سينقسم هذا المقال إلى قسمين:
القسم الأول سأستعرض فيه تعقيبي على مقال لدكتور شايع الوقيان، ثم القسم الثاني سأطرح فيه المقال محل التعقيب. وإذا كان هذا يبدو معكوساً، فإن السبب هو تحقيق فائدتين:
الفائدة الأولى هي استصحاب تعقيبي عند قراءة مقال الوقيان ومن ثم فهم وجهة نظري، أما الفائدة الثانية، فهي تذليل صعوبة فهم مقال الوقيان باستصحاب التعقيب الذي لا يستخدم لغة فلسفية معقدة.
(١) التعقيب:
هذا الموضوع شيق جداً، لكنه فضفاض ولذلك قابل لتخيلات كثيرة بل وأوهام أيضاً. ونحن في إطار فلسفة القانون لدينا أيضاً توجه مختلف عن التفرقة الرومانسية هذه بين الفرد والشخص. لو ارتددنا للماضي وعدنا إلى عصر العبيد؛ فإن العبد (كما يصف الفقهاء المسلمون) هو مال (شيء=فرد) أي هو باختصار رقم أحصائي. وأما الشخص فهو الشخص القانوني (أي الذي يمتلك ذاتية في مواجهة الآخر ولكن من خلال وضرورة وجود الآخر)= لأن الحقوق والإلتزامات لا تنهض إلا في ظل وجود الآخر (أي القانون)، سواء كان القانون (تشريعي، عرفي، أخلاقي..الخ).(هذا التحيز الحقوقي هو جوهر الهوية). وهذه هي الشخصية القانونية، أنظر:الإنسان القانوني، آلان سوبيو).
أما من ناحية الكوجيتو، فما أراه؛ أن الإنسان هو دائماً شخص (لأن وعيه بذاته يكفيه ليكون شخصاً، أي كي ينظر لنفسه كصاحب حق في إكتساب الحق) حتى مع عدم وجود الآخر، لذلك فهو مستعد للصراع مع الطبيعة (عندما تكون الطبيعة هي الآخر‐إذ لا أشترط أن يكون الآخر مماثلا في النوع) من أجل البقاء،أو الصراع مع البشر (كآخر) وأيضا (مبدئياً) من أجل البقاء. إذا لا يوجد فرد (بمعناه المطلق) سواء بوجود أو عدم وجود الآخر. الفرد يمكن أن يُطرح كحالة حسابية فقط (وحدة أو رقم إحصائي) ليتجرد من (إنسانيته=شخص قانوني) داخل ورقة محاسب أو خبير إحصائي.
حتى ليفناس رأى ذلك عندما استعمل الألم كأحد أقوى الكواشف عن الذات (الحق في عدم الألم-غريزة البقاء=صراع مع المرض (الآخر)).
(٢)
ما قبل اللقاء
بقلم أ / شايع الوقيان
(ما قبل اللقاء: التحول من الفرد إلى الشخص)
شايع الوقيان
هناك مقولتان لدى الفلاسفة وعلماء الاجتماع وهما “الفرد” و”الشخص”. وهما مقولتان معرفيتان ولكنهما ذاتا أصل أنطولوجي.
الإنسان يولد فرداً؛ أي كائناً بيولوجياً له ملامح معينة وملكات عامة يشترك فيها مع بقية البشر، ويسميها البعض: قدرات وإمكانات. الفرد ليست له هوية سوى “الهوية الإنسانية” العامة. فهو ليس –مثلا- عربياً، مسلماً، رجلاً أو امرأة، إلخ. فهذه الأوصاف تأتي لاحقاً مع التربية والتنشئة الاجتماعية. وفي الحالة التي يتم فيها “قولبة الفرد” يتحول إلى “شخص”: أي كائن اجتماعي/أخلاقي له “هوية شخصية”. والتربية والتنشئة ينهلان من الثقافة الاجتماعية، ويذكر غي روشيه أن الفرد يتحول إلى إنسان <شخص> عبر الثقافة (غي روشيه، ٢١٧). وبما أن الثقافة تتصل بالعقول تحديداً وتشتغل على ذاكرة الأفراد ووجدانهم، فإن تحول الفرد إلى شخص ليس عملاً محسوساً بل يتم عبر المستوى الروحي (الوجداني). ولكن التحول قد يتمظهر أحياناً في صور رمزية محسوسة كما سنرى بعد قليل.
