عن مركز الحضارة العربية صدرت رواية ( أشجان ) للكاتب والمفكر محمد المسلمي، وتقع الرواية في ( 319 ) صفحة من القطع المتوسط، موزعة عبر ( 28 ) فصلا، ناقش في نصفها الأول الذي يضم ( 14 ) فصلا الواقع المصري ومتغيراته، ما قبل ثورة يوليو وما بعدها، في الأربع فصول الأولى ناقش الواقع المصري ما قبل ثورة يوليو، وجاءت العشرة فصول التالية موزعة ما بين الحقبة الناصرية والحقبة الساداتية، ولكل حقبة خمسة فصول.
وأما النصف الثاني من الرواية تدور أحداثه في أوربا، ويرصد الواقع في أوربا، وتحولاته، عبر ( 14 ) فصلا.
وكان الكاتب عادلا في توزيع المساحة بين الواقعين، الواقع الشرقي المتمثل في مصر، والواقع الغربي، وبلغ الانصاف مداه في توفيق الكاتب في اختيار بطل نصه الذي قضى نصف عمره في مصر والنصف الآخر في أوربا. وما أرصده هنا من ملاحظات ربما لم تأت عن عمد من الكاتب، ولكنها ملاحظات أرى أنها جديرة بالاهتمام، وبالتوقف عندها.
الرواية عموما تثير العديد من الأسئلة، فهي تناقش العلاقة بين الشرق والغرب، وظلت هذه العلاقة على مدى دهور وقرون تتأرجح بين مقولتين، المقولة الأولى : الشرق شرق، والغرب غرب ولا يمكن أن يلتقيا.
والمقولة الثانية والتي يرى أصحابها بإمكانية التلاقي.
وهذه العلاقة كيف رصدها الكتاب العرب؟ ..
بعيدا عن الروايات التي جاءت أقرب إلى الأدب الدعائي أوالسياحي، أو أدب الرحلات، فهناك أدباء وكتاب تماهوا مع هذه العلاقة وقدموا لنا نماذج جيدة وجديرة بالرصد والتتبع، ولاقت بالفعل اهتماما وحفاوة نقدية، ونذكر منهاعلى سبيل المثال لا الحصر : ( قنديل أم هاشم ) ليحيي حقي، و ( موسم الهجرة إلى الشمال ) للطيب صالح، و ( الحي اللاتيني ) لسهيل إدريس، و ( البيضاء ) ليوسف إدريس، و ( قنديل أم هاشم ) ليحيي حقي.
هل تدور رواية ( أشجان ) في فلك تلك الروايات أم جاءت لتقدم لنا جديدا، وتكون إضافة حقيقية لهذه الروايات؟!
قبل أن نجيب على هذا السؤال، سنلج إلى عالم ( أشجان )، ونتوقف على بعض ما تثيره من موضوعات وقضايا، وبعض الحيل الفنية التي لجأ إليها الكاتب.
......
الكاتب لا ينطلق من قرية لها وجودها الحقيقي وظلالها التاريخية، ولكنه ينشأ قرية جديدة، وسنرى كيف اختار المكان؟ والشخصيات، ..
الزمن الخارجي : يبدأ من العام 1750م.
اختار أرض صحراء بأطراف محافظة الشرقية، تكاد تكون ملتقى محافظات الشرقية والإسماعيلية وبور سعيد، أرض صحراء تزيد على المائتي فدان، بجوارها هضبة رملية بارتفاع ثلاثة أمتار ومساحتها خمسة عشر فدانا، وهي مأوى للذئاب والثعالب والأفاعي والطيور الجارحة.
أول من حط على هذه البقعة الصحراوية، التي لا زرع فيها ولا ماء هو إبراهيم عبدالكريم وزوجته تحية المنيلاوي وأبنائهما درغام وأدهم وفايق، جاء إبراهيم عبدالكريم من مكان مجهول على صهوة بغلته ويجر أبقاره وجاموسه وأغنامه ومتاعه وأجولة من الأموال، ومارس الرجل نشاطه في تجارة المواشي، وفي كل سوق يختار بعناية من يصطحبه معه ليعينه في تذليل تلك الأرض العصية، وبعد خمس سنوات من العمل الشاق والدءوب أنشأ معسكرا من الخيام، عاش فيه أكثر من ثلاثمائة فردا انتقاهم بعناية فائقة، ليعملون تحت إشرافه، وبفضل تجارته النشطة وأمواله المدفونة أنهى الكثير من تذليل الآرض، واستطاع أن يشق ترعة فرعية لها من ترعة ( العمرانية ) الرئيسية.
....
بعد انقضاء ثلاثة عقود نفق عدد لا حصر له من الخيول والبغال والحمير والثيران في تذليل هذه الآرض.
.....
الكاتب يبرز دور الأجداد ومعاناتهم في تذليل الأرض وشق الترع لتصل إلى الأجيال اللاحقة وقد أخضرت وأينعت وأتت ثمارها، وهذه من أعظم هدايا السلف للخلف، وأن الله عز وجل يقيض رجالا بعينهم من أولي القوة والصبر والجلد ليذللوا لنا تلك الأرض العصية، ومن هؤلاء إبراهيم عبدالكريم.
....
من أهم معالم القرية القديمة: الأرض المنزرعة، المقابر، المسجد، ضريح الولي، هل قرية محمد المسلمي تتشابه مع هذه القرى؟
المقابر :
حفروا عند مفترق أرض الجزيرة والهضبة الرملية قبرا كبيرا يسع رفاة الحيوانات الهالكة وحطام الفئوس والمحاريث والكواريك والمقاطف الممزقة .
وتم تخصيص الهضبة الرملية لجبانة تسع الأجيال المتعاقبة.
عند مفرق الجبانة من ناحية الأرض المنخفضة وبداية مرتفع الهضبة غرس إبراهيم عبدالكريم شجرة العبل بعد موت زوجته.
وبمرور الزمن ضربت الشجرة بجذورها بعيدا في جوف الجبانة.
والكاتب يحاول أن يأسطر تلك الشجرة التي تقوم بوظيفة صالة الاستقبال للموتى وزوار المقابر، وعتبة الخروج من الدنيا إلى الآخرة، بل صارت في المعتقد الشعبي لأهل القرية العلامة للحكم على الميت، والإشارة على حُسن خاتمته أو سوء منقلبه ونهايته، فيفرح أهل المتوفي إذا أسقطت ثمارها عند ممارسة طقوس الدفن، فهذه بشارة حُسن الخاتمة، وإذا أمسكت ثمارها فيحزن أهل المتوفي لأنها إشارة إلى سوء الخاتمة, وإذا اهتزت أغصانها تفاءلوا، وإذا سكنت تشاءموا، فالشجرة تمتص غذاءها من رفات الموتى ومن رفات الحيوانات.
ومقابر الكاتب لا تخلو – شأنها شأن معظم مقابر القرى – من المردة والعفاريت، ومارد جبانة الكاتب يخرج من مقبرة محددة، يخرج من المقبرة التي دُفن فيها ثلاثة أشخاص في مشهد حزين، فالذئاب هاجمتهم وهم يمارسون أعمالهم في تذليل أرض الجزيرة، وانكضت عليهم، والتهمتهم، يخرج المارد من ثنايا قبرهم الذي دفنوا فيه معا، متشامخا بجسمه الأسود، عاويا بصوت الذئاب التي أكلتهم، ثم يهبط فيتلاشى.
وهؤلاء الثلاثة الذين أكلتهم الذئاب ودفنوا في قبر واحد وفي ليلة واحدة، تزوج إبراهيم عبدالكريم بزوجاتهم وفي ليلة واحدة أيضا، وبلغ عدد أبناؤه وأحفاده الأربعين.
بعد ثلاثة عقود من العمل المتواصل وزراعة المائتي فدانا من الأرض تم التخلص من الخيام والأكواخ، وأقاموا مكانها دورا من الطوب اللبن، وتم ترك خمسة أفدنة لساحة الجرن، وتم تسميتها بعزبة ( الكريمية )، وحدد إبراهيم عبدالكريم لكل منهم المساحة التي يزرعها، والنسبة التي سيحصل عليها، وأولاده لهم حظائر الأغنام والمواشي التي تضم مئات الرؤوس ومن يعمل معهم يُؤجر.
هذا النظام الاقتصادي الذي وضعه إبراهيم عبدالكريم استمر العمل به في حياته، فحدد العلاقة بينه وبين من استأجرهم ليستصلحوا معه الأرض ويفلحونها، وهو توزيع المساحات على المزارعين، والعائد من محصول الأرض يكون لكل منهم نصيب أو نسبة متفق عليها، واستأثر بحظائر المواشي وتربيتها والتجارة فيها لأبنائه من بعده، ومن يعاونهم له أجره، ومن ثم كانت ظهور بعض الملامح لقرية الكاتب والتي لم تزل في طور التكوين، فلم تزل عزبة، فالأرض اخضرت، والترعة انشقت، واختفت الخيام والأخصاص وحلت محلها الدور الطينية، ولكل من بالعزبة حركته الاجتماعية والاقتصادية، والحركة وفقا لنظام صارم وضعه إبراهيم عبدالكريم.
هل يستمر الحال هكذا بعد موته؟
.....
بعد موته ضاعت هيبته التي كانت في حياته، فمن تجرأ وقال :
إنه آوى إلى هذا المكان هربا من ثأر! ومن قال إنه رجل وطني قتل عددا من العثمانيين الإقطاعيين الذين نهبوا البلاد بزعم حراسة الخلافة وحمايتها، ومن قال بأنه رجل مبارك أورثه الله المال ورزقه بالبنين والآرض الواسعة.
وبعد موته، بدأ الصراع بين آل كريم من جانب وأهل العزبة من جانب آخر، وبين آل كريم بعضهم البعض، واستمر الصراع قرنا من الزمان
......
