما هو ثابت، وجامد، حتى انتهت به عام 2002 وحيدًا ومريضًا ومغمى عليه فى شارع (Rue Marbi– مربيف) بعدما سقط فى وسط الطريق، وهو عائد من المقهى (اسم المقهى بالعربي«الرحيل») إلى حجرته فى (AHoTel SAN Michele– أوتيل سان مشيل) وسط باريس– الذى عاش فيه منذ أن غادر مصر عام 1967 ولم يعد طيلة هذه السنوات سوى ثلاث مرات فقط. أما المرة الرابعة– التى رجع فيها– فكانت عندما عاد مريضًا للعلاج فى معهد ناصر على نفقة الدولة قبل وفاته فى 25 يوليو من نفس العام لتتوقف حياة هذا الفيلسوف (اللقب منحه له الدكتور طه حسين عام 1944 أثناء مناقشة رسالته للدكتوراه. يومها قال طه حسين معلقًا على الرسالة: «لأول مرة نشاهد فيلسوفًا مصريًا». هذه الحياة توقفت بالصدفة!! كما بدأت بالصدفة!! حسبما وصف هو نفسه مشوار حياته قائلًا: «بالصدفة...أتيت إلى هذا العالم، وبالصدفة.. سأغادر هذا العالم».
•••
«الضباب
من كل ناحية بيحاصركم
عنكبوت
والحياة مش بس لكن
أو أماكن
الحياة
إنى أعيش إنسان ما بينكم
أو أموت»
(باريس 2000)
فى خريف ذلك العام جئت إلى هنا لاستكمال دراسة القانون الدولى والحصول على الدكتوراه. وفى مطار القاهرة قبل وداعى قال أبى: «أسأل عن فيلسوف مصرى يعيش فى باريس اسمه عبدالرحمن بدوى (كان مدرسًا فى كلية الآداب جامعة القاهرة) وإن وجدته أعطيه هذه الرسالة». وبعدما رتبت حالى، واستقرت رحلتى الدراسية، بدأت أبحث عنه. قالوا: لا يخرج من حجرته فى البنسيون؛ إلا فى أوقات محددة. انتظرت هذه الأوقات لكننى فشلت فى الوصول إليه. وقالوا: يذهب إلى المقهى فى أيام محددة، فذهبت فى هذه الأيام لكننى فشلت فى الوصول إليه. وأثناء مواصلة بحثى عنه صدرت مذكراته التى حملت عنوان (سيرة حياتى) وأحدثت دويًا هائلًا فى الأوساط الثقافية هنا فى باريس وفى العواصم العربية والقاهرة بالطبع لما جاء فيها من هجوم شامل وكاسح على الأفكار والأحزاب والأنظمة والشخصيات السياسية والفكرية التى ظهرت فى مصر منذ الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا.
ومرت الأيام.. ورسالة أبى مازالت بين أوراقى، وانشغلت بالدراسة وبالتالى توقفت - أو يئستُ - من رحلة البحث عنه إلى أن جاءت الفرصة بعد عامين عندما التقيت بالصدفة الفنان عبدالرازق عكاشة (فنان تشكيلى مصرى يعيش فى باريس) الذى وعدنى بسرعة ترتيب لقاء معه بمساعدة صديقه الدكتور سعيد اللاوندي، خاصة عندما علم بوصية أبى وخطابه له!
•••
«وكل صباحٍ
يفاجئنا باحتمال الرحيل
إلى مدن الآخرين»
(باريس 2002)
كنا فى شهر ديسمبر من ذلك العام عندما وصلت إلى المقهى الذى يجلس فيه عبدالرازق عكاشة وفى جيبى رسالة أبى على أمل أن يكون قد استطاع تحديد موعد لى معه. جلست أمامه عدة دقائق قبل أن يقول بتأثر شديد: «يا صديقى.. منذ أيام سقط الدكتور عبدالرحمن بدوى فى شارع بالقرب من الفندق الذى يقيم فيه ونُقل للمستشفى، وأُجريت له الأسعافات الأولية، حتى استقرت حالته، مما جعله يطلب من إدارة المستشفى مغادرتها بسرعة. ووافقت المستشفى تحت ضغط منه، وعاد إلى الفندق. بعد أيام تراجعت حالته الصحية، فقررت إدارة الفندق إرسال خطابًا إلى القنصل المصرى وقتها (نيفين سميكة) جاء فيه: «لدينا شخص يقول إنه فيلسوف مصر.. فتعالوا»!
ـ قلت: ألم يزره أحد؟
ـ رد: «علمت أن بعض الكتّاب ذهبوا لزيارته بالفندق غير أنه نهرهم بشدة - بسبب كبريائه الشديدة - وطردهم قائلًا: «أنا لست مريضًا.. ودعكم من هذه الشائعات المغرضة ضدي» وحكى لى أحد الأصدقاء أنه عندما سقط فى الشارع مد إليه شخص ما ممن تجمعوا حوله يده ليساعده على الوقوف، لكنه نهره بشدة ثم أبعد يده وحاول هو بنفسه الوقوف. وكرر المحاولة مرة تلو الأخرى.. وسط ذهول المارة، لكنه فى المرة الأخيرة خانته قواه الجسدية، فسقط على الأرض فى استسلام تام. الآن الفيلسوف عبدالرحمن بدوى يتراجع.. الآن يستسلم.. وهو الذى عاش حياة شعارها (لا تراجع ولا استسلام)! حدث ذلك قبل عودته إلى القاهرة للعلاج على نفقة الدولة فى معهد ناصر الذى قضى فيه عدة شهور قبل أن يُسلم الروح إلى خالقها.. ويموت هذا الفيلسوف بعدما جعل سلوكه فى الحياة ترجمة لنظرية: «امتلئ ثقة بنفسك، وازدرئ الحاقدين».. وأعرض عن الجاهلين!
