أسوأ شيء أن تكون بلوريتارياً بعقلية برجوازية. وذلك لأنك ستعيش حالة تنازع مستمر بين رغباتك العقلية وواقعك الاجتماعي. وهنا ستبدو لك العزلة هي أفضل ما يمكنك فعله لتجنب الإنجراف نحو المفاهيم المنحطة، وتفضيل البقاء في برجك العالي مع نفسك. ستكون جملة "البعد عن الناس غنيمة" خارجة عن كونها قضية (من وجهة منطقية)، بل عن كونها جملة إنشائية أم خبرية.
يسمي البعض ذلك بالعزلة، وهي تسمية محل نظر، إذ لا عزلة حتى في السجن الإنفرادي. لكنها قد تسمى بالتجنب.
العلاقات في مجتمع اللافردانية:
في السجن، يرفع السجناء أبصارهم عندما ينهض أحدهم من رقدته، ويراقبونه عن كثب، رغم أنهم جميعا يعلمون بأنه لن يفعل شيئاً ما. والسبب في مراقبتهم لبعضهم هو مجتمعهم الضيق غير المنشغل سوى بالفراغ المضموني الذي يلفهم ويتخللهم. وهكذا يكون حال المجتمعات البدائية في الدول الفقيرة، إذ أنهم غالباً ما يراقبون بعضهم عن كثب، حتى أنني لاحظت أن السودانيين يراقبون بعضهم في أكل الطعام، ويربطون ذلك بقيم ما تمنحهم شرعية هذه الخصلة الذميمة مثل(السمح مو أكال)، رغم أن مراقبة أكل الآخرين ثقافة نادرة عند الشعوب المتمدنة. كما أنهم يراقبون الملامح والأشكال وألوان البشرة بشكل دقيق جداً، ليخلقوا تمايزات من ضمن الضباب الذي يحيط بتدرجات الألوان وتباينات السحنات، وهذه أيضاً خصلة ذميمة، أفضت إلى نزاعات عنصرية تاريخية. والحسد هو أيضاً أحد مشكلات تلك "المجتمعات الرقابية"، لذلك يمكننا تلخيص تلك الصفات السلوكية، كأحد نتائج الفقر والبدائية وضعف النزعة الفردانية. على العكس من ذلك تماماً؛ شاهدت فيلماً وثائقياً عن لاتفيا، ومشكلة التباعد الإجتماعي الطبيعي (قبل كورونا)، حيث لا يميل الشعب اللاتفي إلى التقارب الجماعي، بقدر ما ينحو إلى التجنب بقدر المستطاع.
ربما أكثر من يعاني من تلك المجتمعات الرقابية هن النساء رغم أنهن (في نفس الوقت) يمارسن بدورهن تلك الرقابة بالتصاق سخيف. تتعرض الفتيات تحديداً لمراقبة شاملة داخل وخارج المنزل، فتختار الفتاة لعب أحد دورين، إما التزام مرهق بالضوابط العرفية، أو التحرر منها، إنها تفتقر -على نحو عام- إلى القدرة على موازنة احتياجاتها مع الاشتراطات العامة. هكذا يكون المخرج من هذا المأزق دائماً هو الزواج (إما المؤقت) من أجل تجسير الفجوة بين الانضباط ثم الحرية، أو (الدائم) من أجل الخضوع لأبوية جديدة.
وفي خضم ذلك، تكون الأعمار بين الخامسة عشر وحتى الثانية والعشرين هي أعمار التمرد لدى المراهقين. ولذلك فهم يظهرون كمجتمع خاص منفصل عن المجتمع القديم بلغتهم الخاصة وقصات شعرهم الغريبة، وحركات أجسادهم السريعة، وردود أفعالهم الحائرة.
