يختار الرئيس الليبي القتيل معمر القذافي لما أسماه قصصا قصيرة عنوانا هو " القرية... القرية ، الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء " ويدرج تحت عنوانه عنوانا ثانويا هو: مع قصص أخرى . هذا يعني أن القذافي له موقف من القرية لا يبرزه العنوان وحده ، بخاصة العنوان الرئيس " القرية..القرية " فأنت ابتداء لا تدري أيحب الرئيس القرية أم ينفر منها ، ولكنك لا تشك لحظة واحدة في أنه يدعو إلى الارتباط بالأرض والتمسك بها ، فرائد الفضاء انتحر . انتحر رائد الفضاء وهو رائد فضاء كأن الفضاء الذي نشده لم يعجبه فآثر الانتحار .
وحين تدلف إلى النصوص ، وسأسميها نصوصا لأنها ليست بأي حال من الأحوال قصصا ، توحي أن القذافي يحب القرية ويدافع عنها ويدعو إلى العيش فيها ، وستعرف أن العنوان هذا يقصي جانبا آخر من شخصية القذافي هو موقفه السلبي المطلق من المدينة ، ذلك أن النص الأول من النصوص عنوانه " المدينة .. المدينة " ، وحين تقرأ العنوان وحده تتساءل أيضا : أيحب الكاتب المدينة أم يكرهها ؟ وسرعان ما تعرف الجواب .
ما إن تقرأ السطر الأول حتى تدرك موقف القذافي من المدينة . إنه هنا ينفر منها ولا يحبها ولا يحبب بها ، وستعرف أيضا ، حين تقترب من نهاية النص ، أن القذافي يحب القرية ويحبب بها بالقدر ذاته الذي ينفر فيه من المدينة . وربما استحضرت للرئيس صورا تشاهدها على شاشة التلفاز ، فتعزز ما تقرأ : تشاهده يجلس في خيمة في الصحراء ، ونادرا ما تجده في قصر منيف .
وما إن تنتهي من قراءة نص " المدينة .. المدينة " حتى تعود بك الذاكرة إلى هذه اللازمة في الأدبين العالمي والعربي ، ذلك أنها موضوع خاض فيه الأدباء والدارسون منذ فترة مبكرة .
يجدر ابتداء أن يشار إلى أن مدينة القذافي - أعني تصوره للمدينة - لها وجه واحد هو الوجه السلبي . إنه ينظر إليها منذ بداية النص حتى نهايته نظرة واحدة - وأنت لا تستطيع أن تميز بين صوت الرئيس وصوت سارده لأنك لا تقرأ مثلا قصة يمكن أن يكون بطلها الشخصية المحورية فيها غير كاتبها . أنت تقرأ خطابا صادرا عن الكاتب يعبر فيه عن موقفه من المدينة .
وكما ذكرت ابتداء فأنت لا تقرأ قصصا ، إنما تقرأ نصوصا .
في القصة قد يكون الراوي غير الكاتب ، وقد تكون الشخصية غير هذين ، لكنك في نصوص القذافي أمام صوت واحد هو صوت الكاتب . وهذا لا شك مطعن فني ، إذ كان بإمكان المؤلف ألا يسمي ما كتب قصة قصيرة . كان بإمكانه أن يسميها نصوصا . وستقرأ خطابا يمتلك فيه صاحبه رؤية يقينية للأشياء ، وسينعدم فيما تقرأ الحوار ، لانعدام تعدد الأصوات ، ما يجعلك تتساءل : أأثر الحكم على القذافي فجعل منه كاتبا لا يستمع إلى أصوات الآخرين . الحاكم يقول وينفذ ، وإذا ما امتد به العمر وظل حاكما لمدة أربعين عاما ، تزيد أو تقصر ، فقد يتحول إلى إنسان آخر ينهى ، يقول ولا يصغي ، كأنه الواحد القهار ، يشاء ما لا تشاء الأقدار . والطريف في الأمر أن الرئيس يمزح ويضحك وينكت ويدعو إلى تشكيل اللجان وحكم وحكم الشعب ، فلماذا غابت هذه الروح عن قصصه ؟
ولا أدري إن كان قاريء معين لنصوص القذافي كتب عنها وقال هذا فيها .
وكما ذكرت فإن مدينة القذافي لها وجه واحد هو الوجه السلبي . وربما تساءل المرء : لماذا هذا التصور السلبي ومن أين أتى ؟
- هل تشابهت المدن كلها حتى يغفل الرئيس التخصيص والتمييز والإشارة إلى مدينة سلبية وأخرى إيجابية؟
- هل تشابهت المدن الصغيرة والكبيرة ؟
- هل تشابهت المدينة العربية والمدينة الغربية ؟
-هل تشابهت المدن على مر العصور ؟
-ألم تكن هناك مدن مشرقة؟
- أليس هناك مدن أفضل من الريف ؟
وربما ذهب المرء في تساؤلاته إلى ما هو أبعد من ذلك ، بخاصة حين يكتب القذافي عن الريف وتمجيد القرآن له .
- هل بدت صورة الريف في القرآن كما أبرزها القذافي أم أنه أسقط رؤاه الخاصة عليها وفسر النص القرآني تفسيرا لصالح رؤاه ؟
في القرآن ثمة قرية فيها مصلحون ولكن ثمة قرى أهلكها الله لأنها أغضبت الأنبياء والرسل .
وأنا أقرأ نص القذافي عن المدينة تذكرت صورتها في الأدبين العالمي والعربي ، فماذا وجدت ؟
أولا :
- في الأدب العالمي :
في كتابهما " أفكار ولازمات/ موتيفات/ في الأدب العالمي " يكتب ( هورست و انجريد ديميريش ) عن لازمة / موتيف المدينة في الأدب العالمي ، ويريان ، الآتي :
تعكس فكرة المدينة حيرة الناس إزاء أماكن سكناهم ومؤسساتهم ، وترمز المدينة ، في بعض الأعمال ، في تصورات كثيرة ، حالة للعضو الذي يطور نفسه ، ولكنه يلوي قبضة خالقه .
ومنذ الثورة الصناعية بدت المدينة ، والتوسعات فيها ، تفترض جوهر شيء عظيم مخيف . إنها الإله الذي يبتلع خالقه ، وهي كتلة من الصخور التي تقع على الانسان فتقتله.
وفي العهد القديم يبدو الموقف المحير للمدينة من خلال الموقف المتناقض لمدينة بابل الملعونة و للقدس المحظوظة المتسامحة . تغدو بابل نموذجا للمدن في العصور المتأخرة / الحديثة الكبيرة . إنها مدن وسخة وملوثة ومكان للجريمة والغواية والفساد الذي لا يوضع له حد إلا بالنار . وأما القدس فهي ملكة المدن تعكس شوارعها الذهبية ضوء الله و علوه ، ويتيح سورها المضيء لليهودي المتجول العودة وتوفر له الحماية .
ويورد المؤلفان كتابات وتصورات لمدن أخرى مثل روما التي مجدها ( فيرجيل ) . روما مدينة أسستها الآلهة ، ولقد مدح ( فيرجيل ) الحياة الهادئة المسالمة في العالم الأرضي كقيمة يطمح إليها .
خلافا ل ( فيرجيل ) فإن ( هوراس ) و ( يوفينال ) في قطعهم الهجائية ( الساتير ) وصفا روما بأنها مدن صغيرة / أحياء صغيرة للسقوط الأخلاقي .
لا يقف خالق المدينة إزاء مدينته التي خلقها عريبا . إنه يبدو مثل طابة تلعب بها قوة غير مفهومة .
وممن وقف من المدينة موقفا عدائيا ( جان جاك روسو ) الذي هاجمها هجوما عنيفا باعتبارها شكلا اجتماعيا معارضا للطبيعة ، ( روسو ) الذي دعا إلى العودة إلى الطبيعة التي يعد مجتمع المدينة متعارضا معها .
ومما يورده ( هورست و انجريد ديميريش ) في المدينة ، باعتبارها غدت رموزا واستعارات أن المدينة - أو أحد أحيائها - تشبه امرأة غاوية / عاهرة . لقد بدت هذه الاستعارة في بابل وتضخمت تضخما خطيرا .
ولقد بدت المدينة مثل دينامو / محرك لقوة خالقة تجر الانسان إليها وتستهلكه . وغالبا ما شبهت بالماء العاصف المخدر أو المحيط الهادر . المدينة يكثر فيها الضباب والدخان الذي يجلب السقوط ويفسد البيئة الاجتماعية.
إن الوصف التفصيلي الموسع للوسخ والعفونة ؛ عفونة المباني ، يوضح الانحطاط الفردي ويؤدي إلى الأفول الاجتماعي . إن الدخان والنار المنبعثين من المداخن الضبابية والرماد المتشكل منها يسببان فقدان الأمل بالحياة.
المدينة أيضا رمز للجحيم أو الشيطان الذي يولد انطباعا بالمعاناة اللامحدودة للملعونين .
