عندما قال القدماء أن المستحيلات (الغول والعنقاء والخل الوفي)، فهل صاغوا بذلك حقيقة ثابتة من حقائق الحياة؟، لا شك في أن لقولهم ظل من الحقيقة، فالصداقة الحقة تدخل في دائرة الندرة على أقل تقدير، إذا جاوزت دائرة المستحيلات كما نصت عبارتهم الأثيرة، وزاد من صدق تلك الرؤية ما اكتنف زماننا من أثرة وحب للنفس، والشح بعطائها، قال تعالى: (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً)، في هذا الزمن الموغل في المادية، وجفاء القلوب، والتكالب حول المصالح أو حتى أشباه المنافع، نكاد لا نجد مكانا للصداقة بمثالها الكريم، وكما تهوي القلوب وتريد، ويذكرني هذا بفلسفة الحكيم عندما سأله رجل: (كم عدد أصدقائك؟)، فأجاب: (لا أدري الآن لأن الدنيا مقبلة علي والناس كلهم أصدقائي، وإنما أعرف ذلك إذا أدبرت عني، فخير الأصدقاء من أقبل إذا أدبر الزمان)، وكأنه يقول قول الشاعر عندما قال لصديقه المأمول: (إن لم تكن لي والزمان شر مبرم / فلا خير فيك والزمان تراءى لي)، والشاعر الآخر يقول: (جزي الله الشدائد خيرًا / عرفت بها عدوي من صديقي)، وأخشى ما أخشاه أنه لا يبقي لهذا الشاعر من أصدقاء بعد بلواه، فالناس اليوم خلان المال، فهذا شاعر يعبر عن محنته النفسية قائلًا في أبياته الشعرية: (أرى الخلان لما قل مالي / وأجحفت النوائب ودعوني / لما أن أغنيت وعاد مالي / أراهم - لا أبالك – راجعونى / كأن القوم خلان لمالي / وإخوان لما خولت دوني).
وعلي نفس النسق تحضرني حكاية رمزية تصور واقع الصداقة في عصرنا، فقد سأل صديق صديقه :إذا كان لديك ستة قصور، هل تعطيني قصرا منها؟، فأجاب: بالطبع، فقال له: وإذا كان لديك ست سيارات، هل تعطيني سيارة منها؟، فأجاب بثقة: أكيد. فسأله: يالك من صديق حقيقي، وإذا كان لديك ستة قمصان، هل تعطينى قميصا منها؟، قال: لا، فأستنكر صاحبه: وكيف تقول لا؟ لماذا؟، فأجاب: لأن لدى فعلا ستة قمصان !
ولعل للأمر ناحية نفسية من حب النفس وتفضيلها علي الغير، فالناس يحبون أنفسهم أكثر من أي أمر آخر (إلا من رحم ربي)، فقد أجرت جامعة نيويورك دراسة مفصلة عن المحادثات التليفونية فوجدت أن كلمة "أنا" هي أكثر الكلمات استخداما وقد ترددت 3900 مرة في 500 مكالمة !.
لست متشائمًا واعلم أن هناك صداقات حقيقية، ما كانت في إطار صفاء نفس، ترسمها قيم النبل والكرامة، لكن لا شك أنها قليلة، ويرصد أحد الأدباء محنة زماننا في ندرة الصداقة الحقة: (الصداقة والأصدقاء إنما هي نوع من الزخارف، وآلات الاحتيال والنفاق، فذهبت الدهاة بالهداة، ومات أهل الرأفة بكثرة القساة).
وبعد فكيف يمكن لنا إذن تجاوز تلك المشكلة حول ندرة الصداقات مع حاجتنا الشديدة إليها؟!، الرأي عندي يكون بإتساع مفهوم الصداقة ليشمل الأشياء والمعاني والكتب والناس (كما أرجو في قاموس الصداقة الذي دونت صفحات منه)، ثم نفهم الصداقة فهمًا صحيحًا وهي العطاء للصديق قبل انتظار الأخذ منه، مع رعاية أنك إذا بادرت أحدهم بلفتة طيبة، فتعالي علي مجاوبتك، واشتعل قلبه حقدًا عليك، فأقم عليه مأتمًا وعويلًا، واتركه لعاصفة أحقاده فهي تأكله.
ونعود للمثال الرومانسي النمير فقد سمع (ابن عطاء) رجلا يقول: (أنا في طلب صديق منذ ثلاثين سنه فلا أجده)، فقال له: (لعلك في طلب صديق تأخذ منه شيئا ولو طلبت صديقا تعطيه شيئا لوجدت)، فهل ياترى نجد الصديق طبقا لهذا الفهم؟ ... ربما.
خالد جودة أحمد
وعلي نفس النسق تحضرني حكاية رمزية تصور واقع الصداقة في عصرنا، فقد سأل صديق صديقه :إذا كان لديك ستة قصور، هل تعطيني قصرا منها؟، فأجاب: بالطبع، فقال له: وإذا كان لديك ست سيارات، هل تعطيني سيارة منها؟، فأجاب بثقة: أكيد. فسأله: يالك من صديق حقيقي، وإذا كان لديك ستة قمصان، هل تعطينى قميصا منها؟، قال: لا، فأستنكر صاحبه: وكيف تقول لا؟ لماذا؟، فأجاب: لأن لدى فعلا ستة قمصان !
ولعل للأمر ناحية نفسية من حب النفس وتفضيلها علي الغير، فالناس يحبون أنفسهم أكثر من أي أمر آخر (إلا من رحم ربي)، فقد أجرت جامعة نيويورك دراسة مفصلة عن المحادثات التليفونية فوجدت أن كلمة "أنا" هي أكثر الكلمات استخداما وقد ترددت 3900 مرة في 500 مكالمة !.
لست متشائمًا واعلم أن هناك صداقات حقيقية، ما كانت في إطار صفاء نفس، ترسمها قيم النبل والكرامة، لكن لا شك أنها قليلة، ويرصد أحد الأدباء محنة زماننا في ندرة الصداقة الحقة: (الصداقة والأصدقاء إنما هي نوع من الزخارف، وآلات الاحتيال والنفاق، فذهبت الدهاة بالهداة، ومات أهل الرأفة بكثرة القساة).
وبعد فكيف يمكن لنا إذن تجاوز تلك المشكلة حول ندرة الصداقات مع حاجتنا الشديدة إليها؟!، الرأي عندي يكون بإتساع مفهوم الصداقة ليشمل الأشياء والمعاني والكتب والناس (كما أرجو في قاموس الصداقة الذي دونت صفحات منه)، ثم نفهم الصداقة فهمًا صحيحًا وهي العطاء للصديق قبل انتظار الأخذ منه، مع رعاية أنك إذا بادرت أحدهم بلفتة طيبة، فتعالي علي مجاوبتك، واشتعل قلبه حقدًا عليك، فأقم عليه مأتمًا وعويلًا، واتركه لعاصفة أحقاده فهي تأكله.
ونعود للمثال الرومانسي النمير فقد سمع (ابن عطاء) رجلا يقول: (أنا في طلب صديق منذ ثلاثين سنه فلا أجده)، فقال له: (لعلك في طلب صديق تأخذ منه شيئا ولو طلبت صديقا تعطيه شيئا لوجدت)، فهل ياترى نجد الصديق طبقا لهذا الفهم؟ ... ربما.
خالد جودة أحمد