هذه هي الرواية الأولى للشاعر محمد زكريا حبيشي، الذي صدر له من قبل عددا من دواوين شعر العامية المصرية، واستطاع بموهبته ودأبه وإصراره أن يجد له موطئ قدم بين شعراء العامية المصرية الكبار، وهاهو يقتحم عالم الرواية، ويقدم لنا روايته الأولى ( نرجس وأحجار الدومينو ).
( 1 )
العنوان
الدومينو أو ( الضومنه ) كما ينطقها أبناء الشعب المصري، من الألعاب الشعبية، واجتذبت منذ أزمنة سحيقة الكبار والشباب، تراهم يتحلقون حولها في المقاهي، وفي البيوت، ويلعبونها في أوقات الفراغ.
وأحجار ” الدومينو ” على الرغم من حضورها القليل في الرواية، إلا أنها تلقي بظلالها على معظم شخصيات الرواية، فلم يقف الكاتب عند محاولته ” أنسنة ” تلك الأحجار، بل جعلها تتماهى مع شخصياته، والذين يلعبون ” الدومينو ” يعلمون تماما أن هذه اللعبة تحديدا دون غيرها، تحتاج إلى بعض الحظ كما تحتاج إلى قدر من الذكاء، وتحتاج إلى حنكة وخبرة كما تحتاج أيضا إلى قدر من المغامرة، وهي تحتاج أيضا إلى الحدس والتخمين كما تحتاج إلى قراءة المجهول.
هل هي لعبة الحياة ذاتها التي تحتاج إلى لاعب كلاعب ” الدومينو ” الماهر الذي يملك بعض الحظ وقدر من الذكاء وقدر من المغامرة بالإضافة إلى الفراسة المبنية على الحدس والتخمين، وقراءة المجهول، ولديه الميل إلى المغامرة، فضلا عن الحنكة والخبرة، هل هذه الخصائص إذا اجتمعت كلها في شخص واحد يكون أحد اللاعبين المهرة في الحياة شأنه شأن لاعب ” الدومينو” الماهر؟.
إذا كان العنوان عتبة النص كما يقول السيميائيين، وأنا لا أميل إلى قراءة هذه الرواية قراءة سيميائية، ولكنه – أي العنوان – مبثوث بطريقة غير مباشرة في الرواية، والقارئ يستحضر دلالاته ومدلوله من خلال الشخصيات وخاصة الشخصيات التي تظهر في الجزء الثاني من الرواية، وهي التي صنعت الحدث الرئيس، وتظهر دلالالته أيضا في ثنايا الوصف والسرد والحوار، عبر رمزية شفيفة، يحاول القارئ القبض عليها من خلال حركة الشخصيات، ونصيب كل شخصية من خصائص لاعب ” الدومينو ” الماهر، وعلى قدر نصيبه منها يكون نجاحه أو إخفاقه في الحياة، وهذه الخصائص لابد أن تكون متوازنة ومتناسبة وبنسب معينة، وإذا طغت خصيصة على أخرى يكون الفشل والخسران، فالحظ الوافر مثلا مع شخص قليل الذكاء لاقيمة له، وما بال الشخص الذي يملك الذكاء ولكنه يفتقد الشجاعة والمغامرة؟. … إلى آخر تلك الأسئلة التي يثيرها العنوان برمزيته ودلالته، وأما نرجس العاشقة وعلاقتها باللاعب الذي يحرك أحجار الدمينو، وبالأحجار ذاتها، فسيرد الحديث عنها عبر مقاربتنا النقدية للرواية، والكاتب قد أفرد مساحة كبيرة في روايته للحديث من خلال شخصياته عن الحب والعشق.
الرواية تثير العديد من الأسئلة، وتثير فضول القارئ للبحث عن إجابة، ولا تأتي الإجابة من المعنى المباشر لظاهر النص ولا حتى من الرموز الإيحائية الكثيرة ودلالتها وما تشي به من معنى، فالرواية قد تبدو خادعة بشعرية اللغة، وقد تغري القارئ بالتوقف عند جماليات اللغة والصور المبتكرة، وجمال الوصف وحيوية السرد وتدفقه، وحركة الشخصيات، والقارئ في هذه الحالة كمن يقف عند السطح دون أن يبلغ الطوايا والأعماق، وفي الطوايا والأعماق تكمن الأمثولة / العظة، وتتجلى دلالة العنوان الذي يظن القارئ من القراءة الأولى أنه منبت الصلة عن متن الرواية، فندعوه إلى إعادة القراءة، والتأمل.
( 2 )
الحدث :
يدخلنا الكاتب في الحدث مباشرة، ويستهل روايته بالحدث الرئيس، وهو حدث مفجع ومؤلم :
(….؛ لِيرتفع في هذا الصَّمت الرَّهيب فجأةً صوتُ ثلاثِ طلَقاتٍ ناريَّةٍ لِتستقرَّ داخِل قلب شابٍّ سمينِ الجسد، في أواخِر العِشرينات مِن عُمره، ذي عينَينِ واسعتَينِ تُطلَّانِ مِن خلف نافِذة نظَّارةٍ مُقعَّرةٍ، وصاحِب شَعرٍ مُجعَّدٍ أنهكته حَبَّات المطر طوال اليوم، مُرتدياً (جاكيت) أسود اللون، يحميه مِن برودة شهر(طوبة) القاسية التي لا ترحم أحداً، مُرتدياً أسفله قميصاً و بنطلوناً كحلي اللون؛ ليستقرَّ جسد صاحبه فجأةً وسط دمائه حتَّى يصبغ الأسفلت بلونٍ أحمرَ داكِنٍ، أمام محلِّ” تبارك للمصوغات و المجوهرات”. ثمَّ يتعالى بعد ذلك _ بدقائق قليلة_ صوت رصاصتَينِ يتيمتَينِ تدركانِ طريقهما جيَّداً صوبَ شابٍّ آخر داخل المحلِّ، ليتهاوَى أرضاً هو الآخر في وسط ساحة القتال داخِل جُدران المحلِّ، و تسابقت قطرات الدَّم فوق جسده لتُغطِّي صدره النَّحيف؛ ليتحول لون قميصه إلى لونٍ أحمرَ قاتمٍ.)
الكاتب يميل بصفة عامة إلى الاقتصاد، أعني الاختزال والتكثيف، فلا ثرثرة ولا لغو ولا حشو ولا زوائد، وربما اكتسب هذه الخاصية من كونه أحد الشعراء المجيدين، فالشاعر بطبعه يميل إلى الاكتناز، ففي هذا المشهد القصير، يقدم الحدث، والشخصيات، ويصف الشخصيات وصفا دقيقا ( الوصف الخارجي للشخصية، شكله، ملبسه، عمره .. إلخ ).
انظر إلى وصفه الدقيق للشخص الأول : حالة جسده : سمين الجسد، عمره : في أواخر العشرينات، عيناه : ذي عينين واسعتين، حالتهما : تطلان من خلف نافذة نظارة مقعرة، شعره : مجعد، ملابسه : مرتديا جاكيت أسود اللون، ومرتديا أسفله قميصا، وبنطلونا كحلي اللون.
والكاتب أعطى مساحة لوصف الشخص الأول أكبر من المساحة التي أعطاها للشخص الثاني، ربما لأن الشخص الأول قُتل ولن يظهر بعد ذلك بشحمه ولحمه على مسرح الدنيا، وكأن الكاتب يريد لهذا المقتول غدرا أن يبقى في ذهن المتلقي، وكأنه أراد أن ينحت له تمثالا في قلب القارئ، حتى لا يفارقه ويترحم عليه، ويدين بغلظة جريمة القتل، وسفك الدم، أما الآخر اقتصد في وصفه، فالآخر أصيب إصابة بالغة ولكنه شُفي وعولج، وأعاده إلى مسرح الدنيا ليقدم هو نفسه لنا، من خلال حركاته وأفعاله وردود أفعاله وسلوكياته، فالكاتب أناب عن الأول، وترك الثاني.
ومن هذا المشهد، نعرف المكان الذي وقع فيه هذا الحدث الجلل، فوقع أمام وداخل محل ( تبارك للمصوغات والمجوهرات ). ومات الشخص الأول ( وهو موظف بالمحل ) وأصيب الآخر ( وهو ابن صاحب المحل )، والدوافع هي السرقة، إذن نحن أمام جريمتين : جريمة السرقة وجريمة القتل، وفي مثل هذه الجرائم المركبة والمعقدة لابد من الحضور القوي للبوليس وللنيابة، وسين وجيم … إلخ.
والكاتب لا يقدم شخصياته دفعة واحدة، ولكنه يقدمها على فترات، ويكشف في كل مرة عن ملمح من ملامح الشخصية، وهذه ميزة تحسب له، حتى أسماء الأشخاص أرجأها، فمثلا الشخص الموظف بالمحل والذي قُتل يكشف عن اسمه في الفصل الثاني ونعرف أن اسمه عباس، ولكي يعمق من آثار الجريمة البشعة، وليُكسب ود القارئ وتعاطفه مع عباس، يخبرنا بأنه متزوج ويعول بنات صغار، إذن هذه الجريمة البشعة خلفت وراءها أرملة وبنات صغار، ويتعاظم التعاطف دائما مع الأرملة الثكلى والبنات اللاتي حرمن الأب، وأما الشخص الثاني والذي يرقد في المستشفى بين الحياة والموت فاسمه ( رياض ) وهو ابن الجوهري صاحب المحل.
الكاتب يقدم لنا في هذا المشهد القصير مجموعة من الصورالجزئية التي تتجاور لتشكل لنا المشهد الكلي، صور بصرية تمور بالحركة، فيها الظلال والضوء، فيها الصوت واللون، ومشاهد الكاتب تأتي قريبة من اللوحة التشكيلية.
