- 4 رسائل من بلند الحيدري إلى نسيم رجوان
لندن في 9/3/1995
أيها العزيز نسيم رجوان
تحية طيبة
وبعد ضياع سنين، وبعد البحث عن واحدنا الآخر، أقع إلى عنوانك، لأقول لك بأن ما بدأنا به، أخوة وأدباء وأحلاماً وتطلعاتٍ لا يمكن إلا أن يجمعنا في الذي يؤكدنا بأننا أكبر من أن تفرقنا أحداث عابرة .. هكذا أمدّ يدي إليك وفي انتظار أن أسمع الكثير عنك ..
واسلم أيها الصديق
(إمضاء)
بغداد
تلك الفاتنةُ السمراءُ .. لماذا
ما عدتُ أراها
إلاّ في ثوب حِداد
إلاّ في ظهرٍ محنيٍّ أو جلدٍ مهري
أو شهقة إمرأةٍ ثكلى
أو دودٍ يتوالدُ ما بين عيونِ القتلى
وخرائب سودٍ يتسكعُ فيها الموت
وليس سوى صمت رماد
بغداد
تلك الفاتنةُ السمراء .. لماذا
ما عدتُ أراها
إلاّ في وجهٍ يتوعدني بالقتل
ووجهٍ يترصدني
في كلِّ عيونِ الأوغاد
ما عدت أراها
إلاّ في سوطٍ ما زال يقهقه
في كفِّ الجلّاد
ها إني إذ أعلن عن أنّي
لا أملك من كل فجاجك إلاّ ظلي
وأني أخشى أن يسحبني
من بركة ماءٍ وحلٌ
ولبركة ماءٍ وحلٌ
وأني أخشى أن يوهنني زمني
أن يُحنى ظهري للذل ..
لسطوة غلّك أو غلّي
وأني أخشى أن لن أُبصر في المرآة
سوى وجهي في عيني عبدٍ قنّ
بغداد
من ينقذنا من هذا الوطن
الموغل في حزنٍ عفنٍ ...؟
فأنا أخشى أن أحمل موتي
في يوم ما
مثلك في ظهر محني
معذرةً بغداد
سيجيء الفجرُ
والشمسُ ستولدُ ثانيةً
حتى لو كان القبرُ
هو الميعاد
******
1/4/1995
لندن
نسيم أيها العزيز
لا يمكن أن تعرف مدى ما كان لرسالتك من أثر كبير في نفسي، وعبر محاسبات عميقة في الذي كان لنا والذي كان علينا، عبر ظروف فرضت علينا، وكنا أكبر منها لأننا لم نعرف أنفسنا في هذا الحيز الضيق أو ذلك .. كنا نعرف أنفسنا أصدقاء نتطلع لآفاق إنسانية أكبر من أن تختزلها طائفة أو يختزلها انتماء ديني معين ...
كان من المحتمل أن أكون في حيفا، في الثاني والعشرين من الشهر الخامس لإحياء أمسية شعرية، وكنت على كثير رغبة في تلبيتها.. ولكن.. الوهن الذي أصاب قلبي والشريان المعطوب فيه واحتمال إجراء الجراحة حالا دون هذا اللقاء.. وكلي أمل أن يتسع لي موعد لمثله قريباً فأراك وأسعد بلقائك.
