فى مسرحيته الشعرية يعيد الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور ، صلب الحلاج من جديد ، وهو إذ يستحضر هذا الذى عمد بالدم من أوائل القرن الرابع الهجرى ، فإنما يفعل ذلك ، لا يروى لنا حدثا تاريخياً فاجعاً ، وإنما يعيد إحياء هذا الصوفى البارز الذى أتحف بالكشف واليقين ، وواجه الموت بنفس التردد الذى واجه به الحياة ، ليبث من خلاله همومه ومشاكلة الفكرية المعاصرة ، والتى تكاد أن تكون لدى شاعرنا أمراً يتعلق بمصيره الشخصى ، رغم أنه ألتزم فى رؤيته بالوقائع والأحداث التاريخية كما جرت فى عصر الحلاج . هو إذن يستلهم تراثنا العربى – الإسلامى فى واحدة من أحرج فتراته ، حيث حفلت بتناقضات إجتماعية وفكرية عميقة ، ليبدى من خلاله آراءه ومواقفه فى قضايا معاصرة حافلة بالتعقيد ، وهى قضايا غنية متجددة ، وربما اتسع نطاقها مكانيا و زمانيا ، لأنها تطرح فى جوهرها موقف المثقف من واقعة الإجتماعى ، ومدى وحدود إلتزامه بهذا الواقع .
لقد ولى إذن – أو هكذا بدا – عند شاعرنا زمان نفخ الأراجيل التى تثير السأم ؛ المضيعة بدخانها الكثيف ، وأدبرت المواقف العدمية من زمن الحق الضائع حيث لا يعرف المقتول من قتله ، وإنقضى موقف اللا مبالاة والهروب والحديث من خارج الزمن ، وبات ضرورياً إتخاذ موقف بديل عن نزعة قدرية عميقة ، إزاء عالم كثيب سوداوى يتجسد فى غابة يفترس فيها ( الإنسان الكلب الإنسان الثعلب) ، وحيث تطحن رقبة كل إنسان تحت ضروس إنسان آخر فى ملحمة ضاربة من تطاحن الجميع ضد الجميع ، ويتنفس هذا العالم الخانق بهواء ثقيل راكد ، مترنما بأغنيات الملل الحزينة فى نهار من زمان لاجديد فيه .
وهذا العالم الغابة يحتاج إلى معنى يضفى عليه الصدق والعدل والجمال .
إذن لا بد من موقف !.
وعالم الصوفية ليس عالما غريباً على شاعرنا ، فقد كان مولعا به ومثار إهتمامه منذ ((الشيخ محي الدين)) فى مجموعته الأولى حتى (( بشر الحافى)) فى مذكراته فى المجموعة الثالثة . ولكن هذا العالم الصوفى يتغير عبر رحلة صلاح عبد الصبور ، من خلال معنى جديد يضفيه عليه ، فإذا كان قبلا تحليقاً على أجنحة الوجد الصوفى ، حافلا برموز ومقامات باطنية من الكشف والوجد والأحوال .... لحمته الرضا وسداه البعد عما يؤثر فى الذات ، فلم تكن هذه الرموز لتجد صدى إلا فى ذاتها ، لأن مجال تحققها يتعين فى خلاص روحى فردى يحلق فوق آوزار العالم محتفلا فى نرجسية بطهره ونقائه الشخصى ... وهو فى النهاية كهف خلاص زائف ووهمى .
لكن بعد ذلك وبهذا المعنى لا يمكن أن نعتبر عالم الحلاج الصوفى الذى يمور بالصراع العنيف من أجل أن تكون (( الكلمة )) للناس هو عالم (( بشر الحافى )) – قوقعة الذات فى صَدفَةِ ملقاة بجانب أحد الأفلاك السماوية تتأمل رجس العالم . هذا رغم أن عالم الحلاج الصوفى مازال يتعثر تحت وطأة الحبل السُرى الذى يربطه بهذا العالم القديم . حتى أننا نرى (( الشبلى)) الصوفى ، شريك الحلاج فى الطريق ، وهو تطور لبشر الحافى ، لكن بعد أن ظهر نقيضه الساعى لأن تكون الكلمة للناس ، ومازال يتردد فى أن يجعل الكلمة فعلاً. وقبل أن نسترسل فى تقييم هذا العمل الشعرى ، لابد من وقفه مع هذه النزعة الصوفية ، ودلالاتها الفكرية والروحية كما ظهرت فى نهاية القرن الثانى الهجرى .
******
حفل القرنان الثالث والرابع الهجريين بمظاهر شتى من الصراع الاجتماعى والقومى والدينى ، بل ويمكن أن نسمى القرن الثالث بقرن الثورات الاجتماعية . فقد جرت فيه ثلاث حركات كبرى؛ حركة البابكية ، وإنتفاضة الزنج ، وهبات القرامطة وقد غطت جميعها القرن من أوله لآخره .... وكان لهذه الحركات نظرياتها وأفكارها ودعاتها . وقد إرتدت قناعاً دينياً بحكم أن النسق الذهنى المسيطر تمثل فى سيادة الفكر الدينى , ومن ثم عبرت الفئات والطبقات الاجتماعية عن طموحاتها وأحلامها وأوهامها من خلال الفكر الدينى – وهو اللغة الوحيدة المفهومة فى هذا العصر – الذى إختفت وراءه مصالح دنيوية فى الغالب .
والنزعة الصوفية من ثم ليست ظاهرة فردية تنتمى لعالم روحى منفصل عن العالم الواقعى ، وإنما ظاهرة إجتماعية مثلت رداً على المظالم الحياتية فى هذه العصور وتكيفت وفقا لطبيعة الأوضاع والعلاقات الإجتماعية فى حقبة تاريخية معينة . وقد وردت أخبار الحلاج فى عديد من المصادر التاريخية ، عند الطبرى وإبن الأثير وإبن الجوزى وإبن النديم .... ويقول الأخير عنه فى (( الفهرست )) ، وهى الصورة الشائعة عنه لدى المؤرخين .... (( هو الحسين بن منصور .......، وكان جاهلا مقداما مدهوراً جسوراً على السلاطين مرتكباً للعظائم يروم إنقلاب الدول ويدعى عند أصحابه الألوهية، ويقول بالحلول ويظهر مذاهب الشيعة للملوك ، ومذاهب الصوفية للعامة . وفى تضاعيف ذلك يدعى أن الألوهية قد حلت فيه ، وأنه هو هو ، وقد قيل أنه ينتمى إلى احدى الفرق الشيعية التى دعت إلى الرضا من آل محمد )).
وما يعنينا هنا من صورة الحلاج التاريخية هو إرتباطة بقبيلة كانت حليفاً سياسيا للانتفاضة الزيدية التى أثارها الزنج ، وهذا الإرتباط كان مصدره الأفكار التى أشيعت عنه بأنه نزاع إلى الثورة ومتآمر شيعى – على ما يقول ماسينيون فى مقاله (( المنحنى الشخصى لحياة الحلاج )).
كما يمكن أن نلاحظ أن الحلاج قد أختار الرحيل إلى مكة فى الوقت الذى قضى فيه على ثورة الزنج بزعامة على بن محمد – وكأنه صدى لثورة مهزومة لا ميلاد ثورة – وذلك بعد أن أصابه اليأس فيما يبدو من أشكال الإنتفاض العنيف ، فعاد يدعو إلى الفناء والتلاشى فى الذات الإلهية ... مختاراً أسلوباَ سلمياَ للدعوة إلى التغيير ،حتى نبذ خرقة الصوفية ليهب ذاته لأبناء الدنيا ، وداعيا لتأليه الإنسان بتبنية لنظرية الإتحاد .
ومأساة الحلاج ليست فى إستشهاده أو فى عجزه عن إتخاذ قرار بالهرب من السجن ، وإنما مأساته فى عجزه الفادح عن تحويل الكلمة إلى فعل ، أى الصراع بين القضية الضرورية تاريخياَ وبين الإستحالة العملية لتحقيقها – وعلى صليب هذا الصراع يتمزق الحلاج حتى قبل أن يصلب فعلا عبر شكوكة .
*الكلمة وصراع التصوف النائى عن الحياة .