إذا كان هذا هو الحدث الرئيس واستهل به الكاتب روايته، فهل نحن أمام رواية حدث؟ فالكاتب أبان لنا عن زمان الحدث، ومكانه، وكيفية وقوعه، وظل على مدى وامتداد الرواية يشرح ويفسر لم وقع الحدث ويقدم الدوافع والمبررات التي أدت إلى وقوع الحدث بهذه الكيفية، ومن ثم كان اهتمامه البالغ بالشخصيات.
( 3 )
الشخصيات
( أ )
في جمل قصيرة، وكاشفة، وفي محاولة من الكاتب لري ظمأ القارئ ونهمة للمعرفة بالشخصيات سواء الشخصيات التي تأثرت بالحدث أو الشخصيات التي صنعت الحدث، ومن الشخصيات التي تأثرت بالحدث، قدمها بعناية وبراعة :
= الشخصيات التي تأثرت بالحدث :
1 -الجوهري ( والد رياض ) صاحب محل ” تبارك ” للمجوهرات والمصوغات ( مسرح الحادث المؤلم ) :
( …، رجلٌ في السِّتينيَّات مِن عُمره، مُتوسِّط القامة، ذو كِرشٍ تتباطأ حركته لأعلَى ولأسفل؛ حينما تتحرَّك قدماه سريعاً في أيِّ اتِّجاهٍ، ميسور الحال، لا يثِق بأحَدٍ على مالِه سِوَى ابنه الوحيد” رياض”، الذي يطلب منه المُساعدة أحياناً في أوقات مُتفرِّقة، نظراً لسَفَرِه أحياناً، أو لِكَونه مريضاً، أو لأيِّ سبَبٍ مِن الأسباب، فيضطَّر حينها إلى استدعاء ابنه “رياض”، و يطلب منه بأنْ يُسيِّر الأعمال داخِل المحلِّ بدلاً منه ).
2 – هند زوجة الجوهري ( أم رياض ) :
(كانت” هِند” سَيِّدة في أوائل الخمسينات مِن عُمرها، جميلة الوجه، ذات عينَينِ واسعتَينِ زرقاوتي اللون، ساحِرة القوام، مُحتفِظة برشاقتها، وبكُلِّ معاني الأنوثة والجاذبيَّة، ولم يسرق منها الزَّمن والسَّنوات تِلك الملامِح الجميلة التي تتَّسِم بها، وكأنَّها ما زالتْ في الثلاثين مِن عُمرها، ولم تُنجِب سِوَى ابنها” رياض”، بعد مُحاولاتٍ عديدة للإنجاب باءتْ جميعها بالفشَل مِن قبل، حتَّى رُزِقتْ بابنها” رياض”، والذي قد كان لها السَّنَد في خريف عُمرها، … ).
3 – الشاب رياض :
(وكان “رياض” شابَّاً ثلاثيني العُمر، نحيف الجسَد، فارِع الطُّول، جميل الهيئة، وسيم الوجه، ذا أنفٍ قصير، وشَعر أسود طويل مربوط مِن الخَلف برِباطٍ مُحكَم، وتكسو وجهه لحية سوداء وشارِب طويل، و كان شاعراً موهوباً، حاله حال الطائر المُحلِّق فوق سماء الإبداع دائماً، يوماً في إحدَى نوادي أدب مُحافظة “حلوان”، وتارة في ( ساقية الصاوي )، وأخرَى مُتجوِّلاً بين نوادي أدب مُحافظة” القاهرة”، ومرَّةً أُخرَى يُسجِّل في( التِّلفاز ) حلقاتٍ خاصَّةً عن الشِّعر وعن موهبته، و صدر إليه عدد أربعة دواوين شِعريَّةٍ مطبوعة ).
4 – الفتاة بدور :
(….، وكانت ذات شعر أسود ناعم قصير، ذات وجه ملائكي، وخصر ونهدَين يعجز أيُّ نحَّات عن نحتهما، صوتها سيموفونيَّة مشهورة مِن سيمفونيَّات” بيتهوفن “، جسدها يعجز” بيكاسو “عن رسمه أو تخيُّله، بياض أسنانها عندما تبتسم؛ يصبح مصدراً للنُّور فوق سطح القمر، فقد اختلف المؤرِّخون فيما إذا كانت هي” كيلوبترا” القرن الواحد والعشرين، أم” أفروديت” الحُبِّ والجمال الحالية ).
ويقدم لنا الكاتب في هذا الجزء الأول من الرواية قصة حب رقيقة، ناعمة، عذبة، تدور أحداثها بين الشاب الثري الموهوب، الشاعر ( رياض )، والفتاة الجميلة الموهوبة أيضا، القاصة ( بدور )، وهذه القصة خرجت من رحم أندية الأدب، والمنتديات الثقافية المنتشرة بالقاهرة، فرياض شاعر يذوب عذوبة ورقة، وبدور قاصة رومانسية حالمة، فكانت للكلمة الشاعرة الجميلة دورها في الجمع بين قلبيهما، وعالج الكاتب موضوع الحب بينهما معالجة موضوعية وفنية في غاية الروعة والجمال، وكأنه أراد أن يضع هذا الحب الطاهر العفيف في مقابلة ومواجهة مع نقيضه في الطرف الآخر مع العصابة التي نفذت حادث السطو والقتل ببشاعة ووحشية، فبضدها تتكشف الأشياء، ومن الآثار السيئة لحادث السطو والقتل التي رصدها الكاتب هو عدم احتمال قلب بدور الرقيق وقع صدمة الخبر، فانتقلت إلى المستشفى في حال يرثى لها.ويرصد أيضا من الآثار السيئة لحادث السطو، العثرات المادية التي واجهت الجوهري بعد سرقة المحل، واضطراره إلى التخلي عن قطعة الأرض العزيزة على قلبه لأنها من رائحة والديه، وبيعها ليبدأ من جديد، ليبدأ طريق التجارة من أوله، بعد أن كان قد قطع شوطا بعيدا، ويرصد معاناته النفسية هو وزوجته في حديثهما عن بيع الفيلا والسيارة وبعض الممتلكات، والألم الذي يعتصرهما، ولكنهما يعرضان عن بيع الفيلا والسيارة حفاظا على وضعهما الاجتماعي، ويسعيان لتدبير نفقات زواج ابنهما رياض من بدور، بما يليق بهما وبابنهما الوحيد، فكم حلما بهذا اليوم، وكم ألحا عليه في الزواج، ولكنه كان يتعلل دائما بأنه لم يجد من تخطف قلبه، وتأسر عقله، وتجعله يهيم بها عشقا، وهاهو قد وجدها، حتى ولو كانت من مستوى اجتماعي أقل، حتى لو عانت أمها في تربيتها هي وأخواتها بعد فقد الأب، حتى لو .. ولو ..، فالحب يختصر المسافات، ولا يفرق بين غني وفقير، ..
( ب )
شخصيات رجال الأمن المنوط بهم كشف الجناه :
يبدو الكاتب على وعي بصير بالأساليب التي يفكر بها ضباط المباحث للكشف عن الجريمة، وهذا الوعي يتجلى في بعض الأسئلة التي يطرحها من خلال المقدم ( عصام ) رئيس المباحث، والنقيب ( أيمن ) معاونه.
( مَن هم الأشخاص المُلثَّمِين الذين قد داهموا المحلَّ ليلاً، ولم تتَّضح أيُّ ملامح لهم؟، وهل لاحظ أحد مِن هؤلاء الزَّبائن ملامح أيِّ شخص أثناء المُداهَمة عن قُرب؟ ، وهل تمَّت معرفة أيِّ حركة أو لازمة مُعيَّنة ميّزت طريقة حديث، أو سَيْر أحدٍ مِن الجُناة أثناء الاقتحام؟، وكيف استطاعوا أنْ يصلوا لتحقيق هَدفهم بكلِّ دقَّة؟، وهل للجُناة علاقة بعُمَّال المحلِّ؟، وهل هناك تواطؤ مِن قِبل هؤلاء العُمَّال مع الجُناة؟، وكيف أنَّ هؤلاء الجُناة لم يخشوا كاميرات المُراقَبة والزَّبائن، واستطاعوا تنفيذ مُخطَّطهم الإجراميَّ؟، وكيف استطاعوا جمع المشغولات الذَّهبيَّة والمجوهرات الأخرَى مِن جميع( الفتارين)؟، وكيفيَّة فتْح الخزينة، وأخْذ جميع ما بها مِن مجوهرات ذات أسعار مرتفعة، ولا يخشون رِدَّة فِعل العاملِين بالمحلِّ أو الزَّبائن؟. )
مثل هذه الأسئلة تكشف عن كاتب درس شخصية الضابط جيدا، وألم بوظيفته، وبطرق وأساليب ممارسة هذه الوظيفة، وأدواتها، والملكات الشخصية للضباط والجنود والمخبرين المكلفين بالكشف عن الجناة وتقديمهم للعدالة، ولن أسهب في وصف وتقديم الكاتب لشخصية رجل الأمن، فالكاتب يجيد عموما رسم الشخصية، وفقا لأبعادها الخارجية ( المظهر العام، والسلوك الظاهري )، ووفقا للأبعاد الداخلية ( من حيث الأحوال النفسية والفكرية وأنماط وأساليب التفكير ) ووفقا للأبعاد الاجتماعية وحركة الشخصية داخل المجتمع.
وشخصيات رجال البوليس مستمرة على مدى وامتداد الرواية، وقد عني بها عناية فائقة، وملما بأدق تفاصيل الوظيفة الشرطية.
والشخصيات عموما، شرطية كانت أو غير شرطية، واضحة تماما في ذهن الكاتب، سواء الشخصيات التي ظهرت في الجزء الأول، أو الشخصيات التي ظهرت في الجزء الثاني، والتي صنعت الحدث، فدرسها الكاتب جيدا، وسبر غورها، واستكن جوهرها، فجاءت على الورق شخصيات حية تنبض بالحياة.