أيها العزيز. لا أدري كيف أوجز لك حياة عرفت الكثير من المآسي والمنافي. تزوجت عام 1952 من دلال المفتي وكانت قد تخرجت مع أختي من الجامعة الأمريكية، وكنت يومذاك أعمل معاوناً لمدير شركة المنصور، وفي 1959 تركت الشركة وأصبحت معاوناً لمدير المعارض العام، ثم مديراً بالوكالة وفي عام 1962 قدمت استقالتي من الوظيفة، وعملت مديراً للمركز الثقافي السوفياتي، وكانت هذه الوظيفة كافية لأن يحكم عليّ بالإعدام عند مجيء- هنا كلمة مطموسة- للحكم في 1963، وكاد أن يتم إعدامي، إذ لم يكن بيني والتنفيذ في دار الإذاعة إلاّ دقائق عندما طلب عبد السلام عارف، الذي كان يشرف بنفسه على تنفيذ أحكام الاعتباطية، بأن ينفذ الإعدام بنا في مكان آخر، ومن مكان آخر إلى مكان آخر. تداخلت شخصيات في الداخل، وحركات إعلامية في الخارج لإطلاق سراحي، والفضل الأول كان لفؤاد عارف، نائب رئيس الجمهورية يومذاك والذي أصر على إطلاق سراحي بصفتي كردياً أيضاً. وهكذا أطلق سراحي.. وهكذا أيضاً استطاع أن يوفر لي خروجي من العراق في نهاية عام 1963 .. فكان أن توجهت إلى لبنان، وفي مؤازرة من أدبائه وفنانيه، حصلت على عدة وظائف منها أنني كنت رئيساً لتحرير مجلة "العلوم" الصادرة عن "دار الملايين" ومنها أيضاً أنني أصبحت مديراً لثانوية "برمانا"، ثم جاءت الحرب ودفعت بي إلى أن أترك لبنان، حيث بقيت دون عمل قرابة عام واحد في أثينا، 1978 رجعت بعده إلى بغداد، وشغلت وظيفة نائب رئيس تحرير مجلة "آفاق عربية" ورغم علاقتي الطيبة جداً مع رئيس التحرير المرحوم شفيق الكمالي الذي قضى عليه صدام حسين فيما بعد، فإن ظروفي قد بدأت تسوء مع البعثيين، مما دفع بي إلى الهجرة إلى لندن، لأكون مديراً لشركة "بيمغاب" التي صدرت عنها أهم مجلة فنية "عربياً وعالمياً" تشكيلية، إلا أن الشركة وبعد عامين أصيبت بخسارة كبيرة مما اضطرني، وبصفتي، مديرها العام إلى إغلاقها.. وكانت طوال هذه الفترة تزداد علاقتي سوءاً بالنظام الحاكم في العراق، وعلى الأخص بعد قيام منظمتنا المعارضة "إتحاد الديمقراطيين العراقيين" في لندن، وإسناد منصب الرئيس إليّ، كما أشرفت على مجلة "الديمقراطي" الذي أرفق لك نسخة منه. حالياً أكتب مقالاً أسبوعياً في مجلة- العنوان مطموس- فإنها تدفع لي مبلغاً يكفل بأن أعيش في وضع لا بأس به، وهذا بالإضافة إلى ما يأتيني عن كتبي .. لي ولد واحد تخرج فن الجامعة الأمريكية ببيروت وتزوج من زميلة لبنانية، ويعيشان الآن في كندا، ولهما صبي وبنت، البنت في الحادية عشرة والصبي في العاشرة .. وكلهم يحملون الجنسية الكندية .. كما أحمل أنا وزوجتي الجنسية البريطانية ..
وماذا بعد ذلك أيها الصديق ..؟ مازلت أكتب شعراً وقد حملت مجموعة "الأعمال الكاملة" التي صدرت مؤخراً عن "دار سعاد الصباح" ديوانين جديدين هما: "أبواب إلى البيت الضيق" و "آخر الدرب" وفيهما غزل كثير بالموت وهجو لاذع لصدام حسين وزمرته المجرمة ..
الآن .ز الساعة 30/11 ظهراً يطرق ساعي البريد الباب لأتسلم النص الإنجليزي لحديث ذكرياتك الرائعة. وقد بعثت بنسخة منه إلى عدنان رؤوف الذي يقيم الآن في ليماسول بقبرص .. والخبر المحزن جداً أنه يشكو الآن من السرطان .. يكتب من حين لآخر. وقيل لي أنه قد بدأ بتدوين ذكرياته.. أتصل من آن لآخر، تماماً مثل الحرّاس الليليين في بغداد القديمة لنقول لبعضنا "نعم.. بعدني عايش".. التقيت في المغرب قبل عامين بنعيم قطّان وقضينا أياماً جميلة محفوفة بالذكريات.. التقي من آن لآن بصديقنا الأخ مير بصري، وقد حدثني عن إبراهيم عوبديا وقال إنه لا يزال يكتب شعراً .. ولشد ما سررت بكرم الأخ الدكتور موريه (شموئيل) وإرساله لي "أغنيات عراقية" لعوبديا، وقصة سمير نقاش، وإنني أعدّ نفسي للانقطاع إليهما في خلوة مناسبة .. أرجو إبلاغه أحرّ تحياتي وكبير شكري ..