•••
«كصقر مُحطم القلب
كعاصفة بلا أسنان
سأتكئ بظهرى
على حافة المدينة
وأصد بظهرى شظايا الأصدقاء»
(القاهرة 2008 )
بعد سنوات انتهيت من دراستى وعدت للقاهرة فى ذلك العام. بعد أسابيع قررت زيارة قبره. وبالفعل ذهبت إليه. وقلت له: «يا سيدى.. كيف تقول وأنت العالم والمفكر والفيلسوف إن الحياة مجرد صدفة؟ رد بحدة: ومَن أنت؟ قلت: طالب بعثة سافر إلى باريس قبل سنوات وفشل فى الوصول إليك... وكان أبى من طلابك عام 1963 فى كلية الآداب جامعة القاهرة. ويقدر علمك، ولك رسالة معى منه. بعد فترة صمت رد قائلًا: «لو فتشت تاريخ حياة أى إنسان، لوجدت أن نوعًا من الصدفة هو الذى تسبب فى ميلاده: صدفة الزواج، صدفة فى الالتقاء بين الحيوان المنوى.. الخ.. الخ.. واهمٌ إذن مَن يظن أنَّ ثَمَّ ترتيبًا أو عناية أو غاية» ثم قال: «أنا مثلًا لو لم ينحنى والدى لالتقاط ورقة سقطت منه، لكان قد ودّع الحياة بعدما أطلق عليه الرصاص قاتل استأجره أحد خصومه فى القرية ليقتله سنة 1913. لكن الصدفة جعلته ينحنى فى ذلك المساء لينجو من الموت. وبالتالى ولدت أنا بعد ذلك بأربعين شهرًا، فى الرابع من فبراير 1917.
ـ قلت بحذر وبصوت متراجع: «نعم.. والدك الذى تزوج أكثر من امرأة وله من الأبناء 21 ابنًا وكان يسيطر على منصب العمدية (التى ورثها عن أبيه وورثها شقيقك عنه) وكان يمتلك مئات الأفدنة فى زمام قرية شرباص مركز فارسكو / محافظة دمياط.
قاطعنى قائلًا:
اسمع يا ولد: «لقد كنت الثامن من إخوتى لأمى، والخامس عشر بين أبناء والدى، ليصبح المجموع واحدًا وعشرين ولدًا. وكان ذلك تعويضًا هائلًا عما جرى لجدى، لأنه لم ينجب غير ولد واحد.. هو والدى. أما عن الأرض فلقد اشتراها أبى من شركة النيل الزراعية بطريقة شرعية قانونية سليمة ولم يظلم فيها أحدًا. وما أبعد هذا عن تصرفات (ثورة يوليو)– يبدو أنك وأباك من درويشها– التى نهبت واغتصبت الأراضى بالمصادرة، والحراسة، والظلم الفادح، الذى ليس بعده ظلم». ثم يكمل رده بكلمات نارية حادة قائلًا: «ثوار يوليو حرمونى من القرية ومن الأرض، لأنهم لم يعرفوا أن الأرض الزراعية هى بالنسبة إلى أصحابها الحقيقيين روح وحياة، وليست مجرد سلعة للاتجار، أو رأس مال للاستغلال.. إن الفلاح المصري– وربما كل فلاحى العالم– هو مِزاج من طيب النفس والخبث، ومن الشهامة والخبث، ومن البساطة والخبث! ولقد جاء الحاقدون ومن لف لفهم سنة 1952 وما تلاها فصبوا سخائمهم المملوءة بالجحود، والعقوق على صفوة أعيان الريف، وحرموا البلاد من الانتفاع بتجاربهم. فماذا كانت النتيجة؟ انهار الإنتاج الزراعى، وتألب الناس بعضهم على بعض».
ـ ولكن ذلك كله كان من أجل الشعب.. والقاعدة العريضة من الفلاحين؟
ـ رد بحدة: «ما من مستبد؛ إلا وادعى أن ما يصدرهُ من قرارات، وقوانين، إنما هو لمصلحة الشعب! وباسم مصلحة الشعب صادر عبدالناصر الأموال، والعقارات الزراعية، والعمائر المشيدة، والأسهم، والسندات! وباسم الشعب صادر حريات الناس، وأنزل بهم شتى صنوف العذاب».
- اسمح لى يا دكتور أظنك تقول ذلك لأن ثورة يوليو حددت الملكية الزراعية وتأثرت بذلك أسرتك وأنت مثلًا اعترفت قائلًا: «كان لى 25 فدانًا تم تأميمها عام 1966» ثم إنك تقول إن عبدالناصر صادر الحريات... كيف ذلك وأنت كنت تعمل فى الجامعة؟ وتكتب، وتسافر، بل إنك عُينت مستشارًا ثقافيًا بسفارة مصر فى سويسرا نوفمبر سنة 1956 فهو- أى عبدالناصر- لم يقبض عليك، ولم يعتقلك، ولم يسرق كتبك كما حدث لك فى ليبيا عام 1973.. فهل نسيت ذلك يا دكتور؟!
•••
«لا تيأسوا من رحمة الفقراء،
الذين ينزلون إلى الثورات مندهشين
على أمل أن تقودهم إلى ظل ابتسامة»
(محافظة دمياط 1966)
فى يوم 14 يوليو من ذلك العام قامت اللجنة العليا لتصفية الإقطاع (برئاسة عبدالحكيم عامر) بفرض ما سمى وقتها «تحفظًا»على أراضينا الزراعية هكذا يتذكر الدكتور بدوى ثم يكمل قائلًا: «يومها اسُتدعينا أمام إحدى اللجان، وفندنا كل دعوى ادعتها اللجنة زورًا وعدوانًا بشأن مخالفة القانون، لكننا فوجئنا بعد عشرة أيام بفرض الحراسة علينا. وعندما طلبنى الدكتور ثروت عكاشة– فى اليوم التالى بعد فرض الحراسة– قال لى إنه سيتحدث مع الرئيس عبدالناصر فى هذا الأمر. وبالفعل قال لى بعدما التقى به: الرئيس.. أبدى أسفه لذلك، وقال: إننا رجال الثورة تعلمنا الفلسفة من كتبه، خصوصًا من كتاب نيتشه. فهل كان ثروت عكاشة صادقًا فيما نقله عن عبدالناصر أو كان كلامه من قبيل المجاملة»!
•••
«يبدو أننا فى حقيقة الأمر
لم نكن نعرف،
أن الثورات أيضًا،
يمكنها أن تذبلَ»
(المقابر بعد مرور 30 دقيقة)
يا سيدى الدكتور ألست أنت الذى قلت إن الملك فاروق أخذ يتغير نحو الفساد بسبب حاشية من الأفاقين، والمتملقين، والسماسرة.. وإن الاضطراب السياسى بلغ مداه قبل حركة يوليو بالدرجة التى أصابت المجتمع باليأس والإحباط مما تطلب تغييرًا جذريًا فى الحياة السياسية.. وأنت نفسك انضممت إلى حزب مصر الفتاة ووافقت وأنت عضو فيه على خطة لضرب عباس محمود العقاد «علقة» لأنه قال رأيًا مخالفًا لكم؟
رد بعد فترة صمت قائلًا: «حماستى لثورة يوليو تراجعت منذ اتفاقية استقلال السودان عن مصر. قد يقول البعض إن هذا ما يريده شعب السودان.. نعم فليذهب وشأنه! لكن ما كان يُهمنا من عدم استقلال السودان هو ضمان تدفق مياه النيل لمصر. يومها قلت: بعدما استقل السودان يجب أن نعمل على ضمان حقوقنا المشروعة فى مياه النيل. أما عن ضرب العقاد فكان ذلك بسبب سلاطة لسانه ضد مصر الفتاة «وكان رأيى أنه لن يتراجع إلا باستخدام العنف معه. واخذ برأيى اثنان من أعضاء الحزب. وتربصا به وهو عائد إلى بيته وانهالا عليه بالضرب، والصفع، والركل، وأفهمناه أن هذا تأديب مبدئى بسبب مقالين ضد مصر الفتاة، واحدثت هذه «العلقة» أثرها الحاسم، فخرس العقاد خرسًا تامًا ولم يُعد إلى الكتابة ضد مصر الفتاة»!
•••
«النخل، والنيل، والشجر،
والمدرسة، والصبح بدري
وولاد بلدنا الطيبين
شايلين أمانى وشوق بيجري»
(المقابر بعد 40 دقيقة)
مر الوقت سريعًا، ولم أسأله حتى الآن عن النيل، والنخيل، وأهله قريته الطيبين الذين وقفوا مع أسرته وقت أزمة التحفظ على أملاكهم. لكننى– بسبب مداهمة الوقت– قررت أسأله: لماذا لم يتزوج؟ ثم تراجعت خوفًا من رد فعله.. لكنه سمعنى وأنا أتمتم بهذه السؤال بصوت هامس وضعيف.. وإذا به يرد منزعجًا: «تسأل لماذا لم أتزوج؟ هززت رأسى فى صمت! رد قائلًا: «سؤال (تافه) مثلك.. تسأله مثلما سأله ضابط ليبيى عندما اعتقلت هناك!