( 4 )
شخصيات العصابة :
1 – الشخصيات النسائية والحضور القوي للمرأة:
للمرأة حضورها القوي في هذه الرواية، وبعيدا عن بدور النموذج المشرق للفتاة، فالكاتب يشيد بها، وبأمها السيدة المكافحة التي رفضت الزواج بعد أن توفى زوجها وهي لم تزل في ريعان شبابها، وعلى قدر كبير من الجمال، وآثرت التفرغ لتربية بناتها، والخروج للعمل، فمعاش زوجها المتوفي ضئيل، ولا يفي باحتياجاتهم المعيشية، وقدم لنا الكاتب من خلالها نموذجا رائعا للأرملة المعيلة.
والكاتب قدم لنا شخصيات نسائية أخرى، ارتبطت بالعصابة، وساهمت في حادث السرقة والقتل، منهن :
أ – نرجس :
ولها من اسمها نصيب وافر، ونرجس كما تقول الأسطورة : فتى جميل الوجه، نظر إلى صورته في الماء فعشقها، وظل يتأملها إلى أن مات، ونبت مكان موته زهرة حملت اسمه، وهو يوناني الأصل فعربناها إلى نرجس. وقد جاءتنا عن طريق الفرس، وهي زهرة صفراء حقلية. ( وللمزيد أنظر : قاموس معاني الأسماء ).
ومنها النرجسية : وتعني حب الذات، ويتمحور النرجسي حول ذاته، ويعجب بها، ونرجس بطلة روايتنا، لا يشغلها غير جسدها، فهي مفتونة به، ومتعطش دائما إلى من يرويه، وقد سلكت في سبيل رغبتها المحمومة التي تصل حد الشبق إلى اللجوء إلى طرق وأساليب لا يقرها عرف أو دين، المهم أن تشبع حاجتها ورغبتها الجنسية ضاربة عرض الحائط بكل القيم وقواعد الأخلاق المتعارف عليها.
ومن خلال الحوار بين الضابطين المعنيين بالكشف عن الجناة في حادث السطو والقتل، نتعرف على نرجس:
(- البتِّ دي دخلت السِّجن في قضيِّة زِنا يا فندم.
– إزَّاي يا” أيمن”؟
– اكتشفها جوزها مع راجل تاني في الشَّقة.. وهو راجع في يوم، هو وأصحابه لشقته علشان يلعبوا كوتشينه.. ولقي معاها راجل على السِّرير!
– وبعدين.. كمِّل؟
– جوزها وصحابه مسكوا عشيقها، وربطوه، وربطوها مِن إيديهم مِن ورا، وادُّوه، وادُّوها علقة موت.. وبعدها بلَّغوا الشُّرطة عنهم، وجت قبضت عليهم، وزفُّوهم في الشَّارع.. واتعلَّقت ليها قضيِّة زِنا، واتسجنت فيها تلات سنين.).
وهذا الحوار على قصره، ولكنه يمثل خيط مهم في الكشف عن العصابة، أو بالأدق في الكشف عن ملابسات الحدث، وهو لا يقل أهمية عن الحوار الذي دار بين نفس الضابطين، بعد أن ترك الجناه الحقيبة الجلدية والمدون عليها ” شحته وحش الصعيد )، ومعظم مسارات كشف الحدث جاءت عن طريق الحوار، وهذا هو الدور الفني الذي يلعبه الحوار، سواء في نماء الحدث والدفع به إلى الأمام، أو في الكشف عنه، وإذا لم يقم الحوار بهذا الدور فلا ضرورة ولا أهمية له، ويصبح عبئا على الرواية.
و يعرف بها الكاتب :
(فتاة شعبيَّة، وُلِدت في حيِّ” المطرية “بالقاهرة، وتسكن بـ” شُبرا” حالياً، في الأربعين مِن عُمرها، مُتوسِّطة الجمال، مُطلَّقة، لديها طفل مِن زوجها السَّابق يدُعَى” عمرو”، تعمل مُمرِّضة في عيادة طبيب خاصِّ بوسط المدينة، .. )
ونرجس ضعيفة جدا أمام نداءات جسدها المحمومة، وتتمحور حياتها كلها حول هذا الجسد، ولا تخجل حتى من ابنها الطفل، وهي تسحب الرجل الغريب إلى غرفة نومها، وقد أخذت من النرجسية نصيب وافر، وصل بها حد المرض، فالنرجسية مرض، وله أسبابه وعلاجاته في الطب النفسي، وكان الكاتب ماهرا في وصف أدق خلجات هذه الشخصية المتمحورة حول جسدها.
ب – فردوس :
صديقة نرجس، وجارتها، وليس لها من اسمها نصيب، وعن شخصيتها عندما قام رئيس المباحث باستدعائها :
(كانت في الثَّلاثينات مِن عُمرها، ذات القوام المنحوت، والطِّباع الهادئة، الرَّاضية دائماً بنصيبها، والمُطيعة لأوامر زوجها بعض الوقت رغم عدم حُبِّها إليه، وهي صاحبة الشَّخصيَّة الضَّعيفة، التي مِن السَّهل أنْ تُقاد مِن قِبَل أيِّ شخص آخر، وكانت الحالمة دائماً نحو تغيير نمط حياتها.).
وستتغير شخصيتها بسبب العشق المحرم بنسبة تصل إلى مائة وثمانين درجة، كما سيتغير نمط حياتها تماما، فعشقها للشرقاوي رئيس العصابة سيجعلها مثل أحجار قطع ” الدومينو “
( أصبحت مثل أحجار( الدُّومينو)، التي يُحرِّكها اللاعب، ويتحكَّم بها مثلما شاء )، هل كان الشرقاوي لاعبا ماهرا وهو يقبض على جسدها وقلبها ونفسها وروحها، ويحركها كأحجار الدومينو؟ .. هل كان يلعب الدومينو أم كان يلعب بالنار؟
الكاتب غاص داخل شخصية فردوس، ونقل لنا صراعاتها الداخلية، التي اشتجرت بداخلها وخاصة الصراع بين عقلها وقلبها، فهي أم لأولاد وزوجة منذ أكثر من خمسة عشر عاما، ولم تستطع خلال هذه المدة أن تحب زوجها التي تزوجته زواجا تقليديا، ومنذ أن أسر إليها الشرقاوي بحبه، وسلمته جسدها وهي تحس بأنها رغم وجود أولاد لها أنها لازالت بكرا، وأن الشرقاوي هو الرجل الحقيقي وما عداه اشباه رجال، فهو الذي فض بكارتها، بكارة جسدها، وملك فؤادها، وسيطر على نفسها، وكان اشتهاء الجسد ونداء الروح.
وكلتا المرأتين، نرجس وفردوس، سيلعبان دورا فاعلا في أحداث الرواية، وفي صناعة بعض الأحداث، ولم يكن دورهما ثانويا أو هامشيا، ومن خلالهما كان الجنس حاضرا بقوة، والنزق، والطيش، والخيانة، والغيرة، وغيرها من الصفات المذمومة.
2 – الشخصيات الذكورية :
أ – حفني ( زوج فردوس ) :
( كان” حِفني”، رجلاً مُتوسِّط القامة، مُمتلئ الجسد، في أواخر الخمسينات مِن عُمره، ويعمل بمجال دهانات المنازل والمحلَّات، وكان عاشقاً إلى لُعبة الـ” دومينو”، ماسِكاً لأحجارها بيد وباليد الأُخرَى يحمل( لي ) النَّرجيلة، التي تسكن بين شفاهه دائماً، ويُخرج مِن بين فتحات أنفه الواسِعة أكواماً مِن الدُّخان الأبيض.).
ربما يكون هذا هو الظهور الأول للعبة الدومينو ولحفني الذي يلعبها بمهارة، والصورة التي رسمها الكاتب لحفني هي الصورة التي لا تخطئها العين للاعب الدومينو الماهر.
ب -الشرقاوي ” الرجل الغامض ” وحش الصعيد.
هو صانع الحدث الأكبر، حادث السطو والقتل، فهو المخطط، والمدبر، وقاد التنفيذ، بنجاح ومهارة، والمعلم حفني هو أول من استقبله، واحتضنه، ومد له يد العون.
ويعرفنا الكاتب ” بالشرقاوي”، ويخبرنا بأنه في أوائل الخمسينات مِن عُمره وذلك منذ أن جاء هربا من الصعيد، خوفا من القبض عليه لتنفيذ الأحكام الصادرة ضده بسبب الإتجار في السلاح والمخدرات، وتعرف على المعلم حفني بالمقهى، وخلع على نفسه اسم الشرقاوي بدلا من شحته، وأسر إلى المعلم بسره، وحفظه له، وآواه، وأبت شهامته أن يتخلى عنه، فجعله يساعده في عمله، ويصف الكاتب حالته الجسدية : قويَّ البنية، مفتول العضلات، طويل الجسد، ذا بشرة قمحيَّة داكِنة، وكانت السِّيجارة، لا تُفارق يدَيه، يستطيع الاستغناء عن الأكل والشُّرب أحياناً، ولكنه لا يقوَى على بُعد السيجارة عنه.
واحتفى به المعلم حفني في بيته، وقدمه لزوجته فردوس ولصديقتها نرجس التي لا تفارق فردوس، بأنه صديقه الشرقاوي والذي زامله في الجيش أثناء فترة التجنيد، ومنذ أن وقعت عينا نرجس عليه، وهي في حال غير الحال، دق قلبها، وانتفض جسدها، فمنذ أن خرجت من السجن وهي لم تجد من يشبعه، وبادلها النظرات، ووقع في غرامها، وأسر لها بأنه يريد أن تسأل له عن غرفة بالمنطقة ليسكن فيها، ولم تكذب خبرا، فهي تريده بالقرب منها، ووجدت له غرفة ليست ببعيدة عن مسكنها، وهاتفته فرحة بأن يأتي إليها ليأخذ المفتاح، ودعته إلى الدخول لبيتها، تبادلا النظرات والكلام المعسول، ولم يمض وقت طويل حتى ( قامتْ حينها بالانقضاض عليه، والتقمت شفتَيه الاثنتَين، وصارت تأكلهما، كما لو كان طفل جائع يحتاج ثدي أُمِّه، …. ).