ومرّة أخرى .. وماذا بعد ..؟ .. أحلم بلقائكم مادامت الدعوة لإقامة أمسية في حيفا مفتوحة .. فقط أتمنى أن لا يخونني الشريان المسدود في القلب قبل تحقيق ذلك.
تحياتي وقبلاتي لكل أفراد العائلة فرداً فرداً.
واسلموا جميعاً
(إمضاء)
********
بلند الحيدري: الموت
(العنوان نفسه)
لندن في 29/6/1996
أخي الأعز الأستاذ نسيم المحترم
تحية طيبة
معذرة لتأخري بالرد على رسالتكم الكريمة التي أخرجتني لحد ما من الوحشة التي أعاني منها في هذه الأيام وأنا أنتقل من مستشفى إلى مستشفى ومن طبيب إلى طبيب، فالقلب الذي أتعبته كثيراً قد عاد هو بدوره ليتعبني، ووقوفي من آن لآخر على حافة حفرة تغور عميقاً في أرض الغربة، لأدفن فيها صديقاً وألقي على جدثه بحفنة من التراب يزدني (كذا) وحشة على إني لأخشى أن لا أجد غداً من يقف على قبري المحفور في الغربة ..
لِمَ كل هذا الحديث ..؟! المهم عندي هو أنك ما زلت على نشاطك السابق والرائع والذي كان لنا منه ما عزّز من تطلعاتنا .. وكلي أمل أن أقع إلى كتاب بذاكرتك فهو بلا شك سيكون تاريخاً مهماً من مسيرة جيلنا، حتى ولو وطننا لم يعد وطننا ..
أرسلت إلى سمير العزيز بكاسيت ضم حفلاً لعيد ميلادي وأمسية شعرية وفيلماً عني، وتمنيت عليه أن يوصل نسخة منه إليك، وكان بإمكاني أن أبعث بالنسخة (كذا) أنا، إلا أنني آثرت أن لا آخذ من وقتك الثمين أكثر مما تهبني من آن لآخر برسائلك الكريمة ..
مازلت أكتب .. وبعض الكتابات التي تخرج إلى المناسبات صارت تتعبني .. فعلّي أن أشارك، بعد عدة أيام، في حفل تكريم الشيخ عبد الله العلايلي .. وللرجل دالة عليّ .. ولن أستطيع السفر إلى لبنان فأنا ممنوع من ركوب الطائرة حالياً وسياقة السيارة أيضاً.
وبعد أيها الصديق العزيز .. أدرج لك هذه القصيدة التي تعبر عن حالي اليوم.
دعاء
شريانانِ
معطوبانِ
الأول في القلب وأما الثاني
فبساقي
والباقي من عُمُري ما عاد له باقي
فانقذني يا ربي
من حقدِ وثاقي
من سوء زماني
من هذا الليل المتآكل في أعماقي
من وقع خطى ما زالت
تحملني من منفى وإلى منفى
في غير مكانٍ ومكانِ
يا ربي .. يا رب الأكوان
أعتقني من حلمي بالعودة
في يومٍ ما لعراقي
فالباقي من بلدي مثلي
ما عاد له باقي
إلا في سود سطور كالغِربان
وإلا في مُزقِ الأوراقِ
****
بلند الحيدري
Buland Al-Haidari
8 Rose Acre Close
The Clevelands, Ealing, London W13 8DG
Tel: 081 998 0352 Fax: 081 566 9554
لندن في 6/10/1995
أخي الأعز نسيم
تحية طيبة
لقد تأخرت بالرد على رسالتكم الكريمة، وشفيعي في ذلك رحابة صدرك، وما كان لي أن أتأخر بالرد لولا ظروف صعبة مررت بها، بدءاً من صحتي التي توعكت كثير غب عودتي من لبنان، ثم كان أن أفترق ولدي عمر عن زوجته ولم تجد نفعاً السفر إلى كندا لإصلاح ذات البين بينهما وحرصاً على الحالة النفسية لطفليهما .. أضف إلى ذلك إشكالات المعارضة العراقية، ودأب "إتحاد الديمقراطيين العراقيين"- وأنا نائب الرئيس ورئيس تحرير مجلته "الديمقراطي"- على توحيد الكلمة بين أطرافها في نقطتين جوهريتين هما: إسقاط النظام العراقي وإقامة البديل الديمقراطي، وحتى الاتفاق على هاتين النقطتين ليس سهلاً ... دعنا من ذلك..