تبدأ مسرحية مأساة الحلاج بذروتها ، فها هو الحلاج مصلوباَ على جذع شجرة لا على صليب تقليدى حيث يتعانق الموت مع الحياة . وعنوان هذا القسم من المسرحية هو (( الكلمة )) ويمر بعض المتسكعين ، تاجر ، وفلاح ، وواعظ ، وفى بلادة متناهية يديرون حواراَ فيما بينهم عن هذا الشيخ المصلوب ، فالتاجر يريد أن يعرف قصته حتى يحكيها لزوجته فى المساء حين يعود ، والفلاح فضولى بطبعه ، أما الواعظ فيريد تعميق التقوى فى قلوب الخلق فنراه يبحث عن موعظة وعبرة يلقيها فى خطبة الجمعة ، حتى وإن أتت بطريق المصادفة . إن هذا المشهد يصدم مشاعرنا وهو أول ما نراه ، لا لآن الحلاج يموت مصلوباً وإنما لأنه يموت غريباَ ، حتى عن من يفترض أنه قتل من أجلهم ، فهذا الموت يفقد معناه الإستشهادى، ويصير موتاً لاعزاء فيه، حتى وإن سانده إيمان بالأتحاد اوالحلول . وتدخل مجموعة من الناس ، فتسأل المجموعة الأولى عن الشيخ المصلوب فيقولون انه أحد الفقراء .... ونحن القتلة ، رغم أنهم فقرء وهم ما بين قراد وحداد وحجام وخادم فى حمام وبيطار. وليس بينهم جلاد!.
لقد قتلوه ... ليس بأيديهم . لكن بالكلمات ، كيف ؟
أعطوا كُلاً مِنا ديناراً من ذهب قانى براقاَ لم تلمسه كف من قبل
قالوا : صيحوا زنديق .... كافر...
وهكذا بثلاثين قطعة من الفضة وبوعى زائف بيع الحلاج فى طرقات بغداد ، بدعم جوقة الإنشاد الجماعى للعصر العباسى.
وتخرج المجموعة التى تمثل الفقراء ، ليدخل رفاق طريق المحبة من الصوفيين ليعلنوا أنهم القتلة ..... أحبوه فقتلوه ... وأيضاَ بالكلمات
أحببنا كلماته أكثر مما أحببناه فتركناه يموت كى تبقى الكلمات.
وإذا كان الفقراء المزيف وعيهم قد أغراهم رنين الدنانيرالملوثة بالدم ، وخفقت قلوبهم لأمانى أعدى أعدائهم ، فإن الصوفيين الذين تواطئوا على قتله بالكلمات لم يكونوا ليستأنفوا طريقه- فهناك تجاور صامت لتناقضاتهم إن جاز القول – الذى يربط بين نوعين من الكشف ؛الكشف الصوفى بمواجده وتهويماته فى سماء الروح الخالص ، والكشف الواقعى لنوعية العلاقات الإجتماعية المعاشة . فما يعنيهم أنهم :-
كنا نلقاه بظهر السوق عطاشا فيروينا من ماء الكلمات
جوعى فيطاعمنا من أثمار الحكمة
وينادمنا بكؤوس الشوق إلى العرس النورانى
لقد أرادوا أن تصب الكلمات فى نهر من الوجد الراكد ، لا بشرى تنبض بوقع خطى الحياة ، وهم على أى حال لم يخرجوا للناس نابذين خرقتهم الصوفية كما فعل الحلاج ، وكأنهم داعون إلى رفض العالم الواقعى بإصرار ، يؤدى إلى عدم فهمه أو النظر إليه أو حتى العلم به .
فالشعور والإحساس والتعرف والتبصر قد تكون أدوات إدراك أشواق الأعراس النورانية ، لكنها عاجزة عن إدراك أشواق إنسان العالم الأرضى . وهذا الموقف تتردد أصدؤه عند الشبلى، وهو المتسق تماما مع أفكاره بعكس رفاق الطريق من الصوفية ، فيحاول أن يثنى الحلاج عن التواصل مع الناس ، وحتى إستشهاده يرى فيه درة من الجمال المحرم ، الذى ينبغى إخفاؤه ليبقى موضعا للتأمل الذاتى عند الصفوة . وحين تقول المجموعة ذاتها أنها ستحمل كلماته إلى شق محاريث الفلاحين ، وتخبئها بين بضاعات التجار ... فكأننا إزاء طريقين لا يلتقيان ، فأى كلمات للحلاج يبقونها ؛ الإتحاد والحلول ، أم سعيه لإضفاء العدل والجمال على العالم الحقيقى للناس ... لأن الطريقين يمثلان نوعين من الإدانة للواقع ، أحدهما إدانة عاجزة والآخر إدانة فاعلة بمعنى ما ... بمعنى ما فقط ، لأن حدوده تبقى الكلمات .
....وعبر القسم الأول من المسرحية تتصارع الكلمة مع التصوف النائى عن الحياة ، الذى يغطى فى الواقع (الأغلال الحقيقية بزهور وهمية) ...
والمعرفة عند الحلاج ليست ترفاً ونعمة لصاحبها ، بل هى نار بروميثيوسية .
لم يختار الرحمن شخوصا من خلقه ؟ ليفرق فيهم أقباساً من نوره هذا ليكونوا ميزان الكون المعتل وإعتلال الكون نابع مما فيه من شر ، وشر الكون كما يقول الحلاج للشبل فقر الفقراء وجوع الجوعى ، والمسجونون المصفودون تسوقهم الشرطة . ويدعو الحلاج إلى التشبه بصفات الله ( رغم أنه لا يتشبه به )
الله قوى يا أبناء الله
كونوا مثله
الله فعول يا أبناء الله
كونوا مثله .
أما الشبلى فهو ممثل الخلاص الروحى الفردى ، والإدانة السلبية ويمثل إمتدادا للصوفى (( بشر الحافى )) فى مجموعة صلاح عبد الصبور الثالثة . فيكفى الكلمة أن تتردد فى دهاليز الروح الداخلية ، حيث التحديق للشمس ، والنظر للنور الباطن ، وتنمو فى ركود مستنقعات هذه الدهاليز ، أشجار وثمار وشموس خضراء وأقمار ... لا شك أنها جميعاً عقيمة وباهتة .
وتعمى عينا الشبلى عن الواقع وقد سملتها هذه النزعة الروحية ، فحين يسأله الحلاج من ذا صنع الفقر ،وصنع القيود ، والسياط ، والإستعباد ، فيجيب ؛ من صنع الداء والموت والعله ... وكأن الداء والموت والعله مثل القيود والسياط والعبودية ، آفات طبيعية ، وشرور كونية ، وقوانين طبيعية لا اجتماعية ، لادخل لإرادة الإنسان فيها . وهنا نرى الشبلى وكأنه يبرر باسم عالمه الداخلى المزيف والوهمى كل شرور الواقع التى تنبع من وضع إجتماعى ، ولا صلة لها من قريب أو بعيد بتلك الأدواء الخالدة الأزلية . ومادامت تلك شرور كونية فلابد أن نكون جبريين وأن نقبل فى رضى – وهو أحد مقامات الصوفية بالمناسبة – كل ما تأتى به ، دون تململ ، ودون إحتجاج ، فالدنيا عند الشبلى فى خير ما دام فى خير !.
وقد كان الاحتجاج والإذعان عنصرين متناقضين دائما حتى فى تاريخ التصوف ذاته . وهنا يتواجه الحلاج والشبلى وكأنهما ممثلى هذين التيارين اللذين تصارعا فى الفكر الإسلامى تحت إسمى القدرية (القائلون بالأختيار ) والجبرية . بل إننا يمكن أن نقول أن جانبى التصوف قد تصارعا داخل الحلاج ذاته ، وقد عبرعن شكوكه حين كان الشبلى يحدثه عن الشرور الكونية وضرورة أن يكون الخلاص فردياً
دعنى أتأمل فيما قلت الأن
ياشبلى ها أنت تزلزلنى فى دارى
والسوق يزلزلنى أن أترك دارى
كلماتك تجذبنى يمنه
وعينى تجذبنى يسره .