وتوسلت إليه أن يبقى معها بالشقة،.. ( ..، فهي ليس لدَيها عائلة، أو زوجٌ، أو صديقٌ، أو حبيبٌ، وطلبتْ منه أنْ يكون كلَّ ذلك؛ الزَّوج ، والصَّديق، والحبيب، لكنَّه رفض ذلك الأمر، وأخبرها أنَّه مُتزوجٌ، ولدَيه أولاد، فأجابته” نرجس”، قائلة:
-حتَّى لو مش عايز تتجوّزني.. أنا عايزاك جنبي، ومعايا، بالشَّكل اللي تحبُّه.. وفي الوقت اللي تحبُّه ).
وبعد توسلات ودموع وافق على أن يعيش معها بالشقة دون زواج، ورغم ذلك لم ينس زوجته أو أولاده، فيرسل لهم مع بسطاوي بلدياته ما تيسر من أموال حتى لو كانت قليلة، فهي تعينهم ولو قليلا على أعباء الحياة.
وإذا كان الكشف عن سجن نرجس من قبل في قضية زنا وكان هذا الكشف مسارا مهما لرجال البوليس، وأيضا كانت الحقيبة هي الأخرى من المسارات المهمة التي سار ورائها رجال المباحث، فإن بسطاوي بلديات شحته / الشرقاوي، كان مسارا ثالثا لرجال المباحث، وهذه المسارات أو الخيوط جاءت جميعها عن طريق الحوار، الذي يؤكد أهميته ودوره البنائي في نسيج الرواية، والحوار في هذه الرواية يحتاج إلى بحث خاص، نرجو أن ننجزه لاحقا.
ج – أحمدي و” أبو ليلة “.
كان” أحمدي” موظَّفاً بإحدى المصالح الحكوميَّة، في الأربعينات مِن عُمره، قصير القامة، ذا بشرةٍ قمحيَّة، صاحب دخل متوسِّط، لا يكفيه راتبه دائماً حتى مُنتصَف الشَّهر، ويلجأ دائماً للاقتراض مِن أصدقاء العمل، أو أصدقاء القهوة، ولحِفظ ماء الوجه؛ كان يُفضِّل الاقتراض مِن” الشَّرقاويّ” و” حِفني” طوال الوقت؛ لأنَّهما أقرب إليه مِن الآخرين، كما أنَّه يحاول البحث بشكل دائم عن وظيفة أُخرى بعد انتهاء ميعاد وظيفته الحكوميَّة؛ لكي يزيد مِن دخله، كحلٍّ جُزئيٍّ لتلك المشاكل التي كان يُعاني منها دوماً، ولكن كان يعجز عن إيجاد وظيفة مُناسِبة؛ لتتناسب معه، وان ذلك أمراً صعباً عليه؛ لذلك كانت تضطرُّه ظروفه أنْ يخرج كصبيٍّ في بعض الأيام لمُساعدة كلٍّ مِن” الشَّرقاويّ” و”حِفني” في أعمال الدَّهانات، مُقابل حصوله على بعض الأموال نظيراً لذلك، والتي كانت تكفي القليل لديه مِن مُستلزمات حياته اليوميَّة، واعتبارها بديلاً شرعيَّاً للاقتراض مِن الآخرين ).
( وكان” أبوليلة”، في الخمسينات مِن عُمره، نحيف الجسد، شاحب اللون، يميل وجهه إلى الاصفرار دائماً، منفوخ البطن قليلاً، وكان يُعاني مِن تليُّفٍ بالكبد، وكانت وظيفته هي العمل داخل بنزينة” الإخلاص” الكائنة بـ” شُبرا”، وكان لا يقوَى على العمل كثيراً؛ نتيجة حالته الصِّحيَّة السَّيِّئة، ويحتاج لكثير مِن الرَّاحة والوقت؛ لأخذ جُرعات دوائيَّة تُساعده على أنْ يبرأ مِن مرضه، أو لتُخفِّف مِن آلامه المُستمرَّة، ممَّا انعكس على تدهْور مُستواه المادِّيِّ، وأجبرته تلك الظروف على عيْش حياة صعبة في الكثير مِن الأوقات، وبات لا يقوى على مصاريف زوجته وأولاده ومتطلبات منزله طوال الوقت، وكانت القهوة ملجأً إليه؛ للهروب مِن تلك المُتطلَّبات والمسئوليَّات التي تُلاحِقه دائماً، كما كان يضطرُّ إلى اللجوء لأصدقاء القهوة للاقتراض منهم كثيراً، ولأنَّه يعلم جيِّداً حجم المسئوليات التي تنصبُّ على عاتقه، وشعوره الدَّائم بأنَّ الموت قاب قوسين منه وأدنى؛ لذلك كان دائم البحث عن طريقة مُناسِبة لتأمين حياة زوجته وأولاده بعد وفاته دائماً، ولكن كانت إمكانيَّاته الصِّحيَّة والمادِّيَّة تقف عائقاً أمامه دائماً ).
د – فتحي و ” أبو شنب ” :
( كان” فتحي” شابَّاً عشرينيَّاً، فَشل بمراحل تعليمه المُختلِفة، ولكن استطاع أنْ يتعلَّم مهنة السِّباكة، ويعمل بنفس المنطقة التي بها شارع” الخلفاوي” بـ” شُبرا”، وكان أحد مُرتادي قهوة” السُكَّري”، وأحد عاشقي لُعبة” الدُّومينو” التي كانت العامل المُشترك بينهم جميعاً، والتي تجمعهم حول طاوِلة واحدة، ويجلس بجوارهم مُتابِعاً ومُستمتِعاً بحلاوة لعبهم، واحترافهم لتلك اللعبة، وكانوا جميعهم يشعرون بالاستمتاع لسماع( سيمفونيَّة) قَرع قِطع( الدُّومينو) على الطَّاوِلة، ثمَّ سماع أسماء القِطع؛ دُش.. شيش بيش.. دورجي..، فكانت( الدُّومينو) هي اللعبة التي تُخاطب أرواحهم ووجدانهم بعد شقاء يوم طويل، ويسعدون بها، وتجمع كلَّ شعوب أفكارهم في مكان واحد ).
( أمَّا” أبوشنب” فكان رجلاً في الأربعينات مِن عُمره، طويل القامة، ذا كِرش صغير يتدلَّى منه، وكان مُتزوِّجاً مِن امرأة جميلة تُدعَى” مريم”، متوسِّط الحال، يتَّسِم بالدَّهاء والمَكر والحيلة دائماً، يقطُن داخِل قرية صغيرة تابِعة لمحافظة” الجيزة”، ويعمل مندوباً وسائقاً بشركة الدَّهانات العامَّة بـ” الجيزة”، والمسئولة عن توزيع جميع مُنتجات الدَّهانات على مستوى الجمهوريَّة، والتقى بكلٍّ مِن “الشَّرقاويّ” و” حِفني” مُصادفةً عند أحد تُجَّار الدَّهانات بـ” شُبرا”، عندما كان يقوم بتوزيع بعض مُنتجات الشَّركة هناك، ودار بينهم حديثٌ طويلٌ، واصطحباه معهما نحو قهوة” السُّكَّري” بشارع “الخلفاوي”، ووجدوه عاشقاً، ومُتيَّماً مِثلهم بـلُعبة” الدومينو”، التي كانت القاسم المشترك بينهم جميعاً، إلى أنْ صارت بينهم صداقة وطيدة، تسمح له بالتَّواجُد بينهما بين الحين والآخر على القهوة، ولكن ليس بشكلٍ مُستمرٍّ؛ نظراً لبُعد إقامته عن” شُبرا”، ولكن كان الودُّ والاتصال مُتواجِداً بينهم بشكلٍ دائم ).
…..
هؤلاء هم أصدقاء المقهى، الذين يتحلقون يوميا حول ” الدومينو “، ويعانون من شظف العيش وقسوة الفقر، فمنهم المريض الذي ينتظر الموت في كل لحظة، ولم يترك لزوجته وأولاده ما يقيم الأود، ومنهم الموظف وراتبه الهزيل الذي لا يفي بأبسط احتياجات أسرته من مأكل وملبس ومصروفات التعليم، والشرقاوي نفسه يعاني من قسوة العمل مع المعلم حفني كمساعد له، وعمل المعلم حفني غير ثابت أو مستقر، والحال كذلك بالنسبة لفتحي وأبا شنب، فحول أحجار الدمينو تحلق الفقير والمريض، والهارب من أحكام غيابية، نفوس كسيرة، ومحبطة، تعاني من واقع مؤلم، ومتطلبات حياتية ضاغطة، ومع أنفاس الدخان وطرقعة قطع أحجار الدومينو كان التفكير في الخروج من هذا الواقع الخانق والردي، محاولة الخروج من القاع إلى السطح، وألقاها الشرقاوي، قنبلة، فدوت، فالحل الوحيد في رأيه في سرقة بنك أو محل صرافة، وقع في قلب أحمدي وأبو ليلة، ولكن سرعان ما تماسكا بعد أن أعلن المعلم حفني موافقته، وراحوا يقلبون الفكرة في أدمغتهم، واستقر رأيهم بعد أخذ ورد في سرقة محل مصوغات ومجوهرات ويكون من المحلات الكبيرة وخارج منطقتهم حتى لا ينكشف أمرهم.
ويحسب للشرقاوي قدرته على التخطيط الجيد والمحكم للعملية، فأخذ القرار بعد دراسة مستفيضة، ودرس حتى التفاصيل الصغيرة، فغير مسموح بأي خطأ، فتم معاينة المحل عن طريق نرجس وفردوس أكثر من مرة، وتم تحديد الوقت المناسب، والذي يقل فيه الزبائن، والعربة المسروقة التي سيستخدمونها، والشفرة المتفق عليها، وخطوط السير، وأين يتم اخفاء المسروقات، وكيفية ابعاد رجل الأمن عن الكاميرات حتى يتم الإجهاز عليه، والدخول ملثمين وعدم مناداة بعضهم البعض بأسمائهم الحقيقية، لم يترك أثناء التخطيط ثغرة للبوليس لينفذ إليهم منها، وكأنها الجريمة الكاملة، وهذا ماشهد به رجال الأمن لهم وهم يعاينون مسرح الجريمة ويستجوبون الشهود، ولذا جاء الصراع في الرواية قويا.
