رحل في الأسبوع الماضي ، في فيينا ، المخرج الفلسطيني ابن مخيم عين الحلوة ، نصري حجاج الذي أخرج فيلما عن محمود درويش عنوانه " كما قال الشاعر " ، وثانيا عن المقابر الفلسطينية في الشتات هو " ظل الغياب " ، وأفلاما أخرى .
كان نصري أحد العائدين إلى مناطق السلطة الفلسطينية ، ولكنه ، مثل قليلين ، لم يستقر فيها ، إذ آثر العودة إلى المنافي ، ليستقر في ( فيينا ) ، وظل على تواصل معنا ، هنا في فلسطين ، من خلال زيارات عديدة وبوسائل التواصل الاجتماعي .
أول مرة التقيت به ، دون أن نتعارف ، كانت في مخيم بلاطة للاجئين ، إذ استضيف في ٩٠ القرن ٢٠ ليتحدث عن أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان . يومها أصغيت إليه دون أن نتعارف ، ثم تواصلنا من خلال صفحات التواصل الاجتماعي التي كانت مدخلا للقائنا ، وذلك عندما زار نابلس ورام الله ، لينجز فيلما في مدينة بيت لحم .
كتب نصري القصة القصيرة وأصدرت له المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي مجموعته التي تقع في ثمانين صفحة " اعتقد أنني أحب الحكومة " ( ٢٠٠٤ ) وتضم ثلاثين قصة تقع في ٨٠ صفحة منها ٨ صفحات إهداء ومكان نشر ، إذا استثنيناها فإن المجموعة تقع في اثنتين وسبعين صفحة - هذا يعني أن كل قصة تقع تقرببا في صفحتين وثلث ، ما يجعل قصصها أقرب إلى القصة القصيرة جدا ، علما أن بعضها يطول إلى ست صفحات وأكثرها يقع في نصف صفحة . ولست هنا معنيا بالكتابة عنها ، إنما أنا معني بحوارات جرت بيني وبين نصري ، حين تناولت بعض الأعمال الأولى لبعض الكتاب واستطردت في الكتابة عنها ، ما لم يرق له ، فكتب مستفزا ، وكثيرا ما كان - رحمه الله - يستفز ويفصح عن مشاعره غير آبه بالمثل " حب وواري وابغض وداري " وهو مثل تعلمته من جدتي اليافاوية صفية أبو الركب - رحمها الله .
في الأشهر الأخيرة تناولت المجموعة القصصية الأولى الوحيدة للدكتور محمد اشتية " إكليل من شوك " ( ٢٠٠٨ ) ، وكنت كتبت عنها في " الأيام " مقالا يوم صدرت ، والرواية الأولى الوحيدة للسيد يحيى السنوار " الشوك والقرنفل " ( ٢٠٠٤ ) .
كتبت عن قصص " إكليل من شوك " إحدى وعشرين حلقة على مدار واحد وعشرين يوما ، وعن رواية " الشوك والقرنفل " عشر حلقات على مدار عشرة أيام ، فاحتج نصري ، إذ أعطيت هذا الوقت ، وبذلت من الجهد ما بذلت ، لكاتبين لا لمكانتهما الأدبية وإنما لمكانتهما السياسية ، ولم يكن الوحيد الذي أبدى امتعاضه ، فهناك آخرون تساءلوا أيضا عن سبب الكتابة . في المقابل كان هناك آخرون حثوني على المواصلة ، فما كنت أكتبه كان يمزج بين النقد الأدبي والهموم الاجتماعية والسياسية والصحية والإنسانية التي نعيشها . لقد حثني بعض القراء على أن أجمع ما كتبت ، مع تعقيبات القراء ، وأصدرها في كتاب عنوانه " سهرة مع أبو إبراهيم ؛ أبو إبراهيم محمد اشتية وأبو إبراهيم يحيى السنوار " .
والصحيح أن فكرة الكتابة عن العمل الأدبي الأول الوحيد للكاتب فكرة ألحت على ذهني منذ فترة ، وما زالت تلح ، وكنت أفكر في الكتابة عن المجموعات القصصية الأولى للكتاب ، وأركز بالتحديد على الذين أصدروا مجموعة واحدة ، مثل نصري حجاج ، وتوقفوا ، يحدوني السؤال :
- لماذا كتب هؤلاء مجموعة ثم توقفوا ؟
وهو سؤال قديم راودني يوم كتبت عن مجموعة الشهيد ماجد أبو شرار " الخبز المر " ومجموعة الشهيد عز الدين القلق " شهداء بلا تماثيل " ، بل وراودني وأنا أتابع نتاج حكم بلعاوي وصبحي شحروري أيضا ، إذ انقطع هذان عن كتابة القصة القصيرة لفترة طويلة ، ثم عادا ليكتباها ولم يصدرا فيها سوى مجموعتين أو ثلاث على أكثر تقدير .
