"أنا يوسف يا أبي" كتب محمود درويش في العام 1986، وتلقى النقاد قصيدته وأفاضوا في الكتابة عنها وعن توظيف قصة يوسف في شعره بعامة.
من هو أنا المتكلم في القصيدة؟ أهو يوسف النبي أم هو كل من يمر بتجربة مشابهة لتجربته، تتطابق كليا أو جزئيا؟
لم يقتصر استدعاء قصة يوسف على درويش وحده. مرة كتبت قصة عنوانها "لماذا كنت يوسف؟ من قال إني كنت يوسف؟". مرة كان أنا المتكلم في القصة مثل يوسف، ومرات لم يكن. مرة راودته امرأة متزوجة تكبره فتصرف تصرف يوسف، ومرات راودته أخريات فأغواه الشيطان.
هل التفت دارسو الشعر الفلسطيني إلى شعراء فلسطينيين آخرين غير محمود درويش وظفوا في أشعارهم قصة يوسف؟ وإذا كان هناك شعراء فلسطينيون آخرون وظفوها فكيف وظفوها؟ هل تتماثل أنا المتكلم في قصائدهم، الموظفة فيها قصة يوسف، مع أنا يوسف النبي؟ أم أنهم وظفوها توظيفا فيه مخالفة للقصة وعكس لها، بخاصة إذا ما مروا بتجربة لا تتوازى مع قصة يوسف وإنما بتجربة تخالفها؟ ثم هل كان التوظيف كليا أم جزئيا؟
في أثناء تناص كاتب ما مع قصة ما؛ دينية أو أدبية أو تاريخية، ينظر النقاد في شكل التناص: أهو تناص تطابق أم تناص اختلاف؟.
كان الشاعر المصري أمل دنقل يوظف بعض الرموز الدينية توظيفا فيه مخالفة لما هي عليه في القصة الدينية: "المجد للشيطان معبود الرياح/ من قال: لا في وجه من قالوا: نعم"، وقد مجد دنقل ابن نوح مع
أنه عصى أمر أبيه وربه حين لم يصعد إلى السفينة. لقد رأى دنقل أن ابن نوح أحب وطنه أكثر: "حين قال: لا ، وأحب الوطن"، مع أنه غرق وهلك.
أحمد دحبور استحضر في بعض قصائده قصة يوسف، ونادرا ما كان يستحضر قصصا وردت ابتداء في العهد القديم.
إن الرموز التي استحضرها غالبا ما كانت رموزا تراثية أدبية عربية كانت الغلبة فيها للرموز الشعرية، وقد توقف محمد حور أمام ثقافة أحمد دحبور من خلال شعره.
وإذا ما وازن المرء بين رموز العهد القديم في أشعار محمود درويش وأشعار أحمد دحبور لاحظ بونا شاسعا. يكثر الأول من توظيف الرموز التوراتية والمسيحية - بل والإغريقية والكنعانية والبابلية و..و..- فيما يبدو حضور هذه في شعر الثاني قليلا جدا.
في قصيدة "كشيء لا لزوم له" تحضر قصة يوسف جزئيا. لا يتماثل الشاعر مع يوسف، ويعلن منذ البداية أنه ليس يوسف : "أقص علي رؤياي/ فلا أب لي، ولا إخوة، / و ذئبي في، / ألا انه لم يدفع النسوة / إلى تقطيع أيديهن، / لكني قطعت الأرض بحثا عن مرايايا /فلم أر ، في المرايا، وجهي الحسنا".
تحضر قصة يوسف في القصيدة في بداية القصيدة كما تحضر في ثناياها، لا لتتطابق معها، فالشاعر يعلن منذ البدء أنه يقص رؤياه على نفسه، فلا أب له ولا إخوة، وذئبه الذي فيه لم يدفع النسوة إلى تقطيع أيديهن، وحين قطع الأرض بحثا عن مراياه لم ير في المرايا وجهه الحسنا. أنا المتكلم هنا لا يقص رؤيته على أبيه، ولا يحذره الأب من قص رؤياه على إخوته، ووجهه ليس حسنا ليدفع نسوة المدينة إلى تقطيع أيديهن. وهو في أسطر لاحقة يعلن صراحة أن زوجة العزيز لم تراوده:
"زليخة ما راودتني/ إن عندي شاهدا ينفي البراءة عن قميصي،/ فهي من رفضت وأقصتني،/ وبرأني القضاة فكنت من عوقب".
