سأل الحسنُ بن سهل المتطببَ جبريل بن بختيشوع، بعد يوم واحد من إسلامه، عندما رآه يحمل مصحفا، عن رأيه في القرآن الكريم، فأجابه: «طيب. لكن كليلة ودمنة لا يُعلى عليه». يؤدي هذا الجواب إلى موقفين اثنين: تفسيري وتأويلي. يمكن أن يذهب الموقف الأول إلى أنه لم يطلع بعد على القرآن الكريم بالصورة التي تجعله يُكوِّن صورة شاملة عنه، من جهة، وإلى أنه متشبع بهوى كتاب كليلة ودمنة إلى حد تفضيله على ما عداه، من جهة أخرى. إنه ما يزال في منزلة بين منزلتين، وقلبه منشد إلى المنزلة الأولى التي تشبّع بها، نصيا، أو عقديا إذا ربطنا تفضيله بعرقية ثقافة النص (الفارسية) وصاحبه ابن المقفع.
أما الموقف التأويلي، فيؤكد أن الفارسي يظل فارسيا، وإن دخل الإسلام. إنه يدافع عن عنصره، وسيظل ينتصر له، ويربط ذلك بالسياق الذي ظهرت فيه الشعوبية. وهذا ما قام به محمد بن الحسن اليمني (400 هـ) في كتابه: «مضاهاة أمثال كليلة ودمنة» الذي ألفه مستحضرا ذاك الجواب للرد على الشعوبية، مبينا فضل الثقافة العربية، وأسبقية ما تتضمنه من أشعار جاهلية تحتوي على مجمل الأمثال التي أوردها ابن المقفع في كليلة ودمنة. يقول المؤلف: «ولم أعمل ذلك طعنا على ما تضمن كتاب كليلة ودمنة من الأمثال والحكم، وإنما أريد تبيين فضله في ذلك، ولمن ظن أن كتاب كليلة ودمنة يجري مجرى كتاب الله جل وتقدس، أو ظن أن العجم انفردت بذلك دون غيرها».
أتبنى الموقف الأول لأني أراه يتأسس على نسق ثقافي طبيعي يتصل بالتمسك بثقافة الأسلاف، وهي ظاهرة ثقافية إنسانية عامة. ولا يمكن التخلص منها نسبيا، إلا مع الزمن، والخروج من شرنقة تلك الثقافة نهائيا. فابن المقفع نفسه بات عند عيسى بن علي، الذي يصطحبه ليعلن إسلامه أمام الملأ في اليوم التالي، جلس يأكل وهو يزمزم على عادة المجوس. فقال له عيسى: أتزمزم وأنت قريب من الإسلام؟ فرد عليه بأنه يكره أن يبيت على غير دين. هذا هو النسق الحقيقي الذي يتعإلى على أي نسق. أما التفسير بالسياق الخاص فليس سوى تعبير عن موقف مضاد من ذاك النسق العام، وقد اتُّخِذ مشجبا تولَّد في نطاق الصراع على السلطة، وكل يريد أن يكون له موقع فيها.
المضاهاة النصية إنتاج نص جديد، أما القولية فاستهلاك وتقديس للأسلاف.
إن محمدا اليمني لم يقرأ في جواب المتطبب سوى أنه انتصار للعرق الفارسي، ولذلك هبّ للدفاع عن تراث العرب، ونقض ما «جاء» به ابن المقفع منسوبا إلى «الفرس» محاولا رده إلى أصوله في الشعر «العربي». موقف اليمني لا يختلف في جوهره عن التأويلات الثقافوية التي لا تضع النصوص كيفما كان نوعها، في نطاق النسق الثقافي الشمولي، وتكتفي بادعاء الكشف عن النسق «المخفي».
يدفعنا التفسير الذي تبنيناه في قراءة مضاهاة أمثال كليلة ودمنة إلى صرف النظر عن مدلوله الأيديولوجي، واعتبار الكتاب نوعا من أنواع التعلق النصي، كما تحدده نظرية المتعاليات النصية (التي أسميها «التفاعل النصي») كما طورها جيرار جنيت. إنها «المضاهاة النصية» التي تختلف عن المحاكاة والتحويل والمعارضة. يمكننا الوقوف على الأنواع الثلاثة في المصنفات التي تدور حول قصص الحيوان في التراث العربي، ويمكننا إضافة هذا النوع لاختلافه عنها، وهو «يتعلق» نصيا بكليلة ودمنة.
