"خلسة في كوبنهاجن" ( ٢٠١٤ ) هي الرواية الثانية للفلسطينية سامية عيسى ، وتعد الجزء الثاني لروايتها " حليب التين " ، بل وتدخل معها في علاقة تناص ، فلا يمكن قراءتها دون قراءة الجزء الأول ، إذ تواصل الكاتبة متابعة حياة عائلة فلسطينية من مخيم " أوزو " للاجئين الفلسطينيين منذ ٧٠ القرن ٢٠ ، هذا إذا غضضنا الطرف عن أصول العائلة قبل الهجرة في ١٩٤٨ ، وتتبع مسار حياتها في الكون الشاسع ، فتذهب بنا إلى الدانمارك حيث استقرت العائلة أخيرا هناك واجتمع شملها بعد شتات .
ترصد الكاتبة حياة الأسرة وتثير العديد من الأسئلة ومنها سؤال الهوية فيما يخص الفلسطيني ، وتعرج على يهود الدانمارك الذين يحملون الجنسية التي حصل عليها الفلسطينيون وآخرون .
في الدانمارك يلتقي الفلسطينيون واليهود ويتعايشون بصفتهم دانمركيين دون أن ينسوا انتماءاتهم السابقة ، والطريف في الأمر أن يتبنى يهودي فلسطينيا فقد ذاكرته في حادث . هكذا يغدو الفلسطيني يهوديا يزور إسرائيل (؟) ويعمل في مؤسساتها العلمية ، ثم يلتقي من جديد في الدانمارك بعائلته الفلسطينية من خلال أحد اليهود .
صار اليهود للفلسطينيين الجرح والبلسم معا ، تماما مثل سم الأفعى ، وتماما كما ردوا شمل بعض العائلات الفلسطينية بعد النكبة والهزيمة ، فأصدروا ، في فترة ، هويات إسرائيلية لفلسطينيي الضفة ممن تزوج من فتاة تحمل الهوية الإسرائيلية ، وتماما أيضا كما يعالجوننا في مشافيهم ويسهلون لنا زيارة مدننا المحتلة في ١٩٤٨ ، وكما يسمحون لعشرات آلاف العمال من الضفة الغربية بالعمل في المصانع الإسرائيلية برواتب سخية يفتحر بها وبصاحب العمل العمال ، ولا أعرف إن كانت سامية عيسى تريد القول إن مستقبل الحياة في فلسطين لن يختلف عما هو عليه الحال في الدانمارك حيث يتعايش البشر معا في دولة لكل مواطنيها .
وعلى العكس من " حليب التين " التي خلت تقريبا من أي شخصية يهودية ، فإن " خلسة في كوبنهاجن " تحفل بشخصيات يهودية لها ماضيها المؤلم والمحزن بسبب " الهولوكست " .
كلا الطرفين الفلسطيني واليهودي يعاني من ماضيه ويعاني في حاضره ، وإن كانت معاناة الفلسطيني في الحاضر أضعاف أضعاف معاناة اليهودي .
هل سيحل الحصول على الجنسية الدنماركية مشاكل الفلسطينيين ؟
في صفحات قليلة تحت عنوان " أنا ضايع " نقرأ عن ضياع جيل المهاجرين الفلسطينيين إلى الدانمارك ، ممن هاجروا ، من لبنان ،في ٨٠ القرن ٢٠ ، وحصلوا على الجنسية ، ومع ذلك فإنهم ظلوا موزعين على عالمين ؛ الماضي والحاضر ، علما بأن حياتهم في الحاضر أفضل بكثير وألطف وأبحبح من حياتهم في الماضي .
هل صار الفلسطينيون في الدانمارك دانمركيين أم أنهم ظلوا فلسطينيين ؟ وهل يمكن لشجرة التين الفلسطينية التي زرعت في كوبنهاجن أن تثمر ؟
ما من شك في أن لهذا دلالة رمزية واضحة .
تسأل منى إحدى شخصيات الرواية حسام اللاجيء إلى الدانمرك عن معنى الهوية لدى اللاجئين في الشتات ، فيقارن بين حياته في لبنان وحياته في الدانمارك :
" بس هون بالدانمارك . في مركز اللجوء . كنت أنتظر ساعات بالبرد . ذل غير طبيعي . ندمت لأني إجيت لهون . الطريقة الوحيدة اللي خلتني أبقى إنو ولادي صار إلهم اسم هون لما صاروا ياخدو جوائز عالمية بالملاكمة ورفعوا اسم الدانمارك لفوق . صرت أحس إنو لازم يصيروا دانمركيين . مش مهم أنا شو حاسس حالي . المهم صاروا يحسوا حالهم بشر " .