وأما لازمة / موتيف الحركة الدائرية للمتاهة فتستحضر عدم وجود حلول لمخرج ما من الأزمة . هناك أيضا صور المكان المحدود مثل القفص والزنزانة والغرف التي بلا نوافذ ، كل ما سبق يجعل الانسان يفقد حريته .
هل اختلفت الصورة التي رسمها القذافي للمدينة عن الرموز والاستعارات السابقة التي أوجزها ( هورست وانجريد ديميريش ) ؟
لا أظن ، ولكن المرء يلاحظ أن المدينة في الأدب العالمي لم تكن لها صورة واحدة هي الصورة السلبية فقط ، فقد وجدت لها صورة أخرى . بمعنى آخر كانت هناك مدن ملعونة ، ولكن كانت هناك مدن مشرقة مضيئة ومقدسة ، والصورة الأخيرة لم يكن لها حضور في نصوص القذافي .
المدينة في الشعر العربي المعاصر :
التفت دارسون عرب كثر إلى موضوع المدينة في الأدب العربي بعامة والشعر بخاصة ، وأنجزوا عنها دراسات وكتبا . وربما يذكر قراء مجموعة جبرا ابراهيم جبرا " عرق وقصص أخرى "١٩٥٦ المقدمة التي كتبها لها الشاعر توفيق صايغ وأتى فيها على المدينة مبرزا لها ، اعتمادا على القصص ، صورة سلبية . وربما وجب أن تدرس صورة المدينة السلبية في نصوص القذافي مع تلك المقدمة .
هل كان القذافي قرأ ما كتبه صايغ عن مدينة جبرا ، كما تخيلها شخوصه ؟
وهل كان القذافي أيضا قرأ نصوصا أدبية عالمية وعربية عن صورة المدينة ؟
بل وهل قرأ دراسات أتى أصحابها فيها على تصورهم للمدينة؟
يمكن الإشارة هنا إلى دراستين حول المدينة في الشعر العربي تتركان لدى قارئهما انطباعا بأن صورة المدينة في الشعر العربي ، بشكل عام ، كانت صورة سلبية ؛ الأولى لعز الدين اسماعيل في كتابه " الشعر العربي المعاصر : قضاياه وظواهره الفنية " ١٩٦٦ والثانية لإحسان عباس في كتابه " اتجاهات الشعر العربي المعاصر " ١٩٧٨ . وتعد هاتان الدراستان مهمتين في هذا الموضوع ، حيث فتحتا الباب لدارسين آخرين لتناول الموضوع والتوسع فيه ، وربما وجب أن يشار إلى كتاب مختار أبو غالي " المدينة في الشعر العربي المعاصر " ١٩٩٥ باعتباره كتابا توسع فيه مؤلفه في الموضوع وخصص له كتابا كاملا شاع في العالم العربي ، لأنه انتشر في الكويت وصدر عن سلسلة " عالم المعرفة " التي توزع ما لا يقل عن أربعين ألف نسخة .
أشار الدارسون العرب ، حين عالجوا صورة المدينة في الشعر العربي ، إلى الشعراء العرب الرومانسيين الذين هربوا من المدينة إلى الريف وتغنوا بالأخير ، وربما كان هذا الهيام بالريف ناجما عن قراءتهم للشعر الرومانسي الانجليزي الذي تغنى بالريف وهجا حياة المدينة ، فالمدينة العربية في النصف الأول من القرن العشرين لم تكن على شاكلة المدينة الصناعية الأوروبية.
وحين رأى الدارسون العرب أن الشعراء العرب المعاصرين ، مثل السياب وحجازي وآخرين ، أبرزوا للمدينة العربية صورة سلبية ، تساءلوا : أيعود هذا إلى تأثر الشعراء بالأدب الانجليزي والأوروبي أم أن تجربتهم مع المدينة لم تكن على ما يرام ؟
ولاحظ الدارسون العرب أن أكثر الشعراء العرب المعاصرين الذين أبرزوا صورة سلبية للمدينة كانوا من أصول ريفية مثل السياب الذي جاء إلى بغداد من جيكور ، وحجازي الذي جاء إلى القاهرة من الريف فوجدها " مدينة بلا قلب .