يقول إمانويل مونييه، أحد رموز الفلسفة الشخصانية: “الشخص ليس شيئاً مادياً” (مونييه، ٧). والمراد أنه إذا كان الفرد يظهر لنا في اللحظة الأولى كشيء متجسد، إلا أنه “هويته” المميزة له والتي تنقله من إطار الكم إلى الكيف ليست شيئاً يدرَك حسياً. صحيح أن بعض الأشخاص يستعمل رموزاً مادية لإثبات هويته (شخص مثلاً يعلق صليباً صغيراً على عنقه ليعلن أنه مسيحي – أو مسلم يربي لحيته- إلخ) إلا أنها لا تشكّل الأساس الحقيقي لهويته كشخص ذي انتماءات معينة.
وفي علم الاجتماع يميز رادكليف بروان بوضوح بين الفرد والشخص. يقول “كل إنسان يعيش في المجتمع على طريقتين: كفرد وكشخص”. الفرد عضو بيولوجي يدرسه علم الأحياء والفيزيولوجيا. أما الشخص فهو موضوع لعلم النفس وعلم الاجتماع. وفي حالة الشخص لا ننظر إليه وحده بل وهو منخرط في علاقات اجتماعية. ويضرب مثلاً بعقيدة التثليث المسيحية: الله كفرد واحدٌ، ولكنه كشخص ثلاثة. (رغم أن فردانية الله ليست بيولوجية على كل حال). (رادكليف براون، ٤-٥).
يطرح عبد الله المطيري مصطلح (ما قبل اللقاء) ليحلل الكيفية التي يمكن أن نتصور بها وجود الفرد (وليس الشخص). فما قبل اللقاء هي حالة غير اجتماعية وبالتالي غير أخلاقية. وأفضل نموذجين لدراسة ذلك هما سارتر وليفيناس.
ففي حالة سارتر يكون المرء حراً بشكل مطلق، ومسيطراً على العالم. وبمجرد أن يدخل “الآخرون” إلى المشهد حتى يفقد المرء نصيباً كبيراً من حريته (المطيري، ٣٩٢). ولعلنا أن نتذكر عبارته الشهيرة (الجحيم هو الآخرون).
وأما في حالة ليفيناس، فإن الفرد يعيش مع الطبيعة على هيأة “استمتاع”، أي أن الفرد يعيش وكأن الطبيعة ملكاً له، وما أن يحضر الآخر حتى تنشأ الأخلاق (والمجتمع أيضاً). والفرد المستمتع عند ليفيناس، كما يؤكد المطيري، “ليس ذاتاً اجتماعية” (نفسه، ٣٣٣)، بل يعيش حالة انفصال مبدئية تسمح لاحقاً بنشوء اتصال أو علاقات اجتماعية.
إذن، في حالتي سارتر وليفيناس، اللحظة الأنطولوجية الأولى هي “الفردية”. وأما تشكل “الهوية الشخصية” فلا تبرز إلا في حالة “اللقاء” مع الآخر. ومن هنا نسجّل خصائص “ما قبل اللقاء”:
– الإنسان يكون فرداً ولا شخصاً،
– يكون في حالة حرية مطلقة أو استمتاع مطلق.
– عند سارتر، التحول من فرد إلى شخص يعد “جحيما”، بينما هو “نعيم” عند ليفيناس، رغم أن الأنا تعيش في “المتعة” إلا أنها متعة أنانية على حساب الآخر، فـحضور الآخر في حالة المتعة يحيله إلى “مادة للاستهلاك” (نفسه، ٣٥٩). ولهذا فإن التحرر من الذاتية شرطٌ لحضور الآخر كشخصٍ لامتناهٍ (كامل).