الرواية رواية أجيال، وبعد موت إبراهيم عبدالكريم لم يظهر من أولاده أو أحفاده من له هيبته وجلده وطموحه، وقدرته على مجابهة الواقع، وتغييره، أجيال خائية وبليدة وكسولة تعاقبت، وكأن النساء عقمت، وعجزن عن انجاب إبراهيم عبدالكريم آخر.
ولكن قدر الله، بعد مائة وخمسين سنة من هجرة إبراهيم عبدالكريم الكبير إلى الجزيرة، أن يأتي في العام 1900م حفيده الخامس، واسمه إبراهيم، وتوسموا فيه الخير، فأخذ من جده الأكبر صفاته كما أخذ اسمه ونضاله وعناده.
عندما بلغ الخمسين كان قد تمكن من شراء مواريث أل كريم التي تبلغ المائتي فدان، وتاجر في المواشي، ما ترك سوقا في الشرقية أو المحافظات المجاورة إلا باع واشترى فيه، وتمكن من شراء المائة فدان من المزارعين من آل كريم الذين ظنوا أن أرض الكريمية مصيدة لهلاكهم وكان آخر المفلسين منهم هو همام بن عزت شفيق بائعا له المساحة المتبقية من حديقة المانجو لينفق من ثمنها على اللهو والتباهي والتفاخر في القاهرة.
....
تمكن إبراهيم عبدالكريم الحفيد الخامس من تحويل عزبة الكريمية إلى قرية الكريمية، وصار من أكبر سماسرة القطن، التي راجت تجارته في ذلك الوقت.
واهتم الكاتب بشخصية الحفيد الخامس، ورسمه بعناية، فهو الامتداد الحقيقي لجده الأكبر، وبدأ من حيث انتهى جده، وأخذ يضيف ويطورـ فقام بتغيير ساحة الجرن إلى ساحة المولد، تيمنا بمولد العارف بالله الشيخ فايد الغريب والذي دفن بالمسجد الكبير، وله كرامة ومحبة من أهل القرية، وطور الدوار الذي تركه جده الأكبر، وحدثه.
ونجح الحفيد الخامس في أن يقيم بعض المعالم في القرية مثل المولد، والمسجد ومقام الولي، وتبدأ ملامح ومعالم ذلك الزمان البعيد تتضح رويدا رويدا، وأصبحنا نتلمس أنماط وأساليب وحركة الحياة سواء الاقتصادية وأساليب البيع والشراء، والسياسية بسعيه للحصول على البكوية وبظهور حزب الوفد ... إلخ.
وعلاقته بزوجته السيدة جمالات الحديدي، المتكبرة دون جور، والمتسلطة باللفظ من غير أذى.
وتعامل الكاتب مع الاستعلاء الطبقي من خلال هذه السيدة برقي شديد، فهي تعاني من وسواس قهري يحول بينها وبين الطبقات الدنيا، وكأنه يجد لها المبرر لهذا الاستعلاء، فيحملها على أفعال تبدو وكأنها متعالية كما يقول الكاتب، فتقول للعمدة : اخلع ملابسك قبل دخول السراي لتنظيفها خوفا من الحشرات وتطالبه بأن يصب الماء على يديه قبل أن يصافحها، فيده صافحت الفلاحين، ولا تصافح هذه السيدة ناس القرية إلا بعد أن تلف يدها بشاش أبيض أو فطعة قماش نظيفة!!
والقارئ يبدأ يتلمس الفوارق الطبقية، وبعد رواج تجارة القطن وبمساعدة الخواجة ( أرمانيوس ) للعمدة في شراء المائتي فدانا المجاورة لأرضه، ليصبح في حيازة العمدة أربعمائة من الأفدنه، وهي تكفي لأن يسعى للحصول على لقب البكوية.
.....
والكاتب يكشف للقارئ من خلال العمدة وشلة الأصدقاء الذين يلتفون حوله الكثير من واقع الحياة قبل ثورة يوليو 1952م.
ونذكر منهم :
1 – نظمي شهوان : موظف حكومة بشهادة متوسطة، يعشق الثقافة وقراءة الكتب والجرائد، ووطني، وعضو بحزب الوفد.
2 – لطفي السراج : خطيب مسجد القرية الكبير والمعروف بمسجد الشيخ فايد الغريب، وهو محل ثقة في حراسة ( حوزة ) الدين دون عقد، سلس التعامل، حريص على الصلاة بالمسجد في أوقاتها، يقول الحق دون مجاملة أو مواربة حتى مع العمدة نفسه.
ومن خلال صديقيه نظمي ولطفي يتضح لنا بصورة أكبر الحالة السياسية والدينية في تلك الفترة.
ومن المقربين للعمدة للتسلية والترفيه :
1 – حسين المدعو حسين وابور ( هباب ).
2 – بهية الدقاقة وسيد الطبال وهما زوجان عرفتهما القرى والعزب والكفور والنجوع بتجوالهما على حمارهما في المناسبات، تغني بهية المواويل على أنغام دقات زوجها سيد على طبلته، وتراهما في سحور رمضان، وفي الأفراح، والمآتم، ودقات الزار.
وهؤلاء سيكون لهم حضورهم القوي في الفصول التالية.
.....
نجح الحفيد الخامس إبراهيم عبدالكريم في الحصول على البكوية، ولم يقف طموحه عند هذا الحد، فخطب الآنسة فاتن كريمة الأميرالاي سليمان فوزي بالحرس الملكي بالسراي لابنه الملازم أول ناصف، وتم عقد القران والزفاف في الأول من يوليو عام 1952م.
....
الكاتب تعامل مع عصر ما قبل ثورة يوليو 1952م برهافة شديدة، وقدم لنا شخصية عصامية جديرة بالاحترام مثل شخصية إبراهيم عبدالكريم الكبير، وأيضا حفيده الخامس، ليقدم لنا من خلالهما شخصية الرأسمالي أو الإقطاعي، ولكن السؤال : هل كل أو معظم نماذج الرأسماليين قبل الثورة مثل إبراهيم عبدالكريم؟
الفن انتقاء واختيار من الواقع كما يقول نقادنا الأشاوس، والنموذج الذي اختاره الكاتب قد يكون واقعيا، ولكنه ليس مقياسا للتعميم، لأن النماذج الأسوأ في ذلك العصر أكثر بكثير من هذا النموذج العصامي المشرق، ولكن الكاتب اختار هذا النموذج بعناية فائفة ليدين ثورة يوليو، ويحق للكاتب أن يدين ثورة يوليو ولكن عليه أن يقنعنا موضوعيا وفنيا.
.....
الحقبة الناصرية :
يرصد الكاتب مثالب الحقبة الناصرية، وجاءت كالتالي :
1 – فجر 23 يوليو الرائد أمين زاهر على رأس مجموعة من جنوده في مكتب الأميرالاي سليمان فوزي كبير ياورات الحرس الملكي، ليجردوه من الرتب والنياشين، وأطاحوا بكابه بعد إهانته!.
2 – ألغت الثورة الألقاب عن الناس واكتفت بها لنفسها ولرجال السلطة، فانزوى إبراهيم بك وعاد للقبه القديم ( العمدة ).
3 – قرار التأميم وتمكين الفلاحين الأُجراء من الأرض، فسقطت هيبة إبراهيم بك، وتجرأ رجاله عليه.
4 – الشيخ لطفي ترك العمل كإمام بالمساجد وانتقل للعمل كموظف بالأوقاف، لأن المنابر أصبحت لخدمة الحاكم.
5 – الأستاذ نظمي أقلع عن عادة شراء الصحف بعد أن أُممت، وتم حل الأحزاب، والصحف لا هم لها إلا تمجيد الثورة.
وبراعة الكاتب تأتي من أنه لم يذكر مثالب الثورة ومساوئ الحقبة الناصرية من خلال شعارات وجمل خطابية محفوظة ومكرورة، ولكنه رصد هذه المثالب من خلال آثار الثورة على عائلة إبراهيم عبدالكريم وعلى الناس في قرية الكريمية والتغيرات التي حدثت.
وسأكتفي هنا بذكر موقفين.
الموقف الأول :
النقيب ناصف كريم ابن العمدة الذي أحبه الناس لرشاقته ومهارته في الرماية، فهو بطل الرماية على مستوى الجيش المصري، وفاز بالمركز الأول أيضا في الرماية على مستوى جيوش العالم، وأبلى بلاء حسنا في اصطياد جنود الأعداء أثناء هبوطهم بالمظلات، وكان أحد أسباب النصر في حرب العدوان الثلاثي، وتم إيفاده في بعثة إلى روسيا، وحصل على الماجستير في العلوم العسكرية، ويواصل دراساته العسكرية ويحصل على الدكتوراه، ويعود، ليقف على باب مكتب العميد أمين زاهر، قائد الكتيبة 6، لواء 2 ، مدفعية، وقابله بغير حماسة، وصافحه بفتور، وقام بتكليفه بالعمل كأمين مخزن!! فهو اقطاعي ورجعي وبرجوازي عفن من وجهة نظر بعض الثوار، وهذا الموقف الذي يكشف عن تقديم أهل الثقة لقيادة المعركة وابعاد أهل العلم والخبرة، وكان من نتيجة هذا المسلك الهزيمة البشعة والقاسية والتي يصفها الكاتب وصفا دقيقا وكيف تحركت الدواب والطيور والطبيعة كلها؟! ورغم ذلك استطاع ناصف كريم أن ينقذ لواء المدفعية وفقا لخطة التمويه التي وضعها ونصح بالأخذ بها وتنفيذها، وكانت نهايته المأساوية، استشهاده، وكان لاستشهاده الأثر السيء على والديه وعلى أهل القرية الذين أحبوه، كبطل، يفاخرون، ويباهون به، وعندما مد الحاج إبراهيم العمده يده في كفن ولده، وجده حفنة من رماد، فمات في الحال، ودفنا معا في قبر واحد، وتكاد تكون الحسنة الوحيدة للثورة أنها أطلقت اسمه على المدرسة بالقرية.
الموقف الثاني :
موقف التأميم
همام يتوسط دوار العمدة وعلى يمينه مندوبي لجنة تصفية الاقطاع وعلى يساره مندوبي وزارة الزراعة، وتم توزيع الأرض على الفلاحين.