قلت: ولماذا اعُتقلت فى ليبيا؟
رد بسخرية قائلًا: «بعدما غادرت مصر عام 1967 إلى فرنسا هربًا من الوضع السياسى المتدهور فى مصر، جاءت لى دعوة إلى جامعة بنغازي (أول جامعة أنشئت هناك) للعمل أستاذًا للفلسفة فى كلية الآداب والتربية.. وبالفعل سافرت وعملت بالجامعة حتى أصبحت رئيسًا لقسم الفلسفة، وفى هذه السنوات تغيرت ليبيا بعدما الغُيت فيها كل القوانين، والحريات تحت مسمى حماية الثورة– وباسم الشعب أيضًا– بقيادة الأخ العقيد. وفى عام 1973 تم اعتقالى بعدما طرق باب بيتى ضابط بملابس مدنية وقام بتفتيش الشقة وكل محتوياتها خاصة الكتب وأخذ معه كتاب (منطق أرسطو)! وتم القبض علىّ وترحيلى إلى سجن (الكويفية) الذى اعتقلت فيه 17 يومًا. فى التحقيق سألنى الضابط: ما رأيك فى سارتر؟ ثم سألنى: لماذا لم تتزوج؟ (سؤال تافه أليس كذلك؟!) قلت له: «أنا لم أتزوج حتى أتفرغ للعلم وحده» وبعد تدخل الرئيس السادات تم الإفراج عنى، وغادرت ليبيا إلى غير رجعة. وكلما حضر القذافى أى محفل ثقافى سُئل لماذا اعتقلت الدكتور عبدالرحمن بدوى؟ يسكت ولا يرد»!
•••
«يا رب..
اِملا الغيطان بالفَرَح والقمح
واملا قلوب المعانى.. بالكلام السمح
وابدُرنا عيش فى الجُرون.. تِملا حواصل الطير
وارزقنا طَرْح السواقى.. بالندى والخير»
( المقابر– بعد 50 دقيقة)
استعد الآن لمغادرة المكان.. والدكتور مازال صامتًا، وكأنه يتذكر الغيطان، والزرع، والقمح، وقريته، والطير، والسواقى، والنيل. والندى والخير. ثم سألنى: أين رسالة والدك التى أرسلها لى؟ قلت: معى.. اتفضل!
رد فى عجلة من أمره: افتحها وأقرأ سطورها يا ولد.
حاضر: تقول كلمات الرسالة:
بعد التحية والسلام...
إلى الدكتور الفيلسوف.. عبدالرحمن بدوى: اسمح لى أن أقول لك.. إن المنافقين، والأفاقين، والكاذبين، وأنصاف المواهب، والحاقدين زادوا فى المجتمع، وتوحشوا، بصورة كبيرة ومزعجة، ومدمرة للكفاءات فى شتى المجالات من الجامعة إلى الصحافة، ومن الطب إلى الثقافة، ومن الهندسة إلى الإدارة، ومن الإعلام إلى السياسة.. ومن الفن إلى التجارة.. فماذا نحن فاعلون؟!
صمت الفليسوف قليلًا وسط هدوء المكان الذى بدأ ضوء النهار فيه ينسحب خلف شواهد الموتى، وبدأت أنا أتركه مستأذنًا قبل أن يرد قائلًا: «يا ولد... قل لأبيك..الدكتور عبدالرحمن بدوى يقول لك: فى مجتمعاتنا العربية – إذا أردت النجاح – فما عليك إلا أن «تملئ نفسك بالثقة.. وأن تزدرء الحاقدين».. وَأن تعْرِضْ عَنِ الْجَاهِليِنَ!
حضر الزيارة:
خيرى حسن
•• الأحداث حقيقية... وسيناريو المقال من خيال الكاتب.
•• الشعر المصاحب للكتابة (حسب ترتيب النشر) للشعراء:
عمر نجم.
أمجد ناصر.
محمود خيرالله.
محمد أحمد إسماعيل.
•• شارك فى تدقيق المعلومات والترجمة والوثائق:
• من باريس- الفنان/ عبدالرازق عكاشة
• من طرابلس– الدكتورة/ حواء القمودى.
•• كل ما جاء بين الأقواس هو اعترافات د. عبدالرحمن بدوى فى مذكراته.
المصادر:
•• كتاب سيرة حياتي/ الدكتور عبدالرحمن بدوى الجزء (الأول– والثانى) الطبعة الأولى–2000 / المؤسسة العربية للدراسات والنشر– لبنان.
•• الصحف:
الأهرام/ الوفد/ الأخبار/ المصرى اليوم.
•• المجلات:
الحوادث اللبنانية/ آخر ساعة/ صباح الخير/ الأهرام العربى.
•• ينُشر غداً الخميس 22 يوليو/ 2021 فى صحيفة الوفد / العدد الاسبوعى.
www.facebook.com
بنت الحارة أم المستحيل
والحارة
دنيا ألف جيل ورا جيل
والمشربيات
للسما طالعة عناقيد
بترضع من هواك.. يا نخيل»
85 عامًا عاشها الفيلسوف المصرى عبدالرحمن بدوى (1917–2002) يبحث عن الدنيا.. والمستحيل.. والحارة.. والنخيل!
