ما زلت أومن بل ربما أكثر من أي وقت مضي، بأن الإشكاليات المعرفية التي يعاني منها الوعي الديني تنعكس مباشرة على الوسط الذي يعيش فيه الفرد، وعلى كيفية رؤيته له تفاعلاً وانفعالاً معه، فلما كان هذا الوعي منقسما ومتشتتا ومتأزما أثر هذا في الفكرالإجرائي، أي في أسلوب العيش في جماعة، أي في النظام الاجتماعي وفي مستوياته المختلفة؛ ففشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد الإسلامية، هو كما يرى بعض الباحثين، هو نتيجة عدم انشغال الفرد بمثل هذه السياسات من جهة، لأنها مفروضة من فوق، ومن جهة أخرى لأن الفرد نفسه لا يدرك أهمية التحدي الاقتصادي والاجتماعي الذي يواجهه، لأن زمنه الفكري زمن مضى أولاً، ولأن حضور الوعي والتميز في العمل، والفاعلية في الإدارة، يربطهم الفرد بمعاني فكرية فوقية لا بنتائج واقعية محسوسة ثانياً، وهذا ما أدي إلى كل المظاهر السلبية في الحياة العامة، والتفكك الاجتماعي، والتسيب الإداري، والاستقالة المحسوسة في كل الميادين. انفصام الوعي وانقسامه جعل الحياة الاجتماعية للأفراد تفقد معناها، فلم يعد هناك ذلك التلاحم بين أجزاء المجتمع، ولم يعد المخيال الاجتماعي يغذي تطلعات الأفراد إلى جدوى تحسين واقعهم، فالآفات التي طرأت على الواقع، كالانتحار، والهروب عبر الحدود، وعدم وجود رابط بين القهر، والعنف، والتشدد، ثم التبرم من كل وضع قائم، وانسداد الآفاق، واللجوء إلى الحلول الانتحارية، كل هذا يدل على أزمة في الوعي رداها خطورة هذا الخطاب الديني السياسي الذي يستغل كل الأزمات ليؤجج بذور الصراع والاختلاف بطرحه الإيديولوجي البعيد عن كل أسلوب حواري متسامح (1).
وعندما ننظر لديننا الحنيف، نجد أنه كان أهم معاني خاتمية الرسالة الإسلامية وخلودها، هو الإيمان ببلوغ العقل الإنساني درجة من النضج تسمح له بالاستقلال باستنباط الأحكام استقلالاً تاماً، أو تأسيساً على ما ورد في التشريع الإسلامي من أصول وقواعد وأحكام (2)
ومن ثم ظل سؤال “تحرير الوعي الديني ” هو أهم الأسئلة المحورية لنهضة الأمة من وهدتها، وبعثها من سباتها العميق على مدى عصورها المتطاولة.
وموضوع الوعي والتوعية الدينية من الموضوعات القدمية الجديدة، والتي تتجدد الحاجة إليه في كل عصر منذ عصر النبي صلي الله عليه وسلم، إلى عصرنا الحاضر. وتزداد الحاجة إليه في هذا العصر لما تشهده الساحة العربية من غزو إرهابي وتفش للجهل، وحين تعيش الأمة على هامش الأحداث وتتخلي عن دورها الريادي، وحين تفقد مصداقيتها فلا يحسب لها حساب، وحين تُضيع مبادئ دينها السمحة وقيمه العليا، فإن ذلك مؤذن بوجود خلل ما يتمثل في جملة منها: موجات الإرهاب الدامي التي تُفرض علينا، وحفلات القتل الجماعي باسم الدين، وضرورة استعادة الإسلام العظيم من قبضة التطرف اللعين. إنها مهمة الأمس التي تأخرت إلى اليوم، ولا يجب أن ننتظر للغد.
وأكثر هذه الإشكاليات أهمية فيما يخص تحرير العقل الديني تتمثل في المفاهيم، وتتعلق بقضية الخطاب نفسه، عموماً، يعني استراتيجية ما في القول عن الشيء، أي نمطاً للإفصاح الشامل عن واقع بعينه، ومن ثم فهو نتيجة مترتبة على واقع سائد بالفعل، لا يمكن تقديم صورة عنه ولا تؤيدها معطيات الواقعية وإلا افتقد الخطاب منطقه وتحول إلى محض صياغات بلاغية ومزايدات كلامية لا تقنع أحداً (3).
ويعني الخطاب الديني، خصوصاً، بكيفية عرض الدين، أو الدعوة إليه، أو الدفاع عنه ضد منتقديه، حيث يهيمن الطابع السجالي، على الأقل، إن لم يكن الطابع التبشيري. وهكذا يبقي مفهوم الخطاب الديني مهجوساً بالآخر، خصوصاً الغربي، وبتلك الرغبة الدفينة في الدفاع عن أنفسنا في مواجهاته، وتزويق صورة التدين الإسلامي القائم فعلياً لدينا، بينما المطلوب الآن لا يقل عن تجديد الفكر الإسلامي، في مكونه القيمي والإنساني، بإلهام المكون الاعتقادي المتسامي على التاريخ؛ أي تجديد (تديننا) وأفكارنا عن (إسلامنا)، وذلك عن طريق إعادة تعريف ماهية النص نفسه، قبل الولوج إلى مساءلته على مستويات مختلفة من العمق الجذرية تتوافق على مستويات إحكامه وتساميه، تطويراً لواقعنا نحو الأفضل (4).
قصدت أن أقدم هذه المقدمة عن الوعي الديني، لأمهد للحديث عن تحليلي للكتاب الشيق الذي بين يدي، وهو كتاب بعنوان ” تحرير الوعي الديني ” للأستاذ ماجد الغرباوي، وقد صدر الكتاب في سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة في دمشق – سوريا، ضمن سلسلة متاهات الحقيقة التي يشتغل عليها المؤلف (5).
ماجد الغرباوي
أما المؤلف فهو الأستاذ ماجد الغرباوي باحث في الفكر الديني، ومتخصص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية، وهو عراقي مقيم في أستراليا.. مؤسس ورئيس مؤسسة المثقف العربي في سيدني.. كان رئيساً لتحرير مجلة التوحيد (الأعداد: 85- 106)، وكان عضو الهيئة العلمية لكتاب التوحيد، وقد مارس التدريس ضمن اختصاصه في المعاهد العلمية لسنوات عدّة، والحائز على عدد من الجوائز النقدية والتقديرية عن أعماله العلمية، وقد كتب عن منجزه الفكري والثقافي والأدبي عدد من النقّاد والباحثين، عرب وأجانب، وله أكثر من ثلاثين عملاً مطبوعاً: تأليفاً، وتحقيقاً، وحواراً، وترجمة، إضافة الى عدد كبير من الحوارات والدراسات والبحوث والمقالات في مجلات وصحف ومواقع الكترونية مختلفة. اشتغل على موضوعات نقد الفكر الديني، التسامح، العنف، الإصلاح والتجديد، فكر النهضة.
وقبل أن أتحول لقراءة هذا الكتاب دائماً ما أقول: لقد علمتني التجارب البحثية أن هناك أكثر من طريق لقراءة الأعمال الفلسفية قراءة نقدية، وأكثرها عفوية وسذاجة أن نلخص العمل الفلسفي أبواباً وفصولاً ثم لا شيء، وأعمقها أن نحاول تحديد مقولات العمل أولاً حتى نضع المتلقي معنا على أرضية واحدة مشتركة، ثم نخلص من ذلك إلى تجسيد رؤيتنا النقدية لهذه المقولات وإحالة هذه الرؤية النقدية في النهاية إلى قضايا وظاهرات.
وقد اخترت في قراءتي النقدية لكتاب الأستاذ ماجد الغرباوي (تحرير الوعي الديني)، تلك الطريقة الأخيرة التي ترفض الهشاشة وتكابد في طريقها إلى محاولة التنظير والتأصيل. . أولاً: لأن هذا الكتاب عمل علمي جاد يستحق بالفعل أن يعاني الناقد في قراءته وتقويمه، وأزعم أن هذا الكتاب سوف يضيفه التاريخ إلى أمهات الكتب الخوالد، لأن هذا المضاف يفتح السبُل أمام النظر، وإعمال العقل، وأمام البحث ومناهج العلم. . وثانياً الميزة التي يتميز بها الكاتب ” ماجد الغرباوي ” في هذا الكتاب، وهي هذه الجدية في النظر، وهذه الصرامة في المنطق، وهذا العكوف في العمل، وهذا الاحترام للنفس كاتباً وللغير قارئاً هو ما في نظري ما تعودت عليه أنا شخصياً مع ماجد الغرباوي (في هذا الكتاب)، يحتشد للموضوع الذي يبحثه من جوانبه التي تخصص فيها، ويتقدم للقارئ لا بالموضوع الذي يبحثه فقط، ولكن بالأدوات المنهجية التي يتعامل مع موضوعه بها، فيعرضها واضحة بما تستدعيه من منطق، ومن أسلوب تدليل ومن ترتيب سياق.
والسؤال الذي أود أن أسأله للأستاذ” لماجد الغرباوي: لماذا اختار لكتابه عنوان تحرير العقل الديني، ولم يختار له اسم “تجليات الوعي الديني”، أو “تنوير العقل الديني”، أو ” بؤس الوعي الديني في دارنا العربية كما ذهب د. برهان زريق، أو أزمة الوعي الديني كما ذهب فهمي هويدي. . الخ؟
وهنا يجيبنا ماجد الغرباوي ضمن ملاحظة سجلها في الصفحة الرابعة في جميع كتب متاهات الحقيقة: (قد لا ينطبق عنوان الكتاب مع تمام موضوعاته، لكنها تنتظم جميعاً ضمن حوارات متاهات الحقيقة). فيكون الوعي الديني جوهر موضوعاته، وهو ما يسعى له ضمن مشروعه الفكري والتنويري. والكتاب كما جاء في الإعلان عنه عند أول صدوره: (يقع في” 418″ صفحة من الحجم الكبير، وقد زينت لوحة الفنان التشكيلي الكبير أ. د. مصدق الحبيب غلاف الكتاب الجميل. وهو الكتاب الخامس ضمن سلسلة متاهات الحقيقة. حيث حمل الكتاب الأول عنوان: الهوية والفعل الحضاري. والثاني: مواربات النص. والثالث: الفقيه والعقل التراثي. والرابع: مضمرات العقل الفقهي).
تناول الكتاب مجموعة قضايا قاربها الكاتب ضمن الحوار المفتوح، منها: تطور العقائد، القلق المصيري، فلسفة الخلق، سؤال الوجود، المعرفة البشرية، منطق الخطيئة، فلسفة الخلق بين نظريتين، التأويل الموضوعي، سياقات التأويل، محددات القراءة، التداخل بين الأسطوري والديني، تشابه السرد، العناصر المشتركة، المعرفة الدينية، النهوض الحضاري، مواضيع غيرها متعددة.
من هنا جاءت الأجوبة في هذه الموسوعة الحوارية (متاهات الحقيقة)، تقارع حصون الكهنوت وتحطّم أسيجة تراثية تستغرق الذاكرة، وتطرح أسئلة واستفهامات استفزازية جريئة.. بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، ودور الدين والإنسان في الحياة. فتوغّلت عميقا في بنية الوعي ومقولات العقل الجمعي، واستدعت المهمّش والمستبعد من النصوص والروايات، وكثّفت النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطقت دلالات الخطاب الديني، بعد تجاوز مسَلَّماته ويقينياته، وسعت إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان في الحياة، في ضوء فهم مختلف للدين، وهدف الخلق. فهناك تواطؤ على هدر الحقيقة لصالح أهداف أيديولوجيات – طائفية. ومذهبية – سياسية.
في هذا الكتاب اعتمد المؤلف على منهج نقدي – تحليلي – تاريخي قائم على استقدام مشاهد حية من الماضي في تاريخيتها وشخوصها، لتخليص الحقيقة الدينية كما يقول أستاذنا الدكتور “علي محمد اليوسف ” في النص القدسي من براثن مجاهيل التضليل والتشويه والانحرافات والأكاذيب على التاريخ في جنبة التنظير التوعوي، وفي تعرية النفاق الديني الذي اخذ بحكم تداوليته المجتمعية صفة البديل القار الثابت في اكتسابه الحقيقة الدينية الزائفة التي يعتقدها ويمارسها المجموع، وفي إعلان هذا التزييف نفسه فكراً مضللاً، وممارسة منافقة وحيدة في امتلاكها الحقيقة لوحدها لا من اجل تصحيح علاقة العبد بالخالق ولكن بعلاقة تقديم الطاعة والمبايعة العمياء لمن يدعي ان حكمه مستمد من روح وجوهر دولة الخلافة الإسلامية في عهد النبوة (6).
لقد أراد المؤلف لمشروعه أن يكون مشروعاً نقدياً مضمونياً، أشبه ما يكون بمحاكمة فكرية لتطور العقائد، التي جنحت عن الاجتهاد والفهم الصحيح، ففي نظر المؤلف أنه في كل الديانات القديمة، وبمرور الوقت تنشأ عقائد جديدة، نابعة من الأساطير التي يتحتم بها الموروث الشعبي لهذه المجتمعات، وبحكم الفلسفات التي يتداولها معتنقو هذه الديانات. . وقد تكون هذه الأفكار والعقائد كما يري المؤلف باعثاً على التجديد وعدم الركون لفكر ثابت (7).
ومن هنا فإن هذا الكتاب ليس رواية من نسيج الخيال، ولا سردا لأحداث تاريخية، وإنما حصيلة مراجعة لعدد كبير من المصادر والمراجع إضافة لخبرته في العمل الفكري، لذا نجح في تقديم تفسير رمزي لقصة الخلق تفادى فيه إشكالية وقائعية القصص القرآني، لرفع التعارض المعروف بين نظريتي الخلق والتطور. وقد توغل في استعراض مشاهدها وتفصيلاتها، فجاء استعراضها منسجما مع فلسفة الخلق والهدف الحقيقي من وجود الإنسان. ويأتي هذا ضمن مشروعه لتحرير الوعي الديني وتقديم فهم مغاير للدين يضع مصلحة الإنسان أولا.
وهنا الأستاذ ” ماجد الغرباوي” أراد أن يطبع كتابه بخصائص جعلته يرقي إلى مستوي علمي رفيع، ومكنته من الوصول وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف في هدفين أساسيين، أو جعلهما في دافعين:
الدافع الأول: نظري معرفي، يقوم على ضم الفروع والجزئيات بعضها إلى بعض، والتماس الروابط بينها، وصياغتها في صيغة نظرية فلسفية، وهو ما لا يعلم ” ماجد الغرباوي” أن أحدا قام به من قبل، لا في شيء محرر، ولا في كتاب مصنف، بل لم ير أحداً حام حوله طائر فكره، أو جعله غاية بحثه ونظره، فرسخ في ذهنه أن هذا أمر مستحسن إظهاره، وإبراز تعم فائدته، وبيان خفيت معالمه، وهذا الدافع قد نصفه بالهدف الأول لتأليف الكتاب، أو الدافع الظاهري أيضاً.