هناك كتاب كثر كتبوا عملا أدبيا واحدا ؛ مجموعة شعرية أو مجموعة قصصية أو رواية ، ثم هحروا عالم الأدب إلى عوالم أخرى . وثمة أسباب بالتأكيد لذلك . وغالبا ما اسأل باعتباري ناقدا :
- لماذا لا تتتاول أعمال الكتاب الشباب وتركز على أسماء أدبية مشهورة ؟
وأجيب بأنه يجب أن يكون للكاتب مشروع أدبي أو اجتماعي أو سياسي ، ويجب أن يسائل أعماله الأدبية ومكانتها في أدبه الوطني وأدبه القومي ، بل وفي الأدب العالمي . يجب أن يكون قرأ نتاج أدباء سابقين في الجنس الذي يكتب فيه ، لكي لا تكون كتابته ضربا من التكرار الذي لا يضيف شيئا ، وهذا ما لا يتحقق لكاتب يصدر عملا واحدا ويتوقف . ومنها أن كثيرا من الأدباء المعروفين تخلوا أنفسهم عن عملهم الأول ، ويعد محمود درويش واحدا من هؤلاء ، إذ تخلى عن ديوانه " عصافير بلا أجنحة " وليس الكتاب كلهم يولدون ، مثل ( رامبو ) الشاعر الفرنسي ، مكتملين لنتابع عملهم الأول .
في الأسبوع الماضي التقيت بالصديق عيسى بشارة فحكى لي قصة طريفة عن طريقة إعدامه ديوانه الأول أتمنى أن يكتبها هو بنفسه ، وحين ناقشت طالب ماجستير في أشعار المتوكل طه سألته لماذا لم يكتب عن الديوان الأول للشاعر ، إذ أورده الشاعر في قائمة بعض منشوراته ، فأجابني بأنه طلب نسخة من الديوان من الشاعر ولكنه رفض إعارته إياها ، لأنه لم يعد يهتم بها .
والكتابة في الموضوع تطول ، أما لماذا يعتقد سارد قصة نصري حجاج الحكومة فتجيب عنه القصة إجابة لا تخطر على بال قاريء العنوان فقط إذا ما قرأه قراءة واحدة جادة ولم يأخذ بتعريف معين للسخرية هو " السخرية هي أن تقول شيئا وتقصد عكسه " ، وإذا ما كان نصري وسارده ساخرين ، فالمعنى يصبح " أعتقد أنني لا أحب الحكومة " بل إنني لا أحبها .
لا يكتمل ما يرمي إليه العنوان إلا بقراءة القصة التي يقصها سارد يقتل أبناءه وبناته وزوجته ذبحا وخنقا ، لكي لا يكلف الحكومة تبعات حياتهم والمزيد من النفقات ، فوفر بذلك عليها أعباء الديون الخارجية والقروض لشراء الورق وطبع جوازات السفر ، فلا يكون منها - أي الحكومة - إلا أن تعلن اعتباره مواطنا مثاليا ، فيحذو حذوه مواطنون كثيرون يحملون سكاكينهم وخناجرهم لتهوي على رقاب الأطفال تحزها حزا " فينفجر الدم فيضانا عظيما وتشخر الرقاب الذبيحة شخيرا صاخبا لا يعلو علبه صوت إلا صوت حناجرنا ونحن نتوجه بالدعاء إلى الله ليحفظ زعيمنا ووطننا " ، وواضح تأثر الكاتب بالقاص السوري زكريا تامر ، وهذا ما لا يخفى على قاريء تامر .
وهنا نعود إلى السؤال عما يضيفه أكثر الكتاب الذين يصدرون مجموعة واحدة إلى ما كتبه من سبقهم .
أعتقد أن كتابة القصة القصيرة لو كانت هاجس نصري حجاج الأول والأساس لمنحها وقتا أكثر وواصل كتابتها وشكلت مشروعه الرئيس ، ولكن هاجسه الأساس ومشروعه الرئيس كانا الأفلام والسينما وهو ما أبدع فيه . لقد بذل جهدا كبيرا في مجال إنتاج الأفلام فسافر وصور وقابل وبذل جل وقته لهذا .