(5 )
الصراع
الصراع في الرواية سار على أكثر من مستوى، فالكاتب اهتم بالصراع الداخلي للأشخاص، فلا تخلو شخصية من صراعاتها الداخلية، وإن اختلفت حدته من شخص إلى آخر، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، الصراع الداخلي لفردوس وخاصة صراع قلبها وعقلها، وانتصر القلب وارتمت في العشق المحرم، والصراع الداخلي للطفل عمرو.
والمستوى الثاني من الصراع : صراع أفراد العصابة، مثل الصراع بين نرجس وفردوس الصديقتين على الشرقاوي لمحاولة كل منهما استمالته والظفر به لها وحدها.
والصراع الأكبر بين رجال البوليس من جانب وأفراد العصابة التي نفذت حادث السرقة والقتل باحترافية شديدة من جانب آخر، هذه الإحترافية جعلت رجالات البوليس يستخرجون أقصى ماعندهم من أساليب وتقنيات للكشف عن الجريمة، وهذا ما جعل أفراد العصابة يتخذون أيضا كافة أساليب الحذر والخداع والتمويه، والصراع بينهما بدا صراع عقول، ثم سرعان ما تحول إلى صراع إرادات، بل وصل إلى صراع الوجود ذاته، إثبات الذات لرجال الأمن، وللعصابة هي الحياة ذاتها والخروج من الفقر والنفق المظلم أو فقدان الحياة بالقصاص أو في أحسن الأحوال العيش في زنازين مظلمة ومغلقة، ووصل الصراع في عمومه إلى الصراع بين الخير والشر، والصراع اكتسب جماله من أنه ليس تنظيرا أو حوارات مرسلة بين الخير والشر أو عظات ومواعظ وخطب وإنشاء أجوف، ولكن الخير والشر كل منهما بدا لنا في بشر من لحم ودم، بشر يتكلم، ويفكر، ويخطط، ويدبر، ويحتال، ويتحرك، ويناور، ويراوغ، بشر يفعل.
وإذا كان رجال المباحث قد تحلوا بالصبر فإن أفراد العصابة أمام الفقر اضطروا إلى تقسيم المبلغ المالي بينهم، وكان هذا التصرف من أهم الخيوط، فظهرت آثار النعمة عليهم، وبإحكام المراقية تم اكتشاف خيانة شحته / الشرقاوي لصديقه حفني، وبلغت المكيدة من رجال المباحث أن يبلغوا نرجس عبر الجوال بخيانة عاشقها لها مع أعز صديقاتها فردوس، ربما تثور نرجس، ويحدث الخلاف بينهما، فتتكشف بعض الأمور، والمسارات التي سار عليها رجال البوليس كثيرة، ومنها طمع مريم وزوجها ” أبو شنب ” وقد لجأوا إلى حيلة تفتقت عنها قريحتهما، فبمراقبة كل شلة شحته / الشرقاوي، توصلوا إلى اصطحاب ” أبو شنب ” لزوجته مرة كل شهر إلى محافظة بعيدة ( فهو موزع دهانات ) والذهب يبرق في يدها وعنقها، فهما يقومان بتغيير ما تتزيا به من المسروقات إلى موديلات أخرى، ويقومان ببيعه في محلات أخرى، ويتحول بهذا إلى أموال، فمريم زوجة ” أبو شنب ” تتعجل حياة العز والترف، وتريد أن تنسل من طبقتها الوضيعة بأسرع ما يمكن، وترتقي إلى الطبقات الأرستقراطية، وكأنهما بهذا المسلك الذي يسلكانه يظنان أنهما يخدعان البوليس الذي من المؤكد قد أبلغ عن المسروقات لبائعي الذهب بالقاهرة وربما لبائعي القاهرة الكبرى، وبالمراقبة توصل البوليس إلى مكان دفنه، وتابعوهما وهما يستخرجانه.
البوليس سار على مسارات عديدة، من أجل إحكام قبضته على العصابة، ونرى الصراع على أشده بين البوليس وأفراد العصابة، وبين أفراد العصابة بعضهم البعض، فالغيرة، غيرة نرجس وفردوس، وصراعهما على شحته / الشرقاوي، كان صراعا شرسا عنيفا، وكانت النهاية مؤلمة، فأفراد العصابة هم من أعملوا القتل في أنفسهم، وهم من أنهوا حياتهم بأيديهم بسبب الخيانة والخسة والندالة والغدر.
والكاتب اهتم اهتماما بالغا بالشخصيات التي فعلت الحدث وبالشخصيات الذين تأثروا به. ووفر كل عوامل النجاح لروايتة، ذات الحبكة الجيدة المتماسكة، وحافظ على خاصية التشويق، التي نفتقدها في الروايات الجديدة، واستخدم أسلوب الصدمات، وهو أحد أساليب المونتاج السينمائي التي لا يركب فيها المخرج لقطاته، لقطة تلو لقطة، لتنساب بعذوبة ورقة، وإنما يركبها لتتدفق صدمة تلو صدمة، ما يكاد يفيق المتفرج / القارئ من صدمه، حتى يباغته بصدمة جديدة، فلا يستطيع أن يقعد على كرسيه، أويمسك أعصابه، وهذا العمل من الممكن أن يكون قريبا من السينما إذا قيض الله له كاتب السيناريو والمخرج والأهم من هذا وذاك شركة الإنتاج التي تتبناه وتنفق عليه، حتى تقفز شخصياته من الورق إلى الشاشة.
( 6 )
سلوكيات نرجس وآثارها السلبية على ابنها الطفل ( عمرو ).
الكاتب يرصد بوعي بصير آثار سلوكيات ” نرجس ” الشاذة والمنحرفة على الطفل ” عمرو “، يرصد براءة الطفل ومحاولته تفسير ما يجري أمام عينيه بين أمه وعشيقها، ولحظة القبض على أمه وعشيقها، عن طريق والده والجيران، واقتيادهما إلى الشرطة بعد ضربهما وتقييدهما بالحبال وتجريسهما، وفترة سجن أمة ومعاملة والدة القاسية له، وشكه في أنه ليس من صلبه، ويرصد لحظة تفجر الوعي لدي الطفل وهو يرى ” الشرقاوي ” يستبيح جسد أمه، ويعيش معها بلا زواج شرعي، ويرصد الكاتب الصراعات المتأججة بداخله، وردود أفعال المجتمع من حوله على سلوك أمه واُثارها المدمرة على نفسيته، ووصول الطفل إلى حالة من اللامبالة، وكأن اللامبالاة أحد ميكانيزمات الدفاع عن النفس المنكسرة وغير السوية، ووصوله إلى حالة تقليد الأم ومحاولة اثبات ذاته بمحاولته الانقضاض على جارته، وكأنه الشرقاوي الذي ينقض أمام عينيه على أمه!!
ربما تكون المشاهد الحاضر فيها الطفل من أجمل المشاهد، لأن الكاتب نجح أن ينقل لنا ما يجري أمامه بعين الطفل، وببراءة وسذاجة الطفل في بدايته، وأجمل اللحظات لحظة انبثاق الوعي لدي الطفل بما يجري حوله، وكان الكاتب قريبا جدا من الطفل لينقل لنا نمط وأساليب تفكيره وبما يتلائم تماما مع عمره الزمني.
( 7 )
توظيف الشعر :
وفق الشاعر تماما عندما وظف بعض قصائده وخاصة القصائد التي ينوب فيها عن بدور أو رياض، فرياض شاعر موهوب، وبدور قاصة ولها اهتمامات أدبية، ومن البدهي أن يكون الشعر حاضرا بينهما، ونتقبله كقراء في حديثهما وحوارتهما، وتقبلنا لهذه القصائد منهما كمحبين يكون أكبر، وخاصة أن هذه القصائد عبرت عن أحاسيسهما ومشاعرهما الجياشة والفياضة، وكانت هذه القصائد متممه للسرد ولم تمنع تدفقه، بل زادته حيوية، أما القصائد التي وردت على ألسنة غيرهما من الشخصيات أعاقت جريان السرد، وهذه الشخصيات لانصيب لها من التعليم ولا حظ لها من الثقافة، ولذا لم نستسغ حديثهما بالشعر، ويحسب للكاتب عموما أنه اختار قصائد قصار، وكأنه يعي تماما أن السرد لا يحتمل القصائد الطويلة، التي تعزل القارئ وتبعده عن الحدث والسرد، فإذا لم تعمق القصيدة من الحدث، وتنميه، وتدفعه إلى الأمام مثلها مثل الحوار، فلا ضرورة لها، وإن لم تكن كاشفة عن ملمح من ملامح الشخصية تكون عبئا على الرواية.
وبعض القصائد القصار التي وظفها الكاتب، كانت في خدمة الحدث، شأنها شأن الحوار، واللغة، والوصف، والسرد، وكلها قامت أو وظفها الكاتب لخدمة الحدث، وساهمت في تصويره، وتطويره.
ومن الصعب هما التفريق بين الحدث والشخصية لأن الحدث هنا كما يقول النقاد هو الشخصية وهي تعمل، ووحدة الحدث كما اتفق النقاد لا تتحقق إلا بتصوير الشخصية وهي تعمل.
وبعد :
هذه قراءة أولى للعمل الأول للشاعر محمد زكريا حبيشي، أرجو أن أكون قد نثرت بعض قطرات الضوء عليه، كما أرجو أن أكون قد كشفت عن بعض جمالياته، وأرجو أن أعود إليه في قراءة ثانية أكثر عمقا، وأرجو أن أكون عند حُسن الظن وعلى مستوى الثقة، ومن الله التوفيق.