الدافع الثاني: واقعي دعوي، يقوم على ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، ومن خلال قراءة متجددة للنص الديني على اساس النقد والمراجعة المستمرة من اجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهوض حضاري وعصري متقدم وجذري يساهم في تأصيل قيم الحرية والتسامح والعدالة في اطار مجتمع مدني خال من العنف والتنابذ والاحتراب؛ علاوة على أنه في هذا الكتاب كثيرا ما يدعو إلى ترسيخ حس ثقافي وفكري تقدمي وعقلاني يهدف الى توعية العقل العربي من خلال تقديم قراءة متأنية لأسس وأصول التسامح السائدة في واقعنا العربي المزري، قراءة واعية وحقيقية مبنية على قاعدة متينة تشكل قفزة نوعية في إخراج المجتمع العربي المعاصر من محنه وأزماته المتراكمة، وتقوده للخلاص من الجهل والتخلف والامية (8).
وننتقل إلى الكتاب مباشرة حيث يتصدى الغرباوي في مقدمته للإجابة على سؤال مفاده: هل يؤثر تفاقم العقائد على مستوى الإيمان الروحي بالخالق؟ وهل هو تأثير سلبي أم إيجابي؟
فأجاب: (العقيدة شأنها شأن أي كائن تبدأ صغيرة، بسيطة، وربما ساذجة ثم تتطور، بعضها يموت، وبعضها يقاوم، عندما تجدد العقيدة خطابها، وتصد تحدياتها، أو تتبناها سلطة دينية أو سياسية، تساهم في انتشارها، وتأصيلها، والذب عنها) (9).. ومن هنا تصبح العقيدة إطارا نظريا للإيمان وضربا من الهيام الروحي بفعل خصوبة الخيال (10). هذا من ناحية ومن ناحية أخرى تصبح العقيدة أيضا منظومة فكرية توجه وعي الفرد، إذ يتأتى الإيمان بها عبر تراكمات لا شعورية نفسية – ثقافية، هي سر تفاوته من شخص لآخر، فتؤثر في تكوينه جميع المؤثرات النفسية والسلوكية والاجتماعية والسياسية، والعلمية، والثقافية، والتربوية (11).
إن ما يريد الغرباوي أن يقوله هنا هو أن: ”جملة آثار موضوعية وروحية تلازم كل تطور عقدي، يشهد لذلك تطور الطقوس والشعارات تبعا لتطورها، حد التشوه والانحراف أحياناً، لأنها شرط لقوام التجربة الدينية (12)، ومن ثم تشكل العقيدة في نظر المؤلف ”جوهر الإيمان، تتولي تقديم رؤية كونية تؤطر العمل الإيماني، وتمنحه مشروعية كاملة، من خلال ضوابطها ومقاييسها (13).
ثم ينتقل الغرباوي للحديث عن انضباط العقيدة، حيث يرى أن العقيدة تشكل خطرا حقيقيا على الدين وأهدافه، عندما تنحرف عن غاياته وقاصده، كأن تبرر الشرك بدواع مختلفة، بينما التوحيد جوهر الدين (14).. على نحو جامع، يكرس وحدانيته تعالى، ويمنع جميع الأغيار، مهما كانت شائبة الشرك، وعليه بما أن العقيدة الموازية، تستظل بالعقيدة الأم، فإن إيجابياتها وسلبيتها مرتهن لأدائها التصوري، ومدى قربه وبعده من جوهرها (15).
وهنا كما يقول الغرباوي سنكون أمام تنوع عقدي، لكل واحد أحكامه، ويمكن في هذا الخصوص تحديد مصاديقها والموقف منه من خلال الدليل العقلي، والذي من خلاله يكون العقل دليلاً على صدقية العقيدة كما هو الحال بالنسبة لوجود الخالق (أصل وجوده)، الذي يمكن للعقل الاستدلال عليه من خلال بعض البديهيات كامتناع التسلسل، وقانون العلية والمعلول، وبطلان الدور (16)؛ وتارة يكون كما يرى المؤلف بالنقل الذي يمثل مصدر جميع تفصيلاتها؛ حيث هنا ستكون العقيدة مرتهنة للنص وشروطه وارتهاناته، وهو بالذات سيكون مقياساً لإيجابية وسلبية التأثير، فيقُتصر على النصوص التأسيسية، التي هي موضوع للفهم والتفسير، وما يتلو النص التأسيسي، نصوص ثانية، شارحة ومبينة، تعكس قبليات مؤلفها، وتخضع لإملاءاتها، وضروراتها (17).
ثم يؤكد الغرباوي المؤلف بأنه من خلال الدليلين العقلي والنقلي تبني العقائد، حيث يقول: ”إن العقيدة جزء مقوم للدين، وتلعب دوراً أساساً في تأسيس مقولاته، وربطها بهدفه الأساسي، وليس ثمة فوضى، يُفتح بموجبها الباب للاستزادة من عقائد تستدعيها ضرورات أيديولوجية أو سياسية؛ خاصة العقائد التي تترتب عليها آثار دينية وعقدية، ولها انعكاسات على الفرد والمجتمع (18).
وثمة نقطة مهمة جديرة بالإشارة يتطرق الغرباوي لمناقشتها ضمن أجوبته على ما طُرح من أسئلة، ألا وهي شعار: هل الإسلام هو الحل؟
وهنا نجد الغرباوي يجيبنا فيقول بأن هذا الشعار قد رفعه جماعة الإخوان المسلمين خلال تحالفهم الانتخابي مع حزب العمل والأحرار في حقبة ثمانينات القرن المنصرم لاستقطاب الشارع المصري، وضمان صوته الانتخابي، على خلفية دلالاته التي تحيل على المقدس والدين في مقابل ما تطرحه المشاريع السياسية والوضعية (19). . وكان للثورة الإسلامية في إيران دور محفز، حيث أثار انتصارها دهشة الحركات الإسلامية، وكسر حاجز الخوف، وشجع على الثورة ضد حكوماتهم، ولهذا تبنت جميعها بشكل مباشر، شعار ” الإسلام هو الحل” (20).
ثم يؤكد الغرباوي بأن هذا الشعار كانت له دلالات منطقية، منها أنه يؤكد كمال الشريعة، وشمولها لجميع مناحي الحياة، علاوة على أنه يستبطن إدانة غير مباشرة لمناوئيه، لعدم تطبيقهم الشريعة (21). . بيد أن شعار ”الإسلام هو الحل” في نظر المؤلف كغيره من الشعارات، حيث يتمتع بزخم عاطفي، وقدرة على تعبئة الناس لكونه يستجير بالمقدس الديني، ويفرض الاعتراف بقدسيته مهما كانت بشريته (22). . عبر توظيف اللغة، وإيحاءات الخطاب، فلم يكن شعارا بريئا، يروم تطبيق الشريعة لأجل الدين، بل يكمن خلفه مشروع سياسي يطمح لإقامة دولة دينية.. تختزن بداخلها صورة مشرقة مبالغ فيه عن دولة الخلافة، وهي صورة كما يقول المؤلف: صورة ساذجة، كتب بأقلام السلطة، دون نقدها وفضح بشريتها وعدم مثاليتها، بل وعدم شرعية سلوكها، وتصرفات حكامها في أحيان كثيرة ” (23).
ثم ينتقل الغرباوي في هذا الكتاب إلى قضية أخرى تتعلق بالنهضة والوعي؛ حيث قال: كان لسؤال النهضة دور كبير في تحريض الوعي، والبحث عن إجابات تفسر ظاهرة التخلف الإسلامي في مقابل التطور الحضاري الغربي الذي فاجأهم في عقر دارهم، بعد وصول جملة نابليون إلى مصر (1798م) مجهزة بأحدث الأسلحة والمعدات. فتوزعت الأجوبة بين من أدان الدين واعتبره المسؤول الأول عن تخلف المسلمين، فدعا إلى قطيعة تامة مع التراث والدين واللحاق بالغرب وحضارته لانتشال واقعنا الحضاري المتخلف. وآخر ارتد سلفياً طالب بتكريس التراث والسيرة لتدارك الوضع متهما المسلمين بخطأ التطبيق. وثالث قاده رواد النهضة كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وآخرين، الذين عادوا للتراث بحثا عن مصادر قوته الملائمة للعصر، ثم جاء التيار الإسلامي المنظم (الإخوان المسلمين) امتدادا لخط الوعي الإسلامي الأول. وبالتالي فجميع التيارات الحديثة جاءت ردة فعل بعد الصدمة الحضارية الهائلة، وطبيعة ردود الفعل تكون متسرعة مرتبكة، تنقصها الدراسة والتخطيط وجهل بالواقع واشراطاته رغم أنها جزء منه (24).
ومن هذا المنطلق راحت جماعة الإخوان المسلمين كما يقول الغرباوي تتحرك سياسياً باتجاه السلطة باعتبارها شرطا لتطبيق النظام الإسلامي، الذي هو وجهات نظر اجتهادية، صاغتها عقول المفكرين الإسلاميين لسد النقص (25). . الأمر الذي جعلهم يدمون الوهم، ويدورون في حلقة مفرغة، تحكم تصوراتهم مغالطة مفادها: بما أن النظام الإسلامي نظام رباني فينبغي أن يكون الأفضل والأصح (26).
ثم انتقل الغرباوي بعد ذلك للحديث عن فلسفة الخلق وأصل الإنسان ومنشأه ووجوده وبيان هدفه في الحياة الدنيا، باعتباره كائناً بشرياً تميز بعقله وقدرته على تطوير حياته، أو بامتياز بعقل خلاق مبدع فتكون الحرية والإرادة والمساواة لوازم وجودية في ضوئها يواصل مسيرته، ويرسم هدفه (27)؛ وهنا نجد المؤلف يعرض لنا تفسير ذلك من خلال النظريتين الدينية والنظرية الوضعية، فالنظرية الأولي تؤكد استقلالية البشر في أصله الترابي (الكتب المقدسة) (28)، بينما الثانية تعول على ” نظرية التطور والتي تعتقد أن أصل الإنسان من القرد (دارون) وثمة من يعتقد بانحدارهما من أسلاف سابقة (29).
وعندما انتهي الغرباوي من مناقشة هذه المسألة انتقل بعد ذلك للحديث عن مفهوم الخلافة، حيث رأى أنه ليس في مفهوم الخلافة الربانية سلب لإرادة الإنسان، ولم يكن مجبرا، سوى ما تفرضه القوانين الكونية باعتباره بشرا محكوما بها، فيخضع للجبر التكويني بفعل قوانين الكون، وهذا خارج عن إرادته. ولا يصدق السلب على التفويض، حيث فوض الله للإنسان حريته وإرادته وجعلهما لوازم لوجوده من وحي عقله وقدرته على التحكم بسلوكه، فيكون مسؤولا أمام اختياراته، وعلى هذا الأساس يمارس الفرد حريته. وحينما يلتزم بشريعة السماء أو يتمرد عليها بفعل ذلك بكامل إرادته (30).
وحول سؤال الوجود والمتعلق بقصة الخلق في الكتب المقدسة؛ فنجد الغرباوي يناقش قضية الخطيئة ضمن دراسة مقارنة بين أساطير الأولين والكتب السماوية؛ حيث رأى أن التوقف عند حدود الخطيئة لا ينسجم مع مفهوم الخلافة. إذ قال ربك إني جاعل في الأرض خليفة. والخليفة هو آدم الإنسان، بكل ما تعنيه كلمة الإنسان واستعداده لعمل الخير والشر (31)، وليس لآدم تصور عن الموضوع سوى ما أخبره به الخطاب الإلهي، بما في ذلك الإيمان الذي كان هشا بسيطا، لم يصل حد الجزم واليقين الذي يحول دون معصيتهما للأوامر الإلهية. ولو لم يخرجا من الجنة لم يعرفا شيئاً عن معنى العقوبة، فقد هبطا للأرص بتجربة غنية جدا رغم بساطتها، حدها الأدنى أن هناك حسن وقبح، خير وشر، ثواب وعقاب. فكانت تجربة ضرورية عاشها آدم مع هواجسه، التي وصفت بالشيطانية لسلبيتها في مقابل هواجس الخير (32).
ثمة بعد آخر تحدث عنه الغرباوي في قصة الخلق متعلق بالمعرفة يمكن رصدها من خلال سياق حركة آدم، فتعلم آدم للأسماء كلها، تعبير آخر عن استعداده التكويني للتعلم واكتساب المعرفة، التي هي عملية مركبة، ليست بسيطة تقف عند حدود التلقي والطاعة المطلقة. فهي تلق وإدراك لمعاني الأسماء، وطريقة استخدامها، مما يتطلب تشخيص الواقع وتحديد اللفظ المناسب. أو تحديد المفهوم كصورة ذهنية، وتخصيص لفظ منتزع من ذات الصورة، قياسا بغيرها من الصور الذهنية الأخرى، وهس عمليات تلقائية لا شعورية، تقف وراء معرفة الإنسان وطيفية توظيفها، وهذه هي مرحلة وعي الذات كما يري المؤلف (33).
وعن علاقة الخطيئة بالفكر الديني، حيث أكد أن الديانتان اليهودية والمسيحية لا تختلف عن القرآن حول قضة الخلق، فآدم والخطيئة عناصر أساسية فيها، غير أن الخطاب الكنسي شيد قاعدة الاعتقاد المسيحي على مفهوم الخطيئة، وأن البشر قد توارثو خطيئة آدم، وارجعوا ضمن متبنياتهم العقدية كل شيء للخطيئة (34).
وهنا يعلن الغرباوي قائلا: ” للأسف لم أجد من يهتم بآيات الخلق التي ترسم معالم هدف الرسالات والأديان، وهذا خطا كبير في فهم الدين، بل وأحد أسباب جميع الانحرافات العقائدية والسلوكية، خاصة ما تمارسه الحركات الإرهابية باسم الدين والقرآن وما تبثه حركات الغلو من ثقافات تكريس الجهل والأمية والتكاسل في الحياة الدنيا (35).
ويستطرد المؤلف فيقول “: لسنا بحاجة للروايات إلا بشكل محدود، وعلينا الاقتصار عليه، وعدم التمادي في التمسك بجميع الروايات، لأنها تعكس فهما للدين والكتاب المبين في ضوء ظرفها، وحاجات وتطلعات زمن الرواية. ثم لا يوجد نص عدا القرآن، وبعض الأحاديث النبوية الصحيحة فوق التاريخ، أو عابرة للتاريخ والأزمان، فلماذا التمسك بالتراث في فهم الكتاب، وهو نص مفتوح للقراءة والتأويل، وهذه ليست دعوة للقطيعة التامة مع التراث، بل التخلي عن التراث غير المنتج، الذي يكرس التبعية والانقياد والتخلف، ويغلق آفاق التأمل في الكون والنفس البشرية (36).
