هناك مُسلمات في المنهج العلمي، مثل مبدأ التعميم في الاستقراء، ودراسات الظواهر عبر البيانات الإحصائية وتنميطي patterning المعطيات، تمهيداً لبناء شبكة من الروابط التفاعلية أو السببية. هنا تبدو أهمية القواسم المشتركة في الحوار العلمي بين المتحاورين، لأنه يختصر مسافات من الشروح (في حالة الحوار المنتج)، والمغالطات (في حالة الحوار السفسطائي). لذلك فإن حوار سقراط مع أمثاله من الفلاسفة يحقق نتائج ذات فائدة، فسقراط ينتصر في حواراته لأنه يتحاور مع مشتركين معه في المسلمات أو الأرضية العلمية، أما حوار سقراط مع جاهل؛ سيؤدي إلى هزيمة سقراط لا محالة.
أتذكر -على سبيل المثال- أنني كنت اتحدث مع طبيب كنا نستأجر شقته، ولتداعٍ حواري ما، تحدثت عن كونه دائناً، فاعترض قائلاً بأن الدائن هو فقط من يستلف (يقترض) المال، أما هو فمؤجر وليس مُقرض. طبعاً هذا كلام ينم عن جهله بالقانون، فمفهوم الدائن هو كل من له إلتزام مالي على ذمة آخر، أياً كان مصدر هذا الإلتزام (إجار، بيع، قرض،..الخ).
هنا لا توجد قواسم علمية مشتركة بيننا. ومن المؤكد أنني أيضاً جاهل بالطب، لكن الفرق هو أنني لن أغالطه في علمه. فهناك معرفة عامة يتشاركها الجميع، مثل معرفتنا بأعراض الأمراض، وهناك معرفة متخصصة، فمفهوم الزكام عند العوام هو سيلان الأنف والعطس والاحتقان، وهو مفهوم لأعراض المرض، أما الطبيب فمعرفته اكثر دقة من ذلك.
في العلوم الطبيعية كالهندسة والطب، هناك محكات، تمنع استرسال الفهم الخاطئ من قبل المتحاورين غير المتشاركين في السقف العلمي. فإذا كان هناك شخص لا علاقة له بالميكانيكا، يصر على مغالطة مهندس ميكانيكي، فإن تعطل السيارة أو الماكينة محك عملي، يوقف من لا علاقة له بذلك العلم عند حده، بمجرد أن نطلب منه إصلاح تلك الماكينة أو السيارة. إذ لن تفيده مغالطاته تلك. أما في العلوم الإنسانية فمن الصعب أن يكون هناك محكاً عملياً، يوضع فيه المُغالط موضع الإختبار المادي. لذلك فسقراط لن يملك أهم أدوات أبقراط عندما يتجادل مع العوام.
بسبب عدم وجود ذلك المحك العلمي، سنرى توسعاً كبيراً في الإدعاء المعرفي في حقول علمية إنسانية كثيرة، مثل السياسة، والثقافة، والإجتماع. فأغلب البشر -وخاصة في الدول العربية- يعتبرون أنفسهم محللين سياسيين. إذ لا يوجد محك عملي يضعهم عند حدهم. وبالتالي فالحوار بينهم يبدو عقيماً، يعتمد على التعنت.
على سبيل المثال، سنجد أن احد علماء الإجرام يتحدث عن توجهات الأحداث إلى الجريمة في المدن، فيغالطه أحدهم قائلاً: ليس كلهم.
بالطبع ليس كلهم، ولكن هذا المعترض، لا علم له بمسألة التعميم في العلوم الإجتماعية، والتي تتأسس على تعميم النتائج التحليلية للبيانات، دون أن يمثل ذلك أي خلل منهجي عندما يتعلق الأمر بدراسة الظواهر. لقد تعرض المنهج الإستقرائي للطعن فيه من هذا المدخل الجهول. ولكن الفرق بين التعميم في العلوم الإنسانية والتعميم في العلوم الطبيعية هو وجود المحك العملي الذي يمنع الطعن في هذا الأخير. فمثلاً تعريف الماء بأنه H2O هو تعريف تعميمي، إذ أننا لم نفحص كل جزيئات الماء في البحار والمحيطات والآبار. لكن العلماء أخذوا عينة من الماء وفحصوا ذراتها ثم توصلوا إلى النتيجة وعمموها بعد ذلك. المحك العملي هنا هو أن نطلب من المغالط تحليل كل جزيئات الماء، وهذا مستحيل بالطبع ولذلك سيتوقف عن المغالطة. أما عندما يقول عالم العلوم الإنسانية بأن المجتمعات الرأسمالية مجتمعات أكثر عنفاً من المجتمعات الإشتراكية، فإن أحد الجهلاء يمكن أن يرفع صوته معترضاً بأن ابن عم خالته رأسمالي ولكنه طيب وغير عنيف. هنا لا يوجد محك عملي في النتائج التعميمية للظواهر الإنسانية، وهذا ما يدق خازوقاً في موثوقية تلك النتائج التعميمية، لذلك تتوالى الدراسات، مستخدمة بيانات أكثر عدداً وأدق مضموناً، لبناء شبكة علاقات تفاعلية وسببية.