قرأت بشغف كبير عرضك الدقيق لكتاب "نهاية المنفى"، وهو كتاب على غاية من الأهمية كما بدا لي من عرضكم له، ولا أدري إن كان قد وقف كاتبه عند الحالة النفسية لكلا الشعبين والتي حالت دون الانفتاح المطلوب على بعضهما. الخوف بأثر من الضعف عند الطرف الأول وارتفاع مستوى التعصب الأعمى، والخوف عند الثاني من تألب الأحقاد عند الطرف الأول، واليوم يثبت الواقع بأن "إسرائيل" دولة من دول المنطقة، وإن كل الظروف تشير إلى انفتاح الأطراف على بعضها البعض، ويبقى أن تؤكد "إسرائيل" للدول التي لا تزال تغلق أبوابها دونها بأنها ليست الدولة التي تريد أن تتحكم بمقدرات دول المنطقة كلها .. وهذا يحتاج إلى جهد من قبل مثقفي الطرفين، فالشعوب ليست كماً من الناس بقدر ما هي وعي الشعوب بنفسها والعمل على تنمية القدرة على الحوار المنطقي واحترام الآخر.
كما كنت معك في مناقشتك للدكتور هشام شرابي، الذي التقيته غير مرّة، كان آخرها في ندوة عقدت في لندن تحت عنوان "الحداثة والإسلام" وكان موضوعي في الندوة المذكورة عن "الإسلام لم يحرّم التصوير".
عزيزي الكبير
إن فضلك لعميم، ومن بعض هذا الفضل أنك أوصلتني إلى نخبة رائعة من المحبين الأعزاء، وإن ما استلمته من رسائلهم لتطفح بالصدق والمحبة والذكريات العزيزة علينا جميعاً، وأنا في انتظار أن التقيهم في يوم قريب لأشدهم إلى صدري وإن منخوباً بالسجائر .. وقد حرصت على الرد على كل رسالة منهم .. إلا أني لم أتسلم رداً من بعض منهم وعسى أن يكون المانع خيراً ..
أوقفتني خطوطك تحت بعض أجزاء الحوار الذي أجراه معي ياسين .. لعل أموراً قد فاتتني .. أو أنني أكبرت بعض الأصدقاء أكثر مما هم في الواقع .. هذا جائز، فقد عوّدت نفسي على إن النقد محبة وكتابة الذكريات كذلك .. أحاول جاهداً أن أقرأ الحقائق من خلال إعداد نفسي لتتجاوز صرامتها الواقعية .. هذا خطأ بل شك لمن يريد أن يؤرخ الحقائق .. ولكن متى كان الشاعر يؤمن بالتأريخ ... فاغفر لي زلاتي ..
وصلتني أمس رسالة كريمة جداً من الدكتور رؤوبين سنير، وككل رسائلكم أيها الأخوة الطيبون، ومن بعض كرمه أنه دعاني دعوة مفتوحة إلى جامعة حيفا وآمل أن يتيح لي الزمن لي ذلك، كما أعلمني بأن بعض قصائدي قد ترجمت إلى العبرية وأنها تدرس .. وسأسأله أن يوصلني إلى شيء من ذلك
أيها العزيز.. أشد على يديكم
واسلموا
(إمضاء)
.