تتأسس المضاهاة النصية، والتي نجدها أيضا في «أمثال ابن سلام» العربية، الذي عمل على مضاهاة كتاب هزار أفسانة (ألف خرافة) الفارسي، على إنتاج نص جديد (متعلِّق)على خلفية نص سابق متعلَّق به (كليلة ودمنة مثلا) من خلال السعي إلى الكشف على وجود نص سابق عليه، زمانيا، يتضمن أهم ما فيه من مزايا، لسلب أي مزية عنه. وإذا كان اليمني قد عاد إلى التراث الشعري العربي، للوقوف على ما يضاهي به كليلة ودمنة من أمثال قد أنتج نصا جديدا يمكن أن يقدم لنا معلومات جديدة عن الأمثال العربية، كما وردت في الشعر العربي. وبغض النظر عن قيمة ذلك الشعر وصحته، فإنه أضاف من خلال تلك المضاهاة، بغض الطرف عن مقاصده، كتابا جديدا يمكن أن يضاف إلى قائمة الكتب التي تعنى بالأمثال العربية. نعتبر هذه المضاهاة إبداعية، لأنها ولَّدت لنا نصا جديدا. لكن هناك نوعا آخر من المضاهاة غير الإبداعية، التي تكتفي بالقول دون الإنتاج، أو على الأقل التدليل على العلاقة التي يمكن أن تتأسس على المضاهاة بين النص المضاهَى، والنص القولي المضاهيِ.
لطالما قرأنا، وسمعنا وشاهدنا، أقوالا وكتابات كثيرة تندرج في نطاق هذه المضاهاة القولية التي «تقارن» بين التراث الغربي والعربي، وتتحدث عن وجود أفكار ومعارف في الثقافة العربية، تناظر ما نجده حاليا في الثقافة الغربية الحديثة، إذا كانت هذه المضاهاة تحاول رد الاعتبار إلى الثقافة العربية من خلال التأكيد على مبدأ السبق، نتساءل لماذا يتطور النص المتعلَّق به، هناك، ولا يتطور النص المتعلِّق هنا؟ المضاهاة النصية إنتاج نص جديد، أما القولية فاستهلاك وتقديس للأسلاف.
أما الموقف التأويلي، فيؤكد أن الفارسي يظل فارسيا، وإن دخل الإسلام. إنه يدافع عن عنصره، وسيظل ينتصر له، ويربط ذلك بالسياق الذي ظهرت فيه الشعوبية. وهذا ما قام به محمد بن الحسن اليمني (400 هـ) في كتابه: «مضاهاة أمثال كليلة ودمنة» الذي ألفه مستحضرا ذاك الجواب للرد على الشعوبية، مبينا فضل الثقافة العربية، وأسبقية ما تتضمنه من أشعار جاهلية تحتوي على مجمل الأمثال التي أوردها ابن المقفع في كليلة ودمنة. يقول المؤلف: «ولم أعمل ذلك طعنا على ما تضمن كتاب كليلة ودمنة من الأمثال والحكم، وإنما أريد تبيين فضله في ذلك، ولمن ظن أن كتاب كليلة ودمنة يجري مجرى كتاب الله جل وتقدس، أو ظن أن العجم انفردت بذلك دون غيرها».
أتبنى الموقف الأول لأني أراه يتأسس على نسق ثقافي طبيعي يتصل بالتمسك بثقافة الأسلاف، وهي ظاهرة ثقافية إنسانية عامة. ولا يمكن التخلص منها نسبيا، إلا مع الزمن، والخروج من شرنقة تلك الثقافة نهائيا. فابن المقفع نفسه بات عند عيسى بن علي، الذي يصطحبه ليعلن إسلامه أمام الملأ في اليوم التالي، جلس يأكل وهو يزمزم على عادة المجوس. فقال له عيسى: أتزمزم وأنت قريب من الإسلام؟ فرد عليه بأنه يكره أن يبيت على غير دين. هذا هو النسق الحقيقي الذي يتعإلى على أي نسق. أما التفسير بالسياق الخاص فليس سوى تعبير عن موقف مضاد من ذاك النسق العام، وقد اتُّخِذ مشجبا تولَّد في نطاق الصراع على السلطة، وكل يريد أن يكون له موقع فيها.
المضاهاة النصية إنتاج نص جديد، أما القولية فاستهلاك وتقديس للأسلاف.
إن محمدا اليمني لم يقرأ في جواب المتطبب سوى أنه انتصار للعرق الفارسي، ولذلك هبّ للدفاع عن تراث العرب، ونقض ما «جاء» به ابن المقفع منسوبا إلى «الفرس» محاولا رده إلى أصوله في الشعر «العربي». موقف اليمني لا يختلف في جوهره عن التأويلات الثقافوية التي لا تضع النصوص كيفما كان نوعها، في نطاق النسق الثقافي الشمولي، وتكتفي بادعاء الكشف عن النسق «المخفي».
يدفعنا التفسير الذي تبنيناه في قراءة مضاهاة أمثال كليلة ودمنة إلى صرف النظر عن مدلوله الأيديولوجي، واعتبار الكتاب نوعا من أنواع التعلق النصي، كما تحدده نظرية المتعاليات النصية (التي أسميها «التفاعل النصي») كما طورها جيرار جنيت. إنها «المضاهاة النصية» التي تختلف عن المحاكاة والتحويل والمعارضة. يمكننا الوقوف على الأنواع الثلاثة في المصنفات التي تدور حول قصص الحيوان في التراث العربي، ويمكننا إضافة هذا النوع لاختلافه عنها، وهو «يتعلق» نصيا بكليلة ودمنة.
تتأسس المضاهاة النصية، والتي نجدها أيضا في «أمثال ابن سلام» العربية، الذي عمل على مضاهاة كتاب هزار أفسانة (ألف خرافة) الفارسي، على إنتاج نص جديد (متعلِّق)على خلفية نص سابق متعلَّق به (كليلة ودمنة مثلا) من خلال السعي إلى الكشف على وجود نص سابق عليه، زمانيا، يتضمن أهم ما فيه من مزايا، لسلب أي مزية عنه. وإذا كان اليمني قد عاد إلى التراث الشعري العربي، للوقوف على ما يضاهي به كليلة ودمنة من أمثال قد أنتج نصا جديدا يمكن أن يقدم لنا معلومات جديدة عن الأمثال العربية، كما وردت في الشعر العربي. وبغض النظر عن قيمة ذلك الشعر وصحته، فإنه أضاف من خلال تلك المضاهاة، بغض الطرف عن مقاصده، كتابا جديدا يمكن أن يضاف إلى قائمة الكتب التي تعنى بالأمثال العربية. نعتبر هذه المضاهاة إبداعية، لأنها ولَّدت لنا نصا جديدا. لكن هناك نوعا آخر من المضاهاة غير الإبداعية، التي تكتفي بالقول دون الإنتاج، أو على الأقل التدليل على العلاقة التي يمكن أن تتأسس على المضاهاة بين النص المضاهَى، والنص القولي المضاهيِ.
لطالما قرأنا، وسمعنا وشاهدنا، أقوالا وكتابات كثيرة تندرج في نطاق هذه المضاهاة القولية التي «تقارن» بين التراث الغربي والعربي، وتتحدث عن وجود أفكار ومعارف في الثقافة العربية، تناظر ما نجده حاليا في الثقافة الغربية الحديثة، إذا كانت هذه المضاهاة تحاول رد الاعتبار إلى الثقافة العربية من خلال التأكيد على مبدأ السبق، نتساءل لماذا يتطور النص المتعلَّق به، هناك، ولا يتطور النص المتعلِّق هنا؟ المضاهاة النصية إنتاج نص جديد، أما القولية فاستهلاك وتقديس للأسلاف.