ساومت هنية الدقاقة همام على المزهرية ( مكان الجلوس المفضل للعمدة ) وعلى الأرض المجاورة لها، وحسين وابور ( هباب ) أخذ الأرض المجاورة لهنية الدقاقة، وأرض المانجو أخذها همام، وانتقلت إليه العمدية أيضا، وأصيب العمدة بالشلل.
الكاتب يشير إلى بداية صعود زمن هنية الدقاقة وحسين وابور ( هباب )، وهمام الذي قبض ثمن تبليغه عن الاقطاعيين للجان تصفية الاقطاع، وأطلقوا عليه صائد الأغنياء، وهو من وشى بعمه إبراهيم، وبعلاقته بتاجر القطن الأول الخواجة ( أرمانيوس ).
.....
والكاتب يرصد أثارا للثورة، من خلال فعل الثورة بقراراتها على أسرة إبراهيم عبدالكريم وعلى قرية الكريمية كلها، ولذا كان الكاتب ذكيا جدا في اختيار الشخصيات، والمكان، وفي انتقاء الحوادث، لكي تُحدث الأثر المطلوب في المتلقي، ويذكر من الآثار المقيتة للثورة والتي تجعل المتلقي ينفر منها ومن أفعالها والآثار التي تربت عليها.
فالمزهرية مثلا التي آلت إلى هنية الدقاقة، نراها تتوسط الجلسة مكان العمدة وعلى جانبيها يجلس كل من سيد الطبال، وحسين وابور ( هباب ) بدلا من الشيخ لطفي والأستاذ نظمي، وحولهم لفيف من النسوة الملبوسات ينشدن في زار هنية الشفاء!
وتتوالى الآثار السيئة للثورة والتي يقدمها الكاتب بأسلوب الصدمات، صدمة تلو صدمة :
1 – المعاملة السيئة لوجدي والد الشهيد ناصف، من زملائه، فينادونه يا إقطاعي يا رجعي.
2 – الأميرالاي والد فاتن زوجة الشهيد ناصف، وجد وجدي، اضطر إلى أن يطلق شعره، ويصبغه، ويتزوج بفتاة صغيرة، وفتح محلا لبيع الملابس الحريمي، وكان يفرط في رشوة المخبر السري المكلف بمراقبته، ليمد له في حركته، وكان هو من يكتب للمخبر التقارير عن نفسه، ويتفنن في اختيار الألفاظ والكلمات التي تجلب ثقة القادة فيه ليمنحوه حرية أكبر، واضطر الرجل إلى إحياء حياة اللهو والمجون، فكل همه أن تطمئن الرقابة، وتعرف أنه تغير تماما، وابتعد عن الحياة السياسية والعسكرية، فيكفوا عنه.
3 – الشيخ لطفي الذي هجر الخطابة أصبح يتجنب الجلوس يالمسجد خوفا من التقارير السرية السلبية، بل إمعانا في الحيطة، أخفى الكتب الدينية، واشترى بدلا منها كتب السحر وثعبان القبر الأقرع وعلامات الساعة وعلاج الأمراض بالأعشاب!
4 – الأستاذ نطمي بعد تأميم الصحف وحل الأحزاب تفرغ لسماع الأغاني من الراديو الذي لايفارقه، وهذا أفضل من رميه في السجن، فالزمن لم يعد زمنهم، فهو زمن هنية الدقاقة!
5 – تهجير بعض العائلات من بور سعيد إلى قرية الكريمية، والظهور الأول للطفلة أشجان وأهلها من الصيادين وتوزيعهم على بيوت القرية.
......
ثمة تغيرات وتحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية حدثت في الحقبة الناصرية، وتحولت بقرية الكريمية وبمصر كلها مائة وثمانون درجة.
.......
الحقبة الساداتية :
وقرية الكريمية هي القرية التي يرصد الكاتب من خلالها الواقع وتحولاته ومتغيراته السريعة والمتلاحقة، وفي الحقبة الساداتية نشير إلى بعض المتغيرات التي رصدها الكاتب :
1 – موافقة الجهات الأمنية على إقامة المولد، والمولد كظاهرة اجتماعية واقتصادية ودينية يتم توظيفها سياسيا وعني بها الكاتب عناية فائقة، ووصف المولد وصفا ماتعا ودقيقا.
2 – الصيادون الذين تم تهجيرهم من بور سعيد إلى القرية وانتظارهم للمارد البحري الذي قد يصل في أي وقت، فهو لا يمكن أن يتخلى عنهم أبدا، والكاتب قدم لنا حياة هؤلاء المهجرين، عاداتهم وتقاليدهم، وثقافتهم، المأكل والمشرب والملبس، الأغاني، والفلكلور الخاص بهم، واستطاع أن ينقل لنا بيئة الصيادين، بل نجح هؤلاء أن يقيموا في القرية بيئة تقابل بيئة الصيادين التي كانوا يعيشون فيها في بور سعيد.
وربما أهم ما رصده الكاتب في تلك الحقبة :
أ – نصر أكتوبر والفرحة العارمة.
ب – قرار الانفتاح الاقتصادي.
ج – قرار السلام مع العدو الصهيوني.
ولعل الأثر الأخطر كان لقراري الانفتاح والسلام وأثرهما البالغ على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتحولات التي حدثت للقرية ولمصر كلها بسبب هذين القرارين، ويكفي أن نشير على سبيل المثال لا الحصر مارصده الكاتب من التغيرات التي حدثت لبعض الشخصيات، منها :
1 – السيدة فاتن زوجة الشهيد ناصف وأم وجدي والتي تظهر متبرجة، بخصلات شعرها الملون، مرتدية الملابس التي تكشف أكثر مما تستر، ولا يفارق السيجار المستورد يدها، وبرفقة رجل يرتدي بدلة فخمة، وبيده أرغول، وشعره مصبوغ، فتزوجت من سيادة اللواء ممدوح الكواليني!! الذي يمتلك أكبر شركة " موديل " لاستيراد الملابس الجاهزة من فرنسا، ويفتتح لشركته مقرات بجميع المحافظات، وهذا التحول في السلوك يقابله تحول أخلاقي خطير، وكان له أثره المدمر على منظومة القيم وعلى البنية الاجتماعية، فعندما يخبرها ابنها وجدي بأن جده الذي هو والدها قد مات، أقصى ما فعلته أن أرسلت له الأموال ليتولى أمور دفنه، وعمل ما يلزم في مثل هذه المناسبات، لآنها مشغولة في التنظيم للحفل الذي ستقيمه الشركة للمندوب الفرنسي!!
2 – المهجرون الذين عادوا إلى ديارهم في بور سعيد، يعودون إلى القرية لزيارة قبر أشجان شكلا ويضمرون ويخططون للعودة بحسين وابور ( هباب ) وسيد الطبال وهنية الدقاقة إلى بور سعيد للعمل معهم في المستورد والمضروب والمغشوش، والخروج به من بور سعيد إلى القرية وما حولها من قرى!
.....
وجدي :
اختار الكاتب وجدي ابن الشهيد ناصف وحفيد إبراهيم عبدالكريم، ليكون هو البطل الجديد، ونجح الكاتب في أن يجعل وجدي معاصرا لكل التحولات التي حدثت في المجتمع المصري، فعاش طفولته في حضن جده لأبيه صاحب الشخصية الفذة، والذي استطاع بما يملكه من قدرات أن يغير من أحوال القرية، وأن يملك أربعمائة فدانا، ويصير عمدة، فبك، وسمع سيرة جده الاكبر التي تدعو إلى الفخر يتغنى بها الناس، ووالده الشهيد ناصف الضابط البطل، وعاين بنفسه ورأى آثار ثورة يوليو على أسرته وقريته، وأثار الحقبة الناصرية على الأسرة وعلى القرية وعلى مصر، وكان أول من عانى منها، ومن الحقبة الساداتية أيضا، والحال الذي وصلت إليه أمه، ووصل إليه المجتمع كله، ولم يكن أمامه بُد من السفر، والخروج من هذا الواقع الخانق.
وقبل أن نصطحب وجدي في رحلته إلى أوربا يجدر بنا أن نتوقف عند أشجان، الطفلة التي أحبها وبادلته الحب، والتي كانت عنوانا للرواية رغم أن حضورها المادي الملموس في الرواية كان قليلا جدا، ولكن أثرها المعنوي وفيضها يغمره ويكاد يغمر كونه وحياته، فهذا الحب هو الذي يحركه، ورغم موتها، نحس بها تنبض في أوردته وعروقه ونراها راسخة في قلبه، ولا تفارق عقله، هي شعاع الضوء الذي يسير على هداه وسط جهامة الواقع وقتامة الأيام.
.....
أوربا
وأول محطاته فيينا.
ويرصد لنا أحوال العرب هناك، فهم لا يكفوا عن الشجارات فيما بينهم، سياح الخليج يتشاجرون مع المهجرين العراقيين، وفي خطبة الجمعة إذا تقدم فلسطيني للصعود إلى المنبر، ثاروا عليه، كيف تتقدم علينا وأنت هربت من بلدك وتخليت عن الجهاد؟
وإذا تقدم خليجي ثاروا، كيف تتقدم وأنتم من دمرتم العراق؟
وإذا تقدم مصري ثاروأ، كيف تتقدم وأنت بلدك متواطئة وملوثة بمعاهدات مع الاحتلال؟
وهكذا تلقي السياسة بمثالبها ومساوئها على العرب في أوربا.
ويذكر حكايات وحكايات عن الأمراء العرب وموت أحد الأمراء في بارات الدعارة نتيجة لبلعه للأقراص المنشطة وهو في حضن فتاة صغيرة!!.
وقصص الكاتب وحكاياته عن العرب الذين يعيشون في أوربا لا تنفد، وهي جديرة بالتسجيل، ونذكر منها :
– عبدالخالق بوزيان، المغربي، العاشق، الشيعي، الذي رفع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى مقام الأنبياء، وراح يسب الصحابة : أبو بكر وعمر وعثمان، ويبشر بقرب قدوم المهدي المنتظر.