مجدي جعفر
( ورقة نقدية لمنافشة الرواية بقصر ثقافة العاشر من رمضان مساء الثلاثاء الموافق 12 / 10 / 2021م )
( 1 )
العنوان
الدومينو أو ( الضومنه ) كما ينطقها أبناء الشعب المصري، من الألعاب الشعبية، واجتذبت منذ أزمنة سحيقة الكبار والشباب، تراهم يتحلقون حولها في المقاهي، وفي البيوت، ويلعبونها في أوقات الفراغ.
وأحجار ” الدومينو ” على الرغم من حضورها القليل في الرواية، إلا أنها تلقي بظلالها على معظم شخصيات الرواية، فلم يقف الكاتب عند محاولته ” أنسنة ” تلك الأحجار، بل جعلها تتماهى مع شخصياته، والذين يلعبون ” الدومينو ” يعلمون تماما أن هذه اللعبة تحديدا دون غيرها، تحتاج إلى بعض الحظ كما تحتاج إلى قدر من الذكاء، وتحتاج إلى حنكة وخبرة كما تحتاج أيضا إلى قدر من المغامرة، وهي تحتاج أيضا إلى الحدس والتخمين كما تحتاج إلى قراءة المجهول.
هل هي لعبة الحياة ذاتها التي تحتاج إلى لاعب كلاعب ” الدومينو ” الماهر الذي يملك بعض الحظ وقدر من الذكاء وقدر من المغامرة بالإضافة إلى الفراسة المبنية على الحدس والتخمين، وقراءة المجهول، ولديه الميل إلى المغامرة، فضلا عن الحنكة والخبرة، هل هذه الخصائص إذا اجتمعت كلها في شخص واحد يكون أحد اللاعبين المهرة في الحياة شأنه شأن لاعب ” الدومينو” الماهر؟.
إذا كان العنوان عتبة النص كما يقول السيميائيين، وأنا لا أميل إلى قراءة هذه الرواية قراءة سيميائية، ولكنه – أي العنوان – مبثوث بطريقة غير مباشرة في الرواية، والقارئ يستحضر دلالاته ومدلوله من خلال الشخصيات وخاصة الشخصيات التي تظهر في الجزء الثاني من الرواية، وهي التي صنعت الحدث الرئيس، وتظهر دلالالته أيضا في ثنايا الوصف والسرد والحوار، عبر رمزية شفيفة، يحاول القارئ القبض عليها من خلال حركة الشخصيات، ونصيب كل شخصية من خصائص لاعب ” الدومينو ” الماهر، وعلى قدر نصيبه منها يكون نجاحه أو إخفاقه في الحياة، وهذه الخصائص لابد أن تكون متوازنة ومتناسبة وبنسب معينة، وإذا طغت خصيصة على أخرى يكون الفشل والخسران، فالحظ الوافر مثلا مع شخص قليل الذكاء لاقيمة له، وما بال الشخص الذي يملك الذكاء ولكنه يفتقد الشجاعة والمغامرة؟. … إلى آخر تلك الأسئلة التي يثيرها العنوان برمزيته ودلالته، وأما نرجس العاشقة وعلاقتها باللاعب الذي يحرك أحجار الدمينو، وبالأحجار ذاتها، فسيرد الحديث عنها عبر مقاربتنا النقدية للرواية، والكاتب قد أفرد مساحة كبيرة في روايته للحديث من خلال شخصياته عن الحب والعشق.
الرواية تثير العديد من الأسئلة، وتثير فضول القارئ للبحث عن إجابة، ولا تأتي الإجابة من المعنى المباشر لظاهر النص ولا حتى من الرموز الإيحائية الكثيرة ودلالتها وما تشي به من معنى، فالرواية قد تبدو خادعة بشعرية اللغة، وقد تغري القارئ بالتوقف عند جماليات اللغة والصور المبتكرة، وجمال الوصف وحيوية السرد وتدفقه، وحركة الشخصيات، والقارئ في هذه الحالة كمن يقف عند السطح دون أن يبلغ الطوايا والأعماق، وفي الطوايا والأعماق تكمن الأمثولة / العظة، وتتجلى دلالة العنوان الذي يظن القارئ من القراءة الأولى أنه منبت الصلة عن متن الرواية، فندعوه إلى إعادة القراءة، والتأمل.
( 2 )
الحدث :
يدخلنا الكاتب في الحدث مباشرة، ويستهل روايته بالحدث الرئيس، وهو حدث مفجع ومؤلم :
(….؛ لِيرتفع في هذا الصَّمت الرَّهيب فجأةً صوتُ ثلاثِ طلَقاتٍ ناريَّةٍ لِتستقرَّ داخِل قلب شابٍّ سمينِ الجسد، في أواخِر العِشرينات مِن عُمره، ذي عينَينِ واسعتَينِ تُطلَّانِ مِن خلف نافِذة نظَّارةٍ مُقعَّرةٍ، وصاحِب شَعرٍ مُجعَّدٍ أنهكته حَبَّات المطر طوال اليوم، مُرتدياً (جاكيت) أسود اللون، يحميه مِن برودة شهر(طوبة) القاسية التي لا ترحم أحداً، مُرتدياً أسفله قميصاً و بنطلوناً كحلي اللون؛ ليستقرَّ جسد صاحبه فجأةً وسط دمائه حتَّى يصبغ الأسفلت بلونٍ أحمرَ داكِنٍ، أمام محلِّ” تبارك للمصوغات و المجوهرات”. ثمَّ يتعالى بعد ذلك _ بدقائق قليلة_ صوت رصاصتَينِ يتيمتَينِ تدركانِ طريقهما جيَّداً صوبَ شابٍّ آخر داخل المحلِّ، ليتهاوَى أرضاً هو الآخر في وسط ساحة القتال داخِل جُدران المحلِّ، و تسابقت قطرات الدَّم فوق جسده لتُغطِّي صدره النَّحيف؛ ليتحول لون قميصه إلى لونٍ أحمرَ قاتمٍ.)
الكاتب يميل بصفة عامة إلى الاقتصاد، أعني الاختزال والتكثيف، فلا ثرثرة ولا لغو ولا حشو ولا زوائد، وربما اكتسب هذه الخاصية من كونه أحد الشعراء المجيدين، فالشاعر بطبعه يميل إلى الاكتناز، ففي هذا المشهد القصير، يقدم الحدث، والشخصيات، ويصف الشخصيات وصفا دقيقا ( الوصف الخارجي للشخصية، شكله، ملبسه، عمره .. إلخ ).
انظر إلى وصفه الدقيق للشخص الأول : حالة جسده : سمين الجسد، عمره : في أواخر العشرينات، عيناه : ذي عينين واسعتين، حالتهما : تطلان من خلف نافذة نظارة مقعرة، شعره : مجعد، ملابسه : مرتديا جاكيت أسود اللون، ومرتديا أسفله قميصا، وبنطلونا كحلي اللون.
والكاتب أعطى مساحة لوصف الشخص الأول أكبر من المساحة التي أعطاها للشخص الثاني، ربما لأن الشخص الأول قُتل ولن يظهر بعد ذلك بشحمه ولحمه على مسرح الدنيا، وكأن الكاتب يريد لهذا المقتول غدرا أن يبقى في ذهن المتلقي، وكأنه أراد أن ينحت له تمثالا في قلب القارئ، حتى لا يفارقه ويترحم عليه، ويدين بغلظة جريمة القتل، وسفك الدم، أما الآخر اقتصد في وصفه، فالآخر أصيب إصابة بالغة ولكنه شُفي وعولج، وأعاده إلى مسرح الدنيا ليقدم هو نفسه لنا، من خلال حركاته وأفعاله وردود أفعاله وسلوكياته، فالكاتب أناب عن الأول، وترك الثاني.
ومن هذا المشهد، نعرف المكان الذي وقع فيه هذا الحدث الجلل، فوقع أمام وداخل محل ( تبارك للمصوغات والمجوهرات ). ومات الشخص الأول ( وهو موظف بالمحل ) وأصيب الآخر ( وهو ابن صاحب المحل )، والدوافع هي السرقة، إذن نحن أمام جريمتين : جريمة السرقة وجريمة القتل، وفي مثل هذه الجرائم المركبة والمعقدة لابد من الحضور القوي للبوليس وللنيابة، وسين وجيم … إلخ.
والكاتب لا يقدم شخصياته دفعة واحدة، ولكنه يقدمها على فترات، ويكشف في كل مرة عن ملمح من ملامح الشخصية، وهذه ميزة تحسب له، حتى أسماء الأشخاص أرجأها، فمثلا الشخص الموظف بالمحل والذي قُتل يكشف عن اسمه في الفصل الثاني ونعرف أن اسمه عباس، ولكي يعمق من آثار الجريمة البشعة، وليُكسب ود القارئ وتعاطفه مع عباس، يخبرنا بأنه متزوج ويعول بنات صغار، إذن هذه الجريمة البشعة خلفت وراءها أرملة وبنات صغار، ويتعاظم التعاطف دائما مع الأرملة الثكلى والبنات اللاتي حرمن الأب، وأما الشخص الثاني والذي يرقد في المستشفى بين الحياة والموت فاسمه ( رياض ) وهو ابن الجوهري صاحب المحل.
الكاتب يقدم لنا في هذا المشهد القصير مجموعة من الصورالجزئية التي تتجاور لتشكل لنا المشهد الكلي، صور بصرية تمور بالحركة، فيها الظلال والضوء، فيها الصوت واللون، ومشاهد الكاتب تأتي قريبة من اللوحة التشكيلية.
إذا كان هذا هو الحدث الرئيس واستهل به الكاتب روايته، فهل نحن أمام رواية حدث؟ فالكاتب أبان لنا عن زمان الحدث، ومكانه، وكيفية وقوعه، وظل على مدى وامتداد الرواية يشرح ويفسر لم وقع الحدث ويقدم الدوافع والمبررات التي أدت إلى وقوع الحدث بهذه الكيفية، ومن ثم كان اهتمامه البالغ بالشخصيات.