لندن في 9/3/1995
أيها العزيز نسيم رجوان
تحية طيبة
وبعد ضياع سنين، وبعد البحث عن واحدنا الآخر، أقع إلى عنوانك، لأقول لك بأن ما بدأنا به، أخوة وأدباء وأحلاماً وتطلعاتٍ لا يمكن إلا أن يجمعنا في الذي يؤكدنا بأننا أكبر من أن تفرقنا أحداث عابرة .. هكذا أمدّ يدي إليك وفي انتظار أن أسمع الكثير عنك ..
واسلم أيها الصديق
(إمضاء)
بغداد
تلك الفاتنةُ السمراءُ .. لماذا
ما عدتُ أراها
إلاّ في ثوب حِداد
إلاّ في ظهرٍ محنيٍّ أو جلدٍ مهري
أو شهقة إمرأةٍ ثكلى
أو دودٍ يتوالدُ ما بين عيونِ القتلى
وخرائب سودٍ يتسكعُ فيها الموت
وليس سوى صمت رماد
بغداد
تلك الفاتنةُ السمراء .. لماذا
ما عدتُ أراها
إلاّ في وجهٍ يتوعدني بالقتل
ووجهٍ يترصدني
في كلِّ عيونِ الأوغاد
ما عدت أراها
إلاّ في سوطٍ ما زال يقهقه
في كفِّ الجلّاد
ها إني إذ أعلن عن أنّي
لا أملك من كل فجاجك إلاّ ظلي
وأني أخشى أن يسحبني
من بركة ماءٍ وحلٌ
ولبركة ماءٍ وحلٌ
وأني أخشى أن يوهنني زمني
أن يُحنى ظهري للذل ..
لسطوة غلّك أو غلّي
وأني أخشى أن لن أُبصر في المرآة
سوى وجهي في عيني عبدٍ قنّ
بغداد
من ينقذنا من هذا الوطن
الموغل في حزنٍ عفنٍ ...؟
فأنا أخشى أن أحمل موتي
في يوم ما
مثلك في ظهر محني
معذرةً بغداد
سيجيء الفجرُ
والشمسُ ستولدُ ثانيةً
حتى لو كان القبرُ
هو الميعاد
******
1/4/1995
لندن
نسيم أيها العزيز
لا يمكن أن تعرف مدى ما كان لرسالتك من أثر كبير في نفسي، وعبر محاسبات عميقة في الذي كان لنا والذي كان علينا، عبر ظروف فرضت علينا، وكنا أكبر منها لأننا لم نعرف أنفسنا في هذا الحيز الضيق أو ذلك .. كنا نعرف أنفسنا أصدقاء نتطلع لآفاق إنسانية أكبر من أن تختزلها طائفة أو يختزلها انتماء ديني معين ...
كان من المحتمل أن أكون في حيفا، في الثاني والعشرين من الشهر الخامس لإحياء أمسية شعرية، وكنت على كثير رغبة في تلبيتها.. ولكن.. الوهن الذي أصاب قلبي والشريان المعطوب فيه واحتمال إجراء الجراحة حالا دون هذا اللقاء.. وكلي أمل أن يتسع لي موعد لمثله قريباً فأراك وأسعد بلقائك.