كان حسام في لبنان ينتمي لأحد التنظيمات ، فيحمل البارودة ويحصل آخر الشهر على مخصص ، وفي الدانمارك لم يعطوه بندقية فقد أعطوه جنسية ومخصصا شهريا وصار يتفرج على التلفزيون فقط " كنت بحس بلبنان إني غريب وهون كمان بحس الشيء نفسه مع إنهم ألطف ، وهلق بس أروح أزور لبنان بضلني قاعد بالمخيم . بس بصراحة بشتاق لكوبنهاجن ، وما بصدق إيمتي أرجع ، وبس أرجع بحس أكثر إني غريب وبتضايق . أنا ضايع " .
ماذا سيكون مآل الأطفال الذين سينجبهم اللاجئون الفلسطينيون في الدانمارك ؟ هل سينسون وطنهم فلسطين وسيصبحون دانمركيين تماما ويحلون بذلك مشكلة الهوية والانتماء ويتحررون من عبء الماضي ؟
تكتب سامية عيسى عن اليهود الذين هاجروا إلى الدانمرك في القرن ١٨ ، وحصلوا على جنسيتها دون أن ينسوا أنهم يهود ، بل إنهم انتموا إلى الحركة الصهيونية وعملوا على مساعدة دولة إسرائيل حين اقتضى الأمر المساعدة ، واليهود بسبب رعبهم من ( الهولوكست ) يؤمنون بضرورة وجود وطن قومي لليهود يلجأ إليه يهود الشتات إن تعرضوا للملاحقة والاضطهاد .
هل تفترض سامية عيسى هذا الافتراض أيضا بخصوص الفلسطينيين ؟
أعتقد أن " خلسة في كوبنهاجن " من أهم الروايات الفلسطينية التي كتبت في المنفى في معالجتها موضوع الشتات الفلسطيني . إنها من أوائل الروايات الفلسطينية والعربية التي استخدمت دال ( غيتو ) للكتابة عن التجمعات الفلسطينية في الشتات . حقا إن الشاعر راشد حسين كتب قصيدة عنوانها " الحب والغيتو " ( ١٩٦٦ ) ورأى أن مدينة يافا آلت بعد نكبة ١٩٤٨ إلى غيتو ، إلا أنني لا أعرف كاتبا فلسطينيا وظف هذا الدال في نص روائي إلا إذا كتب عن غيتو اليهود في أوروبا .
طبعا يجب ألا ننسى كتابات سميرة عزام وغسان كنفاني . لقد تابعت سامية ما بدأه الكاتبان المذكوران في تتبع حياة لاجئي لبنان وقسوتها وتطوراتها بعدهما . كما لو أن روايتيها تكملة لأعمالهما في هذا الجانب ، وتحديدا قصة " فلسطيني " لسميرة ورواية " أم سعد " لغسان . طبعا علينا ألا ننسى رواية الكاتب اللبناني إلياس خوري " باب الشمس " ( ١٩٩٨ ) التي عدها الشاعر أحمد دحبور " ملحمة الفلسطينيين في لبنان " كتبها صاحبها نيابة عنا جميعا "( الحياة الجديدة ٢١ / ١٠ / ١٩٩٨ ) .
وأنا أقرأ رواية لاحقة لخوري هي " أولاد الغيتو ، اسمي آدم "( ٢٠١٦ ) ربطت بينها وبين " خلسة في كوبنهاجن " وتساءلت إن كانت " خلسة.. " من قراءاته ، ولما سألته أجابني بأنه بدأ بقراءتها ولم يكملها . إن قاريء الروايتين سبجد تقاطعات بينهما على الرغم من أن الزمن الروائي لكلتيهما مختلف ، خلافا للزمن الكتابي المتقارب .
يمتد الزمن الروائي لرواية " أولاد الغيتو.. " من ١٩٤٨ إلى بدايات القرن ٢١ ، أما الزمن الروائي ل " خلسة.. " يعود إلى ما بعد ١٩٨٧ ، ويكتب الياس عن غيتو اللد ، فيما تكتب سامية عن غيتو للفلسطينيين في ( كوبنهاجن ) ، وإن كتب لاحقا في الجزء الثاني من روايته " اولاد الغيتو ، نجمة البحر "( ٢٠١٨ ) عن غيتو وارسو وتتبع حياة يهود ناجين .
الغيتو وقسوة الحياة فيه حاضر في الروايتين ، وإن انتهى غيتو وارسو وغيتو اللد وابتدأ غيتو الفلسطينيين - تجاوزا - في كوبنهاجن . طبعا مع فارق الحياة في غيتو وارسو وغيتو كوبنهاجن .