( 3 )
الشخصيات
( أ )
في جمل قصيرة، وكاشفة، وفي محاولة من الكاتب لري ظمأ القارئ ونهمة للمعرفة بالشخصيات سواء الشخصيات التي تأثرت بالحدث أو الشخصيات التي صنعت الحدث، ومن الشخصيات التي تأثرت بالحدث، قدمها بعناية وبراعة :
= الشخصيات التي تأثرت بالحدث :
1 -الجوهري ( والد رياض ) صاحب محل ” تبارك ” للمجوهرات والمصوغات ( مسرح الحادث المؤلم ) :
( …، رجلٌ في السِّتينيَّات مِن عُمره، مُتوسِّط القامة، ذو كِرشٍ تتباطأ حركته لأعلَى ولأسفل؛ حينما تتحرَّك قدماه سريعاً في أيِّ اتِّجاهٍ، ميسور الحال، لا يثِق بأحَدٍ على مالِه سِوَى ابنه الوحيد” رياض”، الذي يطلب منه المُساعدة أحياناً في أوقات مُتفرِّقة، نظراً لسَفَرِه أحياناً، أو لِكَونه مريضاً، أو لأيِّ سبَبٍ مِن الأسباب، فيضطَّر حينها إلى استدعاء ابنه “رياض”، و يطلب منه بأنْ يُسيِّر الأعمال داخِل المحلِّ بدلاً منه ).
2 – هند زوجة الجوهري ( أم رياض ) :
(كانت” هِند” سَيِّدة في أوائل الخمسينات مِن عُمرها، جميلة الوجه، ذات عينَينِ واسعتَينِ زرقاوتي اللون، ساحِرة القوام، مُحتفِظة برشاقتها، وبكُلِّ معاني الأنوثة والجاذبيَّة، ولم يسرق منها الزَّمن والسَّنوات تِلك الملامِح الجميلة التي تتَّسِم بها، وكأنَّها ما زالتْ في الثلاثين مِن عُمرها، ولم تُنجِب سِوَى ابنها” رياض”، بعد مُحاولاتٍ عديدة للإنجاب باءتْ جميعها بالفشَل مِن قبل، حتَّى رُزِقتْ بابنها” رياض”، والذي قد كان لها السَّنَد في خريف عُمرها، … ).
3 – الشاب رياض :
(وكان “رياض” شابَّاً ثلاثيني العُمر، نحيف الجسَد، فارِع الطُّول، جميل الهيئة، وسيم الوجه، ذا أنفٍ قصير، وشَعر أسود طويل مربوط مِن الخَلف برِباطٍ مُحكَم، وتكسو وجهه لحية سوداء وشارِب طويل، و كان شاعراً موهوباً، حاله حال الطائر المُحلِّق فوق سماء الإبداع دائماً، يوماً في إحدَى نوادي أدب مُحافظة “حلوان”، وتارة في ( ساقية الصاوي )، وأخرَى مُتجوِّلاً بين نوادي أدب مُحافظة” القاهرة”، ومرَّةً أُخرَى يُسجِّل في( التِّلفاز ) حلقاتٍ خاصَّةً عن الشِّعر وعن موهبته، و صدر إليه عدد أربعة دواوين شِعريَّةٍ مطبوعة ).
4 – الفتاة بدور :
(….، وكانت ذات شعر أسود ناعم قصير، ذات وجه ملائكي، وخصر ونهدَين يعجز أيُّ نحَّات عن نحتهما، صوتها سيموفونيَّة مشهورة مِن سيمفونيَّات” بيتهوفن “، جسدها يعجز” بيكاسو “عن رسمه أو تخيُّله، بياض أسنانها عندما تبتسم؛ يصبح مصدراً للنُّور فوق سطح القمر، فقد اختلف المؤرِّخون فيما إذا كانت هي” كيلوبترا” القرن الواحد والعشرين، أم” أفروديت” الحُبِّ والجمال الحالية ).
ويقدم لنا الكاتب في هذا الجزء الأول من الرواية قصة حب رقيقة، ناعمة، عذبة، تدور أحداثها بين الشاب الثري الموهوب، الشاعر ( رياض )، والفتاة الجميلة الموهوبة أيضا، القاصة ( بدور )، وهذه القصة خرجت من رحم أندية الأدب، والمنتديات الثقافية المنتشرة بالقاهرة، فرياض شاعر يذوب عذوبة ورقة، وبدور قاصة رومانسية حالمة، فكانت للكلمة الشاعرة الجميلة دورها في الجمع بين قلبيهما، وعالج الكاتب موضوع الحب بينهما معالجة موضوعية وفنية في غاية الروعة والجمال، وكأنه أراد أن يضع هذا الحب الطاهر العفيف في مقابلة ومواجهة مع نقيضه في الطرف الآخر مع العصابة التي نفذت حادث السطو والقتل ببشاعة ووحشية، فبضدها تتكشف الأشياء، ومن الآثار السيئة لحادث السطو والقتل التي رصدها الكاتب هو عدم احتمال قلب بدور الرقيق وقع صدمة الخبر، فانتقلت إلى المستشفى في حال يرثى لها.ويرصد أيضا من الآثار السيئة لحادث السطو، العثرات المادية التي واجهت الجوهري بعد سرقة المحل، واضطراره إلى التخلي عن قطعة الأرض العزيزة على قلبه لأنها من رائحة والديه، وبيعها ليبدأ من جديد، ليبدأ طريق التجارة من أوله، بعد أن كان قد قطع شوطا بعيدا، ويرصد معاناته النفسية هو وزوجته في حديثهما عن بيع الفيلا والسيارة وبعض الممتلكات، والألم الذي يعتصرهما، ولكنهما يعرضان عن بيع الفيلا والسيارة حفاظا على وضعهما الاجتماعي، ويسعيان لتدبير نفقات زواج ابنهما رياض من بدور، بما يليق بهما وبابنهما الوحيد، فكم حلما بهذا اليوم، وكم ألحا عليه في الزواج، ولكنه كان يتعلل دائما بأنه لم يجد من تخطف قلبه، وتأسر عقله، وتجعله يهيم بها عشقا، وهاهو قد وجدها، حتى ولو كانت من مستوى اجتماعي أقل، حتى لو عانت أمها في تربيتها هي وأخواتها بعد فقد الأب، حتى لو .. ولو ..، فالحب يختصر المسافات، ولا يفرق بين غني وفقير، ..
( ب )
شخصيات رجال الأمن المنوط بهم كشف الجناه :
يبدو الكاتب على وعي بصير بالأساليب التي يفكر بها ضباط المباحث للكشف عن الجريمة، وهذا الوعي يتجلى في بعض الأسئلة التي يطرحها من خلال المقدم ( عصام ) رئيس المباحث، والنقيب ( أيمن ) معاونه.
( مَن هم الأشخاص المُلثَّمِين الذين قد داهموا المحلَّ ليلاً، ولم تتَّضح أيُّ ملامح لهم؟، وهل لاحظ أحد مِن هؤلاء الزَّبائن ملامح أيِّ شخص أثناء المُداهَمة عن قُرب؟ ، وهل تمَّت معرفة أيِّ حركة أو لازمة مُعيَّنة ميّزت طريقة حديث، أو سَيْر أحدٍ مِن الجُناة أثناء الاقتحام؟، وكيف استطاعوا أنْ يصلوا لتحقيق هَدفهم بكلِّ دقَّة؟، وهل للجُناة علاقة بعُمَّال المحلِّ؟، وهل هناك تواطؤ مِن قِبل هؤلاء العُمَّال مع الجُناة؟، وكيف أنَّ هؤلاء الجُناة لم يخشوا كاميرات المُراقَبة والزَّبائن، واستطاعوا تنفيذ مُخطَّطهم الإجراميَّ؟، وكيف استطاعوا جمع المشغولات الذَّهبيَّة والمجوهرات الأخرَى مِن جميع( الفتارين)؟، وكيفيَّة فتْح الخزينة، وأخْذ جميع ما بها مِن مجوهرات ذات أسعار مرتفعة، ولا يخشون رِدَّة فِعل العاملِين بالمحلِّ أو الزَّبائن؟. )
مثل هذه الأسئلة تكشف عن كاتب درس شخصية الضابط جيدا، وألم بوظيفته، وبطرق وأساليب ممارسة هذه الوظيفة، وأدواتها، والملكات الشخصية للضباط والجنود والمخبرين المكلفين بالكشف عن الجناة وتقديمهم للعدالة، ولن أسهب في وصف وتقديم الكاتب لشخصية رجل الأمن، فالكاتب يجيد عموما رسم الشخصية، وفقا لأبعادها الخارجية ( المظهر العام، والسلوك الظاهري )، ووفقا للأبعاد الداخلية ( من حيث الأحوال النفسية والفكرية وأنماط وأساليب التفكير ) ووفقا للأبعاد الاجتماعية وحركة الشخصية داخل المجتمع.
وشخصيات رجال البوليس مستمرة على مدى وامتداد الرواية، وقد عني بها عناية فائقة، وملما بأدق تفاصيل الوظيفة الشرطية.
والشخصيات عموما، شرطية كانت أو غير شرطية، واضحة تماما في ذهن الكاتب، سواء الشخصيات التي ظهرت في الجزء الأول، أو الشخصيات التي ظهرت في الجزء الثاني، والتي صنعت الحدث، فدرسها الكاتب جيدا، وسبر غورها، واستكن جوهرها، فجاءت على الورق شخصيات حية تنبض بالحياة.