أيها العزيز. لا أدري كيف أوجز لك حياة عرفت الكثير من المآسي والمنافي. تزوجت عام 1952 من دلال المفتي وكانت قد تخرجت مع أختي من الجامعة الأمريكية، وكنت يومذاك أعمل معاوناً لمدير شركة المنصور، وفي 1959 تركت الشركة وأصبحت معاوناً لمدير المعارض العام، ثم مديراً بالوكالة وفي عام 1962 قدمت استقالتي من الوظيفة، وعملت مديراً للمركز الثقافي السوفياتي، وكانت هذه الوظيفة كافية لأن يحكم عليّ بالإعدام عند مجيء- هنا كلمة مطموسة- للحكم في 1963، وكاد أن يتم إعدامي، إذ لم يكن بيني والتنفيذ في دار الإذاعة إلاّ دقائق عندما طلب عبد السلام عارف، الذي كان يشرف بنفسه على تنفيذ أحكام الاعتباطية، بأن ينفذ الإعدام بنا في مكان آخر، ومن مكان آخر إلى مكان آخر. تداخلت شخصيات في الداخل، وحركات إعلامية في الخارج لإطلاق سراحي، والفضل الأول كان لفؤاد عارف، نائب رئيس الجمهورية يومذاك والذي أصر على إطلاق سراحي بصفتي كردياً أيضاً. وهكذا أطلق سراحي.. وهكذا أيضاً استطاع أن يوفر لي خروجي من العراق في نهاية عام 1963 .. فكان أن توجهت إلى لبنان، وفي مؤازرة من أدبائه وفنانيه، حصلت على عدة وظائف منها أنني كنت رئيساً لتحرير مجلة "العلوم" الصادرة عن "دار الملايين" ومنها أيضاً أنني أصبحت مديراً لثانوية "برمانا"، ثم جاءت الحرب ودفعت بي إلى أن أترك لبنان، حيث بقيت دون عمل قرابة عام واحد في أثينا، 1978 رجعت بعده إلى بغداد، وشغلت وظيفة نائب رئيس تحرير مجلة "آفاق عربية" ورغم علاقتي الطيبة جداً مع رئيس التحرير المرحوم شفيق الكمالي الذي قضى عليه صدام حسين فيما بعد، فإن ظروفي قد بدأت تسوء مع البعثيين، مما دفع بي إلى الهجرة إلى لندن، لأكون مديراً لشركة "بيمغاب" التي صدرت عنها أهم مجلة فنية "عربياً وعالمياً" تشكيلية، إلا أن الشركة وبعد عامين أصيبت بخسارة كبيرة مما اضطرني، وبصفتي، مديرها العام إلى إغلاقها.. وكانت طوال هذه الفترة تزداد علاقتي سوءاً بالنظام الحاكم في العراق، وعلى الأخص بعد قيام منظمتنا المعارضة "إتحاد الديمقراطيين العراقيين" في لندن، وإسناد منصب الرئيس إليّ، كما أشرفت على مجلة "الديمقراطي" الذي أرفق لك نسخة منه. حالياً أكتب مقالاً أسبوعياً في مجلة- العنوان مطموس- فإنها تدفع لي مبلغاً يكفل بأن أعيش في وضع لا بأس به، وهذا بالإضافة إلى ما يأتيني عن كتبي .. لي ولد واحد تخرج فن الجامعة الأمريكية ببيروت وتزوج من زميلة لبنانية، ويعيشان الآن في كندا، ولهما صبي وبنت، البنت في الحادية عشرة والصبي في العاشرة .. وكلهم يحملون الجنسية الكندية .. كما أحمل أنا وزوجتي الجنسية البريطانية ..
وماذا بعد ذلك أيها الصديق ..؟ مازلت أكتب شعراً وقد حملت مجموعة "الأعمال الكاملة" التي صدرت مؤخراً عن "دار سعاد الصباح" ديوانين جديدين هما: "أبواب إلى البيت الضيق" و "آخر الدرب" وفيهما غزل كثير بالموت وهجو لاذع لصدام حسين وزمرته المجرمة ..
الآن .ز الساعة 30/11 ظهراً يطرق ساعي البريد الباب لأتسلم النص الإنجليزي لحديث ذكرياتك الرائعة. وقد بعثت بنسخة منه إلى عدنان رؤوف الذي يقيم الآن في ليماسول بقبرص .. والخبر المحزن جداً أنه يشكو الآن من السرطان .. يكتب من حين لآخر. وقيل لي أنه قد بدأ بتدوين ذكرياته.. أتصل من آن لآخر، تماماً مثل الحرّاس الليليين في بغداد القديمة لنقول لبعضنا "نعم.. بعدني عايش".. التقيت في المغرب قبل عامين بنعيم قطّان وقضينا أياماً جميلة محفوفة بالذكريات.. التقي من آن لآن بصديقنا الأخ مير بصري، وقد حدثني عن إبراهيم عوبديا وقال إنه لا يزال يكتب شعراً .. ولشد ما سررت بكرم الأخ الدكتور موريه (شموئيل) وإرساله لي "أغنيات عراقية" لعوبديا، وقصة سمير نقاش، وإنني أعدّ نفسي للانقطاع إليهما في خلوة مناسبة .. أرجو إبلاغه أحرّ تحياتي وكبير شكري ..