ثم ينطلق بعد ذلك الغرباوي فيفصل لنا أحاديثه حول أهم قضايا أخرى مهمة مثل: الخلق والحقيقة (من ص 111- 113)، ولغة الدين (من ص 114- ص 117 ثم من 120 – 123)، وفلسفة الخلق والتأويل (من ص 118- ص 119)، والتأويل الموضوعي (من ص 124- 126)، وقصص القرآن (من ص 127- 129)، والمنهج القرآني (من ص 130- 131)، ونموذج تأويلي (من ص 132- 135)، وسياقات التأويل (من ص 135-138)، وشروط المنهج (من ص 138-140)؛ وفي تلك القضايا السابقة توصل المؤلف إلى أن النص ليس منقطعا عن سياقاته التاريخية، ولا يتعإلى على تاريخيته، لكن ثمة نظرة خاطئة، واضحة في المنهج الفقهي حينما يتعامل مع النصوص منفصلة عن سياقها القرآني والتاريخي، فلا يخرج عن التقليد دون الاجتهاد، لأن الثاني لا يقف على حدود المعنى اللغوية الذي يعني بذل الجهد لفقه النص ضمن سياقه التاريخي وظروف نزوله. النص جاء ليقدم رؤيته عن الواقع الموضوعي، فهو استجابة لسؤال واقعي أو مقدر، ولذا لا يمكن فهم قصة الخلق وتحريرها من سجون اللفظ إلا بهدر الفهم التراثي والسلفي، وتوظيف المناهج الحديثة لفهمه (37).
كذلك يكشف لنا الغرباوي عن قضايا أخري مهمة لتحرير الوعي الديني مثل: محددات القراءة (من ص 145- 148)، والمدونة الأساسية للدين (من ص 148- 152)، ومنهج القراءة (من ص 153-155)، والوحي ثانياً (من 156- 158)، والبيئة الثقافية (من ص 159-160)، ومفهوم الحق (من ص 161- 163)، والقصص الحق (من ص 164-196)، واستفهامات الحقيقية (من ص 170-172)، ومشاهد الخلق (من ص 172 – 176)، وتأملات في فلسفة الخلق (من ص 176-177)، والتداخل بين الأسطوري والديني (من ص 178-179)، والعنصر المشترك الأول: أسئلة الوجود (من ص 180-186)، وتشابه السرد (ص 187)، والعنصر المشترك الثاني: أسئلة الوجود (من ص 188-193)، وهنا نجد المؤلف يؤكد لنا أن القرآن جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وقصة الخلق جزء من اسطورة الخلق التوراتية، حيث تخصص يوما لخلق آدم وحواء وإسكانهما الجنة، مجرد حدث تاريخي لا يشي بمعان رمزية أو قيم إنسانية وأخلاقية. والأسطورة تاريخيا سابقة عليها، تحكي سؤال الوجود الملازم لشغف الإنسان بالخلود، لمعرفة أصل وجوده ومصيره. يبحث دائما عن إجابات لظواهر الحياة والموت وما بعد الموت، وهي أسئلة وجودية، تعبر عن قلق عميق يستبد بالإنسان لا شعوريا. فقصة خلق آدم جزء من قصة الخلق، وهي قصة أسطورية في جذورها التاريخي، وردت في الألواح السومرية والبابلية. قصة خاوية، تؤرخ لبداية حياة الإنسان، وغاية وجوده خلاصتها أن الآلهة قد طلبت من كبيرها أن يخلق من يقوم مقامها في الأرض بعد ان تعبت، وأرهقها السعي وراء تحصيل أرزاقها، فخلق الإنسان من دمها وعلى شاكلتها، وهو أقصى ما بلغته المخيلة البشرية آنذاك. وفي التوراة حصلت قفزة نوعية في قصة خلق الإنسان، ابتداء من توحيد الآلهة، وانتهاء بدوره في الأرض، مروراً بالجنة وكيف أغرته الحية، فارتكب خطيئته، عندما أكل من الشجرة المحرمة. فثمة تشابه بين التوراة وأساطير الأولين (38).
ثم يؤكد الغرباوي بأن فلسفة خلق الإنسان في الأساطير القديمة تقوم على اختزال الإنسان، وتكريس عبوديته للآلهة، التي خلقته مطبوعا على الطاعة والانقياد، تستعين به لتأمين قوتها وغذائها، بعد متاعب الأرض التي أنهكتها، فتكون العبودية جوهره وحقيقته، وليست عارضة أو طارئة عليه، فهو كائن مستلب الإدارة والحرية، متقوم بغيره، وهو ذات المنطق العبودي الذي ينفي استقلالية الإنسان ويكرس تبعيته الوجودية، حدا يبيح هدر إنسانيته. والأمر لا يختلف مع الأسطورة التوراتية، فالإنسان سيكون حارسا على الأرض ومسيطرا على الأسماك والبحار، أو ليذهب وحشه الأرض كما في بعض نسخ التوراة، فلم يكن مخلوقا لذاته، مستقلاً بإرادته، بينما يعطي القرآن الإنسان قيمة مغايرة حينما جعله خليفة، على الأرض، ومنحه العقل والإرادة والحرية، ليتحمل مسؤولياته ويؤدي وظيفته الوجودية، وليس عبدا وخادما للآلهة، ولا متسلطاً على الأسماك والطيور. بهذا نفهم أن الله أراد أن يخلق إنسانا تتجلى إنسانيته من خلال مشاعره وأحاسيسه وسلوكه. فالقرآن صدق فكرة الخلق وأعاد تشكيلها وفقا لمفاهيم إنسانية، ليضع فاصلاً بين مرحلتي الأساطير والوحي الإلهي، في ضوء الإطار العام للكتاب القائم على وحدانية الخالق فيتفق مع التوراة في الوحدانية ويختلف معها حول هدف الإنسان في الحياة، كما استعاد إنسانية الناس، التي سلبتها أساطير الأولين، باعتبارها نتاج مجتمع، يكرس عبودية الفرد دينيا، ويسلب إرادته وحريته (39).
في الكتاب أيضاً يكشف لنا “الغرباوي” عن قضايا أخرى مهمة لتحرير الوعي الديني مثل: مداخل التأويل (من 194-195)، وآيات الخلق (من ص 196-197)، ورمزية قصة الخلق (من ص 198-205)، ورمزية الآيات (من ص 206-210)، وصدقية التناص (من ص 211- 213)، والعنصر المشترك الثالث: لحظة الخلق (من ص 214-216)، والعنصر المشترك الرابع: حوار الخلق (من ص 216-217)، والعنصر المشترك الخامس: موضوع الخلق (ص 218)، والعنصر المشترك السادس: استطلاع الملائكة (من ص 219-220)، والعنصر السابع السجود (من ص 221- 222)، والعنصر المشترك الثامن: خلق حواء (من ص 223-224)، ومفاهيم لغوية (من ص 225-227)، والمرأة ومشهد الخلق (من ص 228- 231)، والعنصر المشترك التاسع: وعلم آدم الأسماء (من ص 232-234)، والعنصر المشترك العاشر (من ص 235-237)، والعنصر المشترك الحادي عشر: الخطيئة (من ص 238-242)، وفوارق جوهرية (من ص 243-245)، والخطيئة العقيدة الدينية (من ص 246-247)، والعنصر المشترك الثاني عشر: قصدية الخلق (من ص 248-249)، والتشابة مرة أخرى (من ص 250-252). وهي مشتركات قام المؤلف بتقصيها من خلال مقارنة موضوعية بين أسطورة الخلق في أساطير حضارة ما بين النهرين، السومرية والبابلية، مقارنة بالتوارات من جهة، ومن ثم مقارنتهما مع قصة الخلق في القرآن، وقد كشف الغرباوي عن موارد التشابه والاختلاف، خاصة تشابه السرد، غير أنه كشف عن دلالات رمزية في قصة الخلق غير موجودة في أسطورة الخلق.
ومن خلال ما سبق عرضه من قضايا أكد المؤلف أنه لم يلجأ طوال البحث في فلسفة الخلق للتبرير والبحث عن أعذار للدفاع عن القرآن والوحي، وما قدم به من تقديم رؤية مغايرة لقصص الكتاب، وفق تقنيات اللغة والاستفادة من معطيات العلوم الإنسانية الحديثة. كل هذا كما يقول المؤلف في إطار الهدف العام للكتاب، باعتباره خطابا للإنسان، فيكون هو مجرد محوره وقصديته، ثم أن هدف القرآن ربط جميع الظواهر الكونية والحياتية بالعلة الأولى، مباشرة، أو ضمن سلسلة العلل، وهذا يؤثر في فهمه. وسلسلة العلل لا تنفي العقل ولا تسلب إرادة الإنسان، بل تضبط حركته ضمن القوانين الكونية والسنن التاريخية والاجتماعية. فالهدف النهائي من قصة الخلق ربط وجود الإنسان بخالقه، وبيان طرق الخلاص، وسبل النجاة وفق رؤيته الدينية. ولا علاقة لقصة الخلق بكيفية خلقه سوى التصديق الرمزي لما جاء في التوراة. وأما خلق الإنسان واقعاً فهو خاضع كغيره من الموجودة لأسباب خلقه وبالتالي لا تقاطع بين الدين والعلم حول ما يطرحه العلم، وتبقي النظريات العلمية مرتهنة لصدقيتها، وقدرتها على تقديم تفسيرات وأجوبة مقنعة لجميع الإشكالات وهو اختصاص علمي، لا يتداخل مع الديني (40).
كذلك يكشف لنا “الغرباوي” عن قضايا أخرى مهمة لتحرير الوعي الديني مثل: تقنية إدراك المعني (من 253-258)، والخلق بين الدين والعلم (من ص 259-262)، والإنسان الكامل (من ص 263-264)، ودلالات مضمرة (من ص 273-276)، الخلافة (من ص 277-280)، ودور الإمامة (من ص 281-282)، والشيعة والإمامة (من ص 283-286)، والمشرع السماوي (من ص 287-290)، والسياسة والتأويل (من 291-293)، والمعرفة الدينية (من ص 294-296)، وقيم الفضيلة (من ص 297-320)، ومن كل ما سبق يعلن المؤلف أن استمرارية الفضيلة لا تتوقف على وجود قيادة صالحة، ما دامت تنبثق تلقائيا، بل تتوقف على وجود مقومات ذاتية وبيئة كفيلة بحمايتها، وهذا ما حرصت عليه الأديان السماوية وأكدتها النصوص المقدسة، من خلال وجود: رقابة ذاتية وقانونية، وثالثة رمزية، كل واحد تؤثر من زاوية خاصة، وتارة تستقل وثانية تتداخل، باتجاه هدف واحد، فيكون تأثيرها مشتركا، خلاصته تعبئة الفرد والمجتمع أخلاقيا، لحماية قيم الفضيلة وتبنيها سلوكا (41).
ومن القضايا الأخرى المهمة لتحرير الوعي الديني والتي يناقشها “الغرباوي” هنا في هذا الكتاب، مثل: مثالية المجتمع (من ص 321- 322)، ومفهوم الفضيلة (من ص 323- 326)، والمجتمع المدني (من ص 327- 332)، وفلسفة الخلق والتسامح (من ص 332- 333)، ومجتمع المدينة (من ص 334- 335)، وحقيقة الإقصاء الديني (من ص 336-342)، وفلسفة الخلق وتداعيات السلطة (من ص 343-344)، والسلطة والاستبداد (من ص 345-346)، والتجربة التاريخية (من ص 347-348)، والأخطاء التاريخية (من ص 349-351)، ومسؤولية الانحراف (من ص 352-354)، فلسفة الخلق ومعاجيز الأنبياء (من ص 355- 358)، منهج فهم القصص (من ص 359-362)، والطابع الغرائبي (من ص 363-364)، والفارق الحضاري (من ص 365- 366)، وندية الحضارة الغربية (ص 367)، والتحرر والتفاعل والنكوص الحضاري (ص 368-371)، حضارة المسلمين (من ص 372-373)، والتثاقف الحضاري (ص 374)، والعلاقة مع الغرب وكذلك الغرب والآخر (من ص 378-379)، والتطرف الديني (من ص 380-381)، والقرآن والتطور الحضاري (من ص 382-383)، والوحدة الإسلامية (من ص 384-385)، والتخلف الحضاري (من ص 386-390)، والنهوض الحضاري (من ص 391-394)، وإشكالية الفكر التكفيري (من ص 395-396)، واليقين السلبي (من ص 397-398)، والتجديد ضرورة حضارية (من ص 399-403)، وهنا نجد المؤلف يتوصل لحقيقة مهمة وهي أننا: ” بحاجة ماسة لمراجعة ثوابتنا ومقولاتنا وتراثنا وفكرنا وثقافتنا، بحثا عن مصادر قوتها وتشخيص نقاط ضعفها، ومطالبون بتجديد رؤيتنا للحياة والموت والآخرة، وعلاقة الإنسان بما حوله، والعودة إلى مصادر وعينا وتفكيرنا، في ضوء الواقع، وتحكيم العقل في قراءة التراث ومصادره (42).
ثم يؤكد “الغرباوي” فيقول بأن: ” صرامة الأجواء، وكثرة المحرمات والخطوط الحمراء، تفرض على المصلحين الحذر في مقاربة ما يمت للعقيدة والطقوس بصلة، لذا تجد أكثر المقاربات سطحية تنأى عن الإشكاليات الأكثر عمقا. فمن يروم التجديد عليه أن يضع مصلحة الإسلام والأمة فوق كل شئ. ويتسلح بالعلم والمعرفة، ويقتحم كل ممنوع ومحرم، ويمارس النقد بأقصى مدياته، فلم يعد التمسك بالعادات والتقاليد، والتشبث بالماضي خيارا مقبولا، ونحن أمام مد حضاري هائل على جميع المستويات، وليس من المعقول أن نبقي متفرجين، لا نحرك ساكنا بدعوى القداسة واحترام التراث والسلف الصالح، وأبناؤنا يواجهون شتي الإشكالات، ويتعمق شكهم بدينهم وحضارتهم وتحاصرنا الشبهات والتهم (43).