في قصة يوسف تراود زليخة فتاها عن نفسه، ويكون لديه شاهد هو أن قميصه قد من دبر، وفي القصة تقبل زليخة على يوسف وهو من أقصاها ورفض، ومع ذلك أدانه القضاة، وحصل العكس مع أنا المتكلم في القصيدة، ومع ذلك برأه القضاة، وكان في ذلك عقاب له.
لا تقتصر التعارضات بين قصة يوسف وما ورد في القصيدة على ما سبق. "يطلبني الجنود/ وأطلب الرؤيا/ فما عثر الجنود على الطريد/ وما ظفرت بشمس رؤيايا" يقول لنا المتكلم.
ومن طلب يوسف ليفتي في الرؤيا، في القصة، هو العزيز الذي رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ويشار إلى العجاف في القصيدة.
لقد عثر جنود العزيز - مستشاره - على الطريد يوسف فأفتى في الرؤيا وظفر بها واستطاع فك اللغز، أما في القصيدة فقد تساءل أنا المتكلم: "كيف أفك هذا اللغز؟".
في قصيدة الشاعر تختلط الأزمنة والشخوص ويكتب الشاعر عن زمنه ويثير أسئلة وجودية، بل إنه يدخل (نيرون) في قصيدته، لا لأن (نيرون) جزء أساسي من قصة يوسف، بل لأن ضرورة الوزن اقتضت أن يدخل إلى القصيدة: "نيرون زار قصيدتي لضرورة في الوزن، /فاستمهلته لأعلم الذئب المرابط في،/ معنى أن لحنا يحرق المدنا/ ومن هو ذلك النيرون؟ / سأحزن لحظة من أجله،/ - أحرقت روما أيها المجنون/لتلتهب القريحة، فاحترقت".
تنتهي قصة يوسف ببراءته وصيرورته وزيرا، وسينصف حتى يومنا هذا وإلى أبد الآبدين، أما أنا المتكلم في القصيدة فيشعر أنه أخرج من وقته، ويتساءل: "إذا ما كان ينصفني الذي يأتي؟" ويشعر بالحسرة، فهو إذا ما أنصف لن يكون هنا، بل إنه أقصي وأبعد.
إن الشعور بالطمأنينة والرضا الذي غلب على يوسف يقابله شعور بالقلق والحيرة وعدم الطمأنينة والرضا في القصيدة.
أ. د. عادل الأسطة
2017-06-18
من هو أنا المتكلم في القصيدة؟ أهو يوسف النبي أم هو كل من يمر بتجربة مشابهة لتجربته، تتطابق كليا أو جزئيا؟
لم يقتصر استدعاء قصة يوسف على درويش وحده. مرة كتبت قصة عنوانها "لماذا كنت يوسف؟ من قال إني كنت يوسف؟". مرة كان أنا المتكلم في القصة مثل يوسف، ومرات لم يكن. مرة راودته امرأة متزوجة تكبره فتصرف تصرف يوسف، ومرات راودته أخريات فأغواه الشيطان.
هل التفت دارسو الشعر الفلسطيني إلى شعراء فلسطينيين آخرين غير محمود درويش وظفوا في أشعارهم قصة يوسف؟ وإذا كان هناك شعراء فلسطينيون آخرون وظفوها فكيف وظفوها؟ هل تتماثل أنا المتكلم في قصائدهم، الموظفة فيها قصة يوسف، مع أنا يوسف النبي؟ أم أنهم وظفوها توظيفا فيه مخالفة للقصة وعكس لها، بخاصة إذا ما مروا بتجربة لا تتوازى مع قصة يوسف وإنما بتجربة تخالفها؟ ثم هل كان التوظيف كليا أم جزئيا؟
في أثناء تناص كاتب ما مع قصة ما؛ دينية أو أدبية أو تاريخية، ينظر النقاد في شكل التناص: أهو تناص تطابق أم تناص اختلاف؟.
كان الشاعر المصري أمل دنقل يوظف بعض الرموز الدينية توظيفا فيه مخالفة لما هي عليه في القصة الدينية: "المجد للشيطان معبود الرياح/ من قال: لا في وجه من قالوا: نعم"، وقد مجد دنقل ابن نوح مع
أنه عصى أمر أبيه وربه حين لم يصعد إلى السفينة. لقد رأى دنقل أن ابن نوح أحب وطنه أكثر: "حين قال: لا ، وأحب الوطن"، مع أنه غرق وهلك.
أحمد دحبور استحضر في بعض قصائده قصة يوسف، ونادرا ما كان يستحضر قصصا وردت ابتداء في العهد القديم.