وحين تتبع الدارسون موقف الشعراء من المدينة ، منذ جاء الشعراء إليها ، لاحظ النقاد أن بعض الشعراء ، مثل السياب ، ظلوا على موقفهم الأول وهو العداء للمدينة ، فيم بدأ موقف شعراء آخرين ، مثل حجازي ، يتغير ويتدرج من الرفض إلى القبول فالتصالح . وموقف القذافي في نصه " المدينة..المدينة " ظل على ما هو عليه وهو العداء لها والتنفير منها ومن حياتها والدعوة إلى العودة إلى الريف ، كأن القذافي من الرومانسيين .
يجدر هنا أن يشار إلى رأي توصلت سلمى الخضراء الجيوسي إليه في مقدمتها التي كتبتها لموسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر الصادرة بالانجليزية والعربية حول موقف الشعراء العرب والفلسطينيين من المدينة .
تكتب سلمى : " ومما يتصل بهذا البحث أن نتحدث عن موقف الكتاب الفلسطينيين من المدينة بشكل عام . إن المدينة والتركيز على ما فيها من نواح سلبية موضوع بارز في الأدب العربي الحديث ، خاصة في الشعر .... وقد رأى فيها شعراء مكانا للرشوة والفساد والمخاطر والانحلال الاجتماعي و التآمر السياسي " ( ص ٧٢و ٧٣ ) " أما الاستثناء الوحيد لهذا الموقف من المدينة فنجده في الأدب الفلسطيني ، فالمدينة الفلسطينية لم تكن يوما ثمود أو سدوم أو عمورة ، كما لم تكن يوما مصدر تهديد أو مستودعا للقذارة والفساد ، بل كانت دوما المدينة الضحية ، ولم يكن الناس فيها يشعرون بالاغتراب والاستلاب لأنها إما مدينة محاصرة يحتلها الغاصبون ، أو مدينة فقدها أهلها ...... وهي ليست مدينة ضحية فقط ، بل هي أيضا مكان للبطولة ، وموطن للمقاومة والنضال الوطني ." ( ص٧٣) .
ورأي سلمى السابق رأي فيه قدر من الصواب ، فالدارسة نفسها ، في موطن آخر من دراستها أتت على بيروت مدينة نزار قباني ، ورأت أنها تختلف عن مدينة جبرا ، فمدينة نزار - أي بيروت - " مدينة مليئة بالحياة والحيوية ، تفسح المجال للعديد من مواقف الحب ، بما في ذلك البغاء والسحاق ، ولكنها ليست بالمدينة العقيمة أو الميتة ، بل هي مدينة يحيا فيها الناس معا ، حيث يجدون المتعة ، وتتوفر لهم فرص المغامرات الجنسية والعلاقات السرية "( ص ٥٣ ) .
وما من شك في أن شعراء عربا آخرين أبرزوا في شعرهم غير صورة للمدينة ، ومن هؤلاء أمل دنقل الذي أبرز صورة إيجابية لمدينة السويس ، لأنها مدينة تقاوم ، وصورة سلبية للقاهرة التي كانت تغرق في عالمها الذاتي بينما السويس تقاوم وتحترق .
وعلى العموم يمكن اقتباس مقاطع من نص القذافي " المدينة ... المدينة " لملاحظة الوجه السلبي الذي أبرزه بشكل عام ، حيث ، كما ذكرت ، لم يميز بين مدينة ومدينة ، بين مدينة مقاتلة وأخرى تتعهر ، بين القدس وبين بابل . يرد في النص :
" في شوارع المدينة يتساوى الآدميون والقطط .
" المدينة مجرد حياة دودية بيولوجية يحيا فيها الانسان ويموت بلا معنى "
" في المدينة قد يقتل الابن أباه والأب ابنه "
" المدينة ضد الزراعة ... تبنى على الأرض الزراعية ... تقتلع الأشجار المثمرة .. تجذب الفلاحين وتغريهم ليتركوا الزراعة ، ويتحولوا إلى أرصفة المدينة تنابلة كسالى ... عاطلين متسولين .. "
" هذه هي المدينة ، طاحونة لساكنيها ، وكابوس لمشيديها ، تجبرك على تغيير مظهرك .. وتبديل قيمك "
" أما أطفال المدينة فإنهم أتعس من كبارها .. فهم من ظلمات إلى ظلمات ... فمنازل المدينة ليست بيوتا ، بل هي جحور وكهوف محاطة بتيارات متعاكسة من حركة شوارع وزقاق المدينة ... والناس فيها تماما مثل القواقع المحتمية بأصدافها بسبب ضغط تيارات البحر وأمواجه ... فالمدينة بحر له تيارات وأمواج وبراريم وقاذورات وأتبان وزبد .. "
ولا أريد أن أقابل بين هذا الوصف للمدينة والخلاصة التي أوردتها من كتاب ( ديميريش ) فلا شك أن هناك تطابقا إلى حد كبير .