لقد استطاع “الغرباوي” الوصول إلى نتائج ترفع من مستوي القارئ، وتجعله يقترب بسهولة من الكتاب إلى درجة الألفة والاستئناس، ويمكن إيجاز هذه الجوانب الإيجابية من المؤلف ما يلي:
أولاً: الجانب المعرفي: لقد جاء الكتاب مفعماً بالجانب المعرفي من حيث أن المؤلف وقف في الوصول إلى المعارف الضرورية لإنجاز هذا الكتاب، فقد تتبع المسار التطوري للفهم الصحيح لخلافة الإنسان على الأرض وحديث المؤلف عن الفهم هنا هو حديث عن المعرفة، وعن نظرية المعرفة؛ لأن المعرفة والبناء المعرفي لا يمكن أن يتحققا إلا بقاعدة ثابتة من الفهم، ومن الأمثلة على ذلك قول ماجد الغرباوي: ” كان سؤال الوجود وراء استعراض قصة الخلق في الكتب المقدسة، ذلك السؤال الذي لا زم الإنسان، يستفزه بدهشة، ويطرح عليه أسئلة مصيرية، تارة تكرس التشاؤم والعدمية واللاجدوي حد اليأس والانكفاء. وأخرى تدفع باتجاه التأمل والبحث والتنقيب، لمعرفة حقائق الأشياء، فكان ينبغي للخطاب الديني تقديم رؤية وافية تبدد شكوكه، وتجيب على أسئلته، حول حقيقة الوجود والإنسان والموت وحياة ما بعد الموت والخلود، مبدأ الخلق ونهايته وغايته، وغيرها، فهو قلق يعبر عن نفسه بأسئلة واستفسارات فلسفية (44).
ثانياً: التتبع الدقيق للحقائق التاريخية، ويتضح لنا ذلك من خلاله حديثه عن الجذر التاريخي لشعار الإسلام هو الحل؛ حيث يقول ماجد الغرباوي: “ليس الشعار غريبا على الوعي الديني، بل أن من صميم العقيدة تطبيق الشريعة، والكفاح من أجل اعتبارها مصدرا وحيدا للتشريع في دساتير الدول الإسلامية. وإذا كان تنظيم الإخوان المسلمين أول من طرحه بهذه الصيغة (الإسلام هو الحل)، فهذا لا ينفي جذره التاريخي، بل يؤكد ما تبناه الفقه الإسلامي، أن الإسلام دين شامل لكل الحياة، وما من واقعة إلا ولله فيه حكم. ومعناهما أن الإسلام حل لكل معضلة حياتية ودستورية، ومن هنا أفتوا بحرمة التشريعات الوضعية؛ وعندما رفعت الحركات الإسلامية هذا الشعار، فثمة ما يعزز ثقتهم بإمككانية تطبيقه تاريخيا إضافة لما حصل في إيران، كتجربة الخلفاء، التي تعتبر نموذجا للدولة العادلة التي أقامت شريعة السماء (45).
ثالثا: الإحاطة الجيدة لحدود الموضوع المدروس، لقد أبان المؤلف عن حسن تبصر، وعن رؤية واضحة للموضوع المدروس، مما جعله متمكناً من المعلومات التي يعرضها، حتى استطاع أن يوجهها لخدمة الغرض الديني الذي وُضع من أجله الكتاب، ويتضح لنا ذلك من خلال مناقشة ماجد الغرباوي لفلسفة الخلق بين نظريتين حيث يقول الغرباوي: ” إن الفهم التراثي للقرآن، والجمود على ظواهر الآيات، بات عبئا على الوعي العقلاني، وتسبب في كوارث دموية نسبت للدين؛ مثاله تمسك الحركات الإسلامية المتطرفة بآيات القتال، رغم عدم فعلية موضوعاتها، وانصرافها لقضايا خارجية محددة، فاهلكوا الحرث والنسل (46).
ثم يستطرد “الغرباوي” فيقول: ” وقديما استغل مفهوم الجبر من قبل الحكومات الاستبدادية القديمة التي تري في الملوك آلهة أو ظلا لها أو خيارها. ثم استغل الحكم الأموي ومن جاء من بعده، الجبر لتبرير سلوك الخليفة، والارتفاع به فوق النقد والمحاسبة، في الدنيا والآخرة، بعد أن أصل له المتكلمون، وغدا من مؤسسات العقل التراثي لطيف واسع من المسلمين، فالتراث المثقل بالتبعية والاستبداد ليس أقل خطرا حينما يعطل العقل، ويشل إرادة الفرد والمجتمع، ويكرس التخلف باسم الدين وآيات الكتاب (47).
والسؤال الان هو: هل نجح المؤلف ” ماجد الغرباوي” في تحقيق هذا الهدف الذي نذر كتابه له؟
في اعتقادي أن المؤلف تمكن – إلى حد كبير – من تحقيق هذا الهدف، إذ يلحظ القارئ – المنصف- أن المؤلف ظل يطرح الأسئلة الكبرى، ثم يقدم الإجابة عنها بطريقة المحاججة العقلية البعيدة عن التعسف والاتهام، كما ظل يتكئ على أكثر من شاهد وأكثر من دليل حتى يجلو الفكرة ويؤكدها، دون الاعتماد على الشوارد من الشواهد أو المفرد من الأدلة، وخير مثال أنه حين سئُل الغرباوي: هل تعد الحضارة الإسلامية الآن نداً للحضارة الغربية، ولو في بعض جوانبها ولماذا، فأجاب الغرباوي قائلا: ” الندية تحتاج إلى تكافؤ بين الطرفين، أو يكون الفارق الحضاري من الضآلة ما يسمح بالتناد بينهما فهل تعتقد أن واقع المسلمين الآن يصلح أن يكون ندا للحضارة الغربية؟ .. لا أحد يرى ذلك حتى المسلمين أنفسهم فمنذ الصدمة الحضارية وما زلنا عيالا على الحضارة الغربية في كل شيء، ونحن بدون الغرب كما يقول أدونيس صحراء وجمل. وعندما أقول لا ندية بينهما أعي جيدا ما أقول. نحن نحتاجهم في كل شيء ونفتقر لمنجزاتهم حتى النظريات في مجال العلوم الإنسانية، بل وحياتنا الآن تتوقف على تلك المنجزات خاصة العلمية منها، والغرب راهنا يستعمر الدول الإسلامية إلا القليل من خلال حاجتها وافتقارها له. ولو قطع الغرب إمداداته العلمية لتوقفت الحياة في كثير من الدول الإسلامية. الغرب هو المركز ونحن الهامش والأطراف ندور من حوله، وهذا ليس انسحاقا أو شعورا بالدونية. إنما هو واقع نعيشه كل يوم، فنحن لم نحقق نهضتنا ولم نتقدم ما فيه الكفاية بحيث نتخلص من تبعيتنا للحضارة الغربية، ونكون ندا لها. تصور حتى في المجال الأدبي نحن نقلدهم في تطورهم على مستوي الأداء والنظريات النقدية. غاية الأمر أن بعضا يحاول أن يجد جذورا إسلامية لها، كما بالنسبة لقصيدة النثر، وهي احدى عُقدنا لا نعترف بالخطأ ونجيد التبرير والبكاء على الأطلال. إذن نحن مدعوون لاستكمال نهضتنا وتقديم نموذجنا أولا ثم نطرح أنفسنا للتناد مع الحضارات الأخرى (48).
كذلك يحسب للمؤلف قوله: “.. وما لم تختف مظاهر التخلف، بمعالجات جذرية حقيقية، لا يكتب النجاح لنهضتنا المرتقبة، ويعني أننا وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح وكلما اختفت ظاهرة كلما سجل المجتمع تطوراً ملحوظاً. وهذا يتطلب تحولا ثقافياً ومعرفياً، وعليه يجب البدء من الثقافة من أجل وعي جديد للحياة، وعلاقتنا بالماضي والحاضر والمستقبل. ويجب التحرر من كل السلطات التي تعيق حركة الفرد والمجتمع.. الفرد عندنا مشدود للوراء، يلتفت إلى الخلف حتى وهو يمشي إلى الأمام، بينما شروط الحياة تغيرت، ولكل عصر حاجاته ومتطلباته (49).
كما نجد ” الغرباوي” يجمل آراءه باختصار شديد وهدوء لافت، مدافعاً عن منهجه، مبرزاً حقه في الجدل والنقاش ليس بغرض التجريح الشخصي، بل بحثاً عن الحقيقة العلمية، وفي إشارة من إشاراته الدالة النادرة يكبر المؤلف في صاحب المشروع اعتداده برأيه والجهر فيه بلا مواراة أو تمويه، مؤشراً إلى ضرورة أن علماءنا المعاصرين عن بنية معرفية تبني ولا تهدم، ومن ذلك قوله: ” نحن بحاجة ماسة لمراجعة ثوابتنا ومقولاتنا وتراثنا وفكرنا وثقافتنا، بحثاً عن مصادر قوتها وتشخيص نقاط ضعفها، ومطالبون بتجديد رؤيتنا للحياة والآخرة، وعلاقة الإنسان بما حوله، والعودة إلى مصادر وعينا وتفكيرنا، في ضوء الواقع، وتحكيم العقل في قراءة التراث ومصادره (50).
ويسرني في نهاية هذه القراءة أن أبارك للأستاذ “ماجد الغرباوي” صدور هذا الكتاب الرائع عن “تحرير العقل الديني”، وهذا يدل على أنه مثقف تنويري، ومفكر مضيء، ونجم فكري، وثقافي نقدي لامع، يتجدد كل يوم في فضاءات العلم، والثقافة، والسياسة، والمعرفة، ويقف ضمن طليعة المفكرين والمثقفين العرب المستنيرين، والنقديين المشتغلين على نقد الفكر الديني، والحركات الإسلامية، ومسائل النهضة، والإصلاح، والتجديد، والمعاصرة، والتنوير، والعنف، والتسامح بين الأديان والعقائد والمذاهب.
كما كشف لنا هذا الكتاب كيف أعاد “ماجد الغرباوي” كتابة العلوم الدينية في صيغة عصرية، وكيف أعاد أيضا تأويل موقف الشريعة من قضايا تطور العقائد، القلق المصيري، فلسفة الخلق، سؤال الوجود، المعرفة البشرية، منطق الخطيئة، فلسفة الخلق بين نظريتين، التأويل الموضوعي، سياقات التأويل، محددات القراءة، التداخل بين الأسطوري والديني، تشابه السرد، العناصر المشتركة، المعرفة الدينية، النهوض الحضاري، مواضيع غيرها متعددة؛ علاوة على أنه صاحب رأي معلن بجرأة ووضوح في قضايا الدولة والمجتمع المدني وحرية الرأي والديمقراطية ومواجهة الفساد والتطرف، خاصة في كتابيه الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، وجدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق. ويؤسس فلسفيا للتعايش بين الأديان والثقافات.
علاوة على أن كتاب “تحرير العقل الديني” يمثل مشروعًا جديدًا لتجديد الفكر الديني مرتكزًا فيه المؤلف على العقلانية النقدية – البوبرية، حيث يري ضرورة تطوير علوم الدين، وليس إحياء علوم الدين القديمة، نظرًا لتجمدها الذي يحوِّل القرآن من نص ديناميكي يواكب الحياة المتجددة إلى نص إستاتيكي يواكب زمنًا مضي وانتهى، ويُؤسس الغرباوي لتفسير جديد ينتقل من الوعظ والإدهاش والتخويف إلى تفسير من أجل التعقل والتفكير؛ حيث وجدناه يدعو إلى تكوين خطاب ديني جديد في كتابه ” إشكاليات التجديد “، وافتتح مشروعه بالتأكيد على أن الإسلام الذي نعيشه اليوم خارج التاريخ ومنفصل عن واقع حركة التقدم، ومن ثم بات من الضروري العودة إلى “الإسلام المنسي”، ولذلك رأى الغرباوي تكوين خطاب ديني جديد وليس تجديد الخطاب الديني القديم، بإقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة ولغة جديدة ومفردات جديدة وتهجينها بلغة ومفردات العلوم الاجتماعية والإنسانية وفق متغيرات العصر وطبيعة التحديات التي تواجه الأمة، ونشر ممارسة مفاهيم التنوع والتعددية وقبول الآخر.
وفي النهاية لا أملك إلا أن أقول بأن كتاب ” تحرير العقل الديني”، كشف لي بأنني إزاء نموذج نادر يصعب أن يتكرر، لمثقف واسع الثقافة، وكذلك لمفكر حر نزيه لا يقيم وزناً ولا يحسب حساباً إلا للحقيقة العلمية وحدها، وفوق ذلك وأهم من ذلك بالنسبة لنا، أنه كان يقدم مادته العلمية فى أسلوب بالغ الجاذبية والتشويق تجعلها أشبه ما تكون بالعمل الفني الممتع دون أن تفقد مع ذلك شيئا من دقتها الأكاديمية، ولهذا لم أكن مبالغاً حين قلت عنه في أحد مقالاتي بأن ماجد الغرباوي نموذج كبير لـ “لمجد العقل الديني ” (51)
فتحية خالصة لماجد الغرباوي لابن أرض الرافدين، وحفيد هارون الرشيد، الذي كان وما يزال رمزاً من رموز المعرفة الموسوعية الفريدة، وواحداً من أصحاب الرؤية الفكرية والثقافية الشاملة.. بارك الله فى ماجد الغرباوي، وأفاد تلاميذه وقراءه بعلمه ووطنيته، بفكره وموضوعيته، بنقائه وطبيعته.
الأستاذ الدكتور / محمود محمد على
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.
الهوامش
1- سعدي الهادي: الفكر الديني بين إشكالياته المعرفية ومشكلاته الواقعية، مجلة التربية والابستيمولوجيا، المدرسة العليا للأساتذة بوزريعة – مخبر التربية والابستيمولوجي، العدد الثالث، 2012، ص 80.
2- عمرو عبد الكريم: معركة الوعي: سؤال التجديد، الوعي الإسلامي، وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية، س52 ,ع600، 2015، ص 84.
3- صلاح سالم: الوعي العربي بين الإصلاح الديني والتنوير العقلي، شؤون عربية، جامعة الدول العربية، العدد 164، 2015، ص 170.
4- نفس المرجع، ص 171.
5-أنظر ماجد الغرباوي: تحرير العقل الديني (متاهات الحقيقة 5)، دار أمل الجديدة، دمشق، سوريا، ط1، 2012.
6- أنظر على محمد اليوسف: منهج النص في سؤال الحقيقة.. قراءة في فكر ماجد الغرباوي، صحيفة المثقف العدد: 4466 المصادف: 2018-11-16.
7- شاكر فريد حسن: ماجد الغرباوي المثقف التنويري والمفكر المضيء، العدد: 5652 – 2017 / 9 / 27 – 11:54.
8- ماجد الغرباوي: المصدر السابق، ص 6.
9- نفس المصدر، ص 9.
10- نفس المصدر، ص 9.
11- نفس المصدر، ص 9-10.
12- نفس المصدر، ص 10.
13- نفس المصدر، ص 11.
14- نفس المصدر، ص 15.
15- نفس المصدر، ص 17.
16- نفس المصدر، ص 17.
17- نفس المصدر، ص 18.
18- نفس المصدر، ص 20.
19- نفس المصدر، ص 22
20- نفس المصدر، ص 22.
21- نفس المصدر، ص 23
22- نفس المصدر، ص 23
23- نفس المصدر، ص 27
24- نفس المصدر، ص32
25- نفس المصدر، ص 33
26- نفس المصدر، ص 35
27- نفس المصدر، ص 63
28- نفس المصدر، ص66-72.
29- نفس المصدر، ص 64-65.