ومرّة أخرى .. وماذا بعد ..؟ .. أحلم بلقائكم مادامت الدعوة لإقامة أمسية في حيفا مفتوحة .. فقط أتمنى أن لا يخونني الشريان المسدود في القلب قبل تحقيق ذلك.
تحياتي وقبلاتي لكل أفراد العائلة فرداً فرداً.
واسلموا جميعاً
(إمضاء)
********
بلند الحيدري: الموت
(العنوان نفسه)
لندن في 29/6/1996
أخي الأعز الأستاذ نسيم المحترم
تحية طيبة
معذرة لتأخري بالرد على رسالتكم الكريمة التي أخرجتني لحد ما من الوحشة التي أعاني منها في هذه الأيام وأنا أنتقل من مستشفى إلى مستشفى ومن طبيب إلى طبيب، فالقلب الذي أتعبته كثيراً قد عاد هو بدوره ليتعبني، ووقوفي من آن لآخر على حافة حفرة تغور عميقاً في أرض الغربة، لأدفن فيها صديقاً وألقي على جدثه بحفنة من التراب يزدني (كذا) وحشة على إني لأخشى أن لا أجد غداً من يقف على قبري المحفور في الغربة ..
لِمَ كل هذا الحديث ..؟! المهم عندي هو أنك ما زلت على نشاطك السابق والرائع والذي كان لنا منه ما عزّز من تطلعاتنا .. وكلي أمل أن أقع إلى كتاب بذاكرتك فهو بلا شك سيكون تاريخاً مهماً من مسيرة جيلنا، حتى ولو وطننا لم يعد وطننا ..
أرسلت إلى سمير العزيز بكاسيت ضم حفلاً لعيد ميلادي وأمسية شعرية وفيلماً عني، وتمنيت عليه أن يوصل نسخة منه إليك، وكان بإمكاني أن أبعث بالنسخة (كذا) أنا، إلا أنني آثرت أن لا آخذ من وقتك الثمين أكثر مما تهبني من آن لآخر برسائلك الكريمة ..
مازلت أكتب .. وبعض الكتابات التي تخرج إلى المناسبات صارت تتعبني .. فعلّي أن أشارك، بعد عدة أيام، في حفل تكريم الشيخ عبد الله العلايلي .. وللرجل دالة عليّ .. ولن أستطيع السفر إلى لبنان فأنا ممنوع من ركوب الطائرة حالياً وسياقة السيارة أيضاً.
وبعد أيها الصديق العزيز .. أدرج لك هذه القصيدة التي تعبر عن حالي اليوم.
دعاء
شريانانِ
معطوبانِ
الأول في القلب وأما الثاني
فبساقي
والباقي من عُمُري ما عاد له باقي
فانقذني يا ربي
من حقدِ وثاقي
من سوء زماني
من هذا الليل المتآكل في أعماقي
من وقع خطى ما زالت
تحملني من منفى وإلى منفى
في غير مكانٍ ومكانِ
يا ربي .. يا رب الأكوان
أعتقني من حلمي بالعودة
في يومٍ ما لعراقي
فالباقي من بلدي مثلي
ما عاد له باقي
إلا في سود سطور كالغِربان
وإلا في مُزقِ الأوراقِ
****
بلند الحيدري
Buland Al-Haidari
8 Rose Acre Close
The Clevelands, Ealing, London W13 8DG
Tel: 081 998 0352 Fax: 081 566 9554
لندن في 6/10/1995
أخي الأعز نسيم
تحية طيبة
لقد تأخرت بالرد على رسالتكم الكريمة، وشفيعي في ذلك رحابة صدرك، وما كان لي أن أتأخر بالرد لولا ظروف صعبة مررت بها، بدءاً من صحتي التي توعكت كثير غب عودتي من لبنان، ثم كان أن أفترق ولدي عمر عن زوجته ولم تجد نفعاً السفر إلى كندا لإصلاح ذات البين بينهما وحرصاً على الحالة النفسية لطفليهما .. أضف إلى ذلك إشكالات المعارضة العراقية، ودأب "إتحاد الديمقراطيين العراقيين"- وأنا نائب الرئيس ورئيس تحرير مجلته "الديمقراطي"- على توحيد الكلمة بين أطرافها في نقطتين جوهريتين هما: إسقاط النظام العراقي وإقامة البديل الديمقراطي، وحتى الاتفاق على هاتين النقطتين ليس سهلاً ... دعنا من ذلك..