وسوف تكون هذه الشكوك التى لا تعبر عن عمق الإيمان إحدى فروع الشجرة التى يصلب عليها الحلاج .
وتمتد الأذرع الأخطبوطية لروح الشبلى لتلتف حول عنقى التاجر والواعظ ، فالأول يعتبر الكون قد قام على العدوان ، ولا يبقى سوى الاحتيال عليه ، والثانى يقرن الضراعة إلى رب العرش بالحكمة غير البلغية فى كل أنظمة الإستبداد الشرقى .
والعاقل من يحرز فى كلماته لا يعرض بالسوء لنظام أو شخص أو وضع أو قانون أو قاض أو وال أو محتسب أو حاكم .
ويبدو الحلاج باحثا عن الشهادة كنية مبيتة ، وهو يشيط بدمه ويحرض الأغيار على قتله فإذا غسلت هامته بالدماء فقد توضأ وضوء الأنبياء – على حد قوله – إنه يريد أن يضمن حياة كلماته ويبرئها من عقم الألفاظ فيرويها دما. أمن الحتمى أن تحتاج الكلمات إلى دم حتى تحيا أم يكفيها أن تحيا بين الناس بكل ما تحمل الحياة من معنى ومن دلالة .
والمأساة تفترض تناقضاً لا يقبل الحل من الناحية الموضوعية . والحلاج إذ يعرف وقع كلماته التى يتحدد أثرها بمعزل عنه ، يدرك أيضاً من ضمن آثارها أنها قد تودى به ، بل إنه يقطع بذلك . فالمصير الذى يلاقية هنا ، منطقى لا يفاجئنا ، كما أنه لا يفجعنا ، ومن ثم لا نحس بعناصر المأساة بمعناها التقليدى ، فالحلاج يصرخ فى المساجد والأسواق بأنه (( الحق )) ويعلن : إعلموا أن الله تعالى قد أباح لكم دمى فأقتلونى ... وعلى دين الصليب يكون موتى .
وكأن من يقتلنى محقق مشيئتى
ومنفذ إرادة الرحمن
لأنه يصوغ من تراب رجل فان أسطورة وفكرة
يبدو القسم الأول من المسرحية ؛ (( الكلمة )) كلوحة مستطيلة مسطحة خالية من أى حدث وينمو من الأدنى إلى الأعلى عبر صراع ،(ولأن المسرحية ذات طابع فكرى فهى تطمس ملامح الشخصيات وكأنها أفكار قد فقدت الحياة ، وليس من الصعب أن نجد معادلا فكريا لكل شخصية ، حتى أننا نرى الشرطة وقد تمثلت وعياً فلسفياً عميقاً ، فهم يعرفون مسائل علم الكلام وقضايا الفلسفة ، فيناظرون الحلاج ويستدرجونه مقدمين وثيقة إتهامه ((الأيديولوجي )) فأحدهما يتحدث عن (( المعطلة ))والآخر عن (( الحلول)) .
ويبوح الحلاج بالسر : (( لقدأحببت من أنصف ، فأعطانى كما أعطيت )، وهكذا أخذ من زهوه إلى حتفه . من أجل حديث الحب أم من أجل حديث القحط ، هذا ما لا يدرية الحلاج ذاته ! فهو يضع قدما فى ضباب السحب وقدما فى الأرض ، ويتعثر تارة فى الأوهام وتارة فى أحلام الحياة .
إن الحلاج يضرب بجذوره فى أعمال صلاح عبد لصبور السابقة . لقد تخلقت عناصره قبلا ، وإكتملت فى مسرحيته هذه . وخاصة فى ديوانه الثالث (( أقول لكم )) . وفى قصيدته (( القديس )) نرى العظام الدقيقة للصوفى المقبل وهى تتخلق . كما نرى أيضاً ذلك المعنى الذى يمنحه صلاح عبد الصبور للكلمة فى (( أقول لكم )) ، فهى التى تصنع النقمة أو الفرحة كما أنها ملاذ وسهم ،، أما علاقة الكلمة بالفعل فهى أن تقال فقط كشكل وحيد من أشكال( الفعل ) . فالقلب إذا غمغم، والحلق إذا همهم ، والريح إذا نقلت : (( فقد فعلت، فقد فعلت )) وفق ما يقول شاعرنا فى قصيدته الكلمات . وهذا المعنى للكلمة هو ما سيدور حوله الصراع فى القسم الثانى ؛ المعنون : الموت فى مسرحية مأساة الحلاج ، حيث لم يتطور مفهوم شاعرنا لها من خلال رحلته من أقول لكم حتى المأساة الراهنة
*الكلمة والفعل .... سيف النقد . ونقد السيف .
فى القسم الثانى : الموت ، يدخل الحلاج (( دار الهجرة )) ، أى السجن ، وهناك يلتقى بأحد السجناء الثائرين من محرضى العامة ، ويدور بينهما حوار يمثل إمتدادا لتناقضات الحلاج الداخلية ، فالكلمة التى يعنيها ليست أكثر من إدانه العصر من خلال شهادة تقدمها نفس ذات حساسية مرهفة ، وفى أفصل الأحوال ، قد يأتى من يقتنع بها ، وهو على أى حال لا ينتمى للعامة الغوغاء ، إنما لولاة الأمر ، المتصارعين على السلطة . وإذ يتعذب الحلاج صامداً صابراً صامتاً إزاء البلاء الذى يقع عليه ، فإنما يصر على ممارسة إغترابه ، فهو بلاء من الله ، ومحنة يختبر بها ، لأنه أفضى بسر الأسرار ، لأن (( المسك إنسكب بقلب الحلاج وذاع )) ولا تفلح كل الالأم الأرضية فى أن تجذبة حقا إلى مجالها ، إلا عبر هذا الشكل الصوفى المتنكر . وحين يتحدث الحلاج مع السجين الثائر عن أحلامه جنين الواقع ، فإنها تبدو شاحبة باهته ، وزائدة ملحقة بعالمه الوجدانى ، ويواصل تركيزة على الكلمة ، ويرفض الثائر ذلك المنطق الطوباوى، فهو قد عانى وخبر مرارة الحياة وآلامالها ، ويعرف أن الكلمة إن لم يساندها فعل فلا قيمة لها ، كما أنها لا تخيف أحداً ، ولا تغير شيئاً ، وهو ليس مجرد نفس غضبى كما يتوهم الحلاج ، فهو يعرف هدفه تماما ، إنه يريد تغييرا جذريا ، وهو أمر لا يتحقق إلا بإستئصال الشر المشخص والمتعين ، وهو يملك أيضاً معياراً للقيم يرشده فيميز الشر من غيره . أما الحلاج فيتخبط ، فهو لا يعى حتى ما يتعلق بما سجن من أجله ويتساءل فى بؤس من مزقته الحيرة .