30- نفس المصدر، ص 80.
31- نفس المصدر، ص 86
32- نفس المصدر، ص84-85
33- نفس المصدر، ص 88.
34- نفس المصدر، ص 93
35- نفس المصدر، ص 106
36- نفس المصدر، ص 106
37- نفس المصدر، ص 140
38- نفس المصدر، ص 170-171
39- نفس المصدر، ص 176
40- نفس المصدر، ص 251
41- نفس المصدر، ص 219
42- نفس المصدر، ص 402
43- نفس المصدر، ص 402
44- نفس المصدر، ص 81.
45- نفس المصدر، ص 42
46- نفس المصدر، ص 101
47- نفس المصدر، ص 101
48- نفس المصدر، ص 367
49- نفس المصدر، ص 403
50- نفس المصدر، ص 402
51- محمود محمد علي: تجديد العقل الديني في مشروع ماجد الغرباوي، صحيفة المثقف، العدد: 4608، المصادف 18-04-2019.
وعندما ننظر لديننا الحنيف، نجد أنه كان أهم معاني خاتمية الرسالة الإسلامية وخلودها، هو الإيمان ببلوغ العقل الإنساني درجة من النضج تسمح له بالاستقلال باستنباط الأحكام استقلالاً تاماً، أو تأسيساً على ما ورد في التشريع الإسلامي من أصول وقواعد وأحكام (2)
ومن ثم ظل سؤال “تحرير الوعي الديني ” هو أهم الأسئلة المحورية لنهضة الأمة من وهدتها، وبعثها من سباتها العميق على مدى عصورها المتطاولة.
وموضوع الوعي والتوعية الدينية من الموضوعات القدمية الجديدة، والتي تتجدد الحاجة إليه في كل عصر منذ عصر النبي صلي الله عليه وسلم، إلى عصرنا الحاضر. وتزداد الحاجة إليه في هذا العصر لما تشهده الساحة العربية من غزو إرهابي وتفش للجهل، وحين تعيش الأمة على هامش الأحداث وتتخلي عن دورها الريادي، وحين تفقد مصداقيتها فلا يحسب لها حساب، وحين تُضيع مبادئ دينها السمحة وقيمه العليا، فإن ذلك مؤذن بوجود خلل ما يتمثل في جملة منها: موجات الإرهاب الدامي التي تُفرض علينا، وحفلات القتل الجماعي باسم الدين، وضرورة استعادة الإسلام العظيم من قبضة التطرف اللعين. إنها مهمة الأمس التي تأخرت إلى اليوم، ولا يجب أن ننتظر للغد.
وأكثر هذه الإشكاليات أهمية فيما يخص تحرير العقل الديني تتمثل في المفاهيم، وتتعلق بقضية الخطاب نفسه، عموماً، يعني استراتيجية ما في القول عن الشيء، أي نمطاً للإفصاح الشامل عن واقع بعينه، ومن ثم فهو نتيجة مترتبة على واقع سائد بالفعل، لا يمكن تقديم صورة عنه ولا تؤيدها معطيات الواقعية وإلا افتقد الخطاب منطقه وتحول إلى محض صياغات بلاغية ومزايدات كلامية لا تقنع أحداً (3).
ويعني الخطاب الديني، خصوصاً، بكيفية عرض الدين، أو الدعوة إليه، أو الدفاع عنه ضد منتقديه، حيث يهيمن الطابع السجالي، على الأقل، إن لم يكن الطابع التبشيري. وهكذا يبقي مفهوم الخطاب الديني مهجوساً بالآخر، خصوصاً الغربي، وبتلك الرغبة الدفينة في الدفاع عن أنفسنا في مواجهاته، وتزويق صورة التدين الإسلامي القائم فعلياً لدينا، بينما المطلوب الآن لا يقل عن تجديد الفكر الإسلامي، في مكونه القيمي والإنساني، بإلهام المكون الاعتقادي المتسامي على التاريخ؛ أي تجديد (تديننا) وأفكارنا عن (إسلامنا)، وذلك عن طريق إعادة تعريف ماهية النص نفسه، قبل الولوج إلى مساءلته على مستويات مختلفة من العمق الجذرية تتوافق على مستويات إحكامه وتساميه، تطويراً لواقعنا نحو الأفضل (4).
قصدت أن أقدم هذه المقدمة عن الوعي الديني، لأمهد للحديث عن تحليلي للكتاب الشيق الذي بين يدي، وهو كتاب بعنوان ” تحرير الوعي الديني ” للأستاذ ماجد الغرباوي، وقد صدر الكتاب في سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة في دمشق – سوريا، ضمن سلسلة متاهات الحقيقة التي يشتغل عليها المؤلف (5).
ماجد الغرباوي
أما المؤلف فهو الأستاذ ماجد الغرباوي باحث في الفكر الديني، ومتخصص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية، وهو عراقي مقيم في أستراليا.. مؤسس ورئيس مؤسسة المثقف العربي في سيدني.. كان رئيساً لتحرير مجلة التوحيد (الأعداد: 85- 106)، وكان عضو الهيئة العلمية لكتاب التوحيد، وقد مارس التدريس ضمن اختصاصه في المعاهد العلمية لسنوات عدّة، والحائز على عدد من الجوائز النقدية والتقديرية عن أعماله العلمية، وقد كتب عن منجزه الفكري والثقافي والأدبي عدد من النقّاد والباحثين، عرب وأجانب، وله أكثر من ثلاثين عملاً مطبوعاً: تأليفاً، وتحقيقاً، وحواراً، وترجمة، إضافة الى عدد كبير من الحوارات والدراسات والبحوث والمقالات في مجلات وصحف ومواقع الكترونية مختلفة. اشتغل على موضوعات نقد الفكر الديني، التسامح، العنف، الإصلاح والتجديد، فكر النهضة.
وقبل أن أتحول لقراءة هذا الكتاب دائماً ما أقول: لقد علمتني التجارب البحثية أن هناك أكثر من طريق لقراءة الأعمال الفلسفية قراءة نقدية، وأكثرها عفوية وسذاجة أن نلخص العمل الفلسفي أبواباً وفصولاً ثم لا شيء، وأعمقها أن نحاول تحديد مقولات العمل أولاً حتى نضع المتلقي معنا على أرضية واحدة مشتركة، ثم نخلص من ذلك إلى تجسيد رؤيتنا النقدية لهذه المقولات وإحالة هذه الرؤية النقدية في النهاية إلى قضايا وظاهرات.
وقد اخترت في قراءتي النقدية لكتاب الأستاذ ماجد الغرباوي (تحرير الوعي الديني)، تلك الطريقة الأخيرة التي ترفض الهشاشة وتكابد في طريقها إلى محاولة التنظير والتأصيل. . أولاً: لأن هذا الكتاب عمل علمي جاد يستحق بالفعل أن يعاني الناقد في قراءته وتقويمه، وأزعم أن هذا الكتاب سوف يضيفه التاريخ إلى أمهات الكتب الخوالد، لأن هذا المضاف يفتح السبُل أمام النظر، وإعمال العقل، وأمام البحث ومناهج العلم. . وثانياً الميزة التي يتميز بها الكاتب ” ماجد الغرباوي ” في هذا الكتاب، وهي هذه الجدية في النظر، وهذه الصرامة في المنطق، وهذا العكوف في العمل، وهذا الاحترام للنفس كاتباً وللغير قارئاً هو ما في نظري ما تعودت عليه أنا شخصياً مع ماجد الغرباوي (في هذا الكتاب)، يحتشد للموضوع الذي يبحثه من جوانبه التي تخصص فيها، ويتقدم للقارئ لا بالموضوع الذي يبحثه فقط، ولكن بالأدوات المنهجية التي يتعامل مع موضوعه بها، فيعرضها واضحة بما تستدعيه من منطق، ومن أسلوب تدليل ومن ترتيب سياق.
والسؤال الذي أود أن أسأله للأستاذ” لماجد الغرباوي: لماذا اختار لكتابه عنوان تحرير العقل الديني، ولم يختار له اسم “تجليات الوعي الديني”، أو “تنوير العقل الديني”، أو ” بؤس الوعي الديني في دارنا العربية كما ذهب د. برهان زريق، أو أزمة الوعي الديني كما ذهب فهمي هويدي. . الخ؟
وهنا يجيبنا ماجد الغرباوي ضمن ملاحظة سجلها في الصفحة الرابعة في جميع كتب متاهات الحقيقة: (قد لا ينطبق عنوان الكتاب مع تمام موضوعاته، لكنها تنتظم جميعاً ضمن حوارات متاهات الحقيقة). فيكون الوعي الديني جوهر موضوعاته، وهو ما يسعى له ضمن مشروعه الفكري والتنويري. والكتاب كما جاء في الإعلان عنه عند أول صدوره: (يقع في” 418″ صفحة من الحجم الكبير، وقد زينت لوحة الفنان التشكيلي الكبير أ. د. مصدق الحبيب غلاف الكتاب الجميل. وهو الكتاب الخامس ضمن سلسلة متاهات الحقيقة. حيث حمل الكتاب الأول عنوان: الهوية والفعل الحضاري. والثاني: مواربات النص. والثالث: الفقيه والعقل التراثي. والرابع: مضمرات العقل الفقهي).
تناول الكتاب مجموعة قضايا قاربها الكاتب ضمن الحوار المفتوح، منها: تطور العقائد، القلق المصيري، فلسفة الخلق، سؤال الوجود، المعرفة البشرية، منطق الخطيئة، فلسفة الخلق بين نظريتين، التأويل الموضوعي، سياقات التأويل، محددات القراءة، التداخل بين الأسطوري والديني، تشابه السرد، العناصر المشتركة، المعرفة الدينية، النهوض الحضاري، مواضيع غيرها متعددة.
من هنا جاءت الأجوبة في هذه الموسوعة الحوارية (متاهات الحقيقة)، تقارع حصون الكهنوت وتحطّم أسيجة تراثية تستغرق الذاكرة، وتطرح أسئلة واستفهامات استفزازية جريئة.. بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، ودور الدين والإنسان في الحياة. فتوغّلت عميقا في بنية الوعي ومقولات العقل الجمعي، واستدعت المهمّش والمستبعد من النصوص والروايات، وكثّفت النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطقت دلالات الخطاب الديني، بعد تجاوز مسَلَّماته ويقينياته، وسعت إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان في الحياة، في ضوء فهم مختلف للدين، وهدف الخلق. فهناك تواطؤ على هدر الحقيقة لصالح أهداف أيديولوجيات – طائفية. ومذهبية – سياسية.
في هذا الكتاب اعتمد المؤلف على منهج نقدي – تحليلي – تاريخي قائم على استقدام مشاهد حية من الماضي في تاريخيتها وشخوصها، لتخليص الحقيقة الدينية كما يقول أستاذنا الدكتور “علي محمد اليوسف ” في النص القدسي من براثن مجاهيل التضليل والتشويه والانحرافات والأكاذيب على التاريخ في جنبة التنظير التوعوي، وفي تعرية النفاق الديني الذي اخذ بحكم تداوليته المجتمعية صفة البديل القار الثابت في اكتسابه الحقيقة الدينية الزائفة التي يعتقدها ويمارسها المجموع، وفي إعلان هذا التزييف نفسه فكراً مضللاً، وممارسة منافقة وحيدة في امتلاكها الحقيقة لوحدها لا من اجل تصحيح علاقة العبد بالخالق ولكن بعلاقة تقديم الطاعة والمبايعة العمياء لمن يدعي ان حكمه مستمد من روح وجوهر دولة الخلافة الإسلامية في عهد النبوة (6).
لقد أراد المؤلف لمشروعه أن يكون مشروعاً نقدياً مضمونياً، أشبه ما يكون بمحاكمة فكرية لتطور العقائد، التي جنحت عن الاجتهاد والفهم الصحيح، ففي نظر المؤلف أنه في كل الديانات القديمة، وبمرور الوقت تنشأ عقائد جديدة، نابعة من الأساطير التي يتحتم بها الموروث الشعبي لهذه المجتمعات، وبحكم الفلسفات التي يتداولها معتنقو هذه الديانات. . وقد تكون هذه الأفكار والعقائد كما يري المؤلف باعثاً على التجديد وعدم الركون لفكر ثابت (7).
ومن هنا فإن هذا الكتاب ليس رواية من نسيج الخيال، ولا سردا لأحداث تاريخية، وإنما حصيلة مراجعة لعدد كبير من المصادر والمراجع إضافة لخبرته في العمل الفكري، لذا نجح في تقديم تفسير رمزي لقصة الخلق تفادى فيه إشكالية وقائعية القصص القرآني، لرفع التعارض المعروف بين نظريتي الخلق والتطور. وقد توغل في استعراض مشاهدها وتفصيلاتها، فجاء استعراضها منسجما مع فلسفة الخلق والهدف الحقيقي من وجود الإنسان. ويأتي هذا ضمن مشروعه لتحرير الوعي الديني وتقديم فهم مغاير للدين يضع مصلحة الإنسان أولا.
وهنا الأستاذ ” ماجد الغرباوي” أراد أن يطبع كتابه بخصائص جعلته يرقي إلى مستوي علمي رفيع، ومكنته من الوصول وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف في هدفين أساسيين، أو جعلهما في دافعين:
الدافع الأول: نظري معرفي، يقوم على ضم الفروع والجزئيات بعضها إلى بعض، والتماس الروابط بينها، وصياغتها في صيغة نظرية فلسفية، وهو ما لا يعلم ” ماجد الغرباوي” أن أحدا قام به من قبل، لا في شيء محرر، ولا في كتاب مصنف، بل لم ير أحداً حام حوله طائر فكره، أو جعله غاية بحثه ونظره، فرسخ في ذهنه أن هذا أمر مستحسن إظهاره، وإبراز تعم فائدته، وبيان خفيت معالمه، وهذا الدافع قد نصفه بالهدف الأول لتأليف الكتاب، أو الدافع الظاهري أيضاً.
الدافع الثاني: واقعي دعوي، يقوم على ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، ومن خلال قراءة متجددة للنص الديني على اساس النقد والمراجعة المستمرة من اجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهوض حضاري وعصري متقدم وجذري يساهم في تأصيل قيم الحرية والتسامح والعدالة في اطار مجتمع مدني خال من العنف والتنابذ والاحتراب؛ علاوة على أنه في هذا الكتاب كثيرا ما يدعو إلى ترسيخ حس ثقافي وفكري تقدمي وعقلاني يهدف الى توعية العقل العربي من خلال تقديم قراءة متأنية لأسس وأصول التسامح السائدة في واقعنا العربي المزري، قراءة واعية وحقيقية مبنية على قاعدة متينة تشكل قفزة نوعية في إخراج المجتمع العربي المعاصر من محنه وأزماته المتراكمة، وتقوده للخلاص من الجهل والتخلف والامية (8).