يبحث عن دنيا الحق، ودنيا الفكر، ودنيا العقل، ودنيا الفلسفة، ودنيا المنطق، ودنيا الحرية. وعندما فشل - وهو الذى لم يعرف الفشل فى حياته العلمية - فى التعامل والتواصل مع بعض العقول الفكرية، والسياسية، والسلطوية، فى مدننا العربية قرر الهجرة إلى باريس مدينة النور والحرية، ليعيش هناك سنوات طويلة يبحث فيها عن حياته ودنياه وأفكاره ومبتغاه.. وبالفعل استطاع أن يجعل من تلك السنوات– وما قبلها– واحة للعلم والفكر والفلسفة التى يهواها، ويتمناها، ويعرفها ويريد لنا أن نعرفها من خلال ما يقرب من 150 كتابًا (تأليفًا وترجمة) قدمها للعقل العربى فى الداخل والخارج. ولقد بدأ مشواره الفلسفى بالترويج للفكر الوجودى ثم انتهى فى أخريات أيامه مدافعًا عن الإسلام ضد خصومه.
هكذا جاءت حياته غريبة، وعجيبة، ومتقلبة، ومتمردة، ورافضة لكل ما هو ثابت، وجامد، حتى انتهت به عام 2002 وحيدًا ومريضًا ومغمى عليه فى شارع (Rue Marbi– مربيف) بعدما سقط فى وسط الطريق، وهو عائد من المقهى (اسم المقهى بالعربي«الرحيل») إلى حجرته فى (AHoTel SAN Michele– أوتيل سان مشيل) وسط باريس– الذى عاش فيه منذ أن غادر مصر عام 1967 ولم يعد طيلة هذه السنوات سوى ثلاث مرات فقط. أما المرة الرابعة– التى رجع فيها– فكانت عندما عاد مريضًا للعلاج فى معهد ناصر على نفقة الدولة قبل وفاته فى 25 يوليو من نفس العام لتتوقف حياة هذا الفيلسوف (اللقب منحه له الدكتور طه حسين عام 1944 أثناء مناقشة رسالته للدكتوراه. يومها قال طه حسين معلقًا على الرسالة: «لأول مرة نشاهد فيلسوفًا مصريًا». هذه الحياة توقفت بالصدفة!! كما بدأت بالصدفة!! حسبما وصف هو نفسه مشوار حياته قائلًا: «بالصدفة...أتيت إلى هذا العالم، وبالصدفة.. سأغادر هذا العالم».
•••
«الضباب
من كل ناحية بيحاصركم
عنكبوت
والحياة مش بس لكن
أو أماكن
الحياة
إنى أعيش إنسان ما بينكم
أو أموت»
(باريس 2000)
فى خريف ذلك العام جئت إلى هنا لاستكمال دراسة القانون الدولى والحصول على الدكتوراه. وفى مطار القاهرة قبل وداعى قال أبى: «أسأل عن فيلسوف مصرى يعيش فى باريس اسمه عبدالرحمن بدوى (كان مدرسًا فى كلية الآداب جامعة القاهرة) وإن وجدته أعطيه هذه الرسالة». وبعدما رتبت حالى، واستقرت رحلتى الدراسية، بدأت أبحث عنه. قالوا: لا يخرج من حجرته فى البنسيون؛ إلا فى أوقات محددة. انتظرت هذه الأوقات لكننى فشلت فى الوصول إليه. وقالوا: يذهب إلى المقهى فى أيام محددة، فذهبت فى هذه الأيام لكننى فشلت فى الوصول إليه. وأثناء مواصلة بحثى عنه صدرت مذكراته التى حملت عنوان (سيرة حياتى) وأحدثت دويًا هائلًا فى الأوساط الثقافية هنا فى باريس وفى العواصم العربية والقاهرة بالطبع لما جاء فيها من هجوم شامل وكاسح على الأفكار والأحزاب والأنظمة والشخصيات السياسية والفكرية التى ظهرت فى مصر منذ الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا.
ومرت الأيام.. ورسالة أبى مازالت بين أوراقى، وانشغلت بالدراسة وبالتالى توقفت - أو يئستُ - من رحلة البحث عنه إلى أن جاءت الفرصة بعد عامين عندما التقيت بالصدفة الفنان عبدالرازق عكاشة (فنان تشكيلى مصرى يعيش فى باريس) الذى وعدنى بسرعة ترتيب لقاء معه بمساعدة صديقه الدكتور سعيد اللاوندي، خاصة عندما علم بوصية أبى وخطابه له!
•••
«وكل صباحٍ
يفاجئنا باحتمال الرحيل
إلى مدن الآخرين»
(باريس 2002)
كنا فى شهر ديسمبر من ذلك العام عندما وصلت إلى المقهى الذى يجلس فيه عبدالرازق عكاشة وفى جيبى رسالة أبى على أمل أن يكون قد استطاع تحديد موعد لى معه. جلست أمامه عدة دقائق قبل أن يقول بتأثر شديد: «يا صديقى.. منذ أيام سقط الدكتور عبدالرحمن بدوى فى شارع بالقرب من الفندق الذى يقيم فيه ونُقل للمستشفى، وأُجريت له الأسعافات الأولية، حتى استقرت حالته، مما جعله يطلب من إدارة المستشفى مغادرتها بسرعة. ووافقت المستشفى تحت ضغط منه، وعاد إلى الفندق. بعد أيام تراجعت حالته الصحية، فقررت إدارة الفندق إرسال خطابًا إلى القنصل المصرى وقتها (نيفين سميكة) جاء فيه: «لدينا شخص يقول إنه فيلسوف مصر.. فتعالوا»!
