في السنة الأولى لي في كلية الحقوق، كنت أعيش بمنطقة شعبية، وقد شاع في الحارة المصرية بأنني طالب قانون. وفي مصر يخضع كل ساكن جديد للفحص الشعبي في حارته، ويعرفك جميع سكان الحارة، من أول شقة في العمارة التي تسكن فيها، وحتى آخر شقة في آخر عمارة في زقاق الحارة. ولما كان أمر دراستي للقانون قد شاع فقد ناداني رجلان من صعيد مصر، وطلبا مني أن أكتب لهما عقد بيع دراجة. لقد وجدت ذلك مسلياً فكتبت العقد، ثم تركتهما خلفي، لكنني لم أقطع بضع أمتار حتى سمعت صوتهما منادياً فعدت، ووجدتهما قد مزقا العقد الأول لأنهما اختلفا حول شروطه من جديد. فكتبته مرة أخرى وانا أضحك في سري. غير أن هذا الحدث ظل يدق كالناقوس في عقلي. نحن نعلم أن العقد شريعة المتعاقدين (هذا المبدأ ليس مطلقاً)، وهذا ما يجعل العقد مصدراً للإلتزام. وهكذا فالعقد هنا قانون ملزم. ومن المفترض أن العقد يبرم بعد الإتفاق لا أن يتم إبرامه ثم يتم الإتفاق على بنوده بعد ذلك. غير أن هذا لم يكن السؤال المهم، بل السؤال المهم هو لماذا استسهل الرجلان تمزيق العقد؟ هذا السؤال، لا يرتبط بالقانون كقواعد، بل بالفهم السايكولوجي للقانون. فهم من أين ينبع القانون؟، وما الذي دفع البشر إلى هذا الإختراع العظيم؟ وما الذي يجعله ملزماً إذا كان كل الأطراف يرفضون تطبيقه؟
في مرحلة الدبلوم طرحت نظرية الصراع، والتي اكتشفت فيما بعد أنني لست مخترعها الوحيد. لكنها على كل حال تعيننا على فهم القانون كناتج عن الصراع الإنساني. وكتبت عن ذلك كثيراً وأنا معتد برأيي، فلا سبيل إلى إنكار أن أي طرف منتصر في الصراع الإنساني هو الذي سيفرض قانونه، وإذا تساوى الأطراف في القوة، فإنهم غالبا ما سيضعون قانوناً متوازناً. ولذلك فخاصية التجريد للقاعدة القانونية تحتاج لمزيد من النقاش الفلسفي. هل هناك بالفعل قاعدة قانونية مجردة؟
وهنا علينا أن نعرف حدود ذلك التجريد.
لكننا لو سلمنا بأن القانون نتاج الصراع الإنساني، فإن علينا إذاً أن نسلم بأن الخوف هو مصدر القانون، وليس الصراع نفسه. إن وضع القانون هو نتاج الخوف من الآخر (عودة المنهزم لحلبة المعركة، أو تعالي المتعادل). وهنا يكون الإتفاق (شريعة المتعاقدين)، محمياً بالخوف، وباستمرار الخوف. فإذا فقد الطرفان أو أحدهما ذلك الشعور جاز لهما أو له أن يمزق العقد في أي لحظة.
قوة العقد تكمن في الخوف، والخوف هو الذي يدفع بالأطراف للجلوس و(التفاوض)، ليس الغرض من التفاوض سوى تخفيف الخوف من الكوارث المستقبلية، ولذلك فلا قيمة للعقد إن لم تكن هناك جهة تستطيع إجبار الأطراف على تنفيذه فيما بعد. هذه الجهة هي الدولة (القضاء الطبيعي) ومن ورائها شرطة التنفيذ أو أي قوة تملك سلطة الإكراه المخولة لها قانوناً. لذلك فالناس يشعرون بكثير من القلق عند التفاوض.