وقصة اللقاء الذي جمعه بالشيخ هايم الحبري على الحدود بين الجزائر والمغرب، والجنية ( شرحة ) التي يعيش معها، وذهابه إلى سحرة الهند، ليتبرأ من الأديان والإستحمام والوضوء باللبن!
وبدأ وجدي يشاهد عن كثب وعن قرب أحوال أوربا، والناس فيها، وظهور ( جولدا ) وهي صاحبة شركات ضخمة، وتعمل في مجال الدعارة، وجولدا وشرحة هما الوجه الظاهر لمحور الشر، وخلفهما الصهيونية والماسونية العالمية.
ويلتقي بالفتيات الثلاث المأزومات، والشاب الثري الذي وصله المال بالوراثة ويستمتع بالحياة الغربية بعد أن تجرد من القيود الأخلاقية، والاكتشاف بأنه شاذ جنسيا، بل زعيما للشواذ.
والابنة الوحيدة للقس فولكا المعروف في فيينا، والذي ظل حتى السبعين عاما راهبا، ثم تزوج من الراهبة جوليا بمباركة الرب يسوع في المنام، وكانت ثمرة هذا الزواج الابنة المأزومة والتي تزوجت من الشاب الثري الذي ينكر الأديان، ويراها أكبر خدعة اخترعها الناس للوصول إلى أغراضهم وتحقيق أهدافهم، واتهم القس بالخداع ورهبنته كانت بسبب حالة نفسية لاعلاقة لها بالسماء، وأنه – أي القس – تعلم السحر، وسحر الراهبة، وتخيلت بأن السيدة العذراء تبارك هذا الزواج.
وجدي يشاهد ويسمع، ويتأمل، ويفكر، ويُعمل عقله، ويصل إلى قناعاته بعد تدبر وتأمل، ويرفض الكثير من السلوكيات وأنماط التفكير وأساليب الحياة نفسها، ولا يكف عن البحث والتساؤل، ويقارب بين الحياة في مصر والحياة هنا، وحب ( أشجان ) هو الذي يعصمه من الخطأ والزلل، ويبدو أنه كان على موعد مع المقابر هنا أيضا، فيلتقي في المقابر بالسيدة ( راين هوفر ) المحبة لزوجها والمخلصة له، وزوجها كان صديقا لهتلر، وتصطحبه معها إلى منزلها وبستانها، وتحدثه عن عزلتها منذ أن مات زوجها، وتعرفه على المزرعة، حظائر الحيوانات، والطيور الطليقة، والأشجار والنباتات، فالهندسة الوراثية أحدثت التشوه في كل شيء، وهي تحرص على حيواناتها وطيورها وأشجارها ونباتتها خالية من تجارب الهندسة الوراثية.
ووجد ضالته في مكتبتها الضخمة التي تضم الكتب النفيسة والقيمة، وعكف على تلك الكتب، يقرأها بنهم، الكتب المقدسة الثلاث، السيرة الذاتية للعالم الصيني ( واتس أي تون ) مخترع الورق.
اسحق نيوتن، أينشتاين، برهان جولينبرج مخترع حروف الطباعة، ( باستور ) مكتشف الجراثيم وعلاقتها بالأمراضن والتطعيم الواقي.
عشرات الكتب قرأها في شتى المجالات، والتي أعانته في الإجابة على الأسئلة التي كانت تؤرقه، وهي أسئلة حول الحياة والموت، والكون، أسئلة تتعلق بالوجود ذاته، وكم كان رائعا وهو يعيد التأمل في آيات القرآن الكريم، وكأننا نكتشفها معه من جديد.
وتوقف كثيرا عند كتاب الشفرات، وحاول أن يحل لوغاريتماته، ويفك ألغازه، فالمخطوطة التي وقعت في يده مكتوبة بلغة لا يعرفها، ولم تكن مكتوبة بإحدى اللغات المعروفة، ولكنه ينجح في قراءة بعض سطورها التي تقول : ( لقد اقترب الوعد وصارت أموال نفطهم في بنوكنا وجيوشنا في بلادهم ).
وهذا يجعلنا نعيد التفكير مرة أخرى في الصراع بين الشرق والغرب، وهل من الممكن أن يلتقيا، أم يظل الشرق شرق، والغرب غرب.
.....
عود على بدء
الكاتب والمفكر محمد المسلمي تناول الآخر في روايته ( أشجان ) والعلاقة بين الشرق والغرب كما قلت قبلا تناولها الطيب صالح في ( موسم الهجرة إلى الشمال )، وسهيل إدريس في ( الحي اللاتيني ) ويوسف إدريس في ( البيضاء )، ويحيي حقي في ( قنديل أم هاشم ) وغيرهم.
والسؤال : أين رواية ( أشجان ) من هذه الروايات؟ .. هل هي تكرارا وصدى لهذه الروايات؟ أم إضافة لها؟
تميز " وجدي " بطل المسلمي بأنه لم يقع فيما وقع فيه الشاب السوداني مصطفي سعيد بطل الطيب صالح أو الشاب اللبناني بطل سهيل إدريس أو المصري يحيي مصطفى طه بطل يوسف إدريس أو إسماعيل بطل يحيي حقي، فمصطفى سعيد بدا وكأنه يواجه التخلف والجهل والانكسار الحضاري بالجنس، وكأنه ينتقم من الغرب في صورة المرأة، وعلى نفس الدرب سار بطل سهيل إدريس في فرنسا، والرواية تصور شغف البطل وأصحابه الذين سافروا معه من لبنان للدراسة، بالمرأة والجنس، ولاهم لهم إلا المتعة واللهو، وعندما صادف البطل الشقراء التي ملكت قلبه وبادلته الحب، وعندما تخبره بأنها حملت منه، يستاء من هذا الوضع وتغلب عليه شرقيته، وبعد مراجعات مع نفسه يعرض عليها الزواج، فترفض هي، وتصارحه بأنه شرقي ومن الصعب أن يتخلص من شرقيته، وكانت قصة حب يحيي مصطفى طه للسيدة اليونانية البيضاء قصة غريبة، عزل فيها يوسف إدريس بطله عن محيطه الاجتماعي والتاريخي، وإن ظهرا في الخلفية ولكنها تبدو كظلال باهتة، فالبطل فقد ذاته أو فقد نفسه أمام البيضاء وإحساسه بالعجز والانكسار هو تصوير لحال الشرق أمام الغرب، رغم أنه يساري وكان يسعى على مدى نضاله للانتصار على الغرب، وربما إسماعيل بطل يحيي حقي كان أكثرهم إعتدالا، فهو سافر إلى ألمانيا لدراسة الطب، ويصادف فتاة ألمانية تعلمه كيف تكون الحياة، ويعود ليفتح عيادة بحي السيدة، ويكتشف بأن المرضى في تزايد، وببحثه عن السبب اكتشف بأن الناس تتبارك بزيت قنديل السيدة أم هاشم، ومنهم ابنة عمه وخطيبته، فيذهب في ثورة غضب ليهشم القنديل، وهذا التصرف يغضب الناس وينصرف عنه المرضى، فهو في رأيهم فسق وكفر، وستحل عليه لعنة السيدة أم هاشم، ولكنه سرعان ما يعود ليوائم بين العلم والإيمان بعد أن كان كساعة البندول المأرجحة بين الشرق والغرب، ويعالج ابنة عمه من جديد، ربما تكون رواية يحيي حقي التي صورت الصراع بين الشرق والغرب متمثلا في الصراع بين العلم والخرافة، هي من أكثر الروايات تميزا، أما الروايات الأخرى فأبطالها يعانون من الكبت والحرمان والشعور بالنقص، وبطل المسلمي لم يعاني من هذه العقد، ولم ينزلق إلى الجنس، فهو يحاول أن يتصالح مع نفسه ومع الله ومع الكون، ويبحث عن إجابات لأسئلة كبرى، فهو قريب من المفكر وقريب من الفيلسوف، وبطل المسلمي لم يكن معزولا عن حركة المجتمع والحياة سواء في مصر أو في أوربا، والكاتب أسس له عبر تاريخ طويل، فالرواية رواية أجيال، واستطاع أن يعيد لنا اكتشاف أوربا من زوايا أخرى وكانت أقرب إلى الواقعية وأكثر صدقا.والبطل هنا محب، يحركه الحب، وحبه طاهر، نقي، عفيف، أقرب إلى الحب السماوي الذي لا تدنسه الشهوات.
أعتقد أن مقاربة رواية ( أشجان ) بنطيراتها من الروايات التي تناولت الآخر، واقتربت من التماهي مع العلاقة بين الشرق والغرب، تحتاج إلى قراءة وبحث مستقل، لتأخذ الرواية حقها، كامتداد لهذه الروايات، وإضافة لها.
.....
في هذه الرواية أعاد الكاتب للوصف بهاه، وضياه، فهو واحد من الوصافين الكبار، كما أن لغته في القسم الأول، وفي أجزاء كثيرة منه كانت لغة شعرية، محلقة، ومجنحة، وكانت أقرب إلى الشعر وإن لم تكنه وخاصة في المشاهد التي تظهر فيها أشجان، فيعبر بلغة تخاطب الأحاسيس والوجدان، وهذه اللغة في القسم الثاني وفي أوربا تحديدا تغيرت إلى لغة أخرى لا أقول لعة العلم، اللغة الحيادية الباردة، ولكنها لغة قاطعة وحاسمة، حتى الجمل السردية في القسم الأول كانت حركتها بطيئة وخاصة في الفصول الأربع الأول، بطيئة بطء الحياة قبل الثورة في زمن الحمار والجمل والفأس والكوريك، ومع تسارع الحياة بعد الثورة نجد إيقاع الجمل السردية يتسارع، ومع حركة الحياة في أوربا الأكثر دينامية كان السرد هو الآخر أكثر دينامية / حركة.
الرواية تحتاج إلى قراءات وقراءت سواء على مستوى الرؤية أو على مستوى التشكيل، وكل الشكر للكاتب والمفكر محمد المسلمي الذي أتاح لي قراءة هذه الرواية الماتعة، والتي أعتبرها إضافة إلى المكتبة العربية.
وأما النصف الثاني من الرواية تدور أحداثه في أوربا، ويرصد الواقع في أوربا، وتحولاته، عبر ( 14 ) فصلا.
وكان الكاتب عادلا في توزيع المساحة بين الواقعين، الواقع الشرقي المتمثل في مصر، والواقع الغربي، وبلغ الانصاف مداه في توفيق الكاتب في اختيار بطل نصه الذي قضى نصف عمره في مصر والنصف الآخر في أوربا. وما أرصده هنا من ملاحظات ربما لم تأت عن عمد من الكاتب، ولكنها ملاحظات أرى أنها جديرة بالاهتمام، وبالتوقف عندها.
الرواية عموما تثير العديد من الأسئلة، فهي تناقش العلاقة بين الشرق والغرب، وظلت هذه العلاقة على مدى دهور وقرون تتأرجح بين مقولتين، المقولة الأولى : الشرق شرق، والغرب غرب ولا يمكن أن يلتقيا.
والمقولة الثانية والتي يرى أصحابها بإمكانية التلاقي.
وهذه العلاقة كيف رصدها الكتاب العرب؟ ..
بعيدا عن الروايات التي جاءت أقرب إلى الأدب الدعائي أوالسياحي، أو أدب الرحلات، فهناك أدباء وكتاب تماهوا مع هذه العلاقة وقدموا لنا نماذج جيدة وجديرة بالرصد والتتبع، ولاقت بالفعل اهتماما وحفاوة نقدية، ونذكر منهاعلى سبيل المثال لا الحصر : ( قنديل أم هاشم ) ليحيي حقي، و ( موسم الهجرة إلى الشمال ) للطيب صالح، و ( الحي اللاتيني ) لسهيل إدريس، و ( البيضاء ) ليوسف إدريس، و ( قنديل أم هاشم ) ليحيي حقي.
هل تدور رواية ( أشجان ) في فلك تلك الروايات أم جاءت لتقدم لنا جديدا، وتكون إضافة حقيقية لهذه الروايات؟!
قبل أن نجيب على هذا السؤال، سنلج إلى عالم ( أشجان )، ونتوقف على بعض ما تثيره من موضوعات وقضايا، وبعض الحيل الفنية التي لجأ إليها الكاتب.
......
الكاتب لا ينطلق من قرية لها وجودها الحقيقي وظلالها التاريخية، ولكنه ينشأ قرية جديدة، وسنرى كيف اختار المكان؟ والشخصيات، ..
الزمن الخارجي : يبدأ من العام 1750م.
اختار أرض صحراء بأطراف محافظة الشرقية، تكاد تكون ملتقى محافظات الشرقية والإسماعيلية وبور سعيد، أرض صحراء تزيد على المائتي فدان، بجوارها هضبة رملية بارتفاع ثلاثة أمتار ومساحتها خمسة عشر فدانا، وهي مأوى للذئاب والثعالب والأفاعي والطيور الجارحة.
أول من حط على هذه البقعة الصحراوية، التي لا زرع فيها ولا ماء هو إبراهيم عبدالكريم وزوجته تحية المنيلاوي وأبنائهما درغام وأدهم وفايق، جاء إبراهيم عبدالكريم من مكان مجهول على صهوة بغلته ويجر أبقاره وجاموسه وأغنامه ومتاعه وأجولة من الأموال، ومارس الرجل نشاطه في تجارة المواشي، وفي كل سوق يختار بعناية من يصطحبه معه ليعينه في تذليل تلك الأرض العصية، وبعد خمس سنوات من العمل الشاق والدءوب أنشأ معسكرا من الخيام، عاش فيه أكثر من ثلاثمائة فردا انتقاهم بعناية فائقة، ليعملون تحت إشرافه، وبفضل تجارته النشطة وأمواله المدفونة أنهى الكثير من تذليل الآرض، واستطاع أن يشق ترعة فرعية لها من ترعة ( العمرانية ) الرئيسية.
....
بعد انقضاء ثلاثة عقود نفق عدد لا حصر له من الخيول والبغال والحمير والثيران في تذليل هذه الآرض.
.....
الكاتب يبرز دور الأجداد ومعاناتهم في تذليل الأرض وشق الترع لتصل إلى الأجيال اللاحقة وقد أخضرت وأينعت وأتت ثمارها، وهذه من أعظم هدايا السلف للخلف، وأن الله عز وجل يقيض رجالا بعينهم من أولي القوة والصبر والجلد ليذللوا لنا تلك الأرض العصية، ومن هؤلاء إبراهيم عبدالكريم.
....
من أهم معالم القرية القديمة: الأرض المنزرعة، المقابر، المسجد، ضريح الولي، هل قرية محمد المسلمي تتشابه مع هذه القرى؟
المقابر :
حفروا عند مفترق أرض الجزيرة والهضبة الرملية قبرا كبيرا يسع رفاة الحيوانات الهالكة وحطام الفئوس والمحاريث والكواريك والمقاطف الممزقة .
وتم تخصيص الهضبة الرملية لجبانة تسع الأجيال المتعاقبة.
عند مفرق الجبانة من ناحية الأرض المنخفضة وبداية مرتفع الهضبة غرس إبراهيم عبدالكريم شجرة العبل بعد موت زوجته.
وبمرور الزمن ضربت الشجرة بجذورها بعيدا في جوف الجبانة.
والكاتب يحاول أن يأسطر تلك الشجرة التي تقوم بوظيفة صالة الاستقبال للموتى وزوار المقابر، وعتبة الخروج من الدنيا إلى الآخرة، بل صارت في المعتقد الشعبي لأهل القرية العلامة للحكم على الميت، والإشارة على حُسن خاتمته أو سوء منقلبه ونهايته، فيفرح أهل المتوفي إذا أسقطت ثمارها عند ممارسة طقوس الدفن، فهذه بشارة حُسن الخاتمة، وإذا أمسكت ثمارها فيحزن أهل المتوفي لأنها إشارة إلى سوء الخاتمة, وإذا اهتزت أغصانها تفاءلوا، وإذا سكنت تشاءموا، فالشجرة تمتص غذاءها من رفات الموتى ومن رفات الحيوانات.
ومقابر الكاتب لا تخلو – شأنها شأن معظم مقابر القرى – من المردة والعفاريت، ومارد جبانة الكاتب يخرج من مقبرة محددة، يخرج من المقبرة التي دُفن فيها ثلاثة أشخاص في مشهد حزين، فالذئاب هاجمتهم وهم يمارسون أعمالهم في تذليل أرض الجزيرة، وانكضت عليهم، والتهمتهم، يخرج المارد من ثنايا قبرهم الذي دفنوا فيه معا، متشامخا بجسمه الأسود، عاويا بصوت الذئاب التي أكلتهم، ثم يهبط فيتلاشى.
وهؤلاء الثلاثة الذين أكلتهم الذئاب ودفنوا في قبر واحد وفي ليلة واحدة، تزوج إبراهيم عبدالكريم بزوجاتهم وفي ليلة واحدة أيضا، وبلغ عدد أبناؤه وأحفاده الأربعين.
بعد ثلاثة عقود من العمل المتواصل وزراعة المائتي فدانا من الأرض تم التخلص من الخيام والأكواخ، وأقاموا مكانها دورا من الطوب اللبن، وتم ترك خمسة أفدنة لساحة الجرن، وتم تسميتها بعزبة ( الكريمية )، وحدد إبراهيم عبدالكريم لكل منهم المساحة التي يزرعها، والنسبة التي سيحصل عليها، وأولاده لهم حظائر الأغنام والمواشي التي تضم مئات الرؤوس ومن يعمل معهم يُؤجر.
هذا النظام الاقتصادي الذي وضعه إبراهيم عبدالكريم استمر العمل به في حياته، فحدد العلاقة بينه وبين من استأجرهم ليستصلحوا معه الأرض ويفلحونها، وهو توزيع المساحات على المزارعين، والعائد من محصول الأرض يكون لكل منهم نصيب أو نسبة متفق عليها، واستأثر بحظائر المواشي وتربيتها والتجارة فيها لأبنائه من بعده، ومن يعاونهم له أجره، ومن ثم كانت ظهور بعض الملامح لقرية الكاتب والتي لم تزل في طور التكوين، فلم تزل عزبة، فالأرض اخضرت، والترعة انشقت، واختفت الخيام والأخصاص وحلت محلها الدور الطينية، ولكل من بالعزبة حركته الاجتماعية والاقتصادية، والحركة وفقا لنظام صارم وضعه إبراهيم عبدالكريم.
هل يستمر الحال هكذا بعد موته؟
.....
بعد موته ضاعت هيبته التي كانت في حياته، فمن تجرأ وقال :
إنه آوى إلى هذا المكان هربا من ثأر! ومن قال إنه رجل وطني قتل عددا من العثمانيين الإقطاعيين الذين نهبوا البلاد بزعم حراسة الخلافة وحمايتها، ومن قال بأنه رجل مبارك أورثه الله المال ورزقه بالبنين والآرض الواسعة.
وبعد موته، بدأ الصراع بين آل كريم من جانب وأهل العزبة من جانب آخر، وبين آل كريم بعضهم البعض، واستمر الصراع قرنا من الزمان
......
الرواية رواية أجيال، وبعد موت إبراهيم عبدالكريم لم يظهر من أولاده أو أحفاده من له هيبته وجلده وطموحه، وقدرته على مجابهة الواقع، وتغييره، أجيال خائية وبليدة وكسولة تعاقبت، وكأن النساء عقمت، وعجزن عن انجاب إبراهيم عبدالكريم آخر.
ولكن قدر الله، بعد مائة وخمسين سنة من هجرة إبراهيم عبدالكريم الكبير إلى الجزيرة، أن يأتي في العام 1900م حفيده الخامس، واسمه إبراهيم، وتوسموا فيه الخير، فأخذ من جده الأكبر صفاته كما أخذ اسمه ونضاله وعناده.
عندما بلغ الخمسين كان قد تمكن من شراء مواريث أل كريم التي تبلغ المائتي فدان، وتاجر في المواشي، ما ترك سوقا في الشرقية أو المحافظات المجاورة إلا باع واشترى فيه، وتمكن من شراء المائة فدان من المزارعين من آل كريم الذين ظنوا أن أرض الكريمية مصيدة لهلاكهم وكان آخر المفلسين منهم هو همام بن عزت شفيق بائعا له المساحة المتبقية من حديقة المانجو لينفق من ثمنها على اللهو والتباهي والتفاخر في القاهرة.
....
تمكن إبراهيم عبدالكريم الحفيد الخامس من تحويل عزبة الكريمية إلى قرية الكريمية، وصار من أكبر سماسرة القطن، التي راجت تجارته في ذلك الوقت.
واهتم الكاتب بشخصية الحفيد الخامس، ورسمه بعناية، فهو الامتداد الحقيقي لجده الأكبر، وبدأ من حيث انتهى جده، وأخذ يضيف ويطورـ فقام بتغيير ساحة الجرن إلى ساحة المولد، تيمنا بمولد العارف بالله الشيخ فايد الغريب والذي دفن بالمسجد الكبير، وله كرامة ومحبة من أهل القرية، وطور الدوار الذي تركه جده الأكبر، وحدثه.
ونجح الحفيد الخامس في أن يقيم بعض المعالم في القرية مثل المولد، والمسجد ومقام الولي، وتبدأ ملامح ومعالم ذلك الزمان البعيد تتضح رويدا رويدا، وأصبحنا نتلمس أنماط وأساليب وحركة الحياة سواء الاقتصادية وأساليب البيع والشراء، والسياسية بسعيه للحصول على البكوية وبظهور حزب الوفد ... إلخ.
وعلاقته بزوجته السيدة جمالات الحديدي، المتكبرة دون جور، والمتسلطة باللفظ من غير أذى.
وتعامل الكاتب مع الاستعلاء الطبقي من خلال هذه السيدة برقي شديد، فهي تعاني من وسواس قهري يحول بينها وبين الطبقات الدنيا، وكأنه يجد لها المبرر لهذا الاستعلاء، فيحملها على أفعال تبدو وكأنها متعالية كما يقول الكاتب، فتقول للعمدة : اخلع ملابسك قبل دخول السراي لتنظيفها خوفا من الحشرات وتطالبه بأن يصب الماء على يديه قبل أن يصافحها، فيده صافحت الفلاحين، ولا تصافح هذه السيدة ناس القرية إلا بعد أن تلف يدها بشاش أبيض أو فطعة قماش نظيفة!!
والقارئ يبدأ يتلمس الفوارق الطبقية، وبعد رواج تجارة القطن وبمساعدة الخواجة ( أرمانيوس ) للعمدة في شراء المائتي فدانا المجاورة لأرضه، ليصبح في حيازة العمدة أربعمائة من الأفدنه، وهي تكفي لأن يسعى للحصول على لقب البكوية.
.....
والكاتب يكشف للقارئ من خلال العمدة وشلة الأصدقاء الذين يلتفون حوله الكثير من واقع الحياة قبل ثورة يوليو 1952م.
ونذكر منهم :
1 – نظمي شهوان : موظف حكومة بشهادة متوسطة، يعشق الثقافة وقراءة الكتب والجرائد، ووطني، وعضو بحزب الوفد.
2 – لطفي السراج : خطيب مسجد القرية الكبير والمعروف بمسجد الشيخ فايد الغريب، وهو محل ثقة في حراسة ( حوزة ) الدين دون عقد، سلس التعامل، حريص على الصلاة بالمسجد في أوقاتها، يقول الحق دون مجاملة أو مواربة حتى مع العمدة نفسه.
ومن خلال صديقيه نظمي ولطفي يتضح لنا بصورة أكبر الحالة السياسية والدينية في تلك الفترة.
ومن المقربين للعمدة للتسلية والترفيه :
1 – حسين المدعو حسين وابور ( هباب ).
2 – بهية الدقاقة وسيد الطبال وهما زوجان عرفتهما القرى والعزب والكفور والنجوع بتجوالهما على حمارهما في المناسبات، تغني بهية المواويل على أنغام دقات زوجها سيد على طبلته، وتراهما في سحور رمضان، وفي الأفراح، والمآتم، ودقات الزار.
وهؤلاء سيكون لهم حضورهم القوي في الفصول التالية.
.....
نجح الحفيد الخامس إبراهيم عبدالكريم في الحصول على البكوية، ولم يقف طموحه عند هذا الحد، فخطب الآنسة فاتن كريمة الأميرالاي سليمان فوزي بالحرس الملكي بالسراي لابنه الملازم أول ناصف، وتم عقد القران والزفاف في الأول من يوليو عام 1952م.
....
الكاتب تعامل مع عصر ما قبل ثورة يوليو 1952م برهافة شديدة، وقدم لنا شخصية عصامية جديرة بالاحترام مثل شخصية إبراهيم عبدالكريم الكبير، وأيضا حفيده الخامس، ليقدم لنا من خلالهما شخصية الرأسمالي أو الإقطاعي، ولكن السؤال : هل كل أو معظم نماذج الرأسماليين قبل الثورة مثل إبراهيم عبدالكريم؟
الفن انتقاء واختيار من الواقع كما يقول نقادنا الأشاوس، والنموذج الذي اختاره الكاتب قد يكون واقعيا، ولكنه ليس مقياسا للتعميم، لأن النماذج الأسوأ في ذلك العصر أكثر بكثير من هذا النموذج العصامي المشرق، ولكن الكاتب اختار هذا النموذج بعناية فائفة ليدين ثورة يوليو، ويحق للكاتب أن يدين ثورة يوليو ولكن عليه أن يقنعنا موضوعيا وفنيا.
.....
الحقبة الناصرية :
يرصد الكاتب مثالب الحقبة الناصرية، وجاءت كالتالي :
1 – فجر 23 يوليو الرائد أمين زاهر على رأس مجموعة من جنوده في مكتب الأميرالاي سليمان فوزي كبير ياورات الحرس الملكي، ليجردوه من الرتب والنياشين، وأطاحوا بكابه بعد إهانته!.
2 – ألغت الثورة الألقاب عن الناس واكتفت بها لنفسها ولرجال السلطة، فانزوى إبراهيم بك وعاد للقبه القديم ( العمدة ).
3 – قرار التأميم وتمكين الفلاحين الأُجراء من الأرض، فسقطت هيبة إبراهيم بك، وتجرأ رجاله عليه.
4 – الشيخ لطفي ترك العمل كإمام بالمساجد وانتقل للعمل كموظف بالأوقاف، لأن المنابر أصبحت لخدمة الحاكم.
5 – الأستاذ نظمي أقلع عن عادة شراء الصحف بعد أن أُممت، وتم حل الأحزاب، والصحف لا هم لها إلا تمجيد الثورة.
وبراعة الكاتب تأتي من أنه لم يذكر مثالب الثورة ومساوئ الحقبة الناصرية من خلال شعارات وجمل خطابية محفوظة ومكرورة، ولكنه رصد هذه المثالب من خلال آثار الثورة على عائلة إبراهيم عبدالكريم وعلى الناس في قرية الكريمية والتغيرات التي حدثت.
وسأكتفي هنا بذكر موقفين.
الموقف الأول :
النقيب ناصف كريم ابن العمدة الذي أحبه الناس لرشاقته ومهارته في الرماية، فهو بطل الرماية على مستوى الجيش المصري، وفاز بالمركز الأول أيضا في الرماية على مستوى جيوش العالم، وأبلى بلاء حسنا في اصطياد جنود الأعداء أثناء هبوطهم بالمظلات، وكان أحد أسباب النصر في حرب العدوان الثلاثي، وتم إيفاده في بعثة إلى روسيا، وحصل على الماجستير في العلوم العسكرية، ويواصل دراساته العسكرية ويحصل على الدكتوراه، ويعود، ليقف على باب مكتب العميد أمين زاهر، قائد الكتيبة 6، لواء 2 ، مدفعية، وقابله بغير حماسة، وصافحه بفتور، وقام بتكليفه بالعمل كأمين مخزن!! فهو اقطاعي ورجعي وبرجوازي عفن من وجهة نظر بعض الثوار، وهذا الموقف الذي يكشف عن تقديم أهل الثقة لقيادة المعركة وابعاد أهل العلم والخبرة، وكان من نتيجة هذا المسلك الهزيمة البشعة والقاسية والتي يصفها الكاتب وصفا دقيقا وكيف تحركت الدواب والطيور والطبيعة كلها؟! ورغم ذلك استطاع ناصف كريم أن ينقذ لواء المدفعية وفقا لخطة التمويه التي وضعها ونصح بالأخذ بها وتنفيذها، وكانت نهايته المأساوية، استشهاده، وكان لاستشهاده الأثر السيء على والديه وعلى أهل القرية الذين أحبوه، كبطل، يفاخرون، ويباهون به، وعندما مد الحاج إبراهيم العمده يده في كفن ولده، وجده حفنة من رماد، فمات في الحال، ودفنا معا في قبر واحد، وتكاد تكون الحسنة الوحيدة للثورة أنها أطلقت اسمه على المدرسة بالقرية.
الموقف الثاني :
موقف التأميم
همام يتوسط دوار العمدة وعلى يمينه مندوبي لجنة تصفية الاقطاع وعلى يساره مندوبي وزارة الزراعة، وتم توزيع الأرض على الفلاحين.
ساومت هنية الدقاقة همام على المزهرية ( مكان الجلوس المفضل للعمدة ) وعلى الأرض المجاورة لها، وحسين وابور ( هباب ) أخذ الأرض المجاورة لهنية الدقاقة، وأرض المانجو أخذها همام، وانتقلت إليه العمدية أيضا، وأصيب العمدة بالشلل.
