«بنغازي في 22/9/1974
أخي وصديقي العزيز الأستاذ عبد الوهاب البياتي
تحية إعزاز وتقدير
لقد ابتهجت كثيرًا حين وجدت رسالتك وهداياك الرائعة في انتظاري. كنت قد عدت منذ يومين من النمسا وألمانيا وقد ذرعت كل الطرقات هناك، ممنيًا النفس بالحصول على عمل ما والتمكن بالتالي من تعلم اللغة الألمانية على نحو جيد، ولكن كان ذلك كالعادة دون جدوى لعدة أسباب قاهرة منها – كما تعلم – سوء الطالع!
عدت إلى بنغازي خائبًا، عدت إلى تابوتي العتيق ولكن عندما وجدت هداياك في الغرفة (107) ألقيت حقيبتي الصغيرة جانبًا على الفور شاعرًا بابتهاج غامر فيما كنت أقلب الصفحات، ولقد بدأ الأمر كما لو أن إنسانًا عزيزًا لديّ كان ينتظر عودتي خلف الباب في أية لحظة.
لم يكن في انتظاري - خلف الباب - أحد «الكل ماتوا رحلوا لكن هداياك جعلت عيون الأحباب تتفتح في قاع قلبي مثل عيون صغار القطط وتتبسم في وجهي بود ثم تصافحني بحرارة. إن الجحيم الشعري الفخم الذي تغرقني كلماتك فيه ظل ولا يزال يمدني بالإصرار والقوة في وجه التتار وأشباه الرجال، ويهبني العزاء عبر إحساسي بالفقر والوحدة، ويورق أحلامي - في النوم واليقظة على السواء – معمقًا إيماني في (سارق النار) عبر الأيام القادمة.
وأنا كنت وحيدًا أيضًا مثل ريشة سقطت من جناح طائر
لقد مضى زمن طويل دون أن أراك، ولكن حين قرأت ديوانك الأخير (السيرة الذاتية) ورأيت ذلك المد الشعري الهائل الممتلئ الأبعاد باتساع السماء، المتوقد العينين في إيمان وثقة عندئذٍ أدركت على نحو اليقين أنني كنت أراك دائمًا طيلة لحظات حياتي. لقد رأيتك تحمل (قاسيون) فوق كتفيك وفي قمته بركان، رأيتك تذرع به كل الأزمنة حاملًا في قلبك (عين الشمس). رأيتك (مسافر في النار والأقوال في عرس نهار الحب). رأيتك تبعث أمواتنا الأحياء تزرعهم في صدرك ثم تنطلق بهم عبر الأرض والسماء وخلف (فراشة المحال). رأيتك (تحرث أرض الحلم). رأيتك تبني (نيسابور) حجرًا حجرًا بمفردك في وهج الظهيرة. رأيتك تقتل تنين الموت أمام مسيرة العشاق الفقراء رأيتك تقبِّل (عشتار) رأيتك وحيدًا - في بعض الأحيان – مثل الله نفسه.
وأنا كنت وحيدًا أيضًا مثل ريشة سقطت من جناح طائر، غير أن الكلمات ظلت تشد من أزري باتصال، وتضخ الدم دفاقًا في عروقي، وتمدني بالحلول في ذات العالم.
لقد طاف كل ذلك بخاطري فيما كنت واقفًا ذات يوم أمام تمثال (شتراوس) في (فيينا). كنت أراك تقف - بطريقة ما- بجانبه وكنت أنظر أليكما معًا باستغراق كامل، متذكرًا كل كلماتك، مثلما أتذكرك، وأرددها الآن وغدًا وبعد غد. ومثلما سترددها كل الأجيال القادمة.
إن قدرتك على التجدد – فكريًّا وفنيًّا – التي أثبتها من جديد في ديوانك الأخير (برهان) يوضح بجلاء مدى المعاناة التي كابدتها في مسيرتك الطويلة من أجل التغلب على مشكلة (موت) الثائر. قدرتك على التجدد دليل على انتصارك العظيم في النفاذ عبر جدار الموت. فمباركة هي مسيرتك، نبيّة هي كلماتك، فقير هو زمنك، غنية هي نفسك. ولتعش ألف سنة وليرعاك الله بعينيه معًا.
كل سلامي إليك والأمنيات الطيبة.