من فينا الشرير ... ومن فينا الخير ؟
من فينا يستأصله سيفك ، أو يعفيه ويستبقيه ؟
وإذ يعرف الثائر ضرورة حمل السيف من أجل الناس ، وهو التتمه الضرورية والمنطقية لسيف الكلمة ، يبدو متسقاً تماما مع أفكاره التى تمثل نوراً يرشد سيفه . ويصل تناقض الحلاج إلى ذروته حتى يبلغ حد العجز ، فلم يعد يدرى المظلومين من الظلمة ، حتى أنواع الظلم تختلط ليفقد الظلم الإجتماعى معناه :
أو لم يظلم أحد المظلومين
جاراً أو زوجا أو طفلاً أو جارية أو عبداً؟
ويريد الحلاج فى قمة إنهياره وحيرته (( السيف المبصر )) المميز ، وكأن السيف يبصر بذاته ، دون نور ، دون فكر يتسم بالإتساق يرشده . وفى الواقع فإننا نحس بالرثاء للحلاج . أكثر مما نحس بالتعاطف معه، فقد قتلته تناقضاته ، فهو لا يعرف ما يريد ، هل يرفع صوته أم يرفع سيفه ؟ ويتوهم أن خياره كامن هنا ، ولكن المسألة هى أى (( صوت )) يرفعه أى ما هى نوعية الأفكار التى يطرحها . إن (( القديس)) والطفل السماوى قد وهب نفسه فداء لخطايا البشر ، وحين أصبح عند آخر معبر يربط الحياة بالموت ، راح يتساءل عن معنى كل الأشياء ، وكأن حياته قد ضاعت سدى . فإذا كانت محكمة الفقهاء تريد أن تنزع عن حياته معناها ، فهو فى الواقع ينزع قبلها هذا المعنى بريبته وشكوكه وتردده وضعفه القاتل وحين يدعى إلى الهرب من السجن ، والقيام بعمل خلاق حى مع العامة ، فهو يستنكف فى إباء سقراطى ، ويمعن فى الإغراق داخل همومه الذاتية . وهكذا لف الحلاج المشنقة بنفسه حول عنقة ، ولم يقتله أحد بأكثر مما قتله عجزه . وقد أهدر بذلك كل معنى يمكن أن يستقى من حياته ، أو أن يصبح مصدر إلهام . وإذ تواطأ الجميع على قتله بالكلمات ، العامة ، والصوفية ، ورفيق طريقه (( الشبلى )) فقد كان يمكن قتلة بالصمت أيضاً ، فالصمت موقف . والثائر وجماعة من العامة هم الوحيدون الذين يحاولون التدخل الفعلى لإنقاذه ، ورغم فشلهم / فإننا نرى فى ذلك قيمة ومعنى ، أكثر مما نرى فى تلك التهويمات الروحية ، والحلاج تتكشف أحلامه عن تلهفه لحاكم عادل ، كإمتداد طبيعى لتلك المراهنة الخائبة على خلافات ((الأخوة الأعداء )), اى التناقضات داخل السلطة السياسية السائدة, فالعدل يأتى به أفراد ملهمون متفردون ، يهبون من أعلى ، فلا حاجة إذن لأى تغيير جذرى يستأصل الشر على ما يقول الثائر ، فيكفى أن يكون هذا العادل بديلاً لذلك المستبد وتستقيم الأحوال ، وما أغنانا عن حل يأتى من خارج الإطار القائم ، مادمنا نستطيع إيجاد حل من داخله ، يغنى العامة عن الفعل ، ويحيا الجميع فى ملكوت العصر الألفى السعيد .
لقد أبرز الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور الحلاج أكثر مما أبرز الثائر ، وهو أمر يعبر عن إختيار ذى دلالة لشاعرعظيم حقا وقضية خاسرة .
فماذا يقول صلاح عبد الصبور عن مأساة الحلاج بعيدا عن مسرحيته الشعرية ؟ فى الواقع تتطابق رؤيته الفكرية تماما مع المسرحية ، فهو يرى أن سقطة الحلاج كامنة فى أنه باح بعلاقته الحميمة بالله ، باتحاده ، وحلوله ، فأباح لله وللأغيار دمه . وهو يعتقد أن ذلك كله ليس إلا (( بناء أو شكل )) فما هى القضية إذن ؟ يقول صلاح :
(( أما القضية التى تطرحها فقد كانت قضية خلاصى الشخصى . فقد كنت أعانى حيرة مدمرة إزاء كثير من ظواهر عصرنا وكانت الأسئلة تزدحم فى خاطرى إزدحاما مضطرباَ ، وكنت أسأل نفسى السؤال الذى سأله الحلاج لنفسه : ماذا أفعل ؟ وهنا ألغت المسرحية دور الفنان فى المجتمع ، وكانت إجابة الحلاج هى أن يتكلم .... ويموت ... ويضيف : كان عذاب الحلاج طرحا لعذاب المفكرين فى معظم المجتمعات الحديثة ، وحيرتهم بين السيف والكلمة ، بعد أن يرفضوا أن يكون خلاصهم الشخصى بإطراح مشكلات الكون والإنسان عن كواهلهم هو غايتهم ، وبعد أن يؤثروا أن يحملوا عبْ الإنسانية على كواهلهم ))....
ويبقى بعد ذلك أن نقول هل وفق صلاح عبد الصبور فى إختيار الحلاج معبراَ عن موقف المثقفين وقت صدور المسرحية فى الستينات ؟
لقد كان التاريخ دائما مصدر إستلهام الأدباء والشعراء والفنانين ، وعمل صلاح لا يستهدف به التعريف بأحد الشخصيات الصوفة التاريخية ، ولا تقديم فترة عاصفة حفلت بالتناقضات ، وإنما كان التاريخ وشخصياته بمثابة إطار لطرح مشاكل معاصرة ، وأداة لإبراز قيم خاصة ذات دلالات متميزة ، وان وضع هذه المسرحية الشعرية فى إطارها يمكننا من فهمها على نحو أفضل . إنها فى الواقع تعكس تناقضات الواقع المصرى فى الفترة التى ظهرت فيها ...
فقد كانت هناك سلطة قومية سائدة ، وهذه السلطة التى حققت إنجازات هامة من ناحية ، إختارت أن تصفى الحياة السياسية من ناحية أخرى ، فأضعفت القوى الوحيدة التى كانت قادرة على حماية هذه الإنجازات حين جاء أوان الإعتداء عليها . لقد كان وجود سلطة تحقق من أعلى وبطريقتها ولمصلحتها أيضاً كل ((الأمال )) نيابة عن الجميع وباسم الجميع ، طريقا ونهجاً يؤدى بذاته إلى كتم أى صوت معارض ، وقد عانى المثقفون كثيرا آنذاك ؛ أولا ليفهموا طبيعة ما هو قائم ، ويذهلوا بالشعارات التى تعلن عن نفسها وتناقض الواقع . كانت رأسمالية الدولة قد ولدت دون وعى المثقفين بها ، فبعضهم وقف بمعزل عن المهمات التاريخية الفعلية التى أناطها بها مجرى الأحداث ، والبعض الآخر . صفق وهلل واندمج بالموكب الجديد بعد أن كان قد ذاق ويلات الإبعاد ، وانتهى به الأمر إلى الذوبان ، وخلت الساحة إلا من شيع صغيرة يتبلور وعيها عبر تحسس الطرق الشائكة . لقد عجز الكثيرون حقا عن فهم ما يجرى ، وكان الحلاج بمأساته هو الصدى المشوه لواقع مشوه . الفرد الأوحد يمسك مقاليد الأمور ، وبطانه واسعة تسلب الناس باسم أسمى القيم . والناس مسرحون ومبعدون بفعل الوعى الزائف من جانب . وإستناداً إلى إنجازات قومية حقيقية من جانب آخر . وتحول ذلك الكائن الجمعى إلى صورة لا ملامح لها ، وهنا بدت أزمة المثقفين غير الذائبين بعزلتهم عن الناس ، وعزلة الناس عنهم . وكانت (( الكلمة )) التى تقتطع من العمر سنوات لا تثير أكثر من التعاطف الشخصى لا أكثر . لقد راهن كثير المثقفين على هذا الجناح أو ذاك ، وإنقضى وقت طويل قبل أن يتبدد هذا الوهم . ( هل تبدد؟!).
والان لابد أن تكون الكلمة فعلا ، والعدالة من صنع الناس ، لقد سقط الماضى ، وضحاياه هم من يدافعون عن إنجازاته ، بينما أصيب أنبياؤه وحكماؤه بالردة . لقد عرف الخير من الشر ودور الكلمة ووظيفة السيف ، وبقى على الحلاج أن يدرك المرحلة الراهنة فيتخلى عن تلك الوصفات البالية لخلاص الإنسانية ، وأن يعرف التقى الصوفى وسائل نيل الحرية ، أن يتخلص من الماضى – الحاضر بأوهامة غير الناضجة . لقد عكست مأساة الحلاج واقع الستينات لكنها لم تعكس ذلك التطور والنمو الحتمى للثائر الذى مثل نقيض الحلاج حتى وإن كان آنذاك يخطو خطوات الميلاد الأولى .
