أ. د. عادل الأسطة - زكريا الزبيدي وإخوانه: "قراءة غسان كنفاني في زمن مختلف"

ما جرى في أيلول الماضي من حفر سجناء ستة نفقا في سجن جلبوع الإسرائيلي ونيلهم حريتهم لأيام قليلة ، ثم إلقاء القبض عليهم ، دفعني إلى العودة إلى بعض روايات غسان وبعض ما ورد فيها من عبارات ، وإلى بعض قراءات النقاد لرواياته الآتية:
" رجال في الشمس "
و" ما تبقى لكم "
و " العاشق " ،
وجعلني أتساءل :
- ماذا لو كان غسان حيا الآن وتابع قصة السجناء الستة وما آلت إليه ؟ ماذا سيكتب عنها ؟ وهل سيعيد النظر في رواياته السابقة ، وتحديدا فيما يخص علاقة الفلسطيني بأرض فلسطين وصحراء المنافي وعلاقتها بالمستعمرين والغزاة ؟
- وماذا لو قرأ النقاد الذين كتبوا عن تلك الروايات وتوقفوا أمام الموضوع نفسه - أي علاقة أرض فلسطين بالفلسطينيين وبالغرباء ، ماذا لو قرأوا ما كتبوا وقارنوه بما جرى مع زكريا وإخوانه الخمسة والآخرين ؟
ببساطة قادتني التساؤلات إلى فكرة قراءة الأدب في زمن متغير - أي قراءة أعمال كنفاني التي كتبت في ٦٠ القرن ٢٠ في العقد الثالث من القرن ٢١ .
كثيرون ممن قرأوا " رجال في الشمس " وتابعوا ، في الوقت نفسه ، ما قام به المقاومون الستة ، من حفر نفق والتمرد على واقع السجن ، رافضين الموت بصمت في السجن ، ربطوا بين حفر النفق ورواية غسان ورأوا أن الستة قرعوا جدران خزانهم / سجنهم . لست شخصيا أول من ربط القصتين معا ؛ قصة الرواية وما فيها من تخييل وقصة الستة الواقعية تماما ، فهناك من سبقني في ذلك ، ولكن هؤلاء لم يتساءلوا إن كان ما قام به الستة يعد عملا فرديا فآل مصيره إلى الفشل كما آل مصير أبطال رواية غسان إلى الموت ، والتساؤل عموما قابل للنقاش .
لكن ما لم يلتفت إليه أحد هو ما كتبه غسان في رواياته عن علاقة الفلسطيني بأرضه ومساءلته في عالم متغير ، وتحديدا بعد ستين عاما تقريبا شهدت فيها الأرض الفلسطينية الكثير من التغيرات التي توقف أمامها كتاب فلسطينيون مثل توفيق فياض في " بيت الجنون " وغريب عسقلاني في قصة " زائر الفجر " من مجموعة " الخروج عن الصمت " .
في روايات كنفاني المذكورة آنفا فكرة أتى عليها بكلام مباشر تارة وكتابة غير مباشرة طورا فسرها النقاد مثل رضوى عاشور في كتابها " الطريق إلى الخيمة الأخرى : دراسة في أدب غسان كنفاني " ولطالما أخذت بها شخصيا وعلمتها لطلابي ولربما كنت قرأتها في مراجعات نقدية عديدة غير كتاب رضوى المشار إليه ، والفكرة هي تواطؤ الأرض الفلسطينية مع الفلسطيني ضد المستعمر الإنجليزي وتعاطفها أيضا مع الفلسطيني ضد المحتل الإسرائيلي .
في رواية " رجال في الشمس " ١٩٦٣ تكون صحراء الكويت قاتلة وشمسها حارقة ، فالفلسطيني لم يألفها ولم يتعود عليها ، في حين لا تكون صحراء النقب في " ما تبقى لكم " كذلك للفلسطيني حامد . إنها تبدي تعاطفا معه . هكذا ينطقها غسان :
"وددت لو أستطيع أن أقول له شيئا إلا أن الصمت هو قدري .. "
وحين يحتمي حامد بها خوفا من أن يكتشف أمره وينبطح ينبطح " جامدا ملتصقا تماما بصدري ، أحس نبضه يسيل إلي دافئا وثابتا .." . إنها تحس به وبنبضه يسيل إليها دافئا وثابتا . وترى أنه كان " يتفوق على خصمه بأنه لم يكن ينتظر شيئا ، مثلي . بالنسبة لي كان يعني بقاء وليس عبورا ، هو الآخر ، ولكن لأنه لم يكن يريد ، بعد ، الذهاب إلى أي مكان ." . إنها صحراؤه لا صحراء يريد أن يعبرها وحسب كصحراء الكويت " بالنسبة لي كان يعني بقاء لا عبورا " .
في رواية " العاشق " غير المكتملة يتعقب الضابط الإنجليزي ( بلاك ) المقاوم الفلسطيني عبد الكريم دون أن يتمكن من الإمساك به ، ما يجعله يقول :
" فلا سائق الشاحنة كان شريكا في الحدث ، ولا النجدة وصلت في وقتها ، ولا أنا عثرت على عبد الكريم ... أتدري ؟ كنت أقول لنفسي وأنا عائد مع الخيبة والمرارة والتعب إن الأرض ذاتها هي المتواطئة والشريكة ، وانك كي تقبض على عبد الكريم عليك أولا أن تلقي القبض على الأرض " .
كانت الأرض الفلسطينية في روايات كنفاني إذن متواطئة مع الفلسطيني ومتعاطفة معه وكانت ملاذه وملجأه . كانت المكان الذي يحميه من المستعمر .
في قصة زكريا الزبيدي وإخوانه الخمسة لم تحمهم الأرض الفلسطينية ، إذ سرعان ما اكتشفوا وألقي القبض عليهم ثانية . ومن المؤكد أن علاقتهم بالأرض لم تكن مثل علاقة عبد الكريم بها وأن زمنهم مختلف اختلافا كبيرا عن زمن عبد الكريم وزمن حامد ، وعدا ما أشرت إليه من اختلاف علاقة كل منهم بالأرض ، فهناك التطورات التكنولوجية الهائلة التي حدثت خلال ثمانية عقود ، وهناك التغييرات الكبيرة التي أجرتها الدولة العبرية على الأرض وقد التفت إليها توفيق فياض في مسرحيته " بيت الجنون " ( ١٩٦٦ ) .
مع ما سبق فقد بقي من الأرض الفلسطينية بعض شواهد على ذلك الزمن الفلسطيني . إنه نبات الصبار وثمر هذا النبات هو ما أسعف بعض السجناء الستة من البقاء على قيد الحياة وعدم الموت جوعا .
يرى بعض أصحاب نظرية التلقي الألمانية ( فولفجانج ايزر ) " أن قراءة نص أدبي واحد في زمنين مختلفين تؤدي إلى قراءتين مختلفتين " وأعتقد ذلك أيضا .
الكتابة تطول والمساحة محدودة والتساؤلات مشروعة وقابلة للنقاش والاجتهاد .
الخميس والجمعة والسبت
٧ و ٨ و ٩ / ١٠ / ٢٠٢١ .






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى