١..كتب جليل القيسي للمسرح، وكان الحوار هاجسَه الداخلي الملّح: أن يقيم اتصالاً مع أجناس وطبقات محبوسة معه في زورق، أو مسرح، أو عيادة طبية. كان مسكوناً بأصوات حوارية؛ وليست قصصه إلا توظيفاً لأصوات متحاورة تحت ضغط هاجس مجهول؛ تبوح بمكنونها لطبيب نفساني يتفهم وضعها الإنساني المفرط في حساسيته، ورغبتها في الهجرة الى مكان آمن، داخلي أو خارجي. بهذا التوظيف جمعَ القيسيّ ثلاثة اتجاهات قصصية شاعت في أدبنا السردي وقتاً طويلاً: الوجودي، الرمزي، الأسطوري. ومن خلال هذا الحوار المتعدد الوجوه استغنى جليل عن اللهجة العامية، التي أجاد أساتذتُه السابقون لمرحلته استخدامها في حواريات قصصهم. كانت اللهجة الفصيحة، ذات النبرة الذاتية المشدَّدة، تعوّضه عن موقفٍ لهجويّ متكبّر، أو تصنيفٍ طبقيّ متنطّع، كما قد يُتهم بذلك قصّاصو الواقعية الاشتراكية، والنقدية الاجتماعية. كان أكثر إخلاصاً لمهمّته السردية/ عبر الواقعية، من مجايليه المجدِّدين، الذين خابوا في تثبيت هويةٍ واضحة لنصوصهم العابرة أجواءَ من سَبَقَهم..
٢..كانت شخصياته نماذجَ حوارية صرف، لا تعنيه إمكانية وجودهم حوله في الواقع اليومي؛ بل كان يستدعي أكثرَهم من الكتب والأساطير. على هذا، لم يجسّد أديبٌ حواراً متصلاً، باللغة الفصيحة، مثل جليل القيسي في قصصه ومسرحياته. وكان هذا الحوار قصيراً ومكثفاً، هامشاً خاطفاً، على نص الحياة الطويلة، الراكدة والمملّة، رحلةً خطرة في بحر من العواصف. ولم يكن غيره يتحمّل مثل هذه الموقف، حينما كان الحوار المتكتِّم سمةَ عددٍ قليل من الكتّاب في مرحلته. كان الراحل على استعداد دائم لكي يحاور شخوصاً لا وجود حقيقياً لهم. فإذا تعذّر وصول أحدٍ منهم، حاورَ نفسَه في مونولوج لا يبوح به إلا عن عُسر في التخاطب، أو قنوط من الاتصال. وبهذه اللجلجة والتلعثم شابه جليل القيسي صموئيل بيكيت، نظيرَه غير المنظور؛ لكنّه المتكلّم من خلاله وبوساطته.
٣.. لو تهيأت لجليل كتابة رواية لَما كتََب. وما حاجته لهذا المضمار الذي تضيع فيه الحواراتُ الخاطفة، والمواقفُ الهامشيّة، والوجوهُ الحميمة؟ كانت شذرات (الكلام) اليومي الفصيح ستتناثر في فضاء فسيح، لا يقدر (جليل) ان يلمّ أصداءه، كما يلمّها في غرفة صغيرة. لم يكتب حواراً اتصالياً بعيداً، فقد كان يخاطب نفسَه أولاً من خلال شخصياتٍ استطاع جمعَها في مكان صغير. لم يُطِق مبارحة مكانهِ الصغير هذا؛ ولم تكن حصيلة هذه الحواريات غير أربع مجموعات قصصية، وعدد من المسرحيات ذات الفصل الواحد؛ هي مؤونة كاتب، تبخّرت فجأة كجملة معلّقة في حوار بين فارسينِ مسافرين التقيا مصادفة في الطريق. فجأة تبخر كلّ شيء في ذلك اليوم من تموز/ يوليو ٢٠٠٦، يوم وفاته.
٤.. كتبَ جليل القيسي حواريّات قصيرة، خالصة من الوصف. ولم يُعرف قبله أنّ كاتباً بلغ نشوتَه السردية بتجريب هذا النوع من الومضات الحوارية المركّزة؛ بل لم يُعرف من غيره مثل هذا الولع/ الهوس بثقب جدار السرد السميك والوصول إلى لبّه الحواري. كانت هذه بِدعته/ غوايته التي ظلّت عصية على التقليد: الموضوع في حدود جملة لا أكثر. فما لا يُمكن تكراره: اعتبار الجملة الحوارية نصّاً قصصياً مستوفياً لأركانه وأهمها "النهاية". لا شيء نؤجله إلى ما بعد الحوار. كل شيء مصبوب/ منصهر في بوتقة الكلام المتبادل بحزمٍ واقتضاب. تعلّمنا حوارياتُ جليل القيسي أنّ المحذوف من الوصف ليس أكثر أهمية من الكلمات المنطوقة. أمّا الشخصيات التي تتكلم_ في حوارياته القصيرة_ فهي أكثر من أن تُحصى، أو أقلّ من أن تُشخَّص بشخص. فالحوار يعتمد على الحذف المستمر؛ أي الوصول إلى نقطة صِفر السرد، حتى لنشعر بالصمت في نهاية الكلام المسترسِل أو المقطوع فجأة بحدّ شفرة. وبهذا البتر/ التشذيب كان القيسي يبرهن على جوهرية القصّ من دون احتساب لطول الزمن او سيولته، ولا اتساع المكان وامتداده؛ كذلك لا حتمية النهاية وإقفالها. فالحدث يبدأ مع أول كلمة في الحوار وينتهي بانتهائه. وما بين الكلمتين عالمٌ من الأشياء المسكوت عنها، أو المباحة من دون وعي كاتبها/ قارئها.
٥.. كان جليل القيسي كاتبا محبّاً للحياة والرفقة الإنسانية، مبيحاً لدم مشاعره الحوارية (سبقَ وسائل التواصل الاجتماعي في شراكة الأسرار وإباحة المحظور). ففي أيّ قصةٍ من قصصه حوارٌ صامت يعادل سِرّاً كِلسياً عميقَ الغور. وهذه وظيفة لم يُتقنها غير جليل: معادلة السِرّ بالعلن، والصمت بالحوار.
٦. نمت هذه الخاصيّة في تجارب بطيئة، متفرقة، اجتمعت (في زورق واحد)- ١٩٨٥. ولولا العنوان الدراماتيكي لهذه المجموعة، لَما أدركنا أنّ ثمة شخصيات "وحيدة" يمتنع عليها التصريح باللقاء والسفر والكلام؛ وأنّ وراء جمْعها في مسرح بسعة "زورق" تكمن لجلجة مونولوجية_ في الأغلب_ مُرهِقة لصاحب اللسان الطليق/ الحواريّ الماهر، ملّاح الزمن المتصخِّر. ففي مجموعة القصص المتباعدة هذه، تتناهى أصوات خافتة، محشورة عنوة، أقدمها مكتوب في العام ١٩٦٤، تتهيأ للكلام، لكنها مُرغمة على السكوت، في لجّة المسرح المظلم. كانت تلك بدايات سردٍ متناثرة، ركيكة البناء، نظراً لركّة الحياة نفسها_ كُتِب قسم منها سنوات الحرب.
٧. يظهر ضمير المتكلم في قصصه الأولى، إنساناً مشتَّتاً، غاضباً، بطلاً "هاملتياً" يوجه خطابه إلى جمهوره، كل ليلة على المسرح. اما حين يعود الى غرفته فلا يجد غير "الجمجمة" ما يخاطبه ويطارده بمديته، سافحاً عليها ما يردده على المسرح من عبارات: "يا لنفسي التي تنبّأت". وبعد صراع ومطاردة، يهمد الممثل، بعد أن تفشل طعناته للشبح العظمي، لتكتشفه صاحبة الدار، العجوز الخرساء، في صباح اليوم التالي، جثة هامدة، وسط بركة من الدماء، والمدية مغروسة في صدره. (قصة: ليلة هاملتية، ١٩٨٢)
يا لها من نهاية "بديلة" لممثل أعجزته الأدوارُ المستحيلة في الحياة الحقيقية، فأراد أن يجرّبها على مسرح ملؤه الصخب والعنف، خانق للأصوات!
٢..كانت شخصياته نماذجَ حوارية صرف، لا تعنيه إمكانية وجودهم حوله في الواقع اليومي؛ بل كان يستدعي أكثرَهم من الكتب والأساطير. على هذا، لم يجسّد أديبٌ حواراً متصلاً، باللغة الفصيحة، مثل جليل القيسي في قصصه ومسرحياته. وكان هذا الحوار قصيراً ومكثفاً، هامشاً خاطفاً، على نص الحياة الطويلة، الراكدة والمملّة، رحلةً خطرة في بحر من العواصف. ولم يكن غيره يتحمّل مثل هذه الموقف، حينما كان الحوار المتكتِّم سمةَ عددٍ قليل من الكتّاب في مرحلته. كان الراحل على استعداد دائم لكي يحاور شخوصاً لا وجود حقيقياً لهم. فإذا تعذّر وصول أحدٍ منهم، حاورَ نفسَه في مونولوج لا يبوح به إلا عن عُسر في التخاطب، أو قنوط من الاتصال. وبهذه اللجلجة والتلعثم شابه جليل القيسي صموئيل بيكيت، نظيرَه غير المنظور؛ لكنّه المتكلّم من خلاله وبوساطته.
٣.. لو تهيأت لجليل كتابة رواية لَما كتََب. وما حاجته لهذا المضمار الذي تضيع فيه الحواراتُ الخاطفة، والمواقفُ الهامشيّة، والوجوهُ الحميمة؟ كانت شذرات (الكلام) اليومي الفصيح ستتناثر في فضاء فسيح، لا يقدر (جليل) ان يلمّ أصداءه، كما يلمّها في غرفة صغيرة. لم يكتب حواراً اتصالياً بعيداً، فقد كان يخاطب نفسَه أولاً من خلال شخصياتٍ استطاع جمعَها في مكان صغير. لم يُطِق مبارحة مكانهِ الصغير هذا؛ ولم تكن حصيلة هذه الحواريات غير أربع مجموعات قصصية، وعدد من المسرحيات ذات الفصل الواحد؛ هي مؤونة كاتب، تبخّرت فجأة كجملة معلّقة في حوار بين فارسينِ مسافرين التقيا مصادفة في الطريق. فجأة تبخر كلّ شيء في ذلك اليوم من تموز/ يوليو ٢٠٠٦، يوم وفاته.
٤.. كتبَ جليل القيسي حواريّات قصيرة، خالصة من الوصف. ولم يُعرف قبله أنّ كاتباً بلغ نشوتَه السردية بتجريب هذا النوع من الومضات الحوارية المركّزة؛ بل لم يُعرف من غيره مثل هذا الولع/ الهوس بثقب جدار السرد السميك والوصول إلى لبّه الحواري. كانت هذه بِدعته/ غوايته التي ظلّت عصية على التقليد: الموضوع في حدود جملة لا أكثر. فما لا يُمكن تكراره: اعتبار الجملة الحوارية نصّاً قصصياً مستوفياً لأركانه وأهمها "النهاية". لا شيء نؤجله إلى ما بعد الحوار. كل شيء مصبوب/ منصهر في بوتقة الكلام المتبادل بحزمٍ واقتضاب. تعلّمنا حوارياتُ جليل القيسي أنّ المحذوف من الوصف ليس أكثر أهمية من الكلمات المنطوقة. أمّا الشخصيات التي تتكلم_ في حوارياته القصيرة_ فهي أكثر من أن تُحصى، أو أقلّ من أن تُشخَّص بشخص. فالحوار يعتمد على الحذف المستمر؛ أي الوصول إلى نقطة صِفر السرد، حتى لنشعر بالصمت في نهاية الكلام المسترسِل أو المقطوع فجأة بحدّ شفرة. وبهذا البتر/ التشذيب كان القيسي يبرهن على جوهرية القصّ من دون احتساب لطول الزمن او سيولته، ولا اتساع المكان وامتداده؛ كذلك لا حتمية النهاية وإقفالها. فالحدث يبدأ مع أول كلمة في الحوار وينتهي بانتهائه. وما بين الكلمتين عالمٌ من الأشياء المسكوت عنها، أو المباحة من دون وعي كاتبها/ قارئها.
٥.. كان جليل القيسي كاتبا محبّاً للحياة والرفقة الإنسانية، مبيحاً لدم مشاعره الحوارية (سبقَ وسائل التواصل الاجتماعي في شراكة الأسرار وإباحة المحظور). ففي أيّ قصةٍ من قصصه حوارٌ صامت يعادل سِرّاً كِلسياً عميقَ الغور. وهذه وظيفة لم يُتقنها غير جليل: معادلة السِرّ بالعلن، والصمت بالحوار.
٦. نمت هذه الخاصيّة في تجارب بطيئة، متفرقة، اجتمعت (في زورق واحد)- ١٩٨٥. ولولا العنوان الدراماتيكي لهذه المجموعة، لَما أدركنا أنّ ثمة شخصيات "وحيدة" يمتنع عليها التصريح باللقاء والسفر والكلام؛ وأنّ وراء جمْعها في مسرح بسعة "زورق" تكمن لجلجة مونولوجية_ في الأغلب_ مُرهِقة لصاحب اللسان الطليق/ الحواريّ الماهر، ملّاح الزمن المتصخِّر. ففي مجموعة القصص المتباعدة هذه، تتناهى أصوات خافتة، محشورة عنوة، أقدمها مكتوب في العام ١٩٦٤، تتهيأ للكلام، لكنها مُرغمة على السكوت، في لجّة المسرح المظلم. كانت تلك بدايات سردٍ متناثرة، ركيكة البناء، نظراً لركّة الحياة نفسها_ كُتِب قسم منها سنوات الحرب.
٧. يظهر ضمير المتكلم في قصصه الأولى، إنساناً مشتَّتاً، غاضباً، بطلاً "هاملتياً" يوجه خطابه إلى جمهوره، كل ليلة على المسرح. اما حين يعود الى غرفته فلا يجد غير "الجمجمة" ما يخاطبه ويطارده بمديته، سافحاً عليها ما يردده على المسرح من عبارات: "يا لنفسي التي تنبّأت". وبعد صراع ومطاردة، يهمد الممثل، بعد أن تفشل طعناته للشبح العظمي، لتكتشفه صاحبة الدار، العجوز الخرساء، في صباح اليوم التالي، جثة هامدة، وسط بركة من الدماء، والمدية مغروسة في صدره. (قصة: ليلة هاملتية، ١٩٨٢)
يا لها من نهاية "بديلة" لممثل أعجزته الأدوارُ المستحيلة في الحياة الحقيقية، فأراد أن يجرّبها على مسرح ملؤه الصخب والعنف، خانق للأصوات!
محمد خضير
محمد خضير ist bei Facebook. Tritt Facebook bei, um dich mit محمد خضير und anderen Nutzern, die du kennst, zu vernetzen. Facebook gibt Menschen die Möglichkeit, Inhalte zu teilen und die Welt...
www.facebook.com