كامل حسن الدليمي - هل الشعر صناعة؟

وفقاً لما وصلنا من تاريخ الشعر العربي ظهرت حركة عرض الشعراء لقصائدهم على العارفين بالشعر والمتذوقين لإبداء آراءهم أي قصيدة أفضل ليس انطلاقا من قواعد نقدية محددة بل على أساس التذوق للقصيدة في وقد وردنا عن القدماء أن الشعر موهبة وهي التي تصنع الشاعر، ومنذ ذلك الوقت أصبح الشعراء يذهبون إلى أكثر الشخصيات معرفة بالشعر ، وكان الحكم يتحول إلى معيار قيمة حقيقي، وعندما بدأ عصر التصنيف والمعاجم كان الشعراء يتم تصنيفهم في طبقات على أساس القيمة الشعرية لكل شاعر وظهرت كتب (طبقات الشعراء). حيث كان الشعراء الفحول أو الأكثر شاعرية يأتون في صدارة هذه الطبقات. لم يكن في ذلك الزمن نظريات ودراسات نقدية في الشعر.
لكن الشعر الذي كان يعتمد على السليقة ثم تطور في مراحل لاحقة إلى صناعة كما هو الحال في مصطلح (صناعة الشعر) الذي كان يطلقه نقاد الشعر القدامى على العملية الإبداعية،وشاع بين الجاهليين مفهوماً الطبع والصنعة، ومما يؤكد ذلك ظهور مدرسة في الشعر الجاهلي، سميت (بعبيد الشعر)، تقوم على التجويد وإتقان صناعة القصيدة، واستغراق الزمن الطويل في إعدادها، في مقابل الطريقة الشائعة التي تقوم على الطبع وحده. وقد عرف عبيد الشعر قيمة الراوية والحفظ والتعليم، وساد هذا المبدأ بعد ظهور الإسلام. ولعل حوليات الشاعر زهير بن أبي سلمى هي التجسيد الحقيقي لهذا المفهوم، حيث كان يبقى عاما كاملا ينقح قصيدته حتى يرضى عنها ويشيعها بين الناس.
وهنا لابد من تعريف مصطلح عبيد الشعر كما ورد في الكتب النقدية القديمة : هو مصطلح نقدي، كان الأصمعي أول من أطلق هذه التسمية على زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأضرابهما، ونسبهما إلى التكلف وثقاف الشعر، إذ قال: :ومن الشعراء المتكلف والمطبوع، فالمتكلِّف هو الذي قوَّمَ شعره بالثقاف ونقَّحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر بعد النظر كزهيرٍ والحطيئة، هذا ما يعنيه المصطلح بشكل موجز وقد وكان الأصمعي يقول: زهير والحطيئة وأشباههما من الشعراء عبيد الشعر؛ لأنهم نقَّحوه، ولم يذهبوا فيه مذاهب المطبوعين. وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي المنقَّح، وكان زهير يسمي كُبرَ قصائده الحوليات، وهنا نقول أن الصنعة في الشعر تبتعد في مواضع عن روح الشعر وتنقيح القصيدة يبعدها عن الطبع ويحكمها من حيث الشكل ويقعّد قواعدها، وفي رأيي المتواضع أن هذا يعدّ بطراً لايمكث طويلا في الذاكرة وهو يخلو غالبا من الشعرية وهو ما يقوم به اليوم شعراء تأبطوا ديوان المتنبي وابو تمام وسواهم ونسجوا على منوال ما نسج السابقون، وهذا ما ذكرناه سابقا واصطلحنا عليه ( الشعر الفليني) لا طعم له ولا قيمة غير أنه شعر.
ولنعترف بحقيقة أن أجمل الشعر الذي نسمعه وننتشي ما كان لولا وجود شعراء على قدر كبير من الموهبة والثقافة الشعرية يمثل شعرهم القيم العليا التي تمتزج مع الحياة بوقعها المتجدد.
إن هذا التداخل والتكامل بين عناصر التجربة الشعرية هي التي تدلنا من أين يأتي الشعر وكيف ينمو ويتطور وما هي القصيدة التي تخلد والقصيدة التي تشبه الأغاني الموسمية والتي يطلق عليها (طقاطيق). والبون شاسع بين العباسي والأندلسي وهو مختلف عن الحاهلي قطعاً وهو مختلف عن الشعر الرومانسي وشعر التفعيلة أو قصيدة النثر التي مازالت تشكّل نقطة صراع كبير فالذي يكتب القصيدة العمودية يعتبر نفسه البحتري ولا شاعر سواه وكلّ أنواع الشعر الأخرى لا قيمة لها عنده وبالعكس تماما نجد الناثر لا يعترف بقصيدة العمود كأنها القطيعة مع الموروث وكلما زاد الصراع ضعف المنتج الشعري القيم .
ان توفر العناصر الموضوعية ساهمت بتكامل الذات الشعرية. كذلك لولا الجهد الخاص الذي كان يبذله الشاعر في تطوير تجربته الشعرية منذ نازك والسياب ورفدها بروافد شعرية ومعرفية كثيرة. إن وجود تجارب مختلفة تمتلك فرادتها هي التي صنعت تحولات هذه الشعرية وفتحت أمامها آفاقا جديدة فالشعر الحر والتفعيلة والنثر اساليب جددت في الشعرية العربية. وهنا نشير لازمة الشعر في عصرنا وهي وجود شعراء أكثر من المتلقين ففسدت الرغبة لتتبع النشاط الشعري الضخم كما نتلمس ذلك في معارض دولية تقام للادب والفكر فلا اقبال على الشعر مهما كان نوعه إلا ما ندر بمعنى أن الشعر محصور بين ( الشعراء والمهتمين فقط) بينما قصرت حلقة التلقي.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...