نعم، سنجد اشخاصاً يدافعون عن ياسر عرمان باعتباره مستشاراً سياسياً ويغالطون حتى علماء السياسة في ذلك، كما غالطني الطبيب عن معنى الدائن والمدين، ولكن المشكلة لا تكمن فقط في جهل هؤلاء، إنما تكمن في تلك العلوم الإنسانية التي لا تملك محكاً عملياً حقيقياً مما يجعلها مشاعاً لكل من هب ودب.
أتذكر -على سبيل المثال- أنني كنت اتحدث مع طبيب كنا نستأجر شقته، ولتداعٍ حواري ما، تحدثت عن كونه دائناً، فاعترض قائلاً بأن الدائن هو فقط من يستلف (يقترض) المال، أما هو فمؤجر وليس مُقرض. طبعاً هذا كلام ينم عن جهله بالقانون، فمفهوم الدائن هو كل من له إلتزام مالي على ذمة آخر، أياً كان مصدر هذا الإلتزام (إجار، بيع، قرض،..الخ).
هنا لا توجد قواسم علمية مشتركة بيننا. ومن المؤكد أنني أيضاً جاهل بالطب، لكن الفرق هو أنني لن أغالطه في علمه. فهناك معرفة عامة يتشاركها الجميع، مثل معرفتنا بأعراض الأمراض، وهناك معرفة متخصصة، فمفهوم الزكام عند العوام هو سيلان الأنف والعطس والاحتقان، وهو مفهوم لأعراض المرض، أما الطبيب فمعرفته اكثر دقة من ذلك.
في العلوم الطبيعية كالهندسة والطب، هناك محكات، تمنع استرسال الفهم الخاطئ من قبل المتحاورين غير المتشاركين في السقف العلمي. فإذا كان هناك شخص لا علاقة له بالميكانيكا، يصر على مغالطة مهندس ميكانيكي، فإن تعطل السيارة أو الماكينة محك عملي، يوقف من لا علاقة له بذلك العلم عند حده، بمجرد أن نطلب منه إصلاح تلك الماكينة أو السيارة. إذ لن تفيده مغالطاته تلك. أما في العلوم الإنسانية فمن الصعب أن يكون هناك محكاً عملياً، يوضع فيه المُغالط موضع الإختبار المادي. لذلك فسقراط لن يملك أهم أدوات أبقراط عندما يتجادل مع العوام.
بسبب عدم وجود ذلك المحك العلمي، سنرى توسعاً كبيراً في الإدعاء المعرفي في حقول علمية إنسانية كثيرة، مثل السياسة، والثقافة، والإجتماع. فأغلب البشر -وخاصة في الدول العربية- يعتبرون أنفسهم محللين سياسيين. إذ لا يوجد محك عملي يضعهم عند حدهم. وبالتالي فالحوار بينهم يبدو عقيماً، يعتمد على التعنت.
على سبيل المثال، سنجد أن احد علماء الإجرام يتحدث عن توجهات الأحداث إلى الجريمة في المدن، فيغالطه أحدهم قائلاً: ليس كلهم.
بالطبع ليس كلهم، ولكن هذا المعترض، لا علم له بمسألة التعميم في العلوم الإجتماعية، والتي تتأسس على تعميم النتائج التحليلية للبيانات، دون أن يمثل ذلك أي خلل منهجي عندما يتعلق الأمر بدراسة الظواهر. لقد تعرض المنهج الإستقرائي للطعن فيه من هذا المدخل الجهول. ولكن الفرق بين التعميم في العلوم الإنسانية والتعميم في العلوم الطبيعية هو وجود المحك العملي الذي يمنع الطعن في هذا الأخير. فمثلاً تعريف الماء بأنه H2O هو تعريف تعميمي، إذ أننا لم نفحص كل جزيئات الماء في البحار والمحيطات والآبار. لكن العلماء أخذوا عينة من الماء وفحصوا ذراتها ثم توصلوا إلى النتيجة وعمموها بعد ذلك. المحك العملي هنا هو أن نطلب من المغالط تحليل كل جزيئات الماء، وهذا مستحيل بالطبع ولذلك سيتوقف عن المغالطة. أما عندما يقول عالم العلوم الإنسانية بأن المجتمعات الرأسمالية مجتمعات أكثر عنفاً من المجتمعات الإشتراكية، فإن أحد الجهلاء يمكن أن يرفع صوته معترضاً بأن ابن عم خالته رأسمالي ولكنه طيب وغير عنيف. هنا لا يوجد محك عملي في النتائج التعميمية للظواهر الإنسانية، وهذا ما يدق خازوقاً في موثوقية تلك النتائج التعميمية، لذلك تتوالى الدراسات، مستخدمة بيانات أكثر عدداً وأدق مضموناً، لبناء شبكة علاقات تفاعلية وسببية.
نعم، سنجد اشخاصاً يدافعون عن ياسر عرمان باعتباره مستشاراً سياسياً ويغالطون حتى علماء السياسة في ذلك، كما غالطني الطبيب عن معنى الدائن والمدين، ولكن المشكلة لا تكمن فقط في جهل هؤلاء، إنما تكمن في تلك العلوم الإنسانية التي لا تملك محكاً عملياً حقيقياً مما يجعلها مشاعاً لكل من هب ودب.