تفترض الفردانية (كمذهب) لا سلطوي (سلطة المجتمع والحكومة والدين)، أن الفرد قادر بذاته على إنتاج معناه وقيمته وابداعاته، وستدعم الفردية الحريات العامة. أتذكر جدلاً قرأته بين الليبراليين قبل قرابة خمسة عشر عاماً، وخاصة بين الليبراليين الكلاسيكيين والإجتماعيين. يرى الأخيرون أن رعاية المجتمع هي في الواقع رفاهية للفرد، ويرى الأوَل أن رعاية الفرد هي في الحقيقة رفاهية للمجتمع. وقد كتبت عن ذلك في حينه، إذ أننا عندما ننظر للجماعة، فنحن في الواقع ننظر لبؤرة ثقافية، في حين تتبدد تلك البؤرة عندما ننظر إلى الفرد كأولى بالرعاية من المجتمع. أهمية ذلك، تكمن في الدور الذي سنمنحه للحكومة، فيبدو أن الرعاية الإجتماعية (كأحد ادوار الأنظمة الاشتراكية) تعني - في الحقيقة- منح الحكومة سلاحاً للتدخل في خيارات الأفراد الأخلاقية. خلافاً لما لو كان النظر مركزاً على أولوية رعاية حقوق الفرد. هذا ما تجاهله الليبراليون الإجتماعيون وهم يعودون بنا إلى الفرد بعد انطلاقهم من الجماعة. غير أن المسألة ليست بهذه البساطة، إذ أن الفردانية كمذهب، تبدو متوحشة جداً عندما تتجاهل القوة الجماعية التي تتوزع على أفراد تلك الجماعة مثل التكافل الاقتصادي، ومثل التعاضد القبلي والعرقي والفئوي والآيدولوجي. هذه قوة لا يستهان بها لحماية حقوق الضعفاء وحقوق الفرد بشكل عام. وهكذا فنحن لا نستطيع أن نطلق حكماً نهائياً على هذا التوجه أو ذاك. لا شيء يبدو محسوماً في هذه الحياة.
هكذا تبد الفردانية مذهباً فردياً في الواقع، أي خياراً خاصا بكل فرد. وعليه تتأسس رؤيتنا نحو العزلة (التجنب)، والاندماج integration.
الصفات الحديثة للفرد:
ليس إنسان اليوم هو إنسان البارحة. هناك مفاهيم أضحت أكثر رسوخاً، مثل المصلحة الفردية، الكسب والخسارة، نقد ونقض المثالية، غلبة المادي على المعنوي..الخ. هذه المفاهيم ذات بعد رأسمالي اشار له فولتير (١٦٩٤-١٧٧٨)، وذكرت إشارته اللماحة تلك فيما يتعلق بالتجار الخمسة مختلفي الدين (كمسيحي، مسلم، يهودي، بوذي، هندوسي) حيث لا يقول أحدهم للآخر: يا كافر. فالكافر الوحيد بينهم هو التاجر المفلس. هذه خلاصة (تلخيص) فولتير لحركة التاريخ منذ نهاية الحرب الباردة في أواخر الثمانينات من القرن الماضي. جل الاختلاف بين حديث فولتير وواقعنا اليوم، هو أن فولتير نظر إلى جماعة التجار واستنبط منها قانوناً، أما اليوم فإن هذا القانون استغرق كل المجتمعات والجماعات بحيث أصبح قانوناً عاماً، مما يمكننا من أن نصف المجتمعات اليوم بأنها مجتمعات تجارية.
إن كل شيء معروض للبيع: صوتك الجميل، نفوذك الإداري، علمك ومعرفتك، قدراتك ومهاراتك الجسدية والذهنية بشكل عام. رشاقتك وخفة دمك، إن تطبيق تك توك، واليوتيوب على سبيل المثال لا الحصر، يمنحانك مالاً طائلاً مقابل عرضك لتلك المهارات. إن الخدمة المجانية (لوجه الله) تنزح مبتعدة عن روح الجماعة والنزعات الإنسانية المحضة. ربما كنت أحد الاشخاص النادرين الذين يقدمون اليوم خدمات مجانية بدافع إنساني، ونحن كقلة نتمرد على تلك النزعة التجارية، التي أسماها بعض المثقفين بثقافة الاستهلاك الأمريكية لتختفي وراء كلمة (استهلاك) حقيقة كونها (تربحاً) من كل شيء. إذ يستخدم مصطلح ثقافة الاستهلاك ذات المفهوم الاقتصادي المتعلق بتشجيع الانفاق وتقليل الإدخار، لإخفاء حقيقة تحول المنظومات الإجتماعية ذاتها إلى منظومات ربحية وبالتالي خلخلة الروابط المعنوية بين مكونات تلك المنظومات، وهكذا يحدث تفككها رويداً رويداً، لتُفرض حالة التباعد الاجتماعي (بدون حاجة لكورونا). تتأسس العلاقات على روابط هامشية واهنة (مجتمع السوق الواسع)، وهكذا تتمكن المؤسسات الراسمالية الكبرى من نزع الحماية المجتمعية للفرد وزيادة إضعاف قدرته على المقاومة.
لا تمثل محاولات الحكومة السودانية الآن لتغيير القوانين التي تبيح المثلية والتجارة الجنسية لحماية الحرية الفردية، بل لعمل تحول واسع بين مجتمعات الأمس واليوم. أي تعزيز ديناميكية الأمركة كما حدث في دولة كالإمارات واليابان قبلها. وقد يحدث ذات الامر في أفغانستان، وفي دول اخرى كانت مستبعدة من دخولها لسطوة الآيدولوجيا المنتصرة. وبما أن تلك الدعاوى تُربط بحماية الحريات الفردية فإنها تحصل على شرعية أخلاقية تقمع توجيه أي نقد لها حتى لو كان ذلك النقد علمانياً أو حتى فلسفياً محضاً.
