قبل عقود تعرضت أسرة برازيلية للعدوان، أي كانوا ضحية لجريمة ما. التلفزيون البرازيلي قام -عبر برنامج وثائقي- بعرض حلقات تتعرض للماضي؛ فرفعت الأسرة دعوى أمام المحكمة الفدرالية العليا في البرازيل مطالبة بوقف البرنامج، وذلك اعتماداً على الحق في أن تظل تلك الأسرة منسية. المحكمة واجهت قضية جديدة عليها، إذ أن قواعد الدستور البرازيلي لم تكن تنص على مثل هذا الحق، رغم إمكانية إندراجه ضمن الحق في الخصوصية، غير أنه سيتعارض مع حرية التعبير من جهة وحرية الحصول على المعلوماا أيضاً.
في بحثه الصغير ناقش جيلهيرم داسيلفا هذه المعضلة، وانتهى إلى ما انتهت إليه المحكمة من تغليب الحق في أن يكون الناس منسيين على الحقوق الأكثر عمومية.
لقد جذبني عنوان بحث داسيلفا، فالحق في أن تظل منسياً؛ حق يصلح عنواناً لرواية أو قصيدة كقصيدة درويش:
مقهىً
وأَنتَ مع الجريدة جالسٌ
لا، لَسْتَ وحدَك
نِصْفُ كأسك فارغٌ
والشمسُ تملأ نصفها الثاني...
ومن خلف الزجاج ترى المشاة المسرعين
ولا تُرَى
إحدى صفات الغيب تلك:
ترى ولكن لا تُرَى
كم أَنت حُرُّ أَيها المنسيُّ في المقهى!
فلا أَحدٌ يرى أَثَرَ الفراشة فيك،
لا أَحَدٌ يحملقُ في حضوركَ أو غيابكَ،
أَو يدقِّقُ في ضبابك
إن نظرتَ
إلى فتاةٍ وانكسرت أَمامها....
كم أنت حُرُّ في إدارة شأنك الشخصيِّ
في هذا الزحام بلا رقيب منك أَو
من قارئ!
فاصنع بنفسك ما تشاء، إخلعْ
قميصك أو حذاءك إن أَردتَ، فأنت
منسيُّ وحُرٌّ في خيالك
غير أن دعوى تلك الأسرة لم تكن رغبة في أن تملك حرية درويش التي ينشدها من أن يظل منسياً في قصيدة "وحدك"؛ وإن كانت منطلقاتهما الأنطولوجية لا تختلف إن تعمقنا قليلاً في نقطة الإرتكاز.
أن نملك حق الغياب بمآسينا وآلامنا، لهو أكبر من العزلة النرجسية التي يمارسها المثقفون لإنتاج إبداع ما. فأنت تملك حق أن تكون ظلاً عابراً في ظلام أبدي. وأن تدافع عن حقك في الإنكفاء على الألم والماضي البئيس بصمت.
لقد حاولت أن أعرف قصة هذه الأسرة فلم أتمكن من ذلك إذ خانتني اللغة البرتغالية أولاً، وحكم المحكمة الذي بدوره قد رفع عن محرك البحث قوقل أسماء هؤلاء المنكوبين حتماً.
الحق في أن تكون منسياً في هذا العالم، لهو أجمل الحقوق، غير أن أغلب البشر لا يطيقون أن يكونوا منسيين، بل على العكس. إنهم يحبون دائماً أن يكونوا خالدين في الذاكرة، ويسعون -بكل قوة- لتوسعة نطاق تلك الذاكرة، من خلال الأسرة الضيقة وحتى التسلط على البشر ليكونوا زعماء فيخلدهم التاريخ.
ولأن أكثر الأشياء قوة وصلادة وبقاءً كان الصخر، فقد نحتوا تماثيلهم في الصخر، ليواجهوا مخاوف الغياب. ولأن الخلود -كما تصوروه- مبثوث في قوة الصخر، فقد نحتوا الآلهة عليه ليتمثلوا خلودهم من خلود الصخر، وقوتهم من قوته. ثم عبدوا تلك التماثيل وهي منتصبة شامخة في كل فصول السنة، تحت الأمطار وزمهرير الشتاء وصهد الشمس وعطر الربيع وسنوات الحروب والقحط والإزدهار. كان الصخر رمزاً لرفض الإنسان أن يظل منسياً.. ولكن المأساة قد تقلب كل ذلك رأساً على عقب، ويفضل البشر أن يكونوا مجرد عابرين كومضة في الوجود.
