نص القاص ياسر جمعة:
(ليلة الرأس الخمسين)
لصباها عنفوان، وعبير، تستنشقه وهي عارية، وتدور حول نفسها، تتحسس مفاتنها أمام جزءٍ صغيرٍ من مرآةٍ كان مستنداً على جدارٍ حالك اللون.
رأت فيها نفسها، في لمحةٍ خاطفةٍ، عجوز، بحاجبين أبيضين، مثل شعر الرأس الخفيف، وبملامح كرمشها إنطباق الفكّين الخاليين من الأسنان، وثدييها اللذين كانا بين كفيها في هذه اللحظة، بدوا ضامرَين.
توقفت عن دورانها وأمعنت النظر، لم ترَ شيئًا رفعت ثوبها الملقى على الأرض بجوارها وراحت تمسح به المرآة، ثم قربتها من وجهها، كانت مغبشة، لا يبين في صفحتها غير خطوطٍ متشابكةٍ مثل فروع شجرةٍ جفت أوراقها، وكانت كالحةً كلون الجدران.
ابتسمت، وما لبثت أن انفجرت في ضحكٍ باكٍ،ٍ لم يطُل، مسحت دموعها بظهر كفها الخشن، وأعادت المرآة إلى موضعها، ثم التقطت من جوار قدميها شريطًا من القماش المتسخ، راحت تلفه من تحت إبطيها كثيفيٍّ الشعر لتضغط به نهديها النافرين، وبشريطٍ مثله لفت حول وسطها وما بين فخذيها العامرين، وأكملت حجب جسدها، المتسخ كذلك، بثوبٍ مموَّهٍ، كان كبيراً عليها، ثم طوت في كم أيسرها سكينًا كبيرًا وخرجت حافية القدمين.
كانت منازل أول الليل، من الجانبين، متهدّمةً وقد برزت أشياؤها منها، وتناثرت في الطريق الصامت تمامًا إلا من صوت خطوتها الحذرة، ودويٍّ يتردّد صداه، بين الفينة والأخرى، من بعيدٍ.
ظلّتْ تتجوّل، دون أن يتركها حذرها هذا، رغم قوة كانت تعلن عن نفسها كذلك في ملامحها، ولفتاتها، وهي تمرق من حارةٍ سدٍّ إلى منزلٍ مثقوب الجدران، إلى طريقٍ بها سياراتٌ مدمَّرةٌ، وأسرِّةٌ، ومقاعدُ، وألعابُ أطفالٍ.. نظرت إليها طويلاً، لكنها واصلت سريعًا، وعلى مقربةٍ من الجندى، أحد حرّاس ثكنة من أبادوا مدينتها، والذي ترقّبته على مدار الليالي الماضية، اختبأت مستلقيةً على وجهها كمقتولةٍ، وقد أحكمتْ قبضتها على مقبض السكين، وأخذتْ تفكّر:
"بعد قليلٍ.. سيتراخى، أو يمل، فيجلس على الأرض، وقد طوى سلاحه تحت فخذه، سأباغته، أنا، في هذه اللحظة، بعد أنفاسه الأولى، المتلاحقة، التي يغمض خلالها عينيه استمتاعًا، وأحصل على رأسه لأتمّ بها الخمسين."
ولكنه لم يمل ولم يشعل سيجارته، بل انتصب في وقفته أكثر، وشدَّ أجزاء سلاحه، وبطلقاتٍ متتاليةٍ، راح يقتل أشباح الظلام المحيط.
...........
رؤيتي الانطباعية
نقف أمام نصٍ مغايرٍ
ومميّز في أسلوب قصه وسرده وقد خرق كلّ قواعد اللُّغة المعيارية
والأطر الممنهجة مشبَعاً
بالبثّ الإيحائي، ومرتبطاً بالحكي التأمّلي، والتفكير الذّهنيّ، عبر تداعيات الأحداث التي ابتدأها بوصف بليغٍ ومثيرٍ ومتنافرٍ لبطلة النص جسدياً ونفسياً
بعد أنْ شدّ انتباهنا
بالعنوان المثير
(ليلة الرأس الخمسين)
مروراً بالحبكة المُتقنة وانتهاءً بالقفلة المحترفة
مؤسساً اختباراته القرائية على التَّشويق والإثارة والتَّضمين والبقاء لا التصريح والزَّوال
مستثمرا عنصر الوصف الدَّقيق لجسم البطلة ونفسيتّها المتأزِّمة من أحداث الحرب، وقد برع الكاتب في وصف إحداثياتها وتداعياتها برشاقة فشدّ القارئ إلى مكان الحدث وزمانه
مستثمراً لعنصريّ الزمان والمكان بحرفيّةٍ عالية
كانت( منازل أول "الليل")
من( الجانبين) متهدّمة
وهي تمرق من (حارة) سدٍّ إلى (منزل) مثقوب الجدار
إلى (طريق)
هذا التَّنقل الرَّشيق الذي سلكته بطلة النص في مغامرتها الجسورة لتحصدَ (الرأس الخمسين) يُحسب للكاتب، وقد زجّنا بإيقاعٍ متسارع ضمن زمنٍ خَطِر (الليل) ليمنحنا شعور بالمخاطرة والتّوجّس، حتى نكاد نحبس أنفاسنا مع تنقّلات البطلة المكانية من منزل إلى جدران إلى حارة إلى ثكنة؛ ليخبرنا -بعد أن رسم عوالم المكان ونحت ملامح الزمان وأوزار الحرب- أنّ كل تلك الأماكن كانت بقايا مدينة تمخَّضت عن آلة الحرب، دون تطويلٍ ولا تسويف!