(يتبع)
يسمي البعض ذلك بالعزلة، وهي تسمية محل نظر، إذ لا عزلة حتى في السجن الإنفرادي. لكنها قد تسمى بالتجنب.
العلاقات في مجتمع اللافردانية:
في السجن، يرفع السجناء أبصارهم عندما ينهض أحدهم من رقدته، ويراقبونه عن كثب، رغم أنهم جميعا يعلمون بأنه لن يفعل شيئاً ما. والسبب في مراقبتهم لبعضهم هو مجتمعهم الضيق غير المنشغل سوى بالفراغ المضموني الذي يلفهم ويتخللهم. وهكذا يكون حال المجتمعات البدائية في الدول الفقيرة، إذ أنهم غالباً ما يراقبون بعضهم عن كثب، حتى أنني لاحظت أن السودانيين يراقبون بعضهم في أكل الطعام، ويربطون ذلك بقيم ما تمنحهم شرعية هذه الخصلة الذميمة مثل(السمح مو أكال)، رغم أن مراقبة أكل الآخرين ثقافة نادرة عند الشعوب المتمدنة. كما أنهم يراقبون الملامح والأشكال وألوان البشرة بشكل دقيق جداً، ليخلقوا تمايزات من ضمن الضباب الذي يحيط بتدرجات الألوان وتباينات السحنات، وهذه أيضاً خصلة ذميمة، أفضت إلى نزاعات عنصرية تاريخية. والحسد هو أيضاً أحد مشكلات تلك "المجتمعات الرقابية"، لذلك يمكننا تلخيص تلك الصفات السلوكية، كأحد نتائج الفقر والبدائية وضعف النزعة الفردانية. على العكس من ذلك تماماً؛ شاهدت فيلماً وثائقياً عن لاتفيا، ومشكلة التباعد الإجتماعي الطبيعي (قبل كورونا)، حيث لا يميل الشعب اللاتفي إلى التقارب الجماعي، بقدر ما ينحو إلى التجنب بقدر المستطاع.
ربما أكثر من يعاني من تلك المجتمعات الرقابية هن النساء رغم أنهن (في نفس الوقت) يمارسن بدورهن تلك الرقابة بالتصاق سخيف. تتعرض الفتيات تحديداً لمراقبة شاملة داخل وخارج المنزل، فتختار الفتاة لعب أحد دورين، إما التزام مرهق بالضوابط العرفية، أو التحرر منها، إنها تفتقر -على نحو عام- إلى القدرة على موازنة احتياجاتها مع الاشتراطات العامة. هكذا يكون المخرج من هذا المأزق دائماً هو الزواج (إما المؤقت) من أجل تجسير الفجوة بين الانضباط ثم الحرية، أو (الدائم) من أجل الخضوع لأبوية جديدة.
وفي خضم ذلك، تكون الأعمار بين الخامسة عشر وحتى الثانية والعشرين هي أعمار التمرد لدى المراهقين. ولذلك فهم يظهرون كمجتمع خاص منفصل عن المجتمع القديم بلغتهم الخاصة وقصات شعرهم الغريبة، وحركات أجسادهم السريعة، وردود أفعالهم الحائرة.
تفترض الفردانية (كمذهب) لا سلطوي (سلطة المجتمع والحكومة والدين)، أن الفرد قادر بذاته على إنتاج معناه وقيمته وابداعاته، وستدعم الفردية الحريات العامة. أتذكر جدلاً قرأته بين الليبراليين قبل قرابة خمسة عشر عاماً، وخاصة بين الليبراليين الكلاسيكيين والإجتماعيين. يرى الأخيرون أن رعاية المجتمع هي في الواقع رفاهية للفرد، ويرى الأوَل أن رعاية الفرد هي في الحقيقة رفاهية للمجتمع. وقد كتبت عن ذلك في حينه، إذ أننا عندما ننظر للجماعة، فنحن في الواقع ننظر لبؤرة ثقافية، في حين تتبدد تلك البؤرة عندما ننظر إلى الفرد كأولى بالرعاية من المجتمع. أهمية ذلك، تكمن في الدور الذي سنمنحه للحكومة، فيبدو أن الرعاية الإجتماعية (كأحد ادوار الأنظمة الاشتراكية) تعني - في الحقيقة- منح الحكومة سلاحاً للتدخل في خيارات الأفراد الأخلاقية. خلافاً لما لو كان النظر مركزاً على أولوية رعاية حقوق الفرد. هذا ما تجاهله الليبراليون الإجتماعيون وهم يعودون بنا إلى الفرد بعد انطلاقهم من الجماعة. غير أن المسألة ليست بهذه البساطة، إذ أن الفردانية كمذهب، تبدو متوحشة جداً عندما تتجاهل القوة الجماعية التي تتوزع على أفراد تلك الجماعة مثل التكافل الاقتصادي، ومثل التعاضد القبلي والعرقي والفئوي والآيدولوجي. هذه قوة لا يستهان بها لحماية حقوق الضعفاء وحقوق الفرد بشكل عام. وهكذا فنحن لا نستطيع أن نطلق حكماً نهائياً على هذا التوجه أو ذاك. لا شيء يبدو محسوماً في هذه الحياة.