أخوك خليفة الفاخري».
أخي وصديقي العزيز الأستاذ عبد الوهاب البياتي
تحية إعزاز وتقدير
لقد ابتهجت كثيرًا حين وجدت رسالتك وهداياك الرائعة في انتظاري. كنت قد عدت منذ يومين من النمسا وألمانيا وقد ذرعت كل الطرقات هناك، ممنيًا النفس بالحصول على عمل ما والتمكن بالتالي من تعلم اللغة الألمانية على نحو جيد، ولكن كان ذلك كالعادة دون جدوى لعدة أسباب قاهرة منها – كما تعلم – سوء الطالع!
عدت إلى بنغازي خائبًا، عدت إلى تابوتي العتيق ولكن عندما وجدت هداياك في الغرفة (107) ألقيت حقيبتي الصغيرة جانبًا على الفور شاعرًا بابتهاج غامر فيما كنت أقلب الصفحات، ولقد بدأ الأمر كما لو أن إنسانًا عزيزًا لديّ كان ينتظر عودتي خلف الباب في أية لحظة.
لم يكن في انتظاري - خلف الباب - أحد «الكل ماتوا رحلوا لكن هداياك جعلت عيون الأحباب تتفتح في قاع قلبي مثل عيون صغار القطط وتتبسم في وجهي بود ثم تصافحني بحرارة. إن الجحيم الشعري الفخم الذي تغرقني كلماتك فيه ظل ولا يزال يمدني بالإصرار والقوة في وجه التتار وأشباه الرجال، ويهبني العزاء عبر إحساسي بالفقر والوحدة، ويورق أحلامي - في النوم واليقظة على السواء – معمقًا إيماني في (سارق النار) عبر الأيام القادمة.
وأنا كنت وحيدًا أيضًا مثل ريشة سقطت من جناح طائر
لقد مضى زمن طويل دون أن أراك، ولكن حين قرأت ديوانك الأخير (السيرة الذاتية) ورأيت ذلك المد الشعري الهائل الممتلئ الأبعاد باتساع السماء، المتوقد العينين في إيمان وثقة عندئذٍ أدركت على نحو اليقين أنني كنت أراك دائمًا طيلة لحظات حياتي. لقد رأيتك تحمل (قاسيون) فوق كتفيك وفي قمته بركان، رأيتك تذرع به كل الأزمنة حاملًا في قلبك (عين الشمس). رأيتك (مسافر في النار والأقوال في عرس نهار الحب). رأيتك تبعث أمواتنا الأحياء تزرعهم في صدرك ثم تنطلق بهم عبر الأرض والسماء وخلف (فراشة المحال). رأيتك (تحرث أرض الحلم). رأيتك تبني (نيسابور) حجرًا حجرًا بمفردك في وهج الظهيرة. رأيتك تقتل تنين الموت أمام مسيرة العشاق الفقراء رأيتك تقبِّل (عشتار) رأيتك وحيدًا - في بعض الأحيان – مثل الله نفسه.
وأنا كنت وحيدًا أيضًا مثل ريشة سقطت من جناح طائر، غير أن الكلمات ظلت تشد من أزري باتصال، وتضخ الدم دفاقًا في عروقي، وتمدني بالحلول في ذات العالم.
لقد طاف كل ذلك بخاطري فيما كنت واقفًا ذات يوم أمام تمثال (شتراوس) في (فيينا). كنت أراك تقف - بطريقة ما- بجانبه وكنت أنظر أليكما معًا باستغراق كامل، متذكرًا كل كلماتك، مثلما أتذكرك، وأرددها الآن وغدًا وبعد غد. ومثلما سترددها كل الأجيال القادمة.
إن قدرتك على التجدد – فكريًّا وفنيًّا – التي أثبتها من جديد في ديوانك الأخير (برهان) يوضح بجلاء مدى المعاناة التي كابدتها في مسيرتك الطويلة من أجل التغلب على مشكلة (موت) الثائر. قدرتك على التجدد دليل على انتصارك العظيم في النفاذ عبر جدار الموت. فمباركة هي مسيرتك، نبيّة هي كلماتك، فقير هو زمنك، غنية هي نفسك. ولتعش ألف سنة وليرعاك الله بعينيه معًا.
كل سلامي إليك والأمنيات الطيبة.
أخوك خليفة الفاخري».