مما سبق نلاحظ أن الشخص لا يوجد إلا في إطار اجتماعي (وأخلاقي).
وفكرة الشخص تستدعي ما يسميه مارتن بوبر بـ”المسافة”. ومن المعروف عن بوبر التقسيم الثنائي الشهير لأنماط العلاقات: علاقة أنا-أنت وعلاقة أنا-الشيء. والعلاقة الأولى هي التي يظهر فيها الآخر كشخص كامل، كعلاقتي بصديقي أو أخي أو أمي. وأما العلاقة الثانية فهي علاقة شيئية أو موضوعية ويظهر فيها الآخر ببعد واحد فقط، كعلاقتي بسائق الأجرة، فهي محدودة جداً ويظهر فيها السائق كمجرد وسيلة وحسب. ويميل بوبر للنوع الأول، لكنه لا ينكر وجود النوع الثاني في حياتنا بشكل كبير.
فمن هو “الأنت”؟ يعدد بوبر ثلاثة فضاءات يتجلى فيها الأنت:
– علاقة الأنا بالطبيعة: وهي علاقة دنيا، كعلاقتي بالأشياء المادية،
– علاقة الأنا بالآخر: وهي علاقتي بالبشر تحديدا،
– علاقة الأنا بالمتعالي: كعلاقة المؤمن بربه (بوبر، أنا-أنت، ٩).
لكن ثمة ملاحظة مهمة يشير إليها بوبر وهي “أن الأنا لا توجد مستقلة بذاتها” (نفسه، ٧). أي ليس هناك “ما قبل اللقاء”. فكل أنا تحتوي على أنت. والمرء يولد في غضون ثقافة قائمة مسبقة، ومجتمع مستقر. ولكن بوبر في مقال لاحق بعنوان (المسافة والعلاقة) (راجع مادة بوبر، موسوعة أكسفورد الفلسفية الإلكترونية) يفترض وجود حالةٍ سابقة على العلاقة وهي “المسافة”. بمعنى أن يدرك الفرد أنه مستقل. وهذا شبيه بما أشار له ليفيناس: حالة الانفصال السابقة على الاتصال. لكن المطيري يرى أن فكرة المسافة ذاتها تستبطن وجود الآخر، فأنا لا يمكن أن أبني مسافة ما لم يكن ثمة آخر أقيم هذه المسافة معه.
يرى بوبر في هذا المقال أن الإنسان هو الوحيد القادر على أن يستقل عن الطبيعة، بخلاف الحيوان مثلا والذي يرتبط بشكل مباشر بالطبيعة دونما انفصام. بل يرى أن المسافة شرطٌ كليٌّ لوجودنا. ولولا وجود هذه المسافة لما استطاع الآخر أن يحضر كـ”أنت”. وحتى الحضور الآخري لـ”الشيء” فإنه يفترض المسافة أيضاً. وهو يتفق مع هايدجر في أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي له “عالَم”، بينما ما قبل اللقاء، أو في حالة الكوجيتو الكامن، فلا عالَم ولا آخر. ولا يبدأ العالَم إلا باللقاء بالآخر.
من الجلي إذن أن ثمة أفقاً سابقاً على كل لقاء بالآخر، وهو أفق “ما قبل اللقاء”. ورأينا أنه أفق الحرية عند سارتر، وأفق المتعة عند ليفنياس. أما مارتن بوبر فينص صراحة بأن الأنا لا يمكن أن توجد لوحدها، وهذا يعني أن “الفرد” غير موجود في نسقه الفكري، وإنما الإنسان “شخص” منذ بداياته الوجودية.
يمكن لنا افتراض كوجيتو عند سارتر وليفيناس.. والكوجيتو مصطلح ديكارتي ينطلق من الإقرار بالوجود الذاتي قبل كل شيء. فهو الوجود الذي لا يمكن الشك فيه، وهو الأساس لكل بناء معرفي لاحق. أما عند بوبر فليس هناك كوجيتو، ويتفق معه المطيري ولاسيما أنه انتقد “كوجيتو ليفيناس” من خلال البرهنة على أن حالة الاستمتاع تفترض دائماً وجودَ الآخر، ويسميها المطيري بـ”بهجة اللقاء بالآخر”. وهو يقترح أفقَ الضيافة كنموذج لهذه البهجة. يقول “إذا كانت علاقة الاستمتاع بالعالم عند ليفيناس علاقة أنانية <…> فإن الضيافة تخبرنا أن الذات تعود لعلاقة الاستمتاع هذه ولكن هذه المرة من أجل الآخر” (المطيري، ٣٩١).
كما أننا يمكن أن تستدعي نماذج أخرى كاللعب. فلا يتحقق الاستمتاع إلا بوجود الآخرين.
وأرى، بخلاف المطيري وبوبر، أن ثمة كوجيتو كامناً أو أنا سابقة على أية علاقة. بمعنى أن الفرد هو المنطلَق، ولكن الشخص يظل كينونة اجتماعية بلا ريب. صحيح أن وجود المجتمع والآخرين شرطٌ لوعي الأنا بذاتها، ولكن الأنا – على المستوى البنيوي لا التكويني- تستطيع أن تستقلَّ بل وتحرر من “هويتها الشخصية” وابتكار هوية مغايرة. فالمرء منذ أن يولد يبرمج على اتباع قواعد الثقافة والمجتمع، وتتشكل هويته بشكل قهري، بل إنه يولد “شخصاً”. لكن هناك أفراداً تحرروا من ربقة التقاليد الاجتماعية، وبالتالي من الهوية الشخصية. لكننا هنا نشهد انقلاباً في المعادلة: التحول من شخص إلى فرد، أو ما يمكن تسميته: ما بعد اللقاء. ولكننا عند التدقيق نجد أن التحول يحدث كالتالي:
١- التحول من شخص إلى فرد على المستوى التكويني،
٢- التحول من فرد إلى شخص على المستوى البنيوي.
والنوع الثاني لا يحدث لكل الناس، إنما لأصحاب الوجود الأصيل (كما يسميه هايدجر). فإذا كنّا نولد في إطار “الثرثرة” أو الوجود الغفل المزيف، فإن بعضنا يتخلص من “الهُمْ” ويبني هويته بنفسه بكل وعي وحرية.
حتى كوجيتو ديكارت مر بهذه الخطوات: في البدء كان ديكارت يعيش مع الناس معتنقا كل ما يؤمنون به، وهو هنا “شخص” ولكن بالمعنى السلبي، أي إن الآخرين يحضرون كـ”هُمْ” وليس كـ”آخرين” بالمعنى الذي بدأنا به المقال. ثم انتقل ديكارت عبر الشك، أي عبر الانفصال، إلى مرحلة الفرد الذي لا هوية اجتماعية له. أخيراً بدأ يعيد أواصر العلاقة مع العالم والآخرين ولكن بشكل واع وإيجابي ويشكل هويته الشخصية بنفسه.
ما يؤخذ على ليفيناس وبوبر والمطيري هو المبالغة في تقدير مفهوم “الآخر” أو تقديم صورة رومانسية عنه. فالآخر قد يكون جحيماً عندما تعيش الأنا في “الهُمْ” أو مع الآخر/الغُفْل الذي “ليس له وجهٌ”.
المراجع:
١- غي روشية، مقدمة في علم الاجتماع العام – الفعل الاجتماعي
٢- عبد الله المطيري، فلسفة الآخرية: الآخر بين سارتر وليفيناس وبهجة الضيافة
٣- إيمانويل مونييه، الشخصانية
٤- مارتن بوبر، أنا-أنت
5- Radcliffe-Brown, On Social Structure
6- Martin Buber, Distance and Relation (Stanford Encyclopedia of Philosophy)
القسم الأول سأستعرض فيه تعقيبي على مقال لدكتور شايع الوقيان، ثم القسم الثاني سأطرح فيه المقال محل التعقيب. وإذا كان هذا يبدو معكوساً، فإن السبب هو تحقيق فائدتين:
الفائدة الأولى هي استصحاب تعقيبي عند قراءة مقال الوقيان ومن ثم فهم وجهة نظري، أما الفائدة الثانية، فهي تذليل صعوبة فهم مقال الوقيان باستصحاب التعقيب الذي لا يستخدم لغة فلسفية معقدة.
(١) التعقيب:
هذا الموضوع شيق جداً، لكنه فضفاض ولذلك قابل لتخيلات كثيرة بل وأوهام أيضاً. ونحن في إطار فلسفة القانون لدينا أيضاً توجه مختلف عن التفرقة الرومانسية هذه بين الفرد والشخص. لو ارتددنا للماضي وعدنا إلى عصر العبيد؛ فإن العبد (كما يصف الفقهاء المسلمون) هو مال (شيء=فرد) أي هو باختصار رقم أحصائي. وأما الشخص فهو الشخص القانوني (أي الذي يمتلك ذاتية في مواجهة الآخر ولكن من خلال وضرورة وجود الآخر)= لأن الحقوق والإلتزامات لا تنهض إلا في ظل وجود الآخر (أي القانون)، سواء كان القانون (تشريعي، عرفي، أخلاقي..الخ).(هذا التحيز الحقوقي هو جوهر الهوية). وهذه هي الشخصية القانونية، أنظر:الإنسان القانوني، آلان سوبيو).
أما من ناحية الكوجيتو، فما أراه؛ أن الإنسان هو دائماً شخص (لأن وعيه بذاته يكفيه ليكون شخصاً، أي كي ينظر لنفسه كصاحب حق في إكتساب الحق) حتى مع عدم وجود الآخر، لذلك فهو مستعد للصراع مع الطبيعة (عندما تكون الطبيعة هي الآخر‐إذ لا أشترط أن يكون الآخر مماثلا في النوع) من أجل البقاء،أو الصراع مع البشر (كآخر) وأيضا (مبدئياً) من أجل البقاء. إذا لا يوجد فرد (بمعناه المطلق) سواء بوجود أو عدم وجود الآخر. الفرد يمكن أن يُطرح كحالة حسابية فقط (وحدة أو رقم إحصائي) ليتجرد من (إنسانيته=شخص قانوني) داخل ورقة محاسب أو خبير إحصائي.
حتى ليفناس رأى ذلك عندما استعمل الألم كأحد أقوى الكواشف عن الذات (الحق في عدم الألم-غريزة البقاء=صراع مع المرض (الآخر)).
(٢)
ما قبل اللقاء
بقلم أ / شايع الوقيان
(ما قبل اللقاء: التحول من الفرد إلى الشخص)
شايع الوقيان
هناك مقولتان لدى الفلاسفة وعلماء الاجتماع وهما “الفرد” و”الشخص”. وهما مقولتان معرفيتان ولكنهما ذاتا أصل أنطولوجي.
الإنسان يولد فرداً؛ أي كائناً بيولوجياً له ملامح معينة وملكات عامة يشترك فيها مع بقية البشر، ويسميها البعض: قدرات وإمكانات. الفرد ليست له هوية سوى “الهوية الإنسانية” العامة. فهو ليس –مثلا- عربياً، مسلماً، رجلاً أو امرأة، إلخ. فهذه الأوصاف تأتي لاحقاً مع التربية والتنشئة الاجتماعية. وفي الحالة التي يتم فيها “قولبة الفرد” يتحول إلى “شخص”: أي كائن اجتماعي/أخلاقي له “هوية شخصية”. والتربية والتنشئة ينهلان من الثقافة الاجتماعية، ويذكر غي روشيه أن الفرد يتحول إلى إنسان <شخص> عبر الثقافة (غي روشيه، ٢١٧). وبما أن الثقافة تتصل بالعقول تحديداً وتشتغل على ذاكرة الأفراد ووجدانهم، فإن تحول الفرد إلى شخص ليس عملاً محسوساً بل يتم عبر المستوى الروحي (الوجداني). ولكن التحول قد يتمظهر أحياناً في صور رمزية محسوسة كما سنرى بعد قليل.
يقول إمانويل مونييه، أحد رموز الفلسفة الشخصانية: “الشخص ليس شيئاً مادياً” (مونييه، ٧). والمراد أنه إذا كان الفرد يظهر لنا في اللحظة الأولى كشيء متجسد، إلا أنه “هويته” المميزة له والتي تنقله من إطار الكم إلى الكيف ليست شيئاً يدرَك حسياً. صحيح أن بعض الأشخاص يستعمل رموزاً مادية لإثبات هويته (شخص مثلاً يعلق صليباً صغيراً على عنقه ليعلن أنه مسيحي – أو مسلم يربي لحيته- إلخ) إلا أنها لا تشكّل الأساس الحقيقي لهويته كشخص ذي انتماءات معينة.
وفي علم الاجتماع يميز رادكليف بروان بوضوح بين الفرد والشخص. يقول “كل إنسان يعيش في المجتمع على طريقتين: كفرد وكشخص”. الفرد عضو بيولوجي يدرسه علم الأحياء والفيزيولوجيا. أما الشخص فهو موضوع لعلم النفس وعلم الاجتماع. وفي حالة الشخص لا ننظر إليه وحده بل وهو منخرط في علاقات اجتماعية. ويضرب مثلاً بعقيدة التثليث المسيحية: الله كفرد واحدٌ، ولكنه كشخص ثلاثة. (رغم أن فردانية الله ليست بيولوجية على كل حال). (رادكليف براون، ٤-٥).
يطرح عبد الله المطيري مصطلح (ما قبل اللقاء) ليحلل الكيفية التي يمكن أن نتصور بها وجود الفرد (وليس الشخص). فما قبل اللقاء هي حالة غير اجتماعية وبالتالي غير أخلاقية. وأفضل نموذجين لدراسة ذلك هما سارتر وليفيناس.
ففي حالة سارتر يكون المرء حراً بشكل مطلق، ومسيطراً على العالم. وبمجرد أن يدخل “الآخرون” إلى المشهد حتى يفقد المرء نصيباً كبيراً من حريته (المطيري، ٣٩٢). ولعلنا أن نتذكر عبارته الشهيرة (الجحيم هو الآخرون).
وأما في حالة ليفيناس، فإن الفرد يعيش مع الطبيعة على هيأة “استمتاع”، أي أن الفرد يعيش وكأن الطبيعة ملكاً له، وما أن يحضر الآخر حتى تنشأ الأخلاق (والمجتمع أيضاً). والفرد المستمتع عند ليفيناس، كما يؤكد المطيري، “ليس ذاتاً اجتماعية” (نفسه، ٣٣٣)، بل يعيش حالة انفصال مبدئية تسمح لاحقاً بنشوء اتصال أو علاقات اجتماعية.
إذن، في حالتي سارتر وليفيناس، اللحظة الأنطولوجية الأولى هي “الفردية”. وأما تشكل “الهوية الشخصية” فلا تبرز إلا في حالة “اللقاء” مع الآخر. ومن هنا نسجّل خصائص “ما قبل اللقاء”:
– الإنسان يكون فرداً ولا شخصاً،
– يكون في حالة حرية مطلقة أو استمتاع مطلق.
– عند سارتر، التحول من فرد إلى شخص يعد “جحيما”، بينما هو “نعيم” عند ليفيناس، رغم أن الأنا تعيش في “المتعة” إلا أنها متعة أنانية على حساب الآخر، فـحضور الآخر في حالة المتعة يحيله إلى “مادة للاستهلاك” (نفسه، ٣٥٩). ولهذا فإن التحرر من الذاتية شرطٌ لحضور الآخر كشخصٍ لامتناهٍ (كامل).
مما سبق نلاحظ أن الشخص لا يوجد إلا في إطار اجتماعي (وأخلاقي).
وفكرة الشخص تستدعي ما يسميه مارتن بوبر بـ”المسافة”. ومن المعروف عن بوبر التقسيم الثنائي الشهير لأنماط العلاقات: علاقة أنا-أنت وعلاقة أنا-الشيء. والعلاقة الأولى هي التي يظهر فيها الآخر كشخص كامل، كعلاقتي بصديقي أو أخي أو أمي. وأما العلاقة الثانية فهي علاقة شيئية أو موضوعية ويظهر فيها الآخر ببعد واحد فقط، كعلاقتي بسائق الأجرة، فهي محدودة جداً ويظهر فيها السائق كمجرد وسيلة وحسب. ويميل بوبر للنوع الأول، لكنه لا ينكر وجود النوع الثاني في حياتنا بشكل كبير.
فمن هو “الأنت”؟ يعدد بوبر ثلاثة فضاءات يتجلى فيها الأنت:
– علاقة الأنا بالطبيعة: وهي علاقة دنيا، كعلاقتي بالأشياء المادية،
– علاقة الأنا بالآخر: وهي علاقتي بالبشر تحديدا،
– علاقة الأنا بالمتعالي: كعلاقة المؤمن بربه (بوبر، أنا-أنت، ٩).
لكن ثمة ملاحظة مهمة يشير إليها بوبر وهي “أن الأنا لا توجد مستقلة بذاتها” (نفسه، ٧). أي ليس هناك “ما قبل اللقاء”. فكل أنا تحتوي على أنت. والمرء يولد في غضون ثقافة قائمة مسبقة، ومجتمع مستقر. ولكن بوبر في مقال لاحق بعنوان (المسافة والعلاقة) (راجع مادة بوبر، موسوعة أكسفورد الفلسفية الإلكترونية) يفترض وجود حالةٍ سابقة على العلاقة وهي “المسافة”. بمعنى أن يدرك الفرد أنه مستقل. وهذا شبيه بما أشار له ليفيناس: حالة الانفصال السابقة على الاتصال. لكن المطيري يرى أن فكرة المسافة ذاتها تستبطن وجود الآخر، فأنا لا يمكن أن أبني مسافة ما لم يكن ثمة آخر أقيم هذه المسافة معه.
يرى بوبر في هذا المقال أن الإنسان هو الوحيد القادر على أن يستقل عن الطبيعة، بخلاف الحيوان مثلا والذي يرتبط بشكل مباشر بالطبيعة دونما انفصام. بل يرى أن المسافة شرطٌ كليٌّ لوجودنا. ولولا وجود هذه المسافة لما استطاع الآخر أن يحضر كـ”أنت”. وحتى الحضور الآخري لـ”الشيء” فإنه يفترض المسافة أيضاً. وهو يتفق مع هايدجر في أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي له “عالَم”، بينما ما قبل اللقاء، أو في حالة الكوجيتو الكامن، فلا عالَم ولا آخر. ولا يبدأ العالَم إلا باللقاء بالآخر.
من الجلي إذن أن ثمة أفقاً سابقاً على كل لقاء بالآخر، وهو أفق “ما قبل اللقاء”. ورأينا أنه أفق الحرية عند سارتر، وأفق المتعة عند ليفنياس. أما مارتن بوبر فينص صراحة بأن الأنا لا يمكن أن توجد لوحدها، وهذا يعني أن “الفرد” غير موجود في نسقه الفكري، وإنما الإنسان “شخص” منذ بداياته الوجودية.