ثمّ ينتقل الكاتب ببراعة إلى وصف الهيئات التي تتخذها البطلة للوصول إلى الرأس المنشود لاجتثاثه
بكل حذر و جسارة وثقة.
السؤال الذي "يطرح نفسه" هنا ضمن التَّغاير والتّمايز!
أليس من الإبداع بمكان
أن تكون امرأة شخصية النص الرئيسة
هي من تقوم بكلّ تلك البطولات؟!
وقد اعتدنا في القصص أن يكون دور البطولة مقتصراً على الرجل!
وهنا يكمن الإبداع في هذا التباين والاختلاف في طَرق غير المألوف وغير الاعتيادي!
وقد شكّل الكاتب شخصيّة بطلة النص- التي بنى عليها كل الأحداث ببراعة ضمن أحداثٍ تداعت من زمن ماضٍ إلى زمن حاضرٍ مشتغلاً على الحالة النفسية للبطلة ومن تترصّده (حارس الثكنة العسكرية)- بتصاعدٍ لافت يُوتّر القارئ ويشوّقه لمتابعة الأحداث؛ لأن شخصية البطلة نفسها تفارق مستوى الواقع وتبتعد عنه بمغامرتها وخروجها عن المألوف في تركيب الأنثى!
لقفل النص على طلقات طائشةٍ وقد أُصيب صاحب (الرأس الخمسين) بالهلع ممّا و ممّن لم يره بعد!
(ليلة الرأس الخمسين)
لصباها عنفوان، وعبير، تستنشقه وهي عارية، وتدور حول نفسها، تتحسس مفاتنها أمام جزءٍ صغيرٍ من مرآةٍ كان مستنداً على جدارٍ حالك اللون.
رأت فيها نفسها، في لمحةٍ خاطفةٍ، عجوز، بحاجبين أبيضين، مثل شعر الرأس الخفيف، وبملامح كرمشها إنطباق الفكّين الخاليين من الأسنان، وثدييها اللذين كانا بين كفيها في هذه اللحظة، بدوا ضامرَين.
توقفت عن دورانها وأمعنت النظر، لم ترَ شيئًا رفعت ثوبها الملقى على الأرض بجوارها وراحت تمسح به المرآة، ثم قربتها من وجهها، كانت مغبشة، لا يبين في صفحتها غير خطوطٍ متشابكةٍ مثل فروع شجرةٍ جفت أوراقها، وكانت كالحةً كلون الجدران.
ابتسمت، وما لبثت أن انفجرت في ضحكٍ باكٍ،ٍ لم يطُل، مسحت دموعها بظهر كفها الخشن، وأعادت المرآة إلى موضعها، ثم التقطت من جوار قدميها شريطًا من القماش المتسخ، راحت تلفه من تحت إبطيها كثيفيٍّ الشعر لتضغط به نهديها النافرين، وبشريطٍ مثله لفت حول وسطها وما بين فخذيها العامرين، وأكملت حجب جسدها، المتسخ كذلك، بثوبٍ مموَّهٍ، كان كبيراً عليها، ثم طوت في كم أيسرها سكينًا كبيرًا وخرجت حافية القدمين.
كانت منازل أول الليل، من الجانبين، متهدّمةً وقد برزت أشياؤها منها، وتناثرت في الطريق الصامت تمامًا إلا من صوت خطوتها الحذرة، ودويٍّ يتردّد صداه، بين الفينة والأخرى، من بعيدٍ.