وبعد...يمكن القول أن ذلك القالب الصوفى لمأساة الحلاج قد خنق برموزه العالم الواقعى ، ولم يستطع الشاعر إلا أن يضع الجانبين متجاورين معا تجاورالتناقضات الهامدة إن جاز القول ... وكل النماذج الصوفية تزيف الواقع ذاته بدرجات متفاوته يمثل طرفيها الأساسيين الحلاج والشبلى ومهما يكن من أمر فليس التصوف ، بالذات هو الراية التى يمكن باسمها المناداة بالعدل الإجتماعى – كما فعلت فرق دينية أخرى – وهنا نواجه بتناقضات حادة تتفسخ تحت وطأتها شخوص المسرحية ،وخاصة الحلاج ، وهى من ثم تبدو كشخصيات عرجاء لأنها تعتمد طريقين متابنين . وربما لو كان العمر قد امتد بشاعرنا لتوصل لمعنى الكلمة – الفعل ولحمل فى يده ذلك السيف المبصر
لقد ولى إذن – أو هكذا بدا – عند شاعرنا زمان نفخ الأراجيل التى تثير السأم ؛ المضيعة بدخانها الكثيف ، وأدبرت المواقف العدمية من زمن الحق الضائع حيث لا يعرف المقتول من قتله ، وإنقضى موقف اللا مبالاة والهروب والحديث من خارج الزمن ، وبات ضرورياً إتخاذ موقف بديل عن نزعة قدرية عميقة ، إزاء عالم كثيب سوداوى يتجسد فى غابة يفترس فيها ( الإنسان الكلب الإنسان الثعلب) ، وحيث تطحن رقبة كل إنسان تحت ضروس إنسان آخر فى ملحمة ضاربة من تطاحن الجميع ضد الجميع ، ويتنفس هذا العالم الخانق بهواء ثقيل راكد ، مترنما بأغنيات الملل الحزينة فى نهار من زمان لاجديد فيه .
وهذا العالم الغابة يحتاج إلى معنى يضفى عليه الصدق والعدل والجمال .
إذن لا بد من موقف !.
وعالم الصوفية ليس عالما غريباً على شاعرنا ، فقد كان مولعا به ومثار إهتمامه منذ ((الشيخ محي الدين)) فى مجموعته الأولى حتى (( بشر الحافى)) فى مذكراته فى المجموعة الثالثة . ولكن هذا العالم الصوفى يتغير عبر رحلة صلاح عبد الصبور ، من خلال معنى جديد يضفيه عليه ، فإذا كان قبلا تحليقاً على أجنحة الوجد الصوفى ، حافلا برموز ومقامات باطنية من الكشف والوجد والأحوال .... لحمته الرضا وسداه البعد عما يؤثر فى الذات ، فلم تكن هذه الرموز لتجد صدى إلا فى ذاتها ، لأن مجال تحققها يتعين فى خلاص روحى فردى يحلق فوق آوزار العالم محتفلا فى نرجسية بطهره ونقائه الشخصى ... وهو فى النهاية كهف خلاص زائف ووهمى .
لكن بعد ذلك وبهذا المعنى لا يمكن أن نعتبر عالم الحلاج الصوفى الذى يمور بالصراع العنيف من أجل أن تكون (( الكلمة )) للناس هو عالم (( بشر الحافى )) – قوقعة الذات فى صَدفَةِ ملقاة بجانب أحد الأفلاك السماوية تتأمل رجس العالم . هذا رغم أن عالم الحلاج الصوفى مازال يتعثر تحت وطأة الحبل السُرى الذى يربطه بهذا العالم القديم . حتى أننا نرى (( الشبلى)) الصوفى ، شريك الحلاج فى الطريق ، وهو تطور لبشر الحافى ، لكن بعد أن ظهر نقيضه الساعى لأن تكون الكلمة للناس ، ومازال يتردد فى أن يجعل الكلمة فعلاً. وقبل أن نسترسل فى تقييم هذا العمل الشعرى ، لابد من وقفه مع هذه النزعة الصوفية ، ودلالاتها الفكرية والروحية كما ظهرت فى نهاية القرن الثانى الهجرى .
******
حفل القرنان الثالث والرابع الهجريين بمظاهر شتى من الصراع الاجتماعى والقومى والدينى ، بل ويمكن أن نسمى القرن الثالث بقرن الثورات الاجتماعية . فقد جرت فيه ثلاث حركات كبرى؛ حركة البابكية ، وإنتفاضة الزنج ، وهبات القرامطة وقد غطت جميعها القرن من أوله لآخره .... وكان لهذه الحركات نظرياتها وأفكارها ودعاتها . وقد إرتدت قناعاً دينياً بحكم أن النسق الذهنى المسيطر تمثل فى سيادة الفكر الدينى , ومن ثم عبرت الفئات والطبقات الاجتماعية عن طموحاتها وأحلامها وأوهامها من خلال الفكر الدينى – وهو اللغة الوحيدة المفهومة فى هذا العصر – الذى إختفت وراءه مصالح دنيوية فى الغالب .
والنزعة الصوفية من ثم ليست ظاهرة فردية تنتمى لعالم روحى منفصل عن العالم الواقعى ، وإنما ظاهرة إجتماعية مثلت رداً على المظالم الحياتية فى هذه العصور وتكيفت وفقا لطبيعة الأوضاع والعلاقات الإجتماعية فى حقبة تاريخية معينة . وقد وردت أخبار الحلاج فى عديد من المصادر التاريخية ، عند الطبرى وإبن الأثير وإبن الجوزى وإبن النديم .... ويقول الأخير عنه فى (( الفهرست )) ، وهى الصورة الشائعة عنه لدى المؤرخين .... (( هو الحسين بن منصور .......، وكان جاهلا مقداما مدهوراً جسوراً على السلاطين مرتكباً للعظائم يروم إنقلاب الدول ويدعى عند أصحابه الألوهية، ويقول بالحلول ويظهر مذاهب الشيعة للملوك ، ومذاهب الصوفية للعامة . وفى تضاعيف ذلك يدعى أن الألوهية قد حلت فيه ، وأنه هو هو ، وقد قيل أنه ينتمى إلى احدى الفرق الشيعية التى دعت إلى الرضا من آل محمد )).
وما يعنينا هنا من صورة الحلاج التاريخية هو إرتباطة بقبيلة كانت حليفاً سياسيا للانتفاضة الزيدية التى أثارها الزنج ، وهذا الإرتباط كان مصدره الأفكار التى أشيعت عنه بأنه نزاع إلى الثورة ومتآمر شيعى – على ما يقول ماسينيون فى مقاله (( المنحنى الشخصى لحياة الحلاج )).
كما يمكن أن نلاحظ أن الحلاج قد أختار الرحيل إلى مكة فى الوقت الذى قضى فيه على ثورة الزنج بزعامة على بن محمد – وكأنه صدى لثورة مهزومة لا ميلاد ثورة – وذلك بعد أن أصابه اليأس فيما يبدو من أشكال الإنتفاض العنيف ، فعاد يدعو إلى الفناء والتلاشى فى الذات الإلهية ... مختاراً أسلوباَ سلمياَ للدعوة إلى التغيير ،حتى نبذ خرقة الصوفية ليهب ذاته لأبناء الدنيا ، وداعيا لتأليه الإنسان بتبنية لنظرية الإتحاد .
ومأساة الحلاج ليست فى إستشهاده أو فى عجزه عن إتخاذ قرار بالهرب من السجن ، وإنما مأساته فى عجزه الفادح عن تحويل الكلمة إلى فعل ، أى الصراع بين القضية الضرورية تاريخياَ وبين الإستحالة العملية لتحقيقها – وعلى صليب هذا الصراع يتمزق الحلاج حتى قبل أن يصلب فعلا عبر شكوكة .
*الكلمة وصراع التصوف النائى عن الحياة .
تبدأ مسرحية مأساة الحلاج بذروتها ، فها هو الحلاج مصلوباَ على جذع شجرة لا على صليب تقليدى حيث يتعانق الموت مع الحياة . وعنوان هذا القسم من المسرحية هو (( الكلمة )) ويمر بعض المتسكعين ، تاجر ، وفلاح ، وواعظ ، وفى بلادة متناهية يديرون حواراَ فيما بينهم عن هذا الشيخ المصلوب ، فالتاجر يريد أن يعرف قصته حتى يحكيها لزوجته فى المساء حين يعود ، والفلاح فضولى بطبعه ، أما الواعظ فيريد تعميق التقوى فى قلوب الخلق فنراه يبحث عن موعظة وعبرة يلقيها فى خطبة الجمعة ، حتى وإن أتت بطريق المصادفة . إن هذا المشهد يصدم مشاعرنا وهو أول ما نراه ، لا لآن الحلاج يموت مصلوباً وإنما لأنه يموت غريباَ ، حتى عن من يفترض أنه قتل من أجلهم ، فهذا الموت يفقد معناه الإستشهادى، ويصير موتاً لاعزاء فيه، حتى وإن سانده إيمان بالأتحاد اوالحلول . وتدخل مجموعة من الناس ، فتسأل المجموعة الأولى عن الشيخ المصلوب فيقولون انه أحد الفقراء .... ونحن القتلة ، رغم أنهم فقرء وهم ما بين قراد وحداد وحجام وخادم فى حمام وبيطار. وليس بينهم جلاد!.