قرأت بشغف كبير عرضك الدقيق لكتاب "نهاية المنفى"، وهو كتاب على غاية من الأهمية كما بدا لي من عرضكم له، ولا أدري إن كان قد وقف كاتبه عند الحالة النفسية لكلا الشعبين والتي حالت دون الانفتاح المطلوب على بعضهما. الخوف بأثر من الضعف عند الطرف الأول وارتفاع مستوى التعصب الأعمى، والخوف عند الثاني من تألب الأحقاد عند الطرف الأول، واليوم يثبت الواقع بأن "إسرائيل" دولة من دول المنطقة، وإن كل الظروف تشير إلى انفتاح الأطراف على بعضها البعض، ويبقى أن تؤكد "إسرائيل" للدول التي لا تزال تغلق أبوابها دونها بأنها ليست الدولة التي تريد أن تتحكم بمقدرات دول المنطقة كلها .. وهذا يحتاج إلى جهد من قبل مثقفي الطرفين، فالشعوب ليست كماً من الناس بقدر ما هي وعي الشعوب بنفسها والعمل على تنمية القدرة على الحوار المنطقي واحترام الآخر.
كما كنت معك في مناقشتك للدكتور هشام شرابي، الذي التقيته غير مرّة، كان آخرها في ندوة عقدت في لندن تحت عنوان "الحداثة والإسلام" وكان موضوعي في الندوة المذكورة عن "الإسلام لم يحرّم التصوير".
عزيزي الكبير
إن فضلك لعميم، ومن بعض هذا الفضل أنك أوصلتني إلى نخبة رائعة من المحبين الأعزاء، وإن ما استلمته من رسائلهم لتطفح بالصدق والمحبة والذكريات العزيزة علينا جميعاً، وأنا في انتظار أن التقيهم في يوم قريب لأشدهم إلى صدري وإن منخوباً بالسجائر .. وقد حرصت على الرد على كل رسالة منهم .. إلا أني لم أتسلم رداً من بعض منهم وعسى أن يكون المانع خيراً ..
أوقفتني خطوطك تحت بعض أجزاء الحوار الذي أجراه معي ياسين .. لعل أموراً قد فاتتني .. أو أنني أكبرت بعض الأصدقاء أكثر مما هم في الواقع .. هذا جائز، فقد عوّدت نفسي على إن النقد محبة وكتابة الذكريات كذلك .. أحاول جاهداً أن أقرأ الحقائق من خلال إعداد نفسي لتتجاوز صرامتها الواقعية .. هذا خطأ بل شك لمن يريد أن يؤرخ الحقائق .. ولكن متى كان الشاعر يؤمن بالتأريخ ... فاغفر لي زلاتي ..
وصلتني أمس رسالة كريمة جداً من الدكتور رؤوبين سنير، وككل رسائلكم أيها الأخوة الطيبون، ومن بعض كرمه أنه دعاني دعوة مفتوحة إلى جامعة حيفا وآمل أن يتيح لي الزمن لي ذلك، كما أعلمني بأن بعض قصائدي قد ترجمت إلى العبرية وأنها تدرس .. وسأسأله أن يوصلني إلى شيء من ذلك
أيها العزيز.. أشد على يديكم
واسلموا
(إمضاء)
.