وننتقل إلى الكتاب مباشرة حيث يتصدى الغرباوي في مقدمته للإجابة على سؤال مفاده: هل يؤثر تفاقم العقائد على مستوى الإيمان الروحي بالخالق؟ وهل هو تأثير سلبي أم إيجابي؟
فأجاب: (العقيدة شأنها شأن أي كائن تبدأ صغيرة، بسيطة، وربما ساذجة ثم تتطور، بعضها يموت، وبعضها يقاوم، عندما تجدد العقيدة خطابها، وتصد تحدياتها، أو تتبناها سلطة دينية أو سياسية، تساهم في انتشارها، وتأصيلها، والذب عنها) (9).. ومن هنا تصبح العقيدة إطارا نظريا للإيمان وضربا من الهيام الروحي بفعل خصوبة الخيال (10). هذا من ناحية ومن ناحية أخرى تصبح العقيدة أيضا منظومة فكرية توجه وعي الفرد، إذ يتأتى الإيمان بها عبر تراكمات لا شعورية نفسية – ثقافية، هي سر تفاوته من شخص لآخر، فتؤثر في تكوينه جميع المؤثرات النفسية والسلوكية والاجتماعية والسياسية، والعلمية، والثقافية، والتربوية (11).
إن ما يريد الغرباوي أن يقوله هنا هو أن: ”جملة آثار موضوعية وروحية تلازم كل تطور عقدي، يشهد لذلك تطور الطقوس والشعارات تبعا لتطورها، حد التشوه والانحراف أحياناً، لأنها شرط لقوام التجربة الدينية (12)، ومن ثم تشكل العقيدة في نظر المؤلف ”جوهر الإيمان، تتولي تقديم رؤية كونية تؤطر العمل الإيماني، وتمنحه مشروعية كاملة، من خلال ضوابطها ومقاييسها (13).
ثم ينتقل الغرباوي للحديث عن انضباط العقيدة، حيث يرى أن العقيدة تشكل خطرا حقيقيا على الدين وأهدافه، عندما تنحرف عن غاياته وقاصده، كأن تبرر الشرك بدواع مختلفة، بينما التوحيد جوهر الدين (14).. على نحو جامع، يكرس وحدانيته تعالى، ويمنع جميع الأغيار، مهما كانت شائبة الشرك، وعليه بما أن العقيدة الموازية، تستظل بالعقيدة الأم، فإن إيجابياتها وسلبيتها مرتهن لأدائها التصوري، ومدى قربه وبعده من جوهرها (15).
وهنا كما يقول الغرباوي سنكون أمام تنوع عقدي، لكل واحد أحكامه، ويمكن في هذا الخصوص تحديد مصاديقها والموقف منه من خلال الدليل العقلي، والذي من خلاله يكون العقل دليلاً على صدقية العقيدة كما هو الحال بالنسبة لوجود الخالق (أصل وجوده)، الذي يمكن للعقل الاستدلال عليه من خلال بعض البديهيات كامتناع التسلسل، وقانون العلية والمعلول، وبطلان الدور (16)؛ وتارة يكون كما يرى المؤلف بالنقل الذي يمثل مصدر جميع تفصيلاتها؛ حيث هنا ستكون العقيدة مرتهنة للنص وشروطه وارتهاناته، وهو بالذات سيكون مقياساً لإيجابية وسلبية التأثير، فيقُتصر على النصوص التأسيسية، التي هي موضوع للفهم والتفسير، وما يتلو النص التأسيسي، نصوص ثانية، شارحة ومبينة، تعكس قبليات مؤلفها، وتخضع لإملاءاتها، وضروراتها (17).
ثم يؤكد الغرباوي المؤلف بأنه من خلال الدليلين العقلي والنقلي تبني العقائد، حيث يقول: ”إن العقيدة جزء مقوم للدين، وتلعب دوراً أساساً في تأسيس مقولاته، وربطها بهدفه الأساسي، وليس ثمة فوضى، يُفتح بموجبها الباب للاستزادة من عقائد تستدعيها ضرورات أيديولوجية أو سياسية؛ خاصة العقائد التي تترتب عليها آثار دينية وعقدية، ولها انعكاسات على الفرد والمجتمع (18).
وثمة نقطة مهمة جديرة بالإشارة يتطرق الغرباوي لمناقشتها ضمن أجوبته على ما طُرح من أسئلة، ألا وهي شعار: هل الإسلام هو الحل؟
وهنا نجد الغرباوي يجيبنا فيقول بأن هذا الشعار قد رفعه جماعة الإخوان المسلمين خلال تحالفهم الانتخابي مع حزب العمل والأحرار في حقبة ثمانينات القرن المنصرم لاستقطاب الشارع المصري، وضمان صوته الانتخابي، على خلفية دلالاته التي تحيل على المقدس والدين في مقابل ما تطرحه المشاريع السياسية والوضعية (19). . وكان للثورة الإسلامية في إيران دور محفز، حيث أثار انتصارها دهشة الحركات الإسلامية، وكسر حاجز الخوف، وشجع على الثورة ضد حكوماتهم، ولهذا تبنت جميعها بشكل مباشر، شعار ” الإسلام هو الحل” (20).
ثم يؤكد الغرباوي بأن هذا الشعار كانت له دلالات منطقية، منها أنه يؤكد كمال الشريعة، وشمولها لجميع مناحي الحياة، علاوة على أنه يستبطن إدانة غير مباشرة لمناوئيه، لعدم تطبيقهم الشريعة (21). . بيد أن شعار ”الإسلام هو الحل” في نظر المؤلف كغيره من الشعارات، حيث يتمتع بزخم عاطفي، وقدرة على تعبئة الناس لكونه يستجير بالمقدس الديني، ويفرض الاعتراف بقدسيته مهما كانت بشريته (22). . عبر توظيف اللغة، وإيحاءات الخطاب، فلم يكن شعارا بريئا، يروم تطبيق الشريعة لأجل الدين، بل يكمن خلفه مشروع سياسي يطمح لإقامة دولة دينية.. تختزن بداخلها صورة مشرقة مبالغ فيه عن دولة الخلافة، وهي صورة كما يقول المؤلف: صورة ساذجة، كتب بأقلام السلطة، دون نقدها وفضح بشريتها وعدم مثاليتها، بل وعدم شرعية سلوكها، وتصرفات حكامها في أحيان كثيرة ” (23).
ثم ينتقل الغرباوي في هذا الكتاب إلى قضية أخرى تتعلق بالنهضة والوعي؛ حيث قال: كان لسؤال النهضة دور كبير في تحريض الوعي، والبحث عن إجابات تفسر ظاهرة التخلف الإسلامي في مقابل التطور الحضاري الغربي الذي فاجأهم في عقر دارهم، بعد وصول جملة نابليون إلى مصر (1798م) مجهزة بأحدث الأسلحة والمعدات. فتوزعت الأجوبة بين من أدان الدين واعتبره المسؤول الأول عن تخلف المسلمين، فدعا إلى قطيعة تامة مع التراث والدين واللحاق بالغرب وحضارته لانتشال واقعنا الحضاري المتخلف. وآخر ارتد سلفياً طالب بتكريس التراث والسيرة لتدارك الوضع متهما المسلمين بخطأ التطبيق. وثالث قاده رواد النهضة كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وآخرين، الذين عادوا للتراث بحثا عن مصادر قوته الملائمة للعصر، ثم جاء التيار الإسلامي المنظم (الإخوان المسلمين) امتدادا لخط الوعي الإسلامي الأول. وبالتالي فجميع التيارات الحديثة جاءت ردة فعل بعد الصدمة الحضارية الهائلة، وطبيعة ردود الفعل تكون متسرعة مرتبكة، تنقصها الدراسة والتخطيط وجهل بالواقع واشراطاته رغم أنها جزء منه (24).
ومن هذا المنطلق راحت جماعة الإخوان المسلمين كما يقول الغرباوي تتحرك سياسياً باتجاه السلطة باعتبارها شرطا لتطبيق النظام الإسلامي، الذي هو وجهات نظر اجتهادية، صاغتها عقول المفكرين الإسلاميين لسد النقص (25). . الأمر الذي جعلهم يدمون الوهم، ويدورون في حلقة مفرغة، تحكم تصوراتهم مغالطة مفادها: بما أن النظام الإسلامي نظام رباني فينبغي أن يكون الأفضل والأصح (26).
ثم انتقل الغرباوي بعد ذلك للحديث عن فلسفة الخلق وأصل الإنسان ومنشأه ووجوده وبيان هدفه في الحياة الدنيا، باعتباره كائناً بشرياً تميز بعقله وقدرته على تطوير حياته، أو بامتياز بعقل خلاق مبدع فتكون الحرية والإرادة والمساواة لوازم وجودية في ضوئها يواصل مسيرته، ويرسم هدفه (27)؛ وهنا نجد المؤلف يعرض لنا تفسير ذلك من خلال النظريتين الدينية والنظرية الوضعية، فالنظرية الأولي تؤكد استقلالية البشر في أصله الترابي (الكتب المقدسة) (28)، بينما الثانية تعول على ” نظرية التطور والتي تعتقد أن أصل الإنسان من القرد (دارون) وثمة من يعتقد بانحدارهما من أسلاف سابقة (29).
وعندما انتهي الغرباوي من مناقشة هذه المسألة انتقل بعد ذلك للحديث عن مفهوم الخلافة، حيث رأى أنه ليس في مفهوم الخلافة الربانية سلب لإرادة الإنسان، ولم يكن مجبرا، سوى ما تفرضه القوانين الكونية باعتباره بشرا محكوما بها، فيخضع للجبر التكويني بفعل قوانين الكون، وهذا خارج عن إرادته. ولا يصدق السلب على التفويض، حيث فوض الله للإنسان حريته وإرادته وجعلهما لوازم لوجوده من وحي عقله وقدرته على التحكم بسلوكه، فيكون مسؤولا أمام اختياراته، وعلى هذا الأساس يمارس الفرد حريته. وحينما يلتزم بشريعة السماء أو يتمرد عليها بفعل ذلك بكامل إرادته (30).
وحول سؤال الوجود والمتعلق بقصة الخلق في الكتب المقدسة؛ فنجد الغرباوي يناقش قضية الخطيئة ضمن دراسة مقارنة بين أساطير الأولين والكتب السماوية؛ حيث رأى أن التوقف عند حدود الخطيئة لا ينسجم مع مفهوم الخلافة. إذ قال ربك إني جاعل في الأرض خليفة. والخليفة هو آدم الإنسان، بكل ما تعنيه كلمة الإنسان واستعداده لعمل الخير والشر (31)، وليس لآدم تصور عن الموضوع سوى ما أخبره به الخطاب الإلهي، بما في ذلك الإيمان الذي كان هشا بسيطا، لم يصل حد الجزم واليقين الذي يحول دون معصيتهما للأوامر الإلهية. ولو لم يخرجا من الجنة لم يعرفا شيئاً عن معنى العقوبة، فقد هبطا للأرص بتجربة غنية جدا رغم بساطتها، حدها الأدنى أن هناك حسن وقبح، خير وشر، ثواب وعقاب. فكانت تجربة ضرورية عاشها آدم مع هواجسه، التي وصفت بالشيطانية لسلبيتها في مقابل هواجس الخير (32).
ثمة بعد آخر تحدث عنه الغرباوي في قصة الخلق متعلق بالمعرفة يمكن رصدها من خلال سياق حركة آدم، فتعلم آدم للأسماء كلها، تعبير آخر عن استعداده التكويني للتعلم واكتساب المعرفة، التي هي عملية مركبة، ليست بسيطة تقف عند حدود التلقي والطاعة المطلقة. فهي تلق وإدراك لمعاني الأسماء، وطريقة استخدامها، مما يتطلب تشخيص الواقع وتحديد اللفظ المناسب. أو تحديد المفهوم كصورة ذهنية، وتخصيص لفظ منتزع من ذات الصورة، قياسا بغيرها من الصور الذهنية الأخرى، وهس عمليات تلقائية لا شعورية، تقف وراء معرفة الإنسان وطيفية توظيفها، وهذه هي مرحلة وعي الذات كما يري المؤلف (33).
وعن علاقة الخطيئة بالفكر الديني، حيث أكد أن الديانتان اليهودية والمسيحية لا تختلف عن القرآن حول قضة الخلق، فآدم والخطيئة عناصر أساسية فيها، غير أن الخطاب الكنسي شيد قاعدة الاعتقاد المسيحي على مفهوم الخطيئة، وأن البشر قد توارثو خطيئة آدم، وارجعوا ضمن متبنياتهم العقدية كل شيء للخطيئة (34).
وهنا يعلن الغرباوي قائلا: ” للأسف لم أجد من يهتم بآيات الخلق التي ترسم معالم هدف الرسالات والأديان، وهذا خطا كبير في فهم الدين، بل وأحد أسباب جميع الانحرافات العقائدية والسلوكية، خاصة ما تمارسه الحركات الإرهابية باسم الدين والقرآن وما تبثه حركات الغلو من ثقافات تكريس الجهل والأمية والتكاسل في الحياة الدنيا (35).
ويستطرد المؤلف فيقول “: لسنا بحاجة للروايات إلا بشكل محدود، وعلينا الاقتصار عليه، وعدم التمادي في التمسك بجميع الروايات، لأنها تعكس فهما للدين والكتاب المبين في ضوء ظرفها، وحاجات وتطلعات زمن الرواية. ثم لا يوجد نص عدا القرآن، وبعض الأحاديث النبوية الصحيحة فوق التاريخ، أو عابرة للتاريخ والأزمان، فلماذا التمسك بالتراث في فهم الكتاب، وهو نص مفتوح للقراءة والتأويل، وهذه ليست دعوة للقطيعة التامة مع التراث، بل التخلي عن التراث غير المنتج، الذي يكرس التبعية والانقياد والتخلف، ويغلق آفاق التأمل في الكون والنفس البشرية (36).
ثم ينطلق بعد ذلك الغرباوي فيفصل لنا أحاديثه حول أهم قضايا أخرى مهمة مثل: الخلق والحقيقة (من ص 111- 113)، ولغة الدين (من ص 114- ص 117 ثم من 120 – 123)، وفلسفة الخلق والتأويل (من ص 118- ص 119)، والتأويل الموضوعي (من ص 124- 126)، وقصص القرآن (من ص 127- 129)، والمنهج القرآني (من ص 130- 131)، ونموذج تأويلي (من ص 132- 135)، وسياقات التأويل (من ص 135-138)، وشروط المنهج (من ص 138-140)؛ وفي تلك القضايا السابقة توصل المؤلف إلى أن النص ليس منقطعا عن سياقاته التاريخية، ولا يتعإلى على تاريخيته، لكن ثمة نظرة خاطئة، واضحة في المنهج الفقهي حينما يتعامل مع النصوص منفصلة عن سياقها القرآني والتاريخي، فلا يخرج عن التقليد دون الاجتهاد، لأن الثاني لا يقف على حدود المعنى اللغوية الذي يعني بذل الجهد لفقه النص ضمن سياقه التاريخي وظروف نزوله. النص جاء ليقدم رؤيته عن الواقع الموضوعي، فهو استجابة لسؤال واقعي أو مقدر، ولذا لا يمكن فهم قصة الخلق وتحريرها من سجون اللفظ إلا بهدر الفهم التراثي والسلفي، وتوظيف المناهج الحديثة لفهمه (37).