( مقالي اليوم الأحد في جريدة الأيام الفلسطينية متوسعا فيه
١٩ أيلول ٢٠٢١ )
الجمعة
١٧ أيلول ٢٠٢١
كان نصري أحد العائدين إلى مناطق السلطة الفلسطينية ، ولكنه ، مثل قليلين ، لم يستقر فيها ، إذ آثر العودة إلى المنافي ، ليستقر في ( فيينا ) ، وظل على تواصل معنا ، هنا في فلسطين ، من خلال زيارات عديدة وبوسائل التواصل الاجتماعي .
أول مرة التقيت به ، دون أن نتعارف ، كانت في مخيم بلاطة للاجئين ، إذ استضيف في ٩٠ القرن ٢٠ ليتحدث عن أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان . يومها أصغيت إليه دون أن نتعارف ، ثم تواصلنا من خلال صفحات التواصل الاجتماعي التي كانت مدخلا للقائنا ، وذلك عندما زار نابلس ورام الله ، لينجز فيلما في مدينة بيت لحم .
كتب نصري القصة القصيرة وأصدرت له المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي مجموعته التي تقع في ثمانين صفحة " اعتقد أنني أحب الحكومة " ( ٢٠٠٤ ) وتضم ثلاثين قصة تقع في ٨٠ صفحة منها ٨ صفحات إهداء ومكان نشر ، إذا استثنيناها فإن المجموعة تقع في اثنتين وسبعين صفحة - هذا يعني أن كل قصة تقع تقرببا في صفحتين وثلث ، ما يجعل قصصها أقرب إلى القصة القصيرة جدا ، علما أن بعضها يطول إلى ست صفحات وأكثرها يقع في نصف صفحة . ولست هنا معنيا بالكتابة عنها ، إنما أنا معني بحوارات جرت بيني وبين نصري ، حين تناولت بعض الأعمال الأولى لبعض الكتاب واستطردت في الكتابة عنها ، ما لم يرق له ، فكتب مستفزا ، وكثيرا ما كان - رحمه الله - يستفز ويفصح عن مشاعره غير آبه بالمثل " حب وواري وابغض وداري " وهو مثل تعلمته من جدتي اليافاوية صفية أبو الركب - رحمها الله .
في الأشهر الأخيرة تناولت المجموعة القصصية الأولى الوحيدة للدكتور محمد اشتية " إكليل من شوك " ( ٢٠٠٨ ) ، وكنت كتبت عنها في " الأيام " مقالا يوم صدرت ، والرواية الأولى الوحيدة للسيد يحيى السنوار " الشوك والقرنفل " ( ٢٠٠٤ ) .
كتبت عن قصص " إكليل من شوك " إحدى وعشرين حلقة على مدار واحد وعشرين يوما ، وعن رواية " الشوك والقرنفل " عشر حلقات على مدار عشرة أيام ، فاحتج نصري ، إذ أعطيت هذا الوقت ، وبذلت من الجهد ما بذلت ، لكاتبين لا لمكانتهما الأدبية وإنما لمكانتهما السياسية ، ولم يكن الوحيد الذي أبدى امتعاضه ، فهناك آخرون تساءلوا أيضا عن سبب الكتابة . في المقابل كان هناك آخرون حثوني على المواصلة ، فما كنت أكتبه كان يمزج بين النقد الأدبي والهموم الاجتماعية والسياسية والصحية والإنسانية التي نعيشها . لقد حثني بعض القراء على أن أجمع ما كتبت ، مع تعقيبات القراء ، وأصدرها في كتاب عنوانه " سهرة مع أبو إبراهيم ؛ أبو إبراهيم محمد اشتية وأبو إبراهيم يحيى السنوار " .
والصحيح أن فكرة الكتابة عن العمل الأدبي الأول الوحيد للكاتب فكرة ألحت على ذهني منذ فترة ، وما زالت تلح ، وكنت أفكر في الكتابة عن المجموعات القصصية الأولى للكتاب ، وأركز بالتحديد على الذين أصدروا مجموعة واحدة ، مثل نصري حجاج ، وتوقفوا ، يحدوني السؤال :
- لماذا كتب هؤلاء مجموعة ثم توقفوا ؟
وهو سؤال قديم راودني يوم كتبت عن مجموعة الشهيد ماجد أبو شرار " الخبز المر " ومجموعة الشهيد عز الدين القلق " شهداء بلا تماثيل " ، بل وراودني وأنا أتابع نتاج حكم بلعاوي وصبحي شحروري أيضا ، إذ انقطع هذان عن كتابة القصة القصيرة لفترة طويلة ، ثم عادا ليكتباها ولم يصدرا فيها سوى مجموعتين أو ثلاث على أكثر تقدير .