يمكن لنا افتراض كوجيتو عند سارتر وليفيناس.. والكوجيتو مصطلح ديكارتي ينطلق من الإقرار بالوجود الذاتي قبل كل شيء. فهو الوجود الذي لا يمكن الشك فيه، وهو الأساس لكل بناء معرفي لاحق. أما عند بوبر فليس هناك كوجيتو، ويتفق معه المطيري ولاسيما أنه انتقد “كوجيتو ليفيناس” من خلال البرهنة على أن حالة الاستمتاع تفترض دائماً وجودَ الآخر، ويسميها المطيري بـ”بهجة اللقاء بالآخر”. وهو يقترح أفقَ الضيافة كنموذج لهذه البهجة. يقول “إذا كانت علاقة الاستمتاع بالعالم عند ليفيناس علاقة أنانية <…> فإن الضيافة تخبرنا أن الذات تعود لعلاقة الاستمتاع هذه ولكن هذه المرة من أجل الآخر” (المطيري، ٣٩١).
كما أننا يمكن أن تستدعي نماذج أخرى كاللعب. فلا يتحقق الاستمتاع إلا بوجود الآخرين.
وأرى، بخلاف المطيري وبوبر، أن ثمة كوجيتو كامناً أو أنا سابقة على أية علاقة. بمعنى أن الفرد هو المنطلَق، ولكن الشخص يظل كينونة اجتماعية بلا ريب. صحيح أن وجود المجتمع والآخرين شرطٌ لوعي الأنا بذاتها، ولكن الأنا – على المستوى البنيوي لا التكويني- تستطيع أن تستقلَّ بل وتحرر من “هويتها الشخصية” وابتكار هوية مغايرة. فالمرء منذ أن يولد يبرمج على اتباع قواعد الثقافة والمجتمع، وتتشكل هويته بشكل قهري، بل إنه يولد “شخصاً”. لكن هناك أفراداً تحرروا من ربقة التقاليد الاجتماعية، وبالتالي من الهوية الشخصية. لكننا هنا نشهد انقلاباً في المعادلة: التحول من شخص إلى فرد، أو ما يمكن تسميته: ما بعد اللقاء. ولكننا عند التدقيق نجد أن التحول يحدث كالتالي:
١- التحول من شخص إلى فرد على المستوى التكويني،
٢- التحول من فرد إلى شخص على المستوى البنيوي.
والنوع الثاني لا يحدث لكل الناس، إنما لأصحاب الوجود الأصيل (كما يسميه هايدجر). فإذا كنّا نولد في إطار “الثرثرة” أو الوجود الغفل المزيف، فإن بعضنا يتخلص من “الهُمْ” ويبني هويته بنفسه بكل وعي وحرية.
حتى كوجيتو ديكارت مر بهذه الخطوات: في البدء كان ديكارت يعيش مع الناس معتنقا كل ما يؤمنون به، وهو هنا “شخص” ولكن بالمعنى السلبي، أي إن الآخرين يحضرون كـ”هُمْ” وليس كـ”آخرين” بالمعنى الذي بدأنا به المقال. ثم انتقل ديكارت عبر الشك، أي عبر الانفصال، إلى مرحلة الفرد الذي لا هوية اجتماعية له. أخيراً بدأ يعيد أواصر العلاقة مع العالم والآخرين ولكن بشكل واع وإيجابي ويشكل هويته الشخصية بنفسه.
ما يؤخذ على ليفيناس وبوبر والمطيري هو المبالغة في تقدير مفهوم “الآخر” أو تقديم صورة رومانسية عنه. فالآخر قد يكون جحيماً عندما تعيش الأنا في “الهُمْ” أو مع الآخر/الغُفْل الذي “ليس له وجهٌ”.
المراجع:
١- غي روشية، مقدمة في علم الاجتماع العام – الفعل الاجتماعي
٢- عبد الله المطيري، فلسفة الآخرية: الآخر بين سارتر وليفيناس وبهجة الضيافة
٣- إيمانويل مونييه، الشخصانية
٤- مارتن بوبر، أنا-أنت
5- Radcliffe-Brown, On Social Structure
6- Martin Buber, Distance and Relation (Stanford Encyclopedia of Philosophy)