إن الرموز التي استحضرها غالبا ما كانت رموزا تراثية أدبية عربية كانت الغلبة فيها للرموز الشعرية، وقد توقف محمد حور أمام ثقافة أحمد دحبور من خلال شعره.
وإذا ما وازن المرء بين رموز العهد القديم في أشعار محمود درويش وأشعار أحمد دحبور لاحظ بونا شاسعا. يكثر الأول من توظيف الرموز التوراتية والمسيحية - بل والإغريقية والكنعانية والبابلية و..و..- فيما يبدو حضور هذه في شعر الثاني قليلا جدا.
في قصيدة "كشيء لا لزوم له" تحضر قصة يوسف جزئيا. لا يتماثل الشاعر مع يوسف، ويعلن منذ البداية أنه ليس يوسف : "أقص علي رؤياي/ فلا أب لي، ولا إخوة، / و ذئبي في، / ألا انه لم يدفع النسوة / إلى تقطيع أيديهن، / لكني قطعت الأرض بحثا عن مرايايا /فلم أر ، في المرايا، وجهي الحسنا".
تحضر قصة يوسف في القصيدة في بداية القصيدة كما تحضر في ثناياها، لا لتتطابق معها، فالشاعر يعلن منذ البدء أنه يقص رؤياه على نفسه، فلا أب له ولا إخوة، وذئبه الذي فيه لم يدفع النسوة إلى تقطيع أيديهن، وحين قطع الأرض بحثا عن مراياه لم ير في المرايا وجهه الحسنا. أنا المتكلم هنا لا يقص رؤيته على أبيه، ولا يحذره الأب من قص رؤياه على إخوته، ووجهه ليس حسنا ليدفع نسوة المدينة إلى تقطيع أيديهن. وهو في أسطر لاحقة يعلن صراحة أن زوجة العزيز لم تراوده:
"زليخة ما راودتني/ إن عندي شاهدا ينفي البراءة عن قميصي،/ فهي من رفضت وأقصتني،/ وبرأني القضاة فكنت من عوقب".
في قصة يوسف تراود زليخة فتاها عن نفسه، ويكون لديه شاهد هو أن قميصه قد من دبر، وفي القصة تقبل زليخة على يوسف وهو من أقصاها ورفض، ومع ذلك أدانه القضاة، وحصل العكس مع أنا المتكلم في القصيدة، ومع ذلك برأه القضاة، وكان في ذلك عقاب له.
لا تقتصر التعارضات بين قصة يوسف وما ورد في القصيدة على ما سبق. "يطلبني الجنود/ وأطلب الرؤيا/ فما عثر الجنود على الطريد/ وما ظفرت بشمس رؤيايا" يقول لنا المتكلم.
ومن طلب يوسف ليفتي في الرؤيا، في القصة، هو العزيز الذي رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ويشار إلى العجاف في القصيدة.
لقد عثر جنود العزيز - مستشاره - على الطريد يوسف فأفتى في الرؤيا وظفر بها واستطاع فك اللغز، أما في القصيدة فقد تساءل أنا المتكلم: "كيف أفك هذا اللغز؟".
في قصيدة الشاعر تختلط الأزمنة والشخوص ويكتب الشاعر عن زمنه ويثير أسئلة وجودية، بل إنه يدخل (نيرون) في قصيدته، لا لأن (نيرون) جزء أساسي من قصة يوسف، بل لأن ضرورة الوزن اقتضت أن يدخل إلى القصيدة: "نيرون زار قصيدتي لضرورة في الوزن، /فاستمهلته لأعلم الذئب المرابط في،/ معنى أن لحنا يحرق المدنا/ ومن هو ذلك النيرون؟ / سأحزن لحظة من أجله،/ - أحرقت روما أيها المجنون/لتلتهب القريحة، فاحترقت".
تنتهي قصة يوسف ببراءته وصيرورته وزيرا، وسينصف حتى يومنا هذا وإلى أبد الآبدين، أما أنا المتكلم في القصيدة فيشعر أنه أخرج من وقته، ويتساءل: "إذا ما كان ينصفني الذي يأتي؟" ويشعر بالحسرة، فهو إذا ما أنصف لن يكون هنا، بل إنه أقصي وأبعد.
إن الشعور بالطمأنينة والرضا الذي غلب على يوسف يقابله شعور بالقلق والحيرة وعدم الطمأنينة والرضا في القصيدة.
أ. د. عادل الأسطة
2017-06-18