كذلك يكشف لنا الغرباوي عن قضايا أخري مهمة لتحرير الوعي الديني مثل: محددات القراءة (من ص 145- 148)، والمدونة الأساسية للدين (من ص 148- 152)، ومنهج القراءة (من ص 153-155)، والوحي ثانياً (من 156- 158)، والبيئة الثقافية (من ص 159-160)، ومفهوم الحق (من ص 161- 163)، والقصص الحق (من ص 164-196)، واستفهامات الحقيقية (من ص 170-172)، ومشاهد الخلق (من ص 172 – 176)، وتأملات في فلسفة الخلق (من ص 176-177)، والتداخل بين الأسطوري والديني (من ص 178-179)، والعنصر المشترك الأول: أسئلة الوجود (من ص 180-186)، وتشابه السرد (ص 187)، والعنصر المشترك الثاني: أسئلة الوجود (من ص 188-193)، وهنا نجد المؤلف يؤكد لنا أن القرآن جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وقصة الخلق جزء من اسطورة الخلق التوراتية، حيث تخصص يوما لخلق آدم وحواء وإسكانهما الجنة، مجرد حدث تاريخي لا يشي بمعان رمزية أو قيم إنسانية وأخلاقية. والأسطورة تاريخيا سابقة عليها، تحكي سؤال الوجود الملازم لشغف الإنسان بالخلود، لمعرفة أصل وجوده ومصيره. يبحث دائما عن إجابات لظواهر الحياة والموت وما بعد الموت، وهي أسئلة وجودية، تعبر عن قلق عميق يستبد بالإنسان لا شعوريا. فقصة خلق آدم جزء من قصة الخلق، وهي قصة أسطورية في جذورها التاريخي، وردت في الألواح السومرية والبابلية. قصة خاوية، تؤرخ لبداية حياة الإنسان، وغاية وجوده خلاصتها أن الآلهة قد طلبت من كبيرها أن يخلق من يقوم مقامها في الأرض بعد ان تعبت، وأرهقها السعي وراء تحصيل أرزاقها، فخلق الإنسان من دمها وعلى شاكلتها، وهو أقصى ما بلغته المخيلة البشرية آنذاك. وفي التوراة حصلت قفزة نوعية في قصة خلق الإنسان، ابتداء من توحيد الآلهة، وانتهاء بدوره في الأرض، مروراً بالجنة وكيف أغرته الحية، فارتكب خطيئته، عندما أكل من الشجرة المحرمة. فثمة تشابه بين التوراة وأساطير الأولين (38).
ثم يؤكد الغرباوي بأن فلسفة خلق الإنسان في الأساطير القديمة تقوم على اختزال الإنسان، وتكريس عبوديته للآلهة، التي خلقته مطبوعا على الطاعة والانقياد، تستعين به لتأمين قوتها وغذائها، بعد متاعب الأرض التي أنهكتها، فتكون العبودية جوهره وحقيقته، وليست عارضة أو طارئة عليه، فهو كائن مستلب الإدارة والحرية، متقوم بغيره، وهو ذات المنطق العبودي الذي ينفي استقلالية الإنسان ويكرس تبعيته الوجودية، حدا يبيح هدر إنسانيته. والأمر لا يختلف مع الأسطورة التوراتية، فالإنسان سيكون حارسا على الأرض ومسيطرا على الأسماك والبحار، أو ليذهب وحشه الأرض كما في بعض نسخ التوراة، فلم يكن مخلوقا لذاته، مستقلاً بإرادته، بينما يعطي القرآن الإنسان قيمة مغايرة حينما جعله خليفة، على الأرض، ومنحه العقل والإرادة والحرية، ليتحمل مسؤولياته ويؤدي وظيفته الوجودية، وليس عبدا وخادما للآلهة، ولا متسلطاً على الأسماك والطيور. بهذا نفهم أن الله أراد أن يخلق إنسانا تتجلى إنسانيته من خلال مشاعره وأحاسيسه وسلوكه. فالقرآن صدق فكرة الخلق وأعاد تشكيلها وفقا لمفاهيم إنسانية، ليضع فاصلاً بين مرحلتي الأساطير والوحي الإلهي، في ضوء الإطار العام للكتاب القائم على وحدانية الخالق فيتفق مع التوراة في الوحدانية ويختلف معها حول هدف الإنسان في الحياة، كما استعاد إنسانية الناس، التي سلبتها أساطير الأولين، باعتبارها نتاج مجتمع، يكرس عبودية الفرد دينيا، ويسلب إرادته وحريته (39).
في الكتاب أيضاً يكشف لنا “الغرباوي” عن قضايا أخرى مهمة لتحرير الوعي الديني مثل: مداخل التأويل (من 194-195)، وآيات الخلق (من ص 196-197)، ورمزية قصة الخلق (من ص 198-205)، ورمزية الآيات (من ص 206-210)، وصدقية التناص (من ص 211- 213)، والعنصر المشترك الثالث: لحظة الخلق (من ص 214-216)، والعنصر المشترك الرابع: حوار الخلق (من ص 216-217)، والعنصر المشترك الخامس: موضوع الخلق (ص 218)، والعنصر المشترك السادس: استطلاع الملائكة (من ص 219-220)، والعنصر السابع السجود (من ص 221- 222)، والعنصر المشترك الثامن: خلق حواء (من ص 223-224)، ومفاهيم لغوية (من ص 225-227)، والمرأة ومشهد الخلق (من ص 228- 231)، والعنصر المشترك التاسع: وعلم آدم الأسماء (من ص 232-234)، والعنصر المشترك العاشر (من ص 235-237)، والعنصر المشترك الحادي عشر: الخطيئة (من ص 238-242)، وفوارق جوهرية (من ص 243-245)، والخطيئة العقيدة الدينية (من ص 246-247)، والعنصر المشترك الثاني عشر: قصدية الخلق (من ص 248-249)، والتشابة مرة أخرى (من ص 250-252). وهي مشتركات قام المؤلف بتقصيها من خلال مقارنة موضوعية بين أسطورة الخلق في أساطير حضارة ما بين النهرين، السومرية والبابلية، مقارنة بالتوارات من جهة، ومن ثم مقارنتهما مع قصة الخلق في القرآن، وقد كشف الغرباوي عن موارد التشابه والاختلاف، خاصة تشابه السرد، غير أنه كشف عن دلالات رمزية في قصة الخلق غير موجودة في أسطورة الخلق.
ومن خلال ما سبق عرضه من قضايا أكد المؤلف أنه لم يلجأ طوال البحث في فلسفة الخلق للتبرير والبحث عن أعذار للدفاع عن القرآن والوحي، وما قدم به من تقديم رؤية مغايرة لقصص الكتاب، وفق تقنيات اللغة والاستفادة من معطيات العلوم الإنسانية الحديثة. كل هذا كما يقول المؤلف في إطار الهدف العام للكتاب، باعتباره خطابا للإنسان، فيكون هو مجرد محوره وقصديته، ثم أن هدف القرآن ربط جميع الظواهر الكونية والحياتية بالعلة الأولى، مباشرة، أو ضمن سلسلة العلل، وهذا يؤثر في فهمه. وسلسلة العلل لا تنفي العقل ولا تسلب إرادة الإنسان، بل تضبط حركته ضمن القوانين الكونية والسنن التاريخية والاجتماعية. فالهدف النهائي من قصة الخلق ربط وجود الإنسان بخالقه، وبيان طرق الخلاص، وسبل النجاة وفق رؤيته الدينية. ولا علاقة لقصة الخلق بكيفية خلقه سوى التصديق الرمزي لما جاء في التوراة. وأما خلق الإنسان واقعاً فهو خاضع كغيره من الموجودة لأسباب خلقه وبالتالي لا تقاطع بين الدين والعلم حول ما يطرحه العلم، وتبقي النظريات العلمية مرتهنة لصدقيتها، وقدرتها على تقديم تفسيرات وأجوبة مقنعة لجميع الإشكالات وهو اختصاص علمي، لا يتداخل مع الديني (40).
كذلك يكشف لنا “الغرباوي” عن قضايا أخرى مهمة لتحرير الوعي الديني مثل: تقنية إدراك المعني (من 253-258)، والخلق بين الدين والعلم (من ص 259-262)، والإنسان الكامل (من ص 263-264)، ودلالات مضمرة (من ص 273-276)، الخلافة (من ص 277-280)، ودور الإمامة (من ص 281-282)، والشيعة والإمامة (من ص 283-286)، والمشرع السماوي (من ص 287-290)، والسياسة والتأويل (من 291-293)، والمعرفة الدينية (من ص 294-296)، وقيم الفضيلة (من ص 297-320)، ومن كل ما سبق يعلن المؤلف أن استمرارية الفضيلة لا تتوقف على وجود قيادة صالحة، ما دامت تنبثق تلقائيا، بل تتوقف على وجود مقومات ذاتية وبيئة كفيلة بحمايتها، وهذا ما حرصت عليه الأديان السماوية وأكدتها النصوص المقدسة، من خلال وجود: رقابة ذاتية وقانونية، وثالثة رمزية، كل واحد تؤثر من زاوية خاصة، وتارة تستقل وثانية تتداخل، باتجاه هدف واحد، فيكون تأثيرها مشتركا، خلاصته تعبئة الفرد والمجتمع أخلاقيا، لحماية قيم الفضيلة وتبنيها سلوكا (41).
ومن القضايا الأخرى المهمة لتحرير الوعي الديني والتي يناقشها “الغرباوي” هنا في هذا الكتاب، مثل: مثالية المجتمع (من ص 321- 322)، ومفهوم الفضيلة (من ص 323- 326)، والمجتمع المدني (من ص 327- 332)، وفلسفة الخلق والتسامح (من ص 332- 333)، ومجتمع المدينة (من ص 334- 335)، وحقيقة الإقصاء الديني (من ص 336-342)، وفلسفة الخلق وتداعيات السلطة (من ص 343-344)، والسلطة والاستبداد (من ص 345-346)، والتجربة التاريخية (من ص 347-348)، والأخطاء التاريخية (من ص 349-351)، ومسؤولية الانحراف (من ص 352-354)، فلسفة الخلق ومعاجيز الأنبياء (من ص 355- 358)، منهج فهم القصص (من ص 359-362)، والطابع الغرائبي (من ص 363-364)، والفارق الحضاري (من ص 365- 366)، وندية الحضارة الغربية (ص 367)، والتحرر والتفاعل والنكوص الحضاري (ص 368-371)، حضارة المسلمين (من ص 372-373)، والتثاقف الحضاري (ص 374)، والعلاقة مع الغرب وكذلك الغرب والآخر (من ص 378-379)، والتطرف الديني (من ص 380-381)، والقرآن والتطور الحضاري (من ص 382-383)، والوحدة الإسلامية (من ص 384-385)، والتخلف الحضاري (من ص 386-390)، والنهوض الحضاري (من ص 391-394)، وإشكالية الفكر التكفيري (من ص 395-396)، واليقين السلبي (من ص 397-398)، والتجديد ضرورة حضارية (من ص 399-403)، وهنا نجد المؤلف يتوصل لحقيقة مهمة وهي أننا: ” بحاجة ماسة لمراجعة ثوابتنا ومقولاتنا وتراثنا وفكرنا وثقافتنا، بحثا عن مصادر قوتها وتشخيص نقاط ضعفها، ومطالبون بتجديد رؤيتنا للحياة والموت والآخرة، وعلاقة الإنسان بما حوله، والعودة إلى مصادر وعينا وتفكيرنا، في ضوء الواقع، وتحكيم العقل في قراءة التراث ومصادره (42).
ثم يؤكد “الغرباوي” فيقول بأن: ” صرامة الأجواء، وكثرة المحرمات والخطوط الحمراء، تفرض على المصلحين الحذر في مقاربة ما يمت للعقيدة والطقوس بصلة، لذا تجد أكثر المقاربات سطحية تنأى عن الإشكاليات الأكثر عمقا. فمن يروم التجديد عليه أن يضع مصلحة الإسلام والأمة فوق كل شئ. ويتسلح بالعلم والمعرفة، ويقتحم كل ممنوع ومحرم، ويمارس النقد بأقصى مدياته، فلم يعد التمسك بالعادات والتقاليد، والتشبث بالماضي خيارا مقبولا، ونحن أمام مد حضاري هائل على جميع المستويات، وليس من المعقول أن نبقي متفرجين، لا نحرك ساكنا بدعوى القداسة واحترام التراث والسلف الصالح، وأبناؤنا يواجهون شتي الإشكالات، ويتعمق شكهم بدينهم وحضارتهم وتحاصرنا الشبهات والتهم (43).
لقد استطاع “الغرباوي” الوصول إلى نتائج ترفع من مستوي القارئ، وتجعله يقترب بسهولة من الكتاب إلى درجة الألفة والاستئناس، ويمكن إيجاز هذه الجوانب الإيجابية من المؤلف ما يلي:
أولاً: الجانب المعرفي: لقد جاء الكتاب مفعماً بالجانب المعرفي من حيث أن المؤلف وقف في الوصول إلى المعارف الضرورية لإنجاز هذا الكتاب، فقد تتبع المسار التطوري للفهم الصحيح لخلافة الإنسان على الأرض وحديث المؤلف عن الفهم هنا هو حديث عن المعرفة، وعن نظرية المعرفة؛ لأن المعرفة والبناء المعرفي لا يمكن أن يتحققا إلا بقاعدة ثابتة من الفهم، ومن الأمثلة على ذلك قول ماجد الغرباوي: ” كان سؤال الوجود وراء استعراض قصة الخلق في الكتب المقدسة، ذلك السؤال الذي لا زم الإنسان، يستفزه بدهشة، ويطرح عليه أسئلة مصيرية، تارة تكرس التشاؤم والعدمية واللاجدوي حد اليأس والانكفاء. وأخرى تدفع باتجاه التأمل والبحث والتنقيب، لمعرفة حقائق الأشياء، فكان ينبغي للخطاب الديني تقديم رؤية وافية تبدد شكوكه، وتجيب على أسئلته، حول حقيقة الوجود والإنسان والموت وحياة ما بعد الموت والخلود، مبدأ الخلق ونهايته وغايته، وغيرها، فهو قلق يعبر عن نفسه بأسئلة واستفسارات فلسفية (44).