ـ قلت: ألم يزره أحد؟
ـ رد: «علمت أن بعض الكتّاب ذهبوا لزيارته بالفندق غير أنه نهرهم بشدة - بسبب كبريائه الشديدة - وطردهم قائلًا: «أنا لست مريضًا.. ودعكم من هذه الشائعات المغرضة ضدي» وحكى لى أحد الأصدقاء أنه عندما سقط فى الشارع مد إليه شخص ما ممن تجمعوا حوله يده ليساعده على الوقوف، لكنه نهره بشدة ثم أبعد يده وحاول هو بنفسه الوقوف. وكرر المحاولة مرة تلو الأخرى.. وسط ذهول المارة، لكنه فى المرة الأخيرة خانته قواه الجسدية، فسقط على الأرض فى استسلام تام. الآن الفيلسوف عبدالرحمن بدوى يتراجع.. الآن يستسلم.. وهو الذى عاش حياة شعارها (لا تراجع ولا استسلام)! حدث ذلك قبل عودته إلى القاهرة للعلاج على نفقة الدولة فى معهد ناصر الذى قضى فيه عدة شهور قبل أن يُسلم الروح إلى خالقها.. ويموت هذا الفيلسوف بعدما جعل سلوكه فى الحياة ترجمة لنظرية: «امتلئ ثقة بنفسك، وازدرئ الحاقدين».. وأعرض عن الجاهلين!
•••
«كصقر مُحطم القلب
كعاصفة بلا أسنان
سأتكئ بظهرى
على حافة المدينة
وأصد بظهرى شظايا الأصدقاء»
(القاهرة 2008 )
بعد سنوات انتهيت من دراستى وعدت للقاهرة فى ذلك العام. بعد أسابيع قررت زيارة قبره. وبالفعل ذهبت إليه. وقلت له: «يا سيدى.. كيف تقول وأنت العالم والمفكر والفيلسوف إن الحياة مجرد صدفة؟ رد بحدة: ومَن أنت؟ قلت: طالب بعثة سافر إلى باريس قبل سنوات وفشل فى الوصول إليك... وكان أبى من طلابك عام 1963 فى كلية الآداب جامعة القاهرة. ويقدر علمك، ولك رسالة معى منه. بعد فترة صمت رد قائلًا: «لو فتشت تاريخ حياة أى إنسان، لوجدت أن نوعًا من الصدفة هو الذى تسبب فى ميلاده: صدفة الزواج، صدفة فى الالتقاء بين الحيوان المنوى.. الخ.. الخ.. واهمٌ إذن مَن يظن أنَّ ثَمَّ ترتيبًا أو عناية أو غاية» ثم قال: «أنا مثلًا لو لم ينحنى والدى لالتقاط ورقة سقطت منه، لكان قد ودّع الحياة بعدما أطلق عليه الرصاص قاتل استأجره أحد خصومه فى القرية ليقتله سنة 1913. لكن الصدفة جعلته ينحنى فى ذلك المساء لينجو من الموت. وبالتالى ولدت أنا بعد ذلك بأربعين شهرًا، فى الرابع من فبراير 1917.
ـ قلت بحذر وبصوت متراجع: «نعم.. والدك الذى تزوج أكثر من امرأة وله من الأبناء 21 ابنًا وكان يسيطر على منصب العمدية (التى ورثها عن أبيه وورثها شقيقك عنه) وكان يمتلك مئات الأفدنة فى زمام قرية شرباص مركز فارسكو / محافظة دمياط.
قاطعنى قائلًا:
اسمع يا ولد: «لقد كنت الثامن من إخوتى لأمى، والخامس عشر بين أبناء والدى، ليصبح المجموع واحدًا وعشرين ولدًا. وكان ذلك تعويضًا هائلًا عما جرى لجدى، لأنه لم ينجب غير ولد واحد.. هو والدى. أما عن الأرض فلقد اشتراها أبى من شركة النيل الزراعية بطريقة شرعية قانونية سليمة ولم يظلم فيها أحدًا. وما أبعد هذا عن تصرفات (ثورة يوليو)– يبدو أنك وأباك من درويشها– التى نهبت واغتصبت الأراضى بالمصادرة، والحراسة، والظلم الفادح، الذى ليس بعده ظلم». ثم يكمل رده بكلمات نارية حادة قائلًا: «ثوار يوليو حرمونى من القرية ومن الأرض، لأنهم لم يعرفوا أن الأرض الزراعية هى بالنسبة إلى أصحابها الحقيقيين روح وحياة، وليست مجرد سلعة للاتجار، أو رأس مال للاستغلال.. إن الفلاح المصري– وربما كل فلاحى العالم– هو مِزاج من طيب النفس والخبث، ومن الشهامة والخبث، ومن البساطة والخبث! ولقد جاء الحاقدون ومن لف لفهم سنة 1952 وما تلاها فصبوا سخائمهم المملوءة بالجحود، والعقوق على صفوة أعيان الريف، وحرموا البلاد من الانتفاع بتجاربهم. فماذا كانت النتيجة؟ انهار الإنتاج الزراعى، وتألب الناس بعضهم على بعض».