في بحثه الصغير ناقش جيلهيرم داسيلفا هذه المعضلة، وانتهى إلى ما انتهت إليه المحكمة من تغليب الحق في أن يكون الناس منسيين على الحقوق الأكثر عمومية.
لقد جذبني عنوان بحث داسيلفا، فالحق في أن تظل منسياً؛ حق يصلح عنواناً لرواية أو قصيدة كقصيدة درويش:
مقهىً
وأَنتَ مع الجريدة جالسٌ
لا، لَسْتَ وحدَك
نِصْفُ كأسك فارغٌ
والشمسُ تملأ نصفها الثاني...
ومن خلف الزجاج ترى المشاة المسرعين
ولا تُرَى
إحدى صفات الغيب تلك:
ترى ولكن لا تُرَى
كم أَنت حُرُّ أَيها المنسيُّ في المقهى!
فلا أَحدٌ يرى أَثَرَ الفراشة فيك،
لا أَحَدٌ يحملقُ في حضوركَ أو غيابكَ،
أَو يدقِّقُ في ضبابك
إن نظرتَ
إلى فتاةٍ وانكسرت أَمامها....
كم أنت حُرُّ في إدارة شأنك الشخصيِّ
في هذا الزحام بلا رقيب منك أَو
من قارئ!
فاصنع بنفسك ما تشاء، إخلعْ
قميصك أو حذاءك إن أَردتَ، فأنت
منسيُّ وحُرٌّ في خيالك
غير أن دعوى تلك الأسرة لم تكن رغبة في أن تملك حرية درويش التي ينشدها من أن يظل منسياً في قصيدة "وحدك"؛ وإن كانت منطلقاتهما الأنطولوجية لا تختلف إن تعمقنا قليلاً في نقطة الإرتكاز.
أن نملك حق الغياب بمآسينا وآلامنا، لهو أكبر من العزلة النرجسية التي يمارسها المثقفون لإنتاج إبداع ما. فأنت تملك حق أن تكون ظلاً عابراً في ظلام أبدي. وأن تدافع عن حقك في الإنكفاء على الألم والماضي البئيس بصمت.
لقد حاولت أن أعرف قصة هذه الأسرة فلم أتمكن من ذلك إذ خانتني اللغة البرتغالية أولاً، وحكم المحكمة الذي بدوره قد رفع عن محرك البحث قوقل أسماء هؤلاء المنكوبين حتماً.
الحق في أن تكون منسياً في هذا العالم، لهو أجمل الحقوق، غير أن أغلب البشر لا يطيقون أن يكونوا منسيين، بل على العكس. إنهم يحبون دائماً أن يكونوا خالدين في الذاكرة، ويسعون -بكل قوة- لتوسعة نطاق تلك الذاكرة، من خلال الأسرة الضيقة وحتى التسلط على البشر ليكونوا زعماء فيخلدهم التاريخ.
ولأن أكثر الأشياء قوة وصلادة وبقاءً كان الصخر، فقد نحتوا تماثيلهم في الصخر، ليواجهوا مخاوف الغياب. ولأن الخلود -كما تصوروه- مبثوث في قوة الصخر، فقد نحتوا الآلهة عليه ليتمثلوا خلودهم من خلود الصخر، وقوتهم من قوته. ثم عبدوا تلك التماثيل وهي منتصبة شامخة في كل فصول السنة، تحت الأمطار وزمهرير الشتاء وصهد الشمس وعطر الربيع وسنوات الحروب والقحط والإزدهار. كان الصخر رمزاً لرفض الإنسان أن يظل منسياً.. ولكن المأساة قد تقلب كل ذلك رأساً على عقب، ويفضل البشر أن يكونوا مجرد عابرين كومضة في الوجود.