وهكذا في القانون الدولي الذي هو نتاج صراعات تاريخية لا تنتهي بين الدول وباقي أشخاص القانون الدولي العام، والتي أنتجت اتفاقيات ومعاهدات دولية، يتم الإلتزام بها أو انتهاكها إذا كان الطرف قوياً بحيث لا يخشى ذلك المحاسبة من ذلك الإنتهاك.
إن إتفاقية الأمم المتحدة للبحار -على سبيل المثال- خضعت لمفاوضات امتدت لسنوات، لأن هناك صراع دولي على المعابر المائية. إن الدول الحبيسة، والتي هي أضعف من المقاومة، خرجت صفر اليدين ولم تحصل حتى على ملح أعالي البحار. أما الدول العظمى والكبرى فقد وضعت اتفاقية متوازنة جداً لأنها (رغم انقسامهل) كانت متعادلة في القوة، وبالتالي فلكل منها مخاوفها، وبمجرد أن تنتهي حالة الخوف، يتم تمزيق القانون، أيا كان مصدره حتى لو كان مجرد عقد بيع دراجة هوائية.
في مرحلة الدبلوم طرحت نظرية الصراع، والتي اكتشفت فيما بعد أنني لست مخترعها الوحيد. لكنها على كل حال تعيننا على فهم القانون كناتج عن الصراع الإنساني. وكتبت عن ذلك كثيراً وأنا معتد برأيي، فلا سبيل إلى إنكار أن أي طرف منتصر في الصراع الإنساني هو الذي سيفرض قانونه، وإذا تساوى الأطراف في القوة، فإنهم غالبا ما سيضعون قانوناً متوازناً. ولذلك فخاصية التجريد للقاعدة القانونية تحتاج لمزيد من النقاش الفلسفي. هل هناك بالفعل قاعدة قانونية مجردة؟
وهنا علينا أن نعرف حدود ذلك التجريد.
لكننا لو سلمنا بأن القانون نتاج الصراع الإنساني، فإن علينا إذاً أن نسلم بأن الخوف هو مصدر القانون، وليس الصراع نفسه. إن وضع القانون هو نتاج الخوف من الآخر (عودة المنهزم لحلبة المعركة، أو تعالي المتعادل). وهنا يكون الإتفاق (شريعة المتعاقدين)، محمياً بالخوف، وباستمرار الخوف. فإذا فقد الطرفان أو أحدهما ذلك الشعور جاز لهما أو له أن يمزق العقد في أي لحظة.
قوة العقد تكمن في الخوف، والخوف هو الذي يدفع بالأطراف للجلوس و(التفاوض)، ليس الغرض من التفاوض سوى تخفيف الخوف من الكوارث المستقبلية، ولذلك فلا قيمة للعقد إن لم تكن هناك جهة تستطيع إجبار الأطراف على تنفيذه فيما بعد. هذه الجهة هي الدولة (القضاء الطبيعي) ومن ورائها شرطة التنفيذ أو أي قوة تملك سلطة الإكراه المخولة لها قانوناً. لذلك فالناس يشعرون بكثير من القلق عند التفاوض.
وهكذا في القانون الدولي الذي هو نتاج صراعات تاريخية لا تنتهي بين الدول وباقي أشخاص القانون الدولي العام، والتي أنتجت اتفاقيات ومعاهدات دولية، يتم الإلتزام بها أو انتهاكها إذا كان الطرف قوياً بحيث لا يخشى ذلك المحاسبة من ذلك الإنتهاك.
إن إتفاقية الأمم المتحدة للبحار -على سبيل المثال- خضعت لمفاوضات امتدت لسنوات، لأن هناك صراع دولي على المعابر المائية. إن الدول الحبيسة، والتي هي أضعف من المقاومة، خرجت صفر اليدين ولم تحصل حتى على ملح أعالي البحار. أما الدول العظمى والكبرى فقد وضعت اتفاقية متوازنة جداً لأنها (رغم انقسامهل) كانت متعادلة في القوة، وبالتالي فلكل منها مخاوفها، وبمجرد أن تنتهي حالة الخوف، يتم تمزيق القانون، أيا كان مصدره حتى لو كان مجرد عقد بيع دراجة هوائية.