هل المدينة حقا كما وصفها القذافي؟ سوف أترك لكم الإجابة !
الصياغة الأولى
١٣ / ٦ / ٢٠٠٨
الصياغة الثانية
١٥ /آب/ ٢٠١٩
وحين تدلف إلى النصوص ، وسأسميها نصوصا لأنها ليست بأي حال من الأحوال قصصا ، توحي أن القذافي يحب القرية ويدافع عنها ويدعو إلى العيش فيها ، وستعرف أن العنوان هذا يقصي جانبا آخر من شخصية القذافي هو موقفه السلبي المطلق من المدينة ، ذلك أن النص الأول من النصوص عنوانه " المدينة .. المدينة " ، وحين تقرأ العنوان وحده تتساءل أيضا : أيحب الكاتب المدينة أم يكرهها ؟ وسرعان ما تعرف الجواب .
ما إن تقرأ السطر الأول حتى تدرك موقف القذافي من المدينة . إنه هنا ينفر منها ولا يحبها ولا يحبب بها ، وستعرف أيضا ، حين تقترب من نهاية النص ، أن القذافي يحب القرية ويحبب بها بالقدر ذاته الذي ينفر فيه من المدينة . وربما استحضرت للرئيس صورا تشاهدها على شاشة التلفاز ، فتعزز ما تقرأ : تشاهده يجلس في خيمة في الصحراء ، ونادرا ما تجده في قصر منيف .
وما إن تنتهي من قراءة نص " المدينة .. المدينة " حتى تعود بك الذاكرة إلى هذه اللازمة في الأدبين العالمي والعربي ، ذلك أنها موضوع خاض فيه الأدباء والدارسون منذ فترة مبكرة .
يجدر ابتداء أن يشار إلى أن مدينة القذافي - أعني تصوره للمدينة - لها وجه واحد هو الوجه السلبي . إنه ينظر إليها منذ بداية النص حتى نهايته نظرة واحدة - وأنت لا تستطيع أن تميز بين صوت الرئيس وصوت سارده لأنك لا تقرأ مثلا قصة يمكن أن يكون بطلها الشخصية المحورية فيها غير كاتبها . أنت تقرأ خطابا صادرا عن الكاتب يعبر فيه عن موقفه من المدينة .
وكما ذكرت ابتداء فأنت لا تقرأ قصصا ، إنما تقرأ نصوصا .
في القصة قد يكون الراوي غير الكاتب ، وقد تكون الشخصية غير هذين ، لكنك في نصوص القذافي أمام صوت واحد هو صوت الكاتب . وهذا لا شك مطعن فني ، إذ كان بإمكان المؤلف ألا يسمي ما كتب قصة قصيرة . كان بإمكانه أن يسميها نصوصا . وستقرأ خطابا يمتلك فيه صاحبه رؤية يقينية للأشياء ، وسينعدم فيما تقرأ الحوار ، لانعدام تعدد الأصوات ، ما يجعلك تتساءل : أأثر الحكم على القذافي فجعل منه كاتبا لا يستمع إلى أصوات الآخرين . الحاكم يقول وينفذ ، وإذا ما امتد به العمر وظل حاكما لمدة أربعين عاما ، تزيد أو تقصر ، فقد يتحول إلى إنسان آخر ينهى ، يقول ولا يصغي ، كأنه الواحد القهار ، يشاء ما لا تشاء الأقدار . والطريف في الأمر أن الرئيس يمزح ويضحك وينكت ويدعو إلى تشكيل اللجان وحكم وحكم الشعب ، فلماذا غابت هذه الروح عن قصصه ؟
ولا أدري إن كان قاريء معين لنصوص القذافي كتب عنها وقال هذا فيها .
وكما ذكرت فإن مدينة القذافي لها وجه واحد هو الوجه السلبي . وربما تساءل المرء : لماذا هذا التصور السلبي ومن أين أتى ؟
- هل تشابهت المدن كلها حتى يغفل الرئيس التخصيص والتمييز والإشارة إلى مدينة سلبية وأخرى إيجابية؟
- هل تشابهت المدن الصغيرة والكبيرة ؟
- هل تشابهت المدينة العربية والمدينة الغربية ؟
-هل تشابهت المدن على مر العصور ؟
-ألم تكن هناك مدن مشرقة؟
- أليس هناك مدن أفضل من الريف ؟
وربما ذهب المرء في تساؤلاته إلى ما هو أبعد من ذلك ، بخاصة حين يكتب القذافي عن الريف وتمجيد القرآن له .