الكاتب يشير إلى بداية صعود زمن هنية الدقاقة وحسين وابور ( هباب )، وهمام الذي قبض ثمن تبليغه عن الاقطاعيين للجان تصفية الاقطاع، وأطلقوا عليه صائد الأغنياء، وهو من وشى بعمه إبراهيم، وبعلاقته بتاجر القطن الأول الخواجة ( أرمانيوس ).
.....
والكاتب يرصد أثارا للثورة، من خلال فعل الثورة بقراراتها على أسرة إبراهيم عبدالكريم وعلى قرية الكريمية كلها، ولذا كان الكاتب ذكيا جدا في اختيار الشخصيات، والمكان، وفي انتقاء الحوادث، لكي تُحدث الأثر المطلوب في المتلقي، ويذكر من الآثار المقيتة للثورة والتي تجعل المتلقي ينفر منها ومن أفعالها والآثار التي تربت عليها.
فالمزهرية مثلا التي آلت إلى هنية الدقاقة، نراها تتوسط الجلسة مكان العمدة وعلى جانبيها يجلس كل من سيد الطبال، وحسين وابور ( هباب ) بدلا من الشيخ لطفي والأستاذ نظمي، وحولهم لفيف من النسوة الملبوسات ينشدن في زار هنية الشفاء!
وتتوالى الآثار السيئة للثورة والتي يقدمها الكاتب بأسلوب الصدمات، صدمة تلو صدمة :
1 – المعاملة السيئة لوجدي والد الشهيد ناصف، من زملائه، فينادونه يا إقطاعي يا رجعي.
2 – الأميرالاي والد فاتن زوجة الشهيد ناصف، وجد وجدي، اضطر إلى أن يطلق شعره، ويصبغه، ويتزوج بفتاة صغيرة، وفتح محلا لبيع الملابس الحريمي، وكان يفرط في رشوة المخبر السري المكلف بمراقبته، ليمد له في حركته، وكان هو من يكتب للمخبر التقارير عن نفسه، ويتفنن في اختيار الألفاظ والكلمات التي تجلب ثقة القادة فيه ليمنحوه حرية أكبر، واضطر الرجل إلى إحياء حياة اللهو والمجون، فكل همه أن تطمئن الرقابة، وتعرف أنه تغير تماما، وابتعد عن الحياة السياسية والعسكرية، فيكفوا عنه.
3 – الشيخ لطفي الذي هجر الخطابة أصبح يتجنب الجلوس يالمسجد خوفا من التقارير السرية السلبية، بل إمعانا في الحيطة، أخفى الكتب الدينية، واشترى بدلا منها كتب السحر وثعبان القبر الأقرع وعلامات الساعة وعلاج الأمراض بالأعشاب!
4 – الأستاذ نطمي بعد تأميم الصحف وحل الأحزاب تفرغ لسماع الأغاني من الراديو الذي لايفارقه، وهذا أفضل من رميه في السجن، فالزمن لم يعد زمنهم، فهو زمن هنية الدقاقة!
5 – تهجير بعض العائلات من بور سعيد إلى قرية الكريمية، والظهور الأول للطفلة أشجان وأهلها من الصيادين وتوزيعهم على بيوت القرية.
......
ثمة تغيرات وتحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية حدثت في الحقبة الناصرية، وتحولت بقرية الكريمية وبمصر كلها مائة وثمانون درجة.
.......
الحقبة الساداتية :
وقرية الكريمية هي القرية التي يرصد الكاتب من خلالها الواقع وتحولاته ومتغيراته السريعة والمتلاحقة، وفي الحقبة الساداتية نشير إلى بعض المتغيرات التي رصدها الكاتب :
1 – موافقة الجهات الأمنية على إقامة المولد، والمولد كظاهرة اجتماعية واقتصادية ودينية يتم توظيفها سياسيا وعني بها الكاتب عناية فائقة، ووصف المولد وصفا ماتعا ودقيقا.
2 – الصيادون الذين تم تهجيرهم من بور سعيد إلى القرية وانتظارهم للمارد البحري الذي قد يصل في أي وقت، فهو لا يمكن أن يتخلى عنهم أبدا، والكاتب قدم لنا حياة هؤلاء المهجرين، عاداتهم وتقاليدهم، وثقافتهم، المأكل والمشرب والملبس، الأغاني، والفلكلور الخاص بهم، واستطاع أن ينقل لنا بيئة الصيادين، بل نجح هؤلاء أن يقيموا في القرية بيئة تقابل بيئة الصيادين التي كانوا يعيشون فيها في بور سعيد.
وربما أهم ما رصده الكاتب في تلك الحقبة :
أ – نصر أكتوبر والفرحة العارمة.
ب – قرار الانفتاح الاقتصادي.
ج – قرار السلام مع العدو الصهيوني.
ولعل الأثر الأخطر كان لقراري الانفتاح والسلام وأثرهما البالغ على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتحولات التي حدثت للقرية ولمصر كلها بسبب هذين القرارين، ويكفي أن نشير على سبيل المثال لا الحصر مارصده الكاتب من التغيرات التي حدثت لبعض الشخصيات، منها :
1 – السيدة فاتن زوجة الشهيد ناصف وأم وجدي والتي تظهر متبرجة، بخصلات شعرها الملون، مرتدية الملابس التي تكشف أكثر مما تستر، ولا يفارق السيجار المستورد يدها، وبرفقة رجل يرتدي بدلة فخمة، وبيده أرغول، وشعره مصبوغ، فتزوجت من سيادة اللواء ممدوح الكواليني!! الذي يمتلك أكبر شركة " موديل " لاستيراد الملابس الجاهزة من فرنسا، ويفتتح لشركته مقرات بجميع المحافظات، وهذا التحول في السلوك يقابله تحول أخلاقي خطير، وكان له أثره المدمر على منظومة القيم وعلى البنية الاجتماعية، فعندما يخبرها ابنها وجدي بأن جده الذي هو والدها قد مات، أقصى ما فعلته أن أرسلت له الأموال ليتولى أمور دفنه، وعمل ما يلزم في مثل هذه المناسبات، لآنها مشغولة في التنظيم للحفل الذي ستقيمه الشركة للمندوب الفرنسي!!
2 – المهجرون الذين عادوا إلى ديارهم في بور سعيد، يعودون إلى القرية لزيارة قبر أشجان شكلا ويضمرون ويخططون للعودة بحسين وابور ( هباب ) وسيد الطبال وهنية الدقاقة إلى بور سعيد للعمل معهم في المستورد والمضروب والمغشوش، والخروج به من بور سعيد إلى القرية وما حولها من قرى!
.....
وجدي :
اختار الكاتب وجدي ابن الشهيد ناصف وحفيد إبراهيم عبدالكريم، ليكون هو البطل الجديد، ونجح الكاتب في أن يجعل وجدي معاصرا لكل التحولات التي حدثت في المجتمع المصري، فعاش طفولته في حضن جده لأبيه صاحب الشخصية الفذة، والذي استطاع بما يملكه من قدرات أن يغير من أحوال القرية، وأن يملك أربعمائة فدانا، ويصير عمدة، فبك، وسمع سيرة جده الاكبر التي تدعو إلى الفخر يتغنى بها الناس، ووالده الشهيد ناصف الضابط البطل، وعاين بنفسه ورأى آثار ثورة يوليو على أسرته وقريته، وأثار الحقبة الناصرية على الأسرة وعلى القرية وعلى مصر، وكان أول من عانى منها، ومن الحقبة الساداتية أيضا، والحال الذي وصلت إليه أمه، ووصل إليه المجتمع كله، ولم يكن أمامه بُد من السفر، والخروج من هذا الواقع الخانق.
وقبل أن نصطحب وجدي في رحلته إلى أوربا يجدر بنا أن نتوقف عند أشجان، الطفلة التي أحبها وبادلته الحب، والتي كانت عنوانا للرواية رغم أن حضورها المادي الملموس في الرواية كان قليلا جدا، ولكن أثرها المعنوي وفيضها يغمره ويكاد يغمر كونه وحياته، فهذا الحب هو الذي يحركه، ورغم موتها، نحس بها تنبض في أوردته وعروقه ونراها راسخة في قلبه، ولا تفارق عقله، هي شعاع الضوء الذي يسير على هداه وسط جهامة الواقع وقتامة الأيام.
.....
أوربا
وأول محطاته فيينا.
ويرصد لنا أحوال العرب هناك، فهم لا يكفوا عن الشجارات فيما بينهم، سياح الخليج يتشاجرون مع المهجرين العراقيين، وفي خطبة الجمعة إذا تقدم فلسطيني للصعود إلى المنبر، ثاروا عليه، كيف تتقدم علينا وأنت هربت من بلدك وتخليت عن الجهاد؟
وإذا تقدم خليجي ثاروا، كيف تتقدم وأنتم من دمرتم العراق؟
وإذا تقدم مصري ثاروأ، كيف تتقدم وأنت بلدك متواطئة وملوثة بمعاهدات مع الاحتلال؟
وهكذا تلقي السياسة بمثالبها ومساوئها على العرب في أوربا.
ويذكر حكايات وحكايات عن الأمراء العرب وموت أحد الأمراء في بارات الدعارة نتيجة لبلعه للأقراص المنشطة وهو في حضن فتاة صغيرة!!.
وقصص الكاتب وحكاياته عن العرب الذين يعيشون في أوربا لا تنفد، وهي جديرة بالتسجيل، ونذكر منها :
– عبدالخالق بوزيان، المغربي، العاشق، الشيعي، الذي رفع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى مقام الأنبياء، وراح يسب الصحابة : أبو بكر وعمر وعثمان، ويبشر بقرب قدوم المهدي المنتظر.