ـ ولكن ذلك كله كان من أجل الشعب.. والقاعدة العريضة من الفلاحين؟
ـ رد بحدة: «ما من مستبد؛ إلا وادعى أن ما يصدرهُ من قرارات، وقوانين، إنما هو لمصلحة الشعب! وباسم مصلحة الشعب صادر عبدالناصر الأموال، والعقارات الزراعية، والعمائر المشيدة، والأسهم، والسندات! وباسم الشعب صادر حريات الناس، وأنزل بهم شتى صنوف العذاب».
- اسمح لى يا دكتور أظنك تقول ذلك لأن ثورة يوليو حددت الملكية الزراعية وتأثرت بذلك أسرتك وأنت مثلًا اعترفت قائلًا: «كان لى 25 فدانًا تم تأميمها عام 1966» ثم إنك تقول إن عبدالناصر صادر الحريات... كيف ذلك وأنت كنت تعمل فى الجامعة؟ وتكتب، وتسافر، بل إنك عُينت مستشارًا ثقافيًا بسفارة مصر فى سويسرا نوفمبر سنة 1956 فهو- أى عبدالناصر- لم يقبض عليك، ولم يعتقلك، ولم يسرق كتبك كما حدث لك فى ليبيا عام 1973.. فهل نسيت ذلك يا دكتور؟!
•••
«لا تيأسوا من رحمة الفقراء،
الذين ينزلون إلى الثورات مندهشين
على أمل أن تقودهم إلى ظل ابتسامة»
(محافظة دمياط 1966)
فى يوم 14 يوليو من ذلك العام قامت اللجنة العليا لتصفية الإقطاع (برئاسة عبدالحكيم عامر) بفرض ما سمى وقتها «تحفظًا»على أراضينا الزراعية هكذا يتذكر الدكتور بدوى ثم يكمل قائلًا: «يومها اسُتدعينا أمام إحدى اللجان، وفندنا كل دعوى ادعتها اللجنة زورًا وعدوانًا بشأن مخالفة القانون، لكننا فوجئنا بعد عشرة أيام بفرض الحراسة علينا. وعندما طلبنى الدكتور ثروت عكاشة– فى اليوم التالى بعد فرض الحراسة– قال لى إنه سيتحدث مع الرئيس عبدالناصر فى هذا الأمر. وبالفعل قال لى بعدما التقى به: الرئيس.. أبدى أسفه لذلك، وقال: إننا رجال الثورة تعلمنا الفلسفة من كتبه، خصوصًا من كتاب نيتشه. فهل كان ثروت عكاشة صادقًا فيما نقله عن عبدالناصر أو كان كلامه من قبيل المجاملة»!
•••
«يبدو أننا فى حقيقة الأمر
لم نكن نعرف،
أن الثورات أيضًا،
يمكنها أن تذبلَ»
(المقابر بعد مرور 30 دقيقة)
يا سيدى الدكتور ألست أنت الذى قلت إن الملك فاروق أخذ يتغير نحو الفساد بسبب حاشية من الأفاقين، والمتملقين، والسماسرة.. وإن الاضطراب السياسى بلغ مداه قبل حركة يوليو بالدرجة التى أصابت المجتمع باليأس والإحباط مما تطلب تغييرًا جذريًا فى الحياة السياسية.. وأنت نفسك انضممت إلى حزب مصر الفتاة ووافقت وأنت عضو فيه على خطة لضرب عباس محمود العقاد «علقة» لأنه قال رأيًا مخالفًا لكم؟
رد بعد فترة صمت قائلًا: «حماستى لثورة يوليو تراجعت منذ اتفاقية استقلال السودان عن مصر. قد يقول البعض إن هذا ما يريده شعب السودان.. نعم فليذهب وشأنه! لكن ما كان يُهمنا من عدم استقلال السودان هو ضمان تدفق مياه النيل لمصر. يومها قلت: بعدما استقل السودان يجب أن نعمل على ضمان حقوقنا المشروعة فى مياه النيل. أما عن ضرب العقاد فكان ذلك بسبب سلاطة لسانه ضد مصر الفتاة «وكان رأيى أنه لن يتراجع إلا باستخدام العنف معه. واخذ برأيى اثنان من أعضاء الحزب. وتربصا به وهو عائد إلى بيته وانهالا عليه بالضرب، والصفع، والركل، وأفهمناه أن هذا تأديب مبدئى بسبب مقالين ضد مصر الفتاة، واحدثت هذه «العلقة» أثرها الحاسم، فخرس العقاد خرسًا تامًا ولم يُعد إلى الكتابة ضد مصر الفتاة»!
•••
«النخل، والنيل، والشجر،
والمدرسة، والصبح بدري
وولاد بلدنا الطيبين
شايلين أمانى وشوق بيجري»
(المقابر بعد 40 دقيقة)
مر الوقت سريعًا، ولم أسأله حتى الآن عن النيل، والنخيل، وأهله قريته الطيبين الذين وقفوا مع أسرته وقت أزمة التحفظ على أملاكهم. لكننى– بسبب مداهمة الوقت– قررت أسأله: لماذا لم يتزوج؟ ثم تراجعت خوفًا من رد فعله.. لكنه سمعنى وأنا أتمتم بهذه السؤال بصوت هامس وضعيف.. وإذا به يرد منزعجًا: «تسأل لماذا لم أتزوج؟ هززت رأسى فى صمت! رد قائلًا: «سؤال (تافه) مثلك.. تسأله مثلما سأله ضابط ليبيى عندما اعتقلت هناك!