- هل بدت صورة الريف في القرآن كما أبرزها القذافي أم أنه أسقط رؤاه الخاصة عليها وفسر النص القرآني تفسيرا لصالح رؤاه ؟
في القرآن ثمة قرية فيها مصلحون ولكن ثمة قرى أهلكها الله لأنها أغضبت الأنبياء والرسل .
وأنا أقرأ نص القذافي عن المدينة تذكرت صورتها في الأدبين العالمي والعربي ، فماذا وجدت ؟
أولا :
- في الأدب العالمي :
في كتابهما " أفكار ولازمات/ موتيفات/ في الأدب العالمي " يكتب ( هورست و انجريد ديميريش ) عن لازمة / موتيف المدينة في الأدب العالمي ، ويريان ، الآتي :
تعكس فكرة المدينة حيرة الناس إزاء أماكن سكناهم ومؤسساتهم ، وترمز المدينة ، في بعض الأعمال ، في تصورات كثيرة ، حالة للعضو الذي يطور نفسه ، ولكنه يلوي قبضة خالقه .
ومنذ الثورة الصناعية بدت المدينة ، والتوسعات فيها ، تفترض جوهر شيء عظيم مخيف . إنها الإله الذي يبتلع خالقه ، وهي كتلة من الصخور التي تقع على الانسان فتقتله.
وفي العهد القديم يبدو الموقف المحير للمدينة من خلال الموقف المتناقض لمدينة بابل الملعونة و للقدس المحظوظة المتسامحة . تغدو بابل نموذجا للمدن في العصور المتأخرة / الحديثة الكبيرة . إنها مدن وسخة وملوثة ومكان للجريمة والغواية والفساد الذي لا يوضع له حد إلا بالنار . وأما القدس فهي ملكة المدن تعكس شوارعها الذهبية ضوء الله و علوه ، ويتيح سورها المضيء لليهودي المتجول العودة وتوفر له الحماية .
ويورد المؤلفان كتابات وتصورات لمدن أخرى مثل روما التي مجدها ( فيرجيل ) . روما مدينة أسستها الآلهة ، ولقد مدح ( فيرجيل ) الحياة الهادئة المسالمة في العالم الأرضي كقيمة يطمح إليها .
خلافا ل ( فيرجيل ) فإن ( هوراس ) و ( يوفينال ) في قطعهم الهجائية ( الساتير ) وصفا روما بأنها مدن صغيرة / أحياء صغيرة للسقوط الأخلاقي .
لا يقف خالق المدينة إزاء مدينته التي خلقها عريبا . إنه يبدو مثل طابة تلعب بها قوة غير مفهومة .
وممن وقف من المدينة موقفا عدائيا ( جان جاك روسو ) الذي هاجمها هجوما عنيفا باعتبارها شكلا اجتماعيا معارضا للطبيعة ، ( روسو ) الذي دعا إلى العودة إلى الطبيعة التي يعد مجتمع المدينة متعارضا معها .
ومما يورده ( هورست و انجريد ديميريش ) في المدينة ، باعتبارها غدت رموزا واستعارات أن المدينة - أو أحد أحيائها - تشبه امرأة غاوية / عاهرة . لقد بدت هذه الاستعارة في بابل وتضخمت تضخما خطيرا .
ولقد بدت المدينة مثل دينامو / محرك لقوة خالقة تجر الانسان إليها وتستهلكه . وغالبا ما شبهت بالماء العاصف المخدر أو المحيط الهادر . المدينة يكثر فيها الضباب والدخان الذي يجلب السقوط ويفسد البيئة الاجتماعية.
إن الوصف التفصيلي الموسع للوسخ والعفونة ؛ عفونة المباني ، يوضح الانحطاط الفردي ويؤدي إلى الأفول الاجتماعي . إن الدخان والنار المنبعثين من المداخن الضبابية والرماد المتشكل منها يسببان فقدان الأمل بالحياة.
المدينة أيضا رمز للجحيم أو الشيطان الذي يولد انطباعا بالمعاناة اللامحدودة للملعونين .
وأما لازمة / موتيف الحركة الدائرية للمتاهة فتستحضر عدم وجود حلول لمخرج ما من الأزمة . هناك أيضا صور المكان المحدود مثل القفص والزنزانة والغرف التي بلا نوافذ ، كل ما سبق يجعل الانسان يفقد حريته .