لقد قتلوه ... ليس بأيديهم . لكن بالكلمات ، كيف ؟
أعطوا كُلاً مِنا ديناراً من ذهب قانى براقاَ لم تلمسه كف من قبل
قالوا : صيحوا زنديق .... كافر...
وهكذا بثلاثين قطعة من الفضة وبوعى زائف بيع الحلاج فى طرقات بغداد ، بدعم جوقة الإنشاد الجماعى للعصر العباسى.
وتخرج المجموعة التى تمثل الفقراء ، ليدخل رفاق طريق المحبة من الصوفيين ليعلنوا أنهم القتلة ..... أحبوه فقتلوه ... وأيضاَ بالكلمات
أحببنا كلماته أكثر مما أحببناه فتركناه يموت كى تبقى الكلمات.
وإذا كان الفقراء المزيف وعيهم قد أغراهم رنين الدنانيرالملوثة بالدم ، وخفقت قلوبهم لأمانى أعدى أعدائهم ، فإن الصوفيين الذين تواطئوا على قتله بالكلمات لم يكونوا ليستأنفوا طريقه- فهناك تجاور صامت لتناقضاتهم إن جاز القول – الذى يربط بين نوعين من الكشف ؛الكشف الصوفى بمواجده وتهويماته فى سماء الروح الخالص ، والكشف الواقعى لنوعية العلاقات الإجتماعية المعاشة . فما يعنيهم أنهم :-
كنا نلقاه بظهر السوق عطاشا فيروينا من ماء الكلمات
جوعى فيطاعمنا من أثمار الحكمة
وينادمنا بكؤوس الشوق إلى العرس النورانى
لقد أرادوا أن تصب الكلمات فى نهر من الوجد الراكد ، لا بشرى تنبض بوقع خطى الحياة ، وهم على أى حال لم يخرجوا للناس نابذين خرقتهم الصوفية كما فعل الحلاج ، وكأنهم داعون إلى رفض العالم الواقعى بإصرار ، يؤدى إلى عدم فهمه أو النظر إليه أو حتى العلم به .
فالشعور والإحساس والتعرف والتبصر قد تكون أدوات إدراك أشواق الأعراس النورانية ، لكنها عاجزة عن إدراك أشواق إنسان العالم الأرضى . وهذا الموقف تتردد أصدؤه عند الشبلى، وهو المتسق تماما مع أفكاره بعكس رفاق الطريق من الصوفية ، فيحاول أن يثنى الحلاج عن التواصل مع الناس ، وحتى إستشهاده يرى فيه درة من الجمال المحرم ، الذى ينبغى إخفاؤه ليبقى موضعا للتأمل الذاتى عند الصفوة . وحين تقول المجموعة ذاتها أنها ستحمل كلماته إلى شق محاريث الفلاحين ، وتخبئها بين بضاعات التجار ... فكأننا إزاء طريقين لا يلتقيان ، فأى كلمات للحلاج يبقونها ؛ الإتحاد والحلول ، أم سعيه لإضفاء العدل والجمال على العالم الحقيقى للناس ... لأن الطريقين يمثلان نوعين من الإدانة للواقع ، أحدهما إدانة عاجزة والآخر إدانة فاعلة بمعنى ما ... بمعنى ما فقط ، لأن حدوده تبقى الكلمات .
....وعبر القسم الأول من المسرحية تتصارع الكلمة مع التصوف النائى عن الحياة ، الذى يغطى فى الواقع (الأغلال الحقيقية بزهور وهمية) ...
والمعرفة عند الحلاج ليست ترفاً ونعمة لصاحبها ، بل هى نار بروميثيوسية .
لم يختار الرحمن شخوصا من خلقه ؟ ليفرق فيهم أقباساً من نوره هذا ليكونوا ميزان الكون المعتل وإعتلال الكون نابع مما فيه من شر ، وشر الكون كما يقول الحلاج للشبل فقر الفقراء وجوع الجوعى ، والمسجونون المصفودون تسوقهم الشرطة . ويدعو الحلاج إلى التشبه بصفات الله ( رغم أنه لا يتشبه به )
الله قوى يا أبناء الله
كونوا مثله
الله فعول يا أبناء الله
كونوا مثله .
أما الشبلى فهو ممثل الخلاص الروحى الفردى ، والإدانة السلبية ويمثل إمتدادا للصوفى (( بشر الحافى )) فى مجموعة صلاح عبد الصبور الثالثة . فيكفى الكلمة أن تتردد فى دهاليز الروح الداخلية ، حيث التحديق للشمس ، والنظر للنور الباطن ، وتنمو فى ركود مستنقعات هذه الدهاليز ، أشجار وثمار وشموس خضراء وأقمار ... لا شك أنها جميعاً عقيمة وباهتة .
وتعمى عينا الشبلى عن الواقع وقد سملتها هذه النزعة الروحية ، فحين يسأله الحلاج من ذا صنع الفقر ،وصنع القيود ، والسياط ، والإستعباد ، فيجيب ؛ من صنع الداء والموت والعله ... وكأن الداء والموت والعله مثل القيود والسياط والعبودية ، آفات طبيعية ، وشرور كونية ، وقوانين طبيعية لا اجتماعية ، لادخل لإرادة الإنسان فيها . وهنا نرى الشبلى وكأنه يبرر باسم عالمه الداخلى المزيف والوهمى كل شرور الواقع التى تنبع من وضع إجتماعى ، ولا صلة لها من قريب أو بعيد بتلك الأدواء الخالدة الأزلية . ومادامت تلك شرور كونية فلابد أن نكون جبريين وأن نقبل فى رضى – وهو أحد مقامات الصوفية بالمناسبة – كل ما تأتى به ، دون تململ ، ودون إحتجاج ، فالدنيا عند الشبلى فى خير ما دام فى خير !.
وقد كان الاحتجاج والإذعان عنصرين متناقضين دائما حتى فى تاريخ التصوف ذاته . وهنا يتواجه الحلاج والشبلى وكأنهما ممثلى هذين التيارين اللذين تصارعا فى الفكر الإسلامى تحت إسمى القدرية (القائلون بالأختيار ) والجبرية . بل إننا يمكن أن نقول أن جانبى التصوف قد تصارعا داخل الحلاج ذاته ، وقد عبرعن شكوكه حين كان الشبلى يحدثه عن الشرور الكونية وضرورة أن يكون الخلاص فردياً
دعنى أتأمل فيما قلت الأن
ياشبلى ها أنت تزلزلنى فى دارى
والسوق يزلزلنى أن أترك دارى
كلماتك تجذبنى يمنه
وعينى تجذبنى يسره .
وسوف تكون هذه الشكوك التى لا تعبر عن عمق الإيمان إحدى فروع الشجرة التى يصلب عليها الحلاج .
وتمتد الأذرع الأخطبوطية لروح الشبلى لتلتف حول عنقى التاجر والواعظ ، فالأول يعتبر الكون قد قام على العدوان ، ولا يبقى سوى الاحتيال عليه ، والثانى يقرن الضراعة إلى رب العرش بالحكمة غير البلغية فى كل أنظمة الإستبداد الشرقى .
والعاقل من يحرز فى كلماته لا يعرض بالسوء لنظام أو شخص أو وضع أو قانون أو قاض أو وال أو محتسب أو حاكم .