هكذا تبد الفردانية مذهباً فردياً في الواقع، أي خياراً خاصا بكل فرد. وعليه تتأسس رؤيتنا نحو العزلة (التجنب)، والاندماج integration.
الصفات الحديثة للفرد:
ليس إنسان اليوم هو إنسان البارحة. هناك مفاهيم أضحت أكثر رسوخاً، مثل المصلحة الفردية، الكسب والخسارة، نقد ونقض المثالية، غلبة المادي على المعنوي..الخ. هذه المفاهيم ذات بعد رأسمالي اشار له فولتير (١٦٩٤-١٧٧٨)، وذكرت إشارته اللماحة تلك فيما يتعلق بالتجار الخمسة مختلفي الدين (كمسيحي، مسلم، يهودي، بوذي، هندوسي) حيث لا يقول أحدهم للآخر: يا كافر. فالكافر الوحيد بينهم هو التاجر المفلس. هذه خلاصة (تلخيص) فولتير لحركة التاريخ منذ نهاية الحرب الباردة في أواخر الثمانينات من القرن الماضي. جل الاختلاف بين حديث فولتير وواقعنا اليوم، هو أن فولتير نظر إلى جماعة التجار واستنبط منها قانوناً، أما اليوم فإن هذا القانون استغرق كل المجتمعات والجماعات بحيث أصبح قانوناً عاماً، مما يمكننا من أن نصف المجتمعات اليوم بأنها مجتمعات تجارية.
إن كل شيء معروض للبيع: صوتك الجميل، نفوذك الإداري، علمك ومعرفتك، قدراتك ومهاراتك الجسدية والذهنية بشكل عام. رشاقتك وخفة دمك، إن تطبيق تك توك، واليوتيوب على سبيل المثال لا الحصر، يمنحانك مالاً طائلاً مقابل عرضك لتلك المهارات. إن الخدمة المجانية (لوجه الله) تنزح مبتعدة عن روح الجماعة والنزعات الإنسانية المحضة. ربما كنت أحد الاشخاص النادرين الذين يقدمون اليوم خدمات مجانية بدافع إنساني، ونحن كقلة نتمرد على تلك النزعة التجارية، التي أسماها بعض المثقفين بثقافة الاستهلاك الأمريكية لتختفي وراء كلمة (استهلاك) حقيقة كونها (تربحاً) من كل شيء. إذ يستخدم مصطلح ثقافة الاستهلاك ذات المفهوم الاقتصادي المتعلق بتشجيع الانفاق وتقليل الإدخار، لإخفاء حقيقة تحول المنظومات الإجتماعية ذاتها إلى منظومات ربحية وبالتالي خلخلة الروابط المعنوية بين مكونات تلك المنظومات، وهكذا يحدث تفككها رويداً رويداً، لتُفرض حالة التباعد الاجتماعي (بدون حاجة لكورونا). تتأسس العلاقات على روابط هامشية واهنة (مجتمع السوق الواسع)، وهكذا تتمكن المؤسسات الراسمالية الكبرى من نزع الحماية المجتمعية للفرد وزيادة إضعاف قدرته على المقاومة.
لا تمثل محاولات الحكومة السودانية الآن لتغيير القوانين التي تبيح المثلية والتجارة الجنسية لحماية الحرية الفردية، بل لعمل تحول واسع بين مجتمعات الأمس واليوم. أي تعزيز ديناميكية الأمركة كما حدث في دولة كالإمارات واليابان قبلها. وقد يحدث ذات الامر في أفغانستان، وفي دول اخرى كانت مستبعدة من دخولها لسطوة الآيدولوجيا المنتصرة. وبما أن تلك الدعاوى تُربط بحماية الحريات الفردية فإنها تحصل على شرعية أخلاقية تقمع توجيه أي نقد لها حتى لو كان ذلك النقد علمانياً أو حتى فلسفياً محضاً.
(يتبع)