ظلّتْ تتجوّل، دون أن يتركها حذرها هذا، رغم قوة كانت تعلن عن نفسها كذلك في ملامحها، ولفتاتها، وهي تمرق من حارةٍ سدٍّ إلى منزلٍ مثقوب الجدران، إلى طريقٍ بها سياراتٌ مدمَّرةٌ، وأسرِّةٌ، ومقاعدُ، وألعابُ أطفالٍ.. نظرت إليها طويلاً، لكنها واصلت سريعًا، وعلى مقربةٍ من الجندى، أحد حرّاس ثكنة من أبادوا مدينتها، والذي ترقّبته على مدار الليالي الماضية، اختبأت مستلقيةً على وجهها كمقتولةٍ، وقد أحكمتْ قبضتها على مقبض السكين، وأخذتْ تفكّر:
"بعد قليلٍ.. سيتراخى، أو يمل، فيجلس على الأرض، وقد طوى سلاحه تحت فخذه، سأباغته، أنا، في هذه اللحظة، بعد أنفاسه الأولى، المتلاحقة، التي يغمض خلالها عينيه استمتاعًا، وأحصل على رأسه لأتمّ بها الخمسين."
ولكنه لم يمل ولم يشعل سيجارته، بل انتصب في وقفته أكثر، وشدَّ أجزاء سلاحه، وبطلقاتٍ متتاليةٍ، راح يقتل أشباح الظلام المحيط.
...........
رؤيتي الانطباعية
نقف أمام نصٍ مغايرٍ
ومميّز في أسلوب قصه وسرده وقد خرق كلّ قواعد اللُّغة المعيارية
والأطر الممنهجة مشبَعاً
بالبثّ الإيحائي، ومرتبطاً بالحكي التأمّلي، والتفكير الذّهنيّ، عبر تداعيات الأحداث التي ابتدأها بوصف بليغٍ ومثيرٍ ومتنافرٍ لبطلة النص جسدياً ونفسياً
بعد أنْ شدّ انتباهنا
بالعنوان المثير
(ليلة الرأس الخمسين)
مروراً بالحبكة المُتقنة وانتهاءً بالقفلة المحترفة
مؤسساً اختباراته القرائية على التَّشويق والإثارة والتَّضمين والبقاء لا التصريح والزَّوال
مستثمرا عنصر الوصف الدَّقيق لجسم البطلة ونفسيتّها المتأزِّمة من أحداث الحرب، وقد برع الكاتب في وصف إحداثياتها وتداعياتها برشاقة فشدّ القارئ إلى مكان الحدث وزمانه
مستثمراً لعنصريّ الزمان والمكان بحرفيّةٍ عالية
كانت( منازل أول "الليل")
من( الجانبين) متهدّمة
وهي تمرق من (حارة) سدٍّ إلى (منزل) مثقوب الجدار
إلى (طريق)
هذا التَّنقل الرَّشيق الذي سلكته بطلة النص في مغامرتها الجسورة لتحصدَ (الرأس الخمسين) يُحسب للكاتب، وقد زجّنا بإيقاعٍ متسارع ضمن زمنٍ خَطِر (الليل) ليمنحنا شعور بالمخاطرة والتّوجّس، حتى نكاد نحبس أنفاسنا مع تنقّلات البطلة المكانية من منزل إلى جدران إلى حارة إلى ثكنة؛ ليخبرنا -بعد أن رسم عوالم المكان ونحت ملامح الزمان وأوزار الحرب- أنّ كل تلك الأماكن كانت بقايا مدينة تمخَّضت عن آلة الحرب، دون تطويلٍ ولا تسويف!
ثمّ ينتقل الكاتب ببراعة إلى وصف الهيئات التي تتخذها البطلة للوصول إلى الرأس المنشود لاجتثاثه
بكل حذر و جسارة وثقة.
السؤال الذي "يطرح نفسه" هنا ضمن التَّغاير والتّمايز!
أليس من الإبداع بمكان
أن تكون امرأة شخصية النص الرئيسة
هي من تقوم بكلّ تلك البطولات؟!
وقد اعتدنا في القصص أن يكون دور البطولة مقتصراً على الرجل!
وهنا يكمن الإبداع في هذا التباين والاختلاف في طَرق غير المألوف وغير الاعتيادي!
وقد شكّل الكاتب شخصيّة بطلة النص- التي بنى عليها كل الأحداث ببراعة ضمن أحداثٍ تداعت من زمن ماضٍ إلى زمن حاضرٍ مشتغلاً على الحالة النفسية للبطلة ومن تترصّده (حارس الثكنة العسكرية)- بتصاعدٍ لافت يُوتّر القارئ ويشوّقه لمتابعة الأحداث؛ لأن شخصية البطلة نفسها تفارق مستوى الواقع وتبتعد عنه بمغامرتها وخروجها عن المألوف في تركيب الأنثى!
لقفل النص على طلقات طائشةٍ وقد أُصيب صاحب (الرأس الخمسين) بالهلع ممّا و ممّن لم يره بعد!