لقد غدونا نقرا في الرواية العربية والفلسطينية عن غيتو فلسطيني ، والموضوع يحتاج إلى مساءلة وامعان نظر .
( مقالي الأحد ٥ / ٩ / ٢٠٢١ في جريدة الأيام الفلسطينية متوسعا فيه ، من خلال دمجه بمقال سابق عنوانه " الغيتو الفلسطيني من اللد إلى كوبنهاجن )
٢ أيلول ٢٠٢١
ترصد الكاتبة حياة الأسرة وتثير العديد من الأسئلة ومنها سؤال الهوية فيما يخص الفلسطيني ، وتعرج على يهود الدانمارك الذين يحملون الجنسية التي حصل عليها الفلسطينيون وآخرون .
في الدانمارك يلتقي الفلسطينيون واليهود ويتعايشون بصفتهم دانمركيين دون أن ينسوا انتماءاتهم السابقة ، والطريف في الأمر أن يتبنى يهودي فلسطينيا فقد ذاكرته في حادث . هكذا يغدو الفلسطيني يهوديا يزور إسرائيل (؟) ويعمل في مؤسساتها العلمية ، ثم يلتقي من جديد في الدانمارك بعائلته الفلسطينية من خلال أحد اليهود .
صار اليهود للفلسطينيين الجرح والبلسم معا ، تماما مثل سم الأفعى ، وتماما كما ردوا شمل بعض العائلات الفلسطينية بعد النكبة والهزيمة ، فأصدروا ، في فترة ، هويات إسرائيلية لفلسطينيي الضفة ممن تزوج من فتاة تحمل الهوية الإسرائيلية ، وتماما أيضا كما يعالجوننا في مشافيهم ويسهلون لنا زيارة مدننا المحتلة في ١٩٤٨ ، وكما يسمحون لعشرات آلاف العمال من الضفة الغربية بالعمل في المصانع الإسرائيلية برواتب سخية يفتحر بها وبصاحب العمل العمال ، ولا أعرف إن كانت سامية عيسى تريد القول إن مستقبل الحياة في فلسطين لن يختلف عما هو عليه الحال في الدانمارك حيث يتعايش البشر معا في دولة لكل مواطنيها .
وعلى العكس من " حليب التين " التي خلت تقريبا من أي شخصية يهودية ، فإن " خلسة في كوبنهاجن " تحفل بشخصيات يهودية لها ماضيها المؤلم والمحزن بسبب " الهولوكست " .
كلا الطرفين الفلسطيني واليهودي يعاني من ماضيه ويعاني في حاضره ، وإن كانت معاناة الفلسطيني في الحاضر أضعاف أضعاف معاناة اليهودي .
هل سيحل الحصول على الجنسية الدنماركية مشاكل الفلسطينيين ؟
في صفحات قليلة تحت عنوان " أنا ضايع " نقرأ عن ضياع جيل المهاجرين الفلسطينيين إلى الدانمارك ، ممن هاجروا ، من لبنان ،في ٨٠ القرن ٢٠ ، وحصلوا على الجنسية ، ومع ذلك فإنهم ظلوا موزعين على عالمين ؛ الماضي والحاضر ، علما بأن حياتهم في الحاضر أفضل بكثير وألطف وأبحبح من حياتهم في الماضي .
هل صار الفلسطينيون في الدانمارك دانمركيين أم أنهم ظلوا فلسطينيين ؟ وهل يمكن لشجرة التين الفلسطينية التي زرعت في كوبنهاجن أن تثمر ؟
ما من شك في أن لهذا دلالة رمزية واضحة .
تسأل منى إحدى شخصيات الرواية حسام اللاجيء إلى الدانمرك عن معنى الهوية لدى اللاجئين في الشتات ، فيقارن بين حياته في لبنان وحياته في الدانمارك :
" بس هون بالدانمارك . في مركز اللجوء . كنت أنتظر ساعات بالبرد . ذل غير طبيعي . ندمت لأني إجيت لهون . الطريقة الوحيدة اللي خلتني أبقى إنو ولادي صار إلهم اسم هون لما صاروا ياخدو جوائز عالمية بالملاكمة ورفعوا اسم الدانمارك لفوق . صرت أحس إنو لازم يصيروا دانمركيين . مش مهم أنا شو حاسس حالي . المهم صاروا يحسوا حالهم بشر " .
كان حسام في لبنان ينتمي لأحد التنظيمات ، فيحمل البارودة ويحصل آخر الشهر على مخصص ، وفي الدانمارك لم يعطوه بندقية فقد أعطوه جنسية ومخصصا شهريا وصار يتفرج على التلفزيون فقط " كنت بحس بلبنان إني غريب وهون كمان بحس الشيء نفسه مع إنهم ألطف ، وهلق بس أروح أزور لبنان بضلني قاعد بالمخيم . بس بصراحة بشتاق لكوبنهاجن ، وما بصدق إيمتي أرجع ، وبس أرجع بحس أكثر إني غريب وبتضايق . أنا ضايع " .