وقصة اللقاء الذي جمعه بالشيخ هايم الحبري على الحدود بين الجزائر والمغرب، والجنية ( شرحة ) التي يعيش معها، وذهابه إلى سحرة الهند، ليتبرأ من الأديان والإستحمام والوضوء باللبن!
وبدأ وجدي يشاهد عن كثب وعن قرب أحوال أوربا، والناس فيها، وظهور ( جولدا ) وهي صاحبة شركات ضخمة، وتعمل في مجال الدعارة، وجولدا وشرحة هما الوجه الظاهر لمحور الشر، وخلفهما الصهيونية والماسونية العالمية.
ويلتقي بالفتيات الثلاث المأزومات، والشاب الثري الذي وصله المال بالوراثة ويستمتع بالحياة الغربية بعد أن تجرد من القيود الأخلاقية، والاكتشاف بأنه شاذ جنسيا، بل زعيما للشواذ.
والابنة الوحيدة للقس فولكا المعروف في فيينا، والذي ظل حتى السبعين عاما راهبا، ثم تزوج من الراهبة جوليا بمباركة الرب يسوع في المنام، وكانت ثمرة هذا الزواج الابنة المأزومة والتي تزوجت من الشاب الثري الذي ينكر الأديان، ويراها أكبر خدعة اخترعها الناس للوصول إلى أغراضهم وتحقيق أهدافهم، واتهم القس بالخداع ورهبنته كانت بسبب حالة نفسية لاعلاقة لها بالسماء، وأنه – أي القس – تعلم السحر، وسحر الراهبة، وتخيلت بأن السيدة العذراء تبارك هذا الزواج.
وجدي يشاهد ويسمع، ويتأمل، ويفكر، ويُعمل عقله، ويصل إلى قناعاته بعد تدبر وتأمل، ويرفض الكثير من السلوكيات وأنماط التفكير وأساليب الحياة نفسها، ولا يكف عن البحث والتساؤل، ويقارب بين الحياة في مصر والحياة هنا، وحب ( أشجان ) هو الذي يعصمه من الخطأ والزلل، ويبدو أنه كان على موعد مع المقابر هنا أيضا، فيلتقي في المقابر بالسيدة ( راين هوفر ) المحبة لزوجها والمخلصة له، وزوجها كان صديقا لهتلر، وتصطحبه معها إلى منزلها وبستانها، وتحدثه عن عزلتها منذ أن مات زوجها، وتعرفه على المزرعة، حظائر الحيوانات، والطيور الطليقة، والأشجار والنباتات، فالهندسة الوراثية أحدثت التشوه في كل شيء، وهي تحرص على حيواناتها وطيورها وأشجارها ونباتتها خالية من تجارب الهندسة الوراثية.
ووجد ضالته في مكتبتها الضخمة التي تضم الكتب النفيسة والقيمة، وعكف على تلك الكتب، يقرأها بنهم، الكتب المقدسة الثلاث، السيرة الذاتية للعالم الصيني ( واتس أي تون ) مخترع الورق.
اسحق نيوتن، أينشتاين، برهان جولينبرج مخترع حروف الطباعة، ( باستور ) مكتشف الجراثيم وعلاقتها بالأمراضن والتطعيم الواقي.
عشرات الكتب قرأها في شتى المجالات، والتي أعانته في الإجابة على الأسئلة التي كانت تؤرقه، وهي أسئلة حول الحياة والموت، والكون، أسئلة تتعلق بالوجود ذاته، وكم كان رائعا وهو يعيد التأمل في آيات القرآن الكريم، وكأننا نكتشفها معه من جديد.
وتوقف كثيرا عند كتاب الشفرات، وحاول أن يحل لوغاريتماته، ويفك ألغازه، فالمخطوطة التي وقعت في يده مكتوبة بلغة لا يعرفها، ولم تكن مكتوبة بإحدى اللغات المعروفة، ولكنه ينجح في قراءة بعض سطورها التي تقول : ( لقد اقترب الوعد وصارت أموال نفطهم في بنوكنا وجيوشنا في بلادهم ).
وهذا يجعلنا نعيد التفكير مرة أخرى في الصراع بين الشرق والغرب، وهل من الممكن أن يلتقيا، أم يظل الشرق شرق، والغرب غرب.
.....
عود على بدء
الكاتب والمفكر محمد المسلمي تناول الآخر في روايته ( أشجان ) والعلاقة بين الشرق والغرب كما قلت قبلا تناولها الطيب صالح في ( موسم الهجرة إلى الشمال )، وسهيل إدريس في ( الحي اللاتيني ) ويوسف إدريس في ( البيضاء )، ويحيي حقي في ( قنديل أم هاشم ) وغيرهم.
والسؤال : أين رواية ( أشجان ) من هذه الروايات؟ .. هل هي تكرارا وصدى لهذه الروايات؟ أم إضافة لها؟
تميز " وجدي " بطل المسلمي بأنه لم يقع فيما وقع فيه الشاب السوداني مصطفي سعيد بطل الطيب صالح أو الشاب اللبناني بطل سهيل إدريس أو المصري يحيي مصطفى طه بطل يوسف إدريس أو إسماعيل بطل يحيي حقي، فمصطفى سعيد بدا وكأنه يواجه التخلف والجهل والانكسار الحضاري بالجنس، وكأنه ينتقم من الغرب في صورة المرأة، وعلى نفس الدرب سار بطل سهيل إدريس في فرنسا، والرواية تصور شغف البطل وأصحابه الذين سافروا معه من لبنان للدراسة، بالمرأة والجنس، ولاهم لهم إلا المتعة واللهو، وعندما صادف البطل الشقراء التي ملكت قلبه وبادلته الحب، وعندما تخبره بأنها حملت منه، يستاء من هذا الوضع وتغلب عليه شرقيته، وبعد مراجعات مع نفسه يعرض عليها الزواج، فترفض هي، وتصارحه بأنه شرقي ومن الصعب أن يتخلص من شرقيته، وكانت قصة حب يحيي مصطفى طه للسيدة اليونانية البيضاء قصة غريبة، عزل فيها يوسف إدريس بطله عن محيطه الاجتماعي والتاريخي، وإن ظهرا في الخلفية ولكنها تبدو كظلال باهتة، فالبطل فقد ذاته أو فقد نفسه أمام البيضاء وإحساسه بالعجز والانكسار هو تصوير لحال الشرق أمام الغرب، رغم أنه يساري وكان يسعى على مدى نضاله للانتصار على الغرب، وربما إسماعيل بطل يحيي حقي كان أكثرهم إعتدالا، فهو سافر إلى ألمانيا لدراسة الطب، ويصادف فتاة ألمانية تعلمه كيف تكون الحياة، ويعود ليفتح عيادة بحي السيدة، ويكتشف بأن المرضى في تزايد، وببحثه عن السبب اكتشف بأن الناس تتبارك بزيت قنديل السيدة أم هاشم، ومنهم ابنة عمه وخطيبته، فيذهب في ثورة غضب ليهشم القنديل، وهذا التصرف يغضب الناس وينصرف عنه المرضى، فهو في رأيهم فسق وكفر، وستحل عليه لعنة السيدة أم هاشم، ولكنه سرعان ما يعود ليوائم بين العلم والإيمان بعد أن كان كساعة البندول المأرجحة بين الشرق والغرب، ويعالج ابنة عمه من جديد، ربما تكون رواية يحيي حقي التي صورت الصراع بين الشرق والغرب متمثلا في الصراع بين العلم والخرافة، هي من أكثر الروايات تميزا، أما الروايات الأخرى فأبطالها يعانون من الكبت والحرمان والشعور بالنقص، وبطل المسلمي لم يعاني من هذه العقد، ولم ينزلق إلى الجنس، فهو يحاول أن يتصالح مع نفسه ومع الله ومع الكون، ويبحث عن إجابات لأسئلة كبرى، فهو قريب من المفكر وقريب من الفيلسوف، وبطل المسلمي لم يكن معزولا عن حركة المجتمع والحياة سواء في مصر أو في أوربا، والكاتب أسس له عبر تاريخ طويل، فالرواية رواية أجيال، واستطاع أن يعيد لنا اكتشاف أوربا من زوايا أخرى وكانت أقرب إلى الواقعية وأكثر صدقا.والبطل هنا محب، يحركه الحب، وحبه طاهر، نقي، عفيف، أقرب إلى الحب السماوي الذي لا تدنسه الشهوات.
أعتقد أن مقاربة رواية ( أشجان ) بنطيراتها من الروايات التي تناولت الآخر، واقتربت من التماهي مع العلاقة بين الشرق والغرب، تحتاج إلى قراءة وبحث مستقل، لتأخذ الرواية حقها، كامتداد لهذه الروايات، وإضافة لها.
.....
في هذه الرواية أعاد الكاتب للوصف بهاه، وضياه، فهو واحد من الوصافين الكبار، كما أن لغته في القسم الأول، وفي أجزاء كثيرة منه كانت لغة شعرية، محلقة، ومجنحة، وكانت أقرب إلى الشعر وإن لم تكنه وخاصة في المشاهد التي تظهر فيها أشجان، فيعبر بلغة تخاطب الأحاسيس والوجدان، وهذه اللغة في القسم الثاني وفي أوربا تحديدا تغيرت إلى لغة أخرى لا أقول لعة العلم، اللغة الحيادية الباردة، ولكنها لغة قاطعة وحاسمة، حتى الجمل السردية في القسم الأول كانت حركتها بطيئة وخاصة في الفصول الأربع الأول، بطيئة بطء الحياة قبل الثورة في زمن الحمار والجمل والفأس والكوريك، ومع تسارع الحياة بعد الثورة نجد إيقاع الجمل السردية يتسارع، ومع حركة الحياة في أوربا الأكثر دينامية كان السرد هو الآخر أكثر دينامية / حركة.
الرواية تحتاج إلى قراءات وقراءت سواء على مستوى الرؤية أو على مستوى التشكيل، وكل الشكر للكاتب والمفكر محمد المسلمي الذي أتاح لي قراءة هذه الرواية الماتعة، والتي أعتبرها إضافة إلى المكتبة العربية.