ثانياً: التتبع الدقيق للحقائق التاريخية، ويتضح لنا ذلك من خلاله حديثه عن الجذر التاريخي لشعار الإسلام هو الحل؛ حيث يقول ماجد الغرباوي: “ليس الشعار غريبا على الوعي الديني، بل أن من صميم العقيدة تطبيق الشريعة، والكفاح من أجل اعتبارها مصدرا وحيدا للتشريع في دساتير الدول الإسلامية. وإذا كان تنظيم الإخوان المسلمين أول من طرحه بهذه الصيغة (الإسلام هو الحل)، فهذا لا ينفي جذره التاريخي، بل يؤكد ما تبناه الفقه الإسلامي، أن الإسلام دين شامل لكل الحياة، وما من واقعة إلا ولله فيه حكم. ومعناهما أن الإسلام حل لكل معضلة حياتية ودستورية، ومن هنا أفتوا بحرمة التشريعات الوضعية؛ وعندما رفعت الحركات الإسلامية هذا الشعار، فثمة ما يعزز ثقتهم بإمككانية تطبيقه تاريخيا إضافة لما حصل في إيران، كتجربة الخلفاء، التي تعتبر نموذجا للدولة العادلة التي أقامت شريعة السماء (45).
ثالثا: الإحاطة الجيدة لحدود الموضوع المدروس، لقد أبان المؤلف عن حسن تبصر، وعن رؤية واضحة للموضوع المدروس، مما جعله متمكناً من المعلومات التي يعرضها، حتى استطاع أن يوجهها لخدمة الغرض الديني الذي وُضع من أجله الكتاب، ويتضح لنا ذلك من خلال مناقشة ماجد الغرباوي لفلسفة الخلق بين نظريتين حيث يقول الغرباوي: ” إن الفهم التراثي للقرآن، والجمود على ظواهر الآيات، بات عبئا على الوعي العقلاني، وتسبب في كوارث دموية نسبت للدين؛ مثاله تمسك الحركات الإسلامية المتطرفة بآيات القتال، رغم عدم فعلية موضوعاتها، وانصرافها لقضايا خارجية محددة، فاهلكوا الحرث والنسل (46).
ثم يستطرد “الغرباوي” فيقول: ” وقديما استغل مفهوم الجبر من قبل الحكومات الاستبدادية القديمة التي تري في الملوك آلهة أو ظلا لها أو خيارها. ثم استغل الحكم الأموي ومن جاء من بعده، الجبر لتبرير سلوك الخليفة، والارتفاع به فوق النقد والمحاسبة، في الدنيا والآخرة، بعد أن أصل له المتكلمون، وغدا من مؤسسات العقل التراثي لطيف واسع من المسلمين، فالتراث المثقل بالتبعية والاستبداد ليس أقل خطرا حينما يعطل العقل، ويشل إرادة الفرد والمجتمع، ويكرس التخلف باسم الدين وآيات الكتاب (47).
والسؤال الان هو: هل نجح المؤلف ” ماجد الغرباوي” في تحقيق هذا الهدف الذي نذر كتابه له؟
في اعتقادي أن المؤلف تمكن – إلى حد كبير – من تحقيق هذا الهدف، إذ يلحظ القارئ – المنصف- أن المؤلف ظل يطرح الأسئلة الكبرى، ثم يقدم الإجابة عنها بطريقة المحاججة العقلية البعيدة عن التعسف والاتهام، كما ظل يتكئ على أكثر من شاهد وأكثر من دليل حتى يجلو الفكرة ويؤكدها، دون الاعتماد على الشوارد من الشواهد أو المفرد من الأدلة، وخير مثال أنه حين سئُل الغرباوي: هل تعد الحضارة الإسلامية الآن نداً للحضارة الغربية، ولو في بعض جوانبها ولماذا، فأجاب الغرباوي قائلا: ” الندية تحتاج إلى تكافؤ بين الطرفين، أو يكون الفارق الحضاري من الضآلة ما يسمح بالتناد بينهما فهل تعتقد أن واقع المسلمين الآن يصلح أن يكون ندا للحضارة الغربية؟ .. لا أحد يرى ذلك حتى المسلمين أنفسهم فمنذ الصدمة الحضارية وما زلنا عيالا على الحضارة الغربية في كل شيء، ونحن بدون الغرب كما يقول أدونيس صحراء وجمل. وعندما أقول لا ندية بينهما أعي جيدا ما أقول. نحن نحتاجهم في كل شيء ونفتقر لمنجزاتهم حتى النظريات في مجال العلوم الإنسانية، بل وحياتنا الآن تتوقف على تلك المنجزات خاصة العلمية منها، والغرب راهنا يستعمر الدول الإسلامية إلا القليل من خلال حاجتها وافتقارها له. ولو قطع الغرب إمداداته العلمية لتوقفت الحياة في كثير من الدول الإسلامية. الغرب هو المركز ونحن الهامش والأطراف ندور من حوله، وهذا ليس انسحاقا أو شعورا بالدونية. إنما هو واقع نعيشه كل يوم، فنحن لم نحقق نهضتنا ولم نتقدم ما فيه الكفاية بحيث نتخلص من تبعيتنا للحضارة الغربية، ونكون ندا لها. تصور حتى في المجال الأدبي نحن نقلدهم في تطورهم على مستوي الأداء والنظريات النقدية. غاية الأمر أن بعضا يحاول أن يجد جذورا إسلامية لها، كما بالنسبة لقصيدة النثر، وهي احدى عُقدنا لا نعترف بالخطأ ونجيد التبرير والبكاء على الأطلال. إذن نحن مدعوون لاستكمال نهضتنا وتقديم نموذجنا أولا ثم نطرح أنفسنا للتناد مع الحضارات الأخرى (48).
كذلك يحسب للمؤلف قوله: “.. وما لم تختف مظاهر التخلف، بمعالجات جذرية حقيقية، لا يكتب النجاح لنهضتنا المرتقبة، ويعني أننا وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح وكلما اختفت ظاهرة كلما سجل المجتمع تطوراً ملحوظاً. وهذا يتطلب تحولا ثقافياً ومعرفياً، وعليه يجب البدء من الثقافة من أجل وعي جديد للحياة، وعلاقتنا بالماضي والحاضر والمستقبل. ويجب التحرر من كل السلطات التي تعيق حركة الفرد والمجتمع.. الفرد عندنا مشدود للوراء، يلتفت إلى الخلف حتى وهو يمشي إلى الأمام، بينما شروط الحياة تغيرت، ولكل عصر حاجاته ومتطلباته (49).
كما نجد ” الغرباوي” يجمل آراءه باختصار شديد وهدوء لافت، مدافعاً عن منهجه، مبرزاً حقه في الجدل والنقاش ليس بغرض التجريح الشخصي، بل بحثاً عن الحقيقة العلمية، وفي إشارة من إشاراته الدالة النادرة يكبر المؤلف في صاحب المشروع اعتداده برأيه والجهر فيه بلا مواراة أو تمويه، مؤشراً إلى ضرورة أن علماءنا المعاصرين عن بنية معرفية تبني ولا تهدم، ومن ذلك قوله: ” نحن بحاجة ماسة لمراجعة ثوابتنا ومقولاتنا وتراثنا وفكرنا وثقافتنا، بحثاً عن مصادر قوتها وتشخيص نقاط ضعفها، ومطالبون بتجديد رؤيتنا للحياة والآخرة، وعلاقة الإنسان بما حوله، والعودة إلى مصادر وعينا وتفكيرنا، في ضوء الواقع، وتحكيم العقل في قراءة التراث ومصادره (50).
ويسرني في نهاية هذه القراءة أن أبارك للأستاذ “ماجد الغرباوي” صدور هذا الكتاب الرائع عن “تحرير العقل الديني”، وهذا يدل على أنه مثقف تنويري، ومفكر مضيء، ونجم فكري، وثقافي نقدي لامع، يتجدد كل يوم في فضاءات العلم، والثقافة، والسياسة، والمعرفة، ويقف ضمن طليعة المفكرين والمثقفين العرب المستنيرين، والنقديين المشتغلين على نقد الفكر الديني، والحركات الإسلامية، ومسائل النهضة، والإصلاح، والتجديد، والمعاصرة، والتنوير، والعنف، والتسامح بين الأديان والعقائد والمذاهب.
كما كشف لنا هذا الكتاب كيف أعاد “ماجد الغرباوي” كتابة العلوم الدينية في صيغة عصرية، وكيف أعاد أيضا تأويل موقف الشريعة من قضايا تطور العقائد، القلق المصيري، فلسفة الخلق، سؤال الوجود، المعرفة البشرية، منطق الخطيئة، فلسفة الخلق بين نظريتين، التأويل الموضوعي، سياقات التأويل، محددات القراءة، التداخل بين الأسطوري والديني، تشابه السرد، العناصر المشتركة، المعرفة الدينية، النهوض الحضاري، مواضيع غيرها متعددة؛ علاوة على أنه صاحب رأي معلن بجرأة ووضوح في قضايا الدولة والمجتمع المدني وحرية الرأي والديمقراطية ومواجهة الفساد والتطرف، خاصة في كتابيه الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، وجدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق. ويؤسس فلسفيا للتعايش بين الأديان والثقافات.
علاوة على أن كتاب “تحرير العقل الديني” يمثل مشروعًا جديدًا لتجديد الفكر الديني مرتكزًا فيه المؤلف على العقلانية النقدية – البوبرية، حيث يري ضرورة تطوير علوم الدين، وليس إحياء علوم الدين القديمة، نظرًا لتجمدها الذي يحوِّل القرآن من نص ديناميكي يواكب الحياة المتجددة إلى نص إستاتيكي يواكب زمنًا مضي وانتهى، ويُؤسس الغرباوي لتفسير جديد ينتقل من الوعظ والإدهاش والتخويف إلى تفسير من أجل التعقل والتفكير؛ حيث وجدناه يدعو إلى تكوين خطاب ديني جديد في كتابه ” إشكاليات التجديد “، وافتتح مشروعه بالتأكيد على أن الإسلام الذي نعيشه اليوم خارج التاريخ ومنفصل عن واقع حركة التقدم، ومن ثم بات من الضروري العودة إلى “الإسلام المنسي”، ولذلك رأى الغرباوي تكوين خطاب ديني جديد وليس تجديد الخطاب الديني القديم، بإقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة ولغة جديدة ومفردات جديدة وتهجينها بلغة ومفردات العلوم الاجتماعية والإنسانية وفق متغيرات العصر وطبيعة التحديات التي تواجه الأمة، ونشر ممارسة مفاهيم التنوع والتعددية وقبول الآخر.
وفي النهاية لا أملك إلا أن أقول بأن كتاب ” تحرير العقل الديني”، كشف لي بأنني إزاء نموذج نادر يصعب أن يتكرر، لمثقف واسع الثقافة، وكذلك لمفكر حر نزيه لا يقيم وزناً ولا يحسب حساباً إلا للحقيقة العلمية وحدها، وفوق ذلك وأهم من ذلك بالنسبة لنا، أنه كان يقدم مادته العلمية فى أسلوب بالغ الجاذبية والتشويق تجعلها أشبه ما تكون بالعمل الفني الممتع دون أن تفقد مع ذلك شيئا من دقتها الأكاديمية، ولهذا لم أكن مبالغاً حين قلت عنه في أحد مقالاتي بأن ماجد الغرباوي نموذج كبير لـ “لمجد العقل الديني ” (51)
فتحية خالصة لماجد الغرباوي لابن أرض الرافدين، وحفيد هارون الرشيد، الذي كان وما يزال رمزاً من رموز المعرفة الموسوعية الفريدة، وواحداً من أصحاب الرؤية الفكرية والثقافية الشاملة.. بارك الله فى ماجد الغرباوي، وأفاد تلاميذه وقراءه بعلمه ووطنيته، بفكره وموضوعيته، بنقائه وطبيعته.
الأستاذ الدكتور / محمود محمد على
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.
الهوامش
1- سعدي الهادي: الفكر الديني بين إشكالياته المعرفية ومشكلاته الواقعية، مجلة التربية والابستيمولوجيا، المدرسة العليا للأساتذة بوزريعة – مخبر التربية والابستيمولوجي، العدد الثالث، 2012، ص 80.
2- عمرو عبد الكريم: معركة الوعي: سؤال التجديد، الوعي الإسلامي، وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية، س52 ,ع600، 2015، ص 84.
3- صلاح سالم: الوعي العربي بين الإصلاح الديني والتنوير العقلي، شؤون عربية، جامعة الدول العربية، العدد 164، 2015، ص 170.
4- نفس المرجع، ص 171.
5-أنظر ماجد الغرباوي: تحرير العقل الديني (متاهات الحقيقة 5)، دار أمل الجديدة، دمشق، سوريا، ط1، 2012.
6- أنظر على محمد اليوسف: منهج النص في سؤال الحقيقة.. قراءة في فكر ماجد الغرباوي، صحيفة المثقف العدد: 4466 المصادف: 2018-11-16.
7- شاكر فريد حسن: ماجد الغرباوي المثقف التنويري والمفكر المضيء، العدد: 5652 – 2017 / 9 / 27 – 11:54.
8- ماجد الغرباوي: المصدر السابق، ص 6.
9- نفس المصدر، ص 9.
10- نفس المصدر، ص 9.
11- نفس المصدر، ص 9-10.
12- نفس المصدر، ص 10.
13- نفس المصدر، ص 11.
14- نفس المصدر، ص 15.
15- نفس المصدر، ص 17.
16- نفس المصدر، ص 17.
17- نفس المصدر، ص 18.
18- نفس المصدر، ص 20.
19- نفس المصدر، ص 22
20- نفس المصدر، ص 22.
21- نفس المصدر، ص 23
22- نفس المصدر، ص 23
23- نفس المصدر، ص 27
24- نفس المصدر، ص32
25- نفس المصدر، ص 33
26- نفس المصدر، ص 35
27- نفس المصدر، ص 63
28- نفس المصدر، ص66-72.
29- نفس المصدر، ص 64-65.
30- نفس المصدر، ص 80.
31- نفس المصدر، ص 86
32- نفس المصدر، ص84-85
33- نفس المصدر، ص 88.
34- نفس المصدر، ص 93
35- نفس المصدر، ص 106
36- نفس المصدر، ص 106
37- نفس المصدر، ص 140
38- نفس المصدر، ص 170-171
39- نفس المصدر، ص 176
40- نفس المصدر، ص 251
41- نفس المصدر، ص 219
42- نفس المصدر، ص 402
43- نفس المصدر، ص 402
44- نفس المصدر، ص 81.
45- نفس المصدر، ص 42
46- نفس المصدر، ص 101
47- نفس المصدر، ص 101
48- نفس المصدر، ص 367
49- نفس المصدر، ص 403
50- نفس المصدر، ص 402
51- محمود محمد علي: تجديد العقل الديني في مشروع ماجد الغرباوي، صحيفة المثقف، العدد: 4608، المصادف 18-04-2019.
تجديد العقل الديني في مشروع ماجد الغرباوي
المثقف، صحيفة ثقافية – سياسية، تصدر عن مؤسسة المثقف
www.almothaqaf.com