قلت: ولماذا اعُتقلت فى ليبيا؟
رد بسخرية قائلًا: «بعدما غادرت مصر عام 1967 إلى فرنسا هربًا من الوضع السياسى المتدهور فى مصر، جاءت لى دعوة إلى جامعة بنغازي (أول جامعة أنشئت هناك) للعمل أستاذًا للفلسفة فى كلية الآداب والتربية.. وبالفعل سافرت وعملت بالجامعة حتى أصبحت رئيسًا لقسم الفلسفة، وفى هذه السنوات تغيرت ليبيا بعدما الغُيت فيها كل القوانين، والحريات تحت مسمى حماية الثورة– وباسم الشعب أيضًا– بقيادة الأخ العقيد. وفى عام 1973 تم اعتقالى بعدما طرق باب بيتى ضابط بملابس مدنية وقام بتفتيش الشقة وكل محتوياتها خاصة الكتب وأخذ معه كتاب (منطق أرسطو)! وتم القبض علىّ وترحيلى إلى سجن (الكويفية) الذى اعتقلت فيه 17 يومًا. فى التحقيق سألنى الضابط: ما رأيك فى سارتر؟ ثم سألنى: لماذا لم تتزوج؟ (سؤال تافه أليس كذلك؟!) قلت له: «أنا لم أتزوج حتى أتفرغ للعلم وحده» وبعد تدخل الرئيس السادات تم الإفراج عنى، وغادرت ليبيا إلى غير رجعة. وكلما حضر القذافى أى محفل ثقافى سُئل لماذا اعتقلت الدكتور عبدالرحمن بدوى؟ يسكت ولا يرد»!
•••
«يا رب..
اِملا الغيطان بالفَرَح والقمح
واملا قلوب المعانى.. بالكلام السمح
وابدُرنا عيش فى الجُرون.. تِملا حواصل الطير
وارزقنا طَرْح السواقى.. بالندى والخير»
( المقابر– بعد 50 دقيقة)
استعد الآن لمغادرة المكان.. والدكتور مازال صامتًا، وكأنه يتذكر الغيطان، والزرع، والقمح، وقريته، والطير، والسواقى، والنيل. والندى والخير. ثم سألنى: أين رسالة والدك التى أرسلها لى؟ قلت: معى.. اتفضل!
رد فى عجلة من أمره: افتحها وأقرأ سطورها يا ولد.
حاضر: تقول كلمات الرسالة:
بعد التحية والسلام...
إلى الدكتور الفيلسوف.. عبدالرحمن بدوى: اسمح لى أن أقول لك.. إن المنافقين، والأفاقين، والكاذبين، وأنصاف المواهب، والحاقدين زادوا فى المجتمع، وتوحشوا، بصورة كبيرة ومزعجة، ومدمرة للكفاءات فى شتى المجالات من الجامعة إلى الصحافة، ومن الطب إلى الثقافة، ومن الهندسة إلى الإدارة، ومن الإعلام إلى السياسة.. ومن الفن إلى التجارة.. فماذا نحن فاعلون؟!
صمت الفليسوف قليلًا وسط هدوء المكان الذى بدأ ضوء النهار فيه ينسحب خلف شواهد الموتى، وبدأت أنا أتركه مستأذنًا قبل أن يرد قائلًا: «يا ولد... قل لأبيك..الدكتور عبدالرحمن بدوى يقول لك: فى مجتمعاتنا العربية – إذا أردت النجاح – فما عليك إلا أن «تملئ نفسك بالثقة.. وأن تزدرء الحاقدين».. وَأن تعْرِضْ عَنِ الْجَاهِليِنَ!
حضر الزيارة:
خيرى حسن
•• الأحداث حقيقية... وسيناريو المقال من خيال الكاتب.
•• الشعر المصاحب للكتابة (حسب ترتيب النشر) للشعراء:
عمر نجم.
أمجد ناصر.
محمود خيرالله.
محمد أحمد إسماعيل.
•• شارك فى تدقيق المعلومات والترجمة والوثائق:
• من باريس- الفنان/ عبدالرازق عكاشة
• من طرابلس– الدكتورة/ حواء القمودى.
•• كل ما جاء بين الأقواس هو اعترافات د. عبدالرحمن بدوى فى مذكراته.
المصادر:
•• كتاب سيرة حياتي/ الدكتور عبدالرحمن بدوى الجزء (الأول– والثانى) الطبعة الأولى–2000 / المؤسسة العربية للدراسات والنشر– لبنان.
•• الصحف:
الأهرام/ الوفد/ الأخبار/ المصرى اليوم.
•• المجلات:
الحوادث اللبنانية/ آخر ساعة/ صباح الخير/ الأهرام العربى.
•• ينُشر غداً الخميس 22 يوليو/ 2021 فى صحيفة الوفد / العدد الاسبوعى.
Войдите на Facebook
Войдите на Facebook, чтобы общаться с друзьями, родственниками и знакомыми.