ويبدو الحلاج باحثا عن الشهادة كنية مبيتة ، وهو يشيط بدمه ويحرض الأغيار على قتله فإذا غسلت هامته بالدماء فقد توضأ وضوء الأنبياء – على حد قوله – إنه يريد أن يضمن حياة كلماته ويبرئها من عقم الألفاظ فيرويها دما. أمن الحتمى أن تحتاج الكلمات إلى دم حتى تحيا أم يكفيها أن تحيا بين الناس بكل ما تحمل الحياة من معنى ومن دلالة .
والمأساة تفترض تناقضاً لا يقبل الحل من الناحية الموضوعية . والحلاج إذ يعرف وقع كلماته التى يتحدد أثرها بمعزل عنه ، يدرك أيضاً من ضمن آثارها أنها قد تودى به ، بل إنه يقطع بذلك . فالمصير الذى يلاقية هنا ، منطقى لا يفاجئنا ، كما أنه لا يفجعنا ، ومن ثم لا نحس بعناصر المأساة بمعناها التقليدى ، فالحلاج يصرخ فى المساجد والأسواق بأنه (( الحق )) ويعلن : إعلموا أن الله تعالى قد أباح لكم دمى فأقتلونى ... وعلى دين الصليب يكون موتى .
وكأن من يقتلنى محقق مشيئتى
ومنفذ إرادة الرحمن
لأنه يصوغ من تراب رجل فان أسطورة وفكرة
يبدو القسم الأول من المسرحية ؛ (( الكلمة )) كلوحة مستطيلة مسطحة خالية من أى حدث وينمو من الأدنى إلى الأعلى عبر صراع ،(ولأن المسرحية ذات طابع فكرى فهى تطمس ملامح الشخصيات وكأنها أفكار قد فقدت الحياة ، وليس من الصعب أن نجد معادلا فكريا لكل شخصية ، حتى أننا نرى الشرطة وقد تمثلت وعياً فلسفياً عميقاً ، فهم يعرفون مسائل علم الكلام وقضايا الفلسفة ، فيناظرون الحلاج ويستدرجونه مقدمين وثيقة إتهامه ((الأيديولوجي )) فأحدهما يتحدث عن (( المعطلة ))والآخر عن (( الحلول)) .
ويبوح الحلاج بالسر : (( لقدأحببت من أنصف ، فأعطانى كما أعطيت )، وهكذا أخذ من زهوه إلى حتفه . من أجل حديث الحب أم من أجل حديث القحط ، هذا ما لا يدرية الحلاج ذاته ! فهو يضع قدما فى ضباب السحب وقدما فى الأرض ، ويتعثر تارة فى الأوهام وتارة فى أحلام الحياة .
إن الحلاج يضرب بجذوره فى أعمال صلاح عبد لصبور السابقة . لقد تخلقت عناصره قبلا ، وإكتملت فى مسرحيته هذه . وخاصة فى ديوانه الثالث (( أقول لكم )) . وفى قصيدته (( القديس )) نرى العظام الدقيقة للصوفى المقبل وهى تتخلق . كما نرى أيضاً ذلك المعنى الذى يمنحه صلاح عبد الصبور للكلمة فى (( أقول لكم )) ، فهى التى تصنع النقمة أو الفرحة كما أنها ملاذ وسهم ،، أما علاقة الكلمة بالفعل فهى أن تقال فقط كشكل وحيد من أشكال( الفعل ) . فالقلب إذا غمغم، والحلق إذا همهم ، والريح إذا نقلت : (( فقد فعلت، فقد فعلت )) وفق ما يقول شاعرنا فى قصيدته الكلمات . وهذا المعنى للكلمة هو ما سيدور حوله الصراع فى القسم الثانى ؛ المعنون : الموت فى مسرحية مأساة الحلاج ، حيث لم يتطور مفهوم شاعرنا لها من خلال رحلته من أقول لكم حتى المأساة الراهنة
*الكلمة والفعل .... سيف النقد . ونقد السيف .
فى القسم الثانى : الموت ، يدخل الحلاج (( دار الهجرة )) ، أى السجن ، وهناك يلتقى بأحد السجناء الثائرين من محرضى العامة ، ويدور بينهما حوار يمثل إمتدادا لتناقضات الحلاج الداخلية ، فالكلمة التى يعنيها ليست أكثر من إدانه العصر من خلال شهادة تقدمها نفس ذات حساسية مرهفة ، وفى أفصل الأحوال ، قد يأتى من يقتنع بها ، وهو على أى حال لا ينتمى للعامة الغوغاء ، إنما لولاة الأمر ، المتصارعين على السلطة . وإذ يتعذب الحلاج صامداً صابراً صامتاً إزاء البلاء الذى يقع عليه ، فإنما يصر على ممارسة إغترابه ، فهو بلاء من الله ، ومحنة يختبر بها ، لأنه أفضى بسر الأسرار ، لأن (( المسك إنسكب بقلب الحلاج وذاع )) ولا تفلح كل الالأم الأرضية فى أن تجذبة حقا إلى مجالها ، إلا عبر هذا الشكل الصوفى المتنكر . وحين يتحدث الحلاج مع السجين الثائر عن أحلامه جنين الواقع ، فإنها تبدو شاحبة باهته ، وزائدة ملحقة بعالمه الوجدانى ، ويواصل تركيزة على الكلمة ، ويرفض الثائر ذلك المنطق الطوباوى، فهو قد عانى وخبر مرارة الحياة وآلامالها ، ويعرف أن الكلمة إن لم يساندها فعل فلا قيمة لها ، كما أنها لا تخيف أحداً ، ولا تغير شيئاً ، وهو ليس مجرد نفس غضبى كما يتوهم الحلاج ، فهو يعرف هدفه تماما ، إنه يريد تغييرا جذريا ، وهو أمر لا يتحقق إلا بإستئصال الشر المشخص والمتعين ، وهو يملك أيضاً معياراً للقيم يرشده فيميز الشر من غيره . أما الحلاج فيتخبط ، فهو لا يعى حتى ما يتعلق بما سجن من أجله ويتساءل فى بؤس من مزقته الحيرة .
من فينا الشرير ... ومن فينا الخير ؟
من فينا يستأصله سيفك ، أو يعفيه ويستبقيه ؟
وإذ يعرف الثائر ضرورة حمل السيف من أجل الناس ، وهو التتمه الضرورية والمنطقية لسيف الكلمة ، يبدو متسقاً تماما مع أفكاره التى تمثل نوراً يرشد سيفه . ويصل تناقض الحلاج إلى ذروته حتى يبلغ حد العجز ، فلم يعد يدرى المظلومين من الظلمة ، حتى أنواع الظلم تختلط ليفقد الظلم الإجتماعى معناه :
أو لم يظلم أحد المظلومين
جاراً أو زوجا أو طفلاً أو جارية أو عبداً؟
ويريد الحلاج فى قمة إنهياره وحيرته (( السيف المبصر )) المميز ، وكأن السيف يبصر بذاته ، دون نور ، دون فكر يتسم بالإتساق يرشده . وفى الواقع فإننا نحس بالرثاء للحلاج . أكثر مما نحس بالتعاطف معه، فقد قتلته تناقضاته ، فهو لا يعرف ما يريد ، هل يرفع صوته أم يرفع سيفه ؟ ويتوهم أن خياره كامن هنا ، ولكن المسألة هى أى (( صوت )) يرفعه أى ما هى نوعية الأفكار التى يطرحها . إن (( القديس)) والطفل السماوى قد وهب نفسه فداء لخطايا البشر ، وحين أصبح عند آخر معبر يربط الحياة بالموت ، راح يتساءل عن معنى كل الأشياء ، وكأن حياته قد ضاعت سدى . فإذا كانت محكمة الفقهاء تريد أن تنزع عن حياته معناها ، فهو فى الواقع ينزع قبلها هذا المعنى بريبته وشكوكه وتردده وضعفه القاتل وحين يدعى إلى الهرب من السجن ، والقيام بعمل خلاق حى مع العامة ، فهو يستنكف فى إباء سقراطى ، ويمعن فى الإغراق داخل همومه الذاتية . وهكذا لف الحلاج المشنقة بنفسه حول عنقة ، ولم يقتله أحد بأكثر مما قتله عجزه . وقد أهدر بذلك كل معنى يمكن أن يستقى من حياته ، أو أن يصبح مصدر إلهام . وإذ تواطأ الجميع على قتله بالكلمات ، العامة ، والصوفية ، ورفيق طريقه (( الشبلى )) فقد كان يمكن قتلة بالصمت أيضاً ، فالصمت موقف . والثائر وجماعة من العامة هم الوحيدون الذين يحاولون التدخل الفعلى لإنقاذه ، ورغم فشلهم / فإننا نرى فى ذلك قيمة ومعنى ، أكثر مما نرى فى تلك التهويمات الروحية ، والحلاج تتكشف أحلامه عن تلهفه لحاكم عادل ، كإمتداد طبيعى لتلك المراهنة الخائبة على خلافات ((الأخوة الأعداء )), اى التناقضات داخل السلطة السياسية السائدة, فالعدل يأتى به أفراد ملهمون متفردون ، يهبون من أعلى ، فلا حاجة إذن لأى تغيير جذرى يستأصل الشر على ما يقول الثائر ، فيكفى أن يكون هذا العادل بديلاً لذلك المستبد وتستقيم الأحوال ، وما أغنانا عن حل يأتى من خارج الإطار القائم ، مادمنا نستطيع إيجاد حل من داخله ، يغنى العامة عن الفعل ، ويحيا الجميع فى ملكوت العصر الألفى السعيد .