هناك كتاب كثر كتبوا عملا أدبيا واحدا ؛ مجموعة شعرية أو مجموعة قصصية أو رواية ، ثم هحروا عالم الأدب إلى عوالم أخرى . وثمة أسباب بالتأكيد لذلك . وغالبا ما اسأل باعتباري ناقدا :
- لماذا لا تتتاول أعمال الكتاب الشباب وتركز على أسماء أدبية مشهورة ؟
وأجيب بأنه يجب أن يكون للكاتب مشروع أدبي أو اجتماعي أو سياسي ، ويجب أن يسائل أعماله الأدبية ومكانتها في أدبه الوطني وأدبه القومي ، بل وفي الأدب العالمي . يجب أن يكون قرأ نتاج أدباء سابقين في الجنس الذي يكتب فيه ، لكي لا تكون كتابته ضربا من التكرار الذي لا يضيف شيئا ، وهذا ما لا يتحقق لكاتب يصدر عملا واحدا ويتوقف . ومنها أن كثيرا من الأدباء المعروفين تخلوا أنفسهم عن عملهم الأول ، ويعد محمود درويش واحدا من هؤلاء ، إذ تخلى عن ديوانه " عصافير بلا أجنحة " وليس الكتاب كلهم يولدون ، مثل ( رامبو ) الشاعر الفرنسي ، مكتملين لنتابع عملهم الأول .
في الأسبوع الماضي التقيت بالصديق عيسى بشارة فحكى لي قصة طريفة عن طريقة إعدامه ديوانه الأول أتمنى أن يكتبها هو بنفسه ، وحين ناقشت طالب ماجستير في أشعار المتوكل طه سألته لماذا لم يكتب عن الديوان الأول للشاعر ، إذ أورده الشاعر في قائمة بعض منشوراته ، فأجابني بأنه طلب نسخة من الديوان من الشاعر ولكنه رفض إعارته إياها ، لأنه لم يعد يهتم بها .
والكتابة في الموضوع تطول ، أما لماذا يعتقد سارد قصة نصري حجاج الحكومة فتجيب عنه القصة إجابة لا تخطر على بال قاريء العنوان فقط إذا ما قرأه قراءة واحدة جادة ولم يأخذ بتعريف معين للسخرية هو " السخرية هي أن تقول شيئا وتقصد عكسه " ، وإذا ما كان نصري وسارده ساخرين ، فالمعنى يصبح " أعتقد أنني لا أحب الحكومة " بل إنني لا أحبها .
لا يكتمل ما يرمي إليه العنوان إلا بقراءة القصة التي يقصها سارد يقتل أبناءه وبناته وزوجته ذبحا وخنقا ، لكي لا يكلف الحكومة تبعات حياتهم والمزيد من النفقات ، فوفر بذلك عليها أعباء الديون الخارجية والقروض لشراء الورق وطبع جوازات السفر ، فلا يكون منها - أي الحكومة - إلا أن تعلن اعتباره مواطنا مثاليا ، فيحذو حذوه مواطنون كثيرون يحملون سكاكينهم وخناجرهم لتهوي على رقاب الأطفال تحزها حزا " فينفجر الدم فيضانا عظيما وتشخر الرقاب الذبيحة شخيرا صاخبا لا يعلو علبه صوت إلا صوت حناجرنا ونحن نتوجه بالدعاء إلى الله ليحفظ زعيمنا ووطننا " ، وواضح تأثر الكاتب بالقاص السوري زكريا تامر ، وهذا ما لا يخفى على قاريء تامر .
وهنا نعود إلى السؤال عما يضيفه أكثر الكتاب الذين يصدرون مجموعة واحدة إلى ما كتبه من سبقهم .
أعتقد أن كتابة القصة القصيرة لو كانت هاجس نصري حجاج الأول والأساس لمنحها وقتا أكثر وواصل كتابتها وشكلت مشروعه الرئيس ، ولكن هاجسه الأساس ومشروعه الرئيس كانا الأفلام والسينما وهو ما أبدع فيه . لقد بذل جهدا كبيرا في مجال إنتاج الأفلام فسافر وصور وقابل وبذل جل وقته لهذا .
( مقالي اليوم الأحد في جريدة الأيام الفلسطينية متوسعا فيه
١٩ أيلول ٢٠٢١ )
الجمعة
١٧ أيلول ٢٠٢١