هل اختلفت الصورة التي رسمها القذافي للمدينة عن الرموز والاستعارات السابقة التي أوجزها ( هورست وانجريد ديميريش ) ؟
لا أظن ، ولكن المرء يلاحظ أن المدينة في الأدب العالمي لم تكن لها صورة واحدة هي الصورة السلبية فقط ، فقد وجدت لها صورة أخرى . بمعنى آخر كانت هناك مدن ملعونة ، ولكن كانت هناك مدن مشرقة مضيئة ومقدسة ، والصورة الأخيرة لم يكن لها حضور في نصوص القذافي .
المدينة في الشعر العربي المعاصر :
التفت دارسون عرب كثر إلى موضوع المدينة في الأدب العربي بعامة والشعر بخاصة ، وأنجزوا عنها دراسات وكتبا . وربما يذكر قراء مجموعة جبرا ابراهيم جبرا " عرق وقصص أخرى "١٩٥٦ المقدمة التي كتبها لها الشاعر توفيق صايغ وأتى فيها على المدينة مبرزا لها ، اعتمادا على القصص ، صورة سلبية . وربما وجب أن تدرس صورة المدينة السلبية في نصوص القذافي مع تلك المقدمة .
هل كان القذافي قرأ ما كتبه صايغ عن مدينة جبرا ، كما تخيلها شخوصه ؟
وهل كان القذافي أيضا قرأ نصوصا أدبية عالمية وعربية عن صورة المدينة ؟
بل وهل قرأ دراسات أتى أصحابها فيها على تصورهم للمدينة؟
يمكن الإشارة هنا إلى دراستين حول المدينة في الشعر العربي تتركان لدى قارئهما انطباعا بأن صورة المدينة في الشعر العربي ، بشكل عام ، كانت صورة سلبية ؛ الأولى لعز الدين اسماعيل في كتابه " الشعر العربي المعاصر : قضاياه وظواهره الفنية " ١٩٦٦ والثانية لإحسان عباس في كتابه " اتجاهات الشعر العربي المعاصر " ١٩٧٨ . وتعد هاتان الدراستان مهمتين في هذا الموضوع ، حيث فتحتا الباب لدارسين آخرين لتناول الموضوع والتوسع فيه ، وربما وجب أن يشار إلى كتاب مختار أبو غالي " المدينة في الشعر العربي المعاصر " ١٩٩٥ باعتباره كتابا توسع فيه مؤلفه في الموضوع وخصص له كتابا كاملا شاع في العالم العربي ، لأنه انتشر في الكويت وصدر عن سلسلة " عالم المعرفة " التي توزع ما لا يقل عن أربعين ألف نسخة .
أشار الدارسون العرب ، حين عالجوا صورة المدينة في الشعر العربي ، إلى الشعراء العرب الرومانسيين الذين هربوا من المدينة إلى الريف وتغنوا بالأخير ، وربما كان هذا الهيام بالريف ناجما عن قراءتهم للشعر الرومانسي الانجليزي الذي تغنى بالريف وهجا حياة المدينة ، فالمدينة العربية في النصف الأول من القرن العشرين لم تكن على شاكلة المدينة الصناعية الأوروبية.
وحين رأى الدارسون العرب أن الشعراء العرب المعاصرين ، مثل السياب وحجازي وآخرين ، أبرزوا للمدينة العربية صورة سلبية ، تساءلوا : أيعود هذا إلى تأثر الشعراء بالأدب الانجليزي والأوروبي أم أن تجربتهم مع المدينة لم تكن على ما يرام ؟
ولاحظ الدارسون العرب أن أكثر الشعراء العرب المعاصرين الذين أبرزوا صورة سلبية للمدينة كانوا من أصول ريفية مثل السياب الذي جاء إلى بغداد من جيكور ، وحجازي الذي جاء إلى القاهرة من الريف فوجدها " مدينة بلا قلب .
وحين تتبع الدارسون موقف الشعراء من المدينة ، منذ جاء الشعراء إليها ، لاحظ النقاد أن بعض الشعراء ، مثل السياب ، ظلوا على موقفهم الأول وهو العداء للمدينة ، فيم بدأ موقف شعراء آخرين ، مثل حجازي ، يتغير ويتدرج من الرفض إلى القبول فالتصالح . وموقف القذافي في نصه " المدينة..المدينة " ظل على ما هو عليه وهو العداء لها والتنفير منها ومن حياتها والدعوة إلى العودة إلى الريف ، كأن القذافي من الرومانسيين .