ماذا سيكون مآل الأطفال الذين سينجبهم اللاجئون الفلسطينيون في الدانمارك ؟ هل سينسون وطنهم فلسطين وسيصبحون دانمركيين تماما ويحلون بذلك مشكلة الهوية والانتماء ويتحررون من عبء الماضي ؟
تكتب سامية عيسى عن اليهود الذين هاجروا إلى الدانمرك في القرن ١٨ ، وحصلوا على جنسيتها دون أن ينسوا أنهم يهود ، بل إنهم انتموا إلى الحركة الصهيونية وعملوا على مساعدة دولة إسرائيل حين اقتضى الأمر المساعدة ، واليهود بسبب رعبهم من ( الهولوكست ) يؤمنون بضرورة وجود وطن قومي لليهود يلجأ إليه يهود الشتات إن تعرضوا للملاحقة والاضطهاد .
هل تفترض سامية عيسى هذا الافتراض أيضا بخصوص الفلسطينيين ؟
أعتقد أن " خلسة في كوبنهاجن " من أهم الروايات الفلسطينية التي كتبت في المنفى في معالجتها موضوع الشتات الفلسطيني . إنها من أوائل الروايات الفلسطينية والعربية التي استخدمت دال ( غيتو ) للكتابة عن التجمعات الفلسطينية في الشتات . حقا إن الشاعر راشد حسين كتب قصيدة عنوانها " الحب والغيتو " ( ١٩٦٦ ) ورأى أن مدينة يافا آلت بعد نكبة ١٩٤٨ إلى غيتو ، إلا أنني لا أعرف كاتبا فلسطينيا وظف هذا الدال في نص روائي إلا إذا كتب عن غيتو اليهود في أوروبا .
طبعا يجب ألا ننسى كتابات سميرة عزام وغسان كنفاني . لقد تابعت سامية ما بدأه الكاتبان المذكوران في تتبع حياة لاجئي لبنان وقسوتها وتطوراتها بعدهما . كما لو أن روايتيها تكملة لأعمالهما في هذا الجانب ، وتحديدا قصة " فلسطيني " لسميرة ورواية " أم سعد " لغسان . طبعا علينا ألا ننسى رواية الكاتب اللبناني إلياس خوري " باب الشمس " ( ١٩٩٨ ) التي عدها الشاعر أحمد دحبور " ملحمة الفلسطينيين في لبنان " كتبها صاحبها نيابة عنا جميعا "( الحياة الجديدة ٢١ / ١٠ / ١٩٩٨ ) .
وأنا أقرأ رواية لاحقة لخوري هي " أولاد الغيتو ، اسمي آدم "( ٢٠١٦ ) ربطت بينها وبين " خلسة في كوبنهاجن " وتساءلت إن كانت " خلسة.. " من قراءاته ، ولما سألته أجابني بأنه بدأ بقراءتها ولم يكملها . إن قاريء الروايتين سبجد تقاطعات بينهما على الرغم من أن الزمن الروائي لكلتيهما مختلف ، خلافا للزمن الكتابي المتقارب .
يمتد الزمن الروائي لرواية " أولاد الغيتو.. " من ١٩٤٨ إلى بدايات القرن ٢١ ، أما الزمن الروائي ل " خلسة.. " يعود إلى ما بعد ١٩٨٧ ، ويكتب الياس عن غيتو اللد ، فيما تكتب سامية عن غيتو للفلسطينيين في ( كوبنهاجن ) ، وإن كتب لاحقا في الجزء الثاني من روايته " اولاد الغيتو ، نجمة البحر "( ٢٠١٨ ) عن غيتو وارسو وتتبع حياة يهود ناجين .
الغيتو وقسوة الحياة فيه حاضر في الروايتين ، وإن انتهى غيتو وارسو وغيتو اللد وابتدأ غيتو الفلسطينيين - تجاوزا - في كوبنهاجن . طبعا مع فارق الحياة في غيتو وارسو وغيتو كوبنهاجن .
لقد غدونا نقرا في الرواية العربية والفلسطينية عن غيتو فلسطيني ، والموضوع يحتاج إلى مساءلة وامعان نظر .
( مقالي الأحد ٥ / ٩ / ٢٠٢١ في جريدة الأيام الفلسطينية متوسعا فيه ، من خلال دمجه بمقال سابق عنوانه " الغيتو الفلسطيني من اللد إلى كوبنهاجن )
٢ أيلول ٢٠٢١