لقد أبرز الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور الحلاج أكثر مما أبرز الثائر ، وهو أمر يعبر عن إختيار ذى دلالة لشاعرعظيم حقا وقضية خاسرة .
فماذا يقول صلاح عبد الصبور عن مأساة الحلاج بعيدا عن مسرحيته الشعرية ؟ فى الواقع تتطابق رؤيته الفكرية تماما مع المسرحية ، فهو يرى أن سقطة الحلاج كامنة فى أنه باح بعلاقته الحميمة بالله ، باتحاده ، وحلوله ، فأباح لله وللأغيار دمه . وهو يعتقد أن ذلك كله ليس إلا (( بناء أو شكل )) فما هى القضية إذن ؟ يقول صلاح :
(( أما القضية التى تطرحها فقد كانت قضية خلاصى الشخصى . فقد كنت أعانى حيرة مدمرة إزاء كثير من ظواهر عصرنا وكانت الأسئلة تزدحم فى خاطرى إزدحاما مضطرباَ ، وكنت أسأل نفسى السؤال الذى سأله الحلاج لنفسه : ماذا أفعل ؟ وهنا ألغت المسرحية دور الفنان فى المجتمع ، وكانت إجابة الحلاج هى أن يتكلم .... ويموت ... ويضيف : كان عذاب الحلاج طرحا لعذاب المفكرين فى معظم المجتمعات الحديثة ، وحيرتهم بين السيف والكلمة ، بعد أن يرفضوا أن يكون خلاصهم الشخصى بإطراح مشكلات الكون والإنسان عن كواهلهم هو غايتهم ، وبعد أن يؤثروا أن يحملوا عبْ الإنسانية على كواهلهم ))....
ويبقى بعد ذلك أن نقول هل وفق صلاح عبد الصبور فى إختيار الحلاج معبراَ عن موقف المثقفين وقت صدور المسرحية فى الستينات ؟
لقد كان التاريخ دائما مصدر إستلهام الأدباء والشعراء والفنانين ، وعمل صلاح لا يستهدف به التعريف بأحد الشخصيات الصوفة التاريخية ، ولا تقديم فترة عاصفة حفلت بالتناقضات ، وإنما كان التاريخ وشخصياته بمثابة إطار لطرح مشاكل معاصرة ، وأداة لإبراز قيم خاصة ذات دلالات متميزة ، وان وضع هذه المسرحية الشعرية فى إطارها يمكننا من فهمها على نحو أفضل . إنها فى الواقع تعكس تناقضات الواقع المصرى فى الفترة التى ظهرت فيها ...
فقد كانت هناك سلطة قومية سائدة ، وهذه السلطة التى حققت إنجازات هامة من ناحية ، إختارت أن تصفى الحياة السياسية من ناحية أخرى ، فأضعفت القوى الوحيدة التى كانت قادرة على حماية هذه الإنجازات حين جاء أوان الإعتداء عليها . لقد كان وجود سلطة تحقق من أعلى وبطريقتها ولمصلحتها أيضاً كل ((الأمال )) نيابة عن الجميع وباسم الجميع ، طريقا ونهجاً يؤدى بذاته إلى كتم أى صوت معارض ، وقد عانى المثقفون كثيرا آنذاك ؛ أولا ليفهموا طبيعة ما هو قائم ، ويذهلوا بالشعارات التى تعلن عن نفسها وتناقض الواقع . كانت رأسمالية الدولة قد ولدت دون وعى المثقفين بها ، فبعضهم وقف بمعزل عن المهمات التاريخية الفعلية التى أناطها بها مجرى الأحداث ، والبعض الآخر . صفق وهلل واندمج بالموكب الجديد بعد أن كان قد ذاق ويلات الإبعاد ، وانتهى به الأمر إلى الذوبان ، وخلت الساحة إلا من شيع صغيرة يتبلور وعيها عبر تحسس الطرق الشائكة . لقد عجز الكثيرون حقا عن فهم ما يجرى ، وكان الحلاج بمأساته هو الصدى المشوه لواقع مشوه . الفرد الأوحد يمسك مقاليد الأمور ، وبطانه واسعة تسلب الناس باسم أسمى القيم . والناس مسرحون ومبعدون بفعل الوعى الزائف من جانب . وإستناداً إلى إنجازات قومية حقيقية من جانب آخر . وتحول ذلك الكائن الجمعى إلى صورة لا ملامح لها ، وهنا بدت أزمة المثقفين غير الذائبين بعزلتهم عن الناس ، وعزلة الناس عنهم . وكانت (( الكلمة )) التى تقتطع من العمر سنوات لا تثير أكثر من التعاطف الشخصى لا أكثر . لقد راهن كثير المثقفين على هذا الجناح أو ذاك ، وإنقضى وقت طويل قبل أن يتبدد هذا الوهم . ( هل تبدد؟!).
والان لابد أن تكون الكلمة فعلا ، والعدالة من صنع الناس ، لقد سقط الماضى ، وضحاياه هم من يدافعون عن إنجازاته ، بينما أصيب أنبياؤه وحكماؤه بالردة . لقد عرف الخير من الشر ودور الكلمة ووظيفة السيف ، وبقى على الحلاج أن يدرك المرحلة الراهنة فيتخلى عن تلك الوصفات البالية لخلاص الإنسانية ، وأن يعرف التقى الصوفى وسائل نيل الحرية ، أن يتخلص من الماضى – الحاضر بأوهامة غير الناضجة . لقد عكست مأساة الحلاج واقع الستينات لكنها لم تعكس ذلك التطور والنمو الحتمى للثائر الذى مثل نقيض الحلاج حتى وإن كان آنذاك يخطو خطوات الميلاد الأولى .
وبعد...يمكن القول أن ذلك القالب الصوفى لمأساة الحلاج قد خنق برموزه العالم الواقعى ، ولم يستطع الشاعر إلا أن يضع الجانبين متجاورين معا تجاورالتناقضات الهامدة إن جاز القول ... وكل النماذج الصوفية تزيف الواقع ذاته بدرجات متفاوته يمثل طرفيها الأساسيين الحلاج والشبلى ومهما يكن من أمر فليس التصوف ، بالذات هو الراية التى يمكن باسمها المناداة بالعدل الإجتماعى – كما فعلت فرق دينية أخرى – وهنا نواجه بتناقضات حادة تتفسخ تحت وطأتها شخوص المسرحية ،وخاصة الحلاج ، وهى من ثم تبدو كشخصيات عرجاء لأنها تعتمد طريقين متابنين . وربما لو كان العمر قد امتد بشاعرنا لتوصل لمعنى الكلمة – الفعل ولحمل فى يده ذلك السيف المبصر
سعيد العليمى - الماركسية والتجربة التاريخية للثورات – ملاحظات عارضة -- 1
سعيد العليمى - الماركسية والتجربة التاريخية للثورات – ملاحظات عارضة -- 1
www.ahewar.org