يجدر هنا أن يشار إلى رأي توصلت سلمى الخضراء الجيوسي إليه في مقدمتها التي كتبتها لموسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر الصادرة بالانجليزية والعربية حول موقف الشعراء العرب والفلسطينيين من المدينة .
تكتب سلمى : " ومما يتصل بهذا البحث أن نتحدث عن موقف الكتاب الفلسطينيين من المدينة بشكل عام . إن المدينة والتركيز على ما فيها من نواح سلبية موضوع بارز في الأدب العربي الحديث ، خاصة في الشعر .... وقد رأى فيها شعراء مكانا للرشوة والفساد والمخاطر والانحلال الاجتماعي و التآمر السياسي " ( ص ٧٢و ٧٣ ) " أما الاستثناء الوحيد لهذا الموقف من المدينة فنجده في الأدب الفلسطيني ، فالمدينة الفلسطينية لم تكن يوما ثمود أو سدوم أو عمورة ، كما لم تكن يوما مصدر تهديد أو مستودعا للقذارة والفساد ، بل كانت دوما المدينة الضحية ، ولم يكن الناس فيها يشعرون بالاغتراب والاستلاب لأنها إما مدينة محاصرة يحتلها الغاصبون ، أو مدينة فقدها أهلها ...... وهي ليست مدينة ضحية فقط ، بل هي أيضا مكان للبطولة ، وموطن للمقاومة والنضال الوطني ." ( ص٧٣) .
ورأي سلمى السابق رأي فيه قدر من الصواب ، فالدارسة نفسها ، في موطن آخر من دراستها أتت على بيروت مدينة نزار قباني ، ورأت أنها تختلف عن مدينة جبرا ، فمدينة نزار - أي بيروت - " مدينة مليئة بالحياة والحيوية ، تفسح المجال للعديد من مواقف الحب ، بما في ذلك البغاء والسحاق ، ولكنها ليست بالمدينة العقيمة أو الميتة ، بل هي مدينة يحيا فيها الناس معا ، حيث يجدون المتعة ، وتتوفر لهم فرص المغامرات الجنسية والعلاقات السرية "( ص ٥٣ ) .
وما من شك في أن شعراء عربا آخرين أبرزوا في شعرهم غير صورة للمدينة ، ومن هؤلاء أمل دنقل الذي أبرز صورة إيجابية لمدينة السويس ، لأنها مدينة تقاوم ، وصورة سلبية للقاهرة التي كانت تغرق في عالمها الذاتي بينما السويس تقاوم وتحترق .
وعلى العموم يمكن اقتباس مقاطع من نص القذافي " المدينة ... المدينة " لملاحظة الوجه السلبي الذي أبرزه بشكل عام ، حيث ، كما ذكرت ، لم يميز بين مدينة ومدينة ، بين مدينة مقاتلة وأخرى تتعهر ، بين القدس وبين بابل . يرد في النص :
" في شوارع المدينة يتساوى الآدميون والقطط .
" المدينة مجرد حياة دودية بيولوجية يحيا فيها الانسان ويموت بلا معنى "
" في المدينة قد يقتل الابن أباه والأب ابنه "
" المدينة ضد الزراعة ... تبنى على الأرض الزراعية ... تقتلع الأشجار المثمرة .. تجذب الفلاحين وتغريهم ليتركوا الزراعة ، ويتحولوا إلى أرصفة المدينة تنابلة كسالى ... عاطلين متسولين .. "
" هذه هي المدينة ، طاحونة لساكنيها ، وكابوس لمشيديها ، تجبرك على تغيير مظهرك .. وتبديل قيمك "
" أما أطفال المدينة فإنهم أتعس من كبارها .. فهم من ظلمات إلى ظلمات ... فمنازل المدينة ليست بيوتا ، بل هي جحور وكهوف محاطة بتيارات متعاكسة من حركة شوارع وزقاق المدينة ... والناس فيها تماما مثل القواقع المحتمية بأصدافها بسبب ضغط تيارات البحر وأمواجه ... فالمدينة بحر له تيارات وأمواج وبراريم وقاذورات وأتبان وزبد .. "
ولا أريد أن أقابل بين هذا الوصف للمدينة والخلاصة التي أوردتها من كتاب ( ديميريش ) فلا شك أن هناك تطابقا إلى حد كبير .
هل المدينة حقا كما وصفها القذافي؟ سوف أترك لكم الإجابة !
الصياغة الأولى
١٣ / ٦ / ٢٠٠٨
الصياغة الثانية
١٥ /آب/ ٢٠١٩