( 4 )
شخصيات العصابة :
1 – الشخصيات النسائية والحضور القوي للمرأة:
للمرأة حضورها القوي في هذه الرواية، وبعيدا عن بدور النموذج المشرق للفتاة، فالكاتب يشيد بها، وبأمها السيدة المكافحة التي رفضت الزواج بعد أن توفى زوجها وهي لم تزل في ريعان شبابها، وعلى قدر كبير من الجمال، وآثرت التفرغ لتربية بناتها، والخروج للعمل، فمعاش زوجها المتوفي ضئيل، ولا يفي باحتياجاتهم المعيشية، وقدم لنا الكاتب من خلالها نموذجا رائعا للأرملة المعيلة.
والكاتب قدم لنا شخصيات نسائية أخرى، ارتبطت بالعصابة، وساهمت في حادث السرقة والقتل، منهن :
أ – نرجس :
ولها من اسمها نصيب وافر، ونرجس كما تقول الأسطورة : فتى جميل الوجه، نظر إلى صورته في الماء فعشقها، وظل يتأملها إلى أن مات، ونبت مكان موته زهرة حملت اسمه، وهو يوناني الأصل فعربناها إلى نرجس. وقد جاءتنا عن طريق الفرس، وهي زهرة صفراء حقلية. ( وللمزيد أنظر : قاموس معاني الأسماء ).
ومنها النرجسية : وتعني حب الذات، ويتمحور النرجسي حول ذاته، ويعجب بها، ونرجس بطلة روايتنا، لا يشغلها غير جسدها، فهي مفتونة به، ومتعطش دائما إلى من يرويه، وقد سلكت في سبيل رغبتها المحمومة التي تصل حد الشبق إلى اللجوء إلى طرق وأساليب لا يقرها عرف أو دين، المهم أن تشبع حاجتها ورغبتها الجنسية ضاربة عرض الحائط بكل القيم وقواعد الأخلاق المتعارف عليها.
ومن خلال الحوار بين الضابطين المعنيين بالكشف عن الجناة في حادث السطو والقتل، نتعرف على نرجس:
(- البتِّ دي دخلت السِّجن في قضيِّة زِنا يا فندم.
– إزَّاي يا” أيمن”؟
– اكتشفها جوزها مع راجل تاني في الشَّقة.. وهو راجع في يوم، هو وأصحابه لشقته علشان يلعبوا كوتشينه.. ولقي معاها راجل على السِّرير!
– وبعدين.. كمِّل؟
– جوزها وصحابه مسكوا عشيقها، وربطوه، وربطوها مِن إيديهم مِن ورا، وادُّوه، وادُّوها علقة موت.. وبعدها بلَّغوا الشُّرطة عنهم، وجت قبضت عليهم، وزفُّوهم في الشَّارع.. واتعلَّقت ليها قضيِّة زِنا، واتسجنت فيها تلات سنين.).
وهذا الحوار على قصره، ولكنه يمثل خيط مهم في الكشف عن العصابة، أو بالأدق في الكشف عن ملابسات الحدث، وهو لا يقل أهمية عن الحوار الذي دار بين نفس الضابطين، بعد أن ترك الجناه الحقيبة الجلدية والمدون عليها ” شحته وحش الصعيد )، ومعظم مسارات كشف الحدث جاءت عن طريق الحوار، وهذا هو الدور الفني الذي يلعبه الحوار، سواء في نماء الحدث والدفع به إلى الأمام، أو في الكشف عنه، وإذا لم يقم الحوار بهذا الدور فلا ضرورة ولا أهمية له، ويصبح عبئا على الرواية.
و يعرف بها الكاتب :
(فتاة شعبيَّة، وُلِدت في حيِّ” المطرية “بالقاهرة، وتسكن بـ” شُبرا” حالياً، في الأربعين مِن عُمرها، مُتوسِّطة الجمال، مُطلَّقة، لديها طفل مِن زوجها السَّابق يدُعَى” عمرو”، تعمل مُمرِّضة في عيادة طبيب خاصِّ بوسط المدينة، .. )
ونرجس ضعيفة جدا أمام نداءات جسدها المحمومة، وتتمحور حياتها كلها حول هذا الجسد، ولا تخجل حتى من ابنها الطفل، وهي تسحب الرجل الغريب إلى غرفة نومها، وقد أخذت من النرجسية نصيب وافر، وصل بها حد المرض، فالنرجسية مرض، وله أسبابه وعلاجاته في الطب النفسي، وكان الكاتب ماهرا في وصف أدق خلجات هذه الشخصية المتمحورة حول جسدها.
ب – فردوس :
صديقة نرجس، وجارتها، وليس لها من اسمها نصيب، وعن شخصيتها عندما قام رئيس المباحث باستدعائها :
(كانت في الثَّلاثينات مِن عُمرها، ذات القوام المنحوت، والطِّباع الهادئة، الرَّاضية دائماً بنصيبها، والمُطيعة لأوامر زوجها بعض الوقت رغم عدم حُبِّها إليه، وهي صاحبة الشَّخصيَّة الضَّعيفة، التي مِن السَّهل أنْ تُقاد مِن قِبَل أيِّ شخص آخر، وكانت الحالمة دائماً نحو تغيير نمط حياتها.).
وستتغير شخصيتها بسبب العشق المحرم بنسبة تصل إلى مائة وثمانين درجة، كما سيتغير نمط حياتها تماما، فعشقها للشرقاوي رئيس العصابة سيجعلها مثل أحجار قطع ” الدومينو “
( أصبحت مثل أحجار( الدُّومينو)، التي يُحرِّكها اللاعب، ويتحكَّم بها مثلما شاء )، هل كان الشرقاوي لاعبا ماهرا وهو يقبض على جسدها وقلبها ونفسها وروحها، ويحركها كأحجار الدومينو؟ .. هل كان يلعب الدومينو أم كان يلعب بالنار؟
الكاتب غاص داخل شخصية فردوس، ونقل لنا صراعاتها الداخلية، التي اشتجرت بداخلها وخاصة الصراع بين عقلها وقلبها، فهي أم لأولاد وزوجة منذ أكثر من خمسة عشر عاما، ولم تستطع خلال هذه المدة أن تحب زوجها التي تزوجته زواجا تقليديا، ومنذ أن أسر إليها الشرقاوي بحبه، وسلمته جسدها وهي تحس بأنها رغم وجود أولاد لها أنها لازالت بكرا، وأن الشرقاوي هو الرجل الحقيقي وما عداه اشباه رجال، فهو الذي فض بكارتها، بكارة جسدها، وملك فؤادها، وسيطر على نفسها، وكان اشتهاء الجسد ونداء الروح.
وكلتا المرأتين، نرجس وفردوس، سيلعبان دورا فاعلا في أحداث الرواية، وفي صناعة بعض الأحداث، ولم يكن دورهما ثانويا أو هامشيا، ومن خلالهما كان الجنس حاضرا بقوة، والنزق، والطيش، والخيانة، والغيرة، وغيرها من الصفات المذمومة.
2 – الشخصيات الذكورية :
أ – حفني ( زوج فردوس ) :
( كان” حِفني”، رجلاً مُتوسِّط القامة، مُمتلئ الجسد، في أواخر الخمسينات مِن عُمره، ويعمل بمجال دهانات المنازل والمحلَّات، وكان عاشقاً إلى لُعبة الـ” دومينو”، ماسِكاً لأحجارها بيد وباليد الأُخرَى يحمل( لي ) النَّرجيلة، التي تسكن بين شفاهه دائماً، ويُخرج مِن بين فتحات أنفه الواسِعة أكواماً مِن الدُّخان الأبيض.).
ربما يكون هذا هو الظهور الأول للعبة الدومينو ولحفني الذي يلعبها بمهارة، والصورة التي رسمها الكاتب لحفني هي الصورة التي لا تخطئها العين للاعب الدومينو الماهر.
ب -الشرقاوي ” الرجل الغامض ” وحش الصعيد.
هو صانع الحدث الأكبر، حادث السطو والقتل، فهو المخطط، والمدبر، وقاد التنفيذ، بنجاح ومهارة، والمعلم حفني هو أول من استقبله، واحتضنه، ومد له يد العون.
ويعرفنا الكاتب ” بالشرقاوي”، ويخبرنا بأنه في أوائل الخمسينات مِن عُمره وذلك منذ أن جاء هربا من الصعيد، خوفا من القبض عليه لتنفيذ الأحكام الصادرة ضده بسبب الإتجار في السلاح والمخدرات، وتعرف على المعلم حفني بالمقهى، وخلع على نفسه اسم الشرقاوي بدلا من شحته، وأسر إلى المعلم بسره، وحفظه له، وآواه، وأبت شهامته أن يتخلى عنه، فجعله يساعده في عمله، ويصف الكاتب حالته الجسدية : قويَّ البنية، مفتول العضلات، طويل الجسد، ذا بشرة قمحيَّة داكِنة، وكانت السِّيجارة، لا تُفارق يدَيه، يستطيع الاستغناء عن الأكل والشُّرب أحياناً، ولكنه لا يقوَى على بُعد السيجارة عنه.
واحتفى به المعلم حفني في بيته، وقدمه لزوجته فردوس ولصديقتها نرجس التي لا تفارق فردوس، بأنه صديقه الشرقاوي والذي زامله في الجيش أثناء فترة التجنيد، ومنذ أن وقعت عينا نرجس عليه، وهي في حال غير الحال، دق قلبها، وانتفض جسدها، فمنذ أن خرجت من السجن وهي لم تجد من يشبعه، وبادلها النظرات، ووقع في غرامها، وأسر لها بأنه يريد أن تسأل له عن غرفة بالمنطقة ليسكن فيها، ولم تكذب خبرا، فهي تريده بالقرب منها، ووجدت له غرفة ليست ببعيدة عن مسكنها، وهاتفته فرحة بأن يأتي إليها ليأخذ المفتاح، ودعته إلى الدخول لبيتها، تبادلا النظرات والكلام المعسول، ولم يمض وقت طويل حتى ( قامتْ حينها بالانقضاض عليه، والتقمت شفتَيه الاثنتَين، وصارت تأكلهما، كما لو كان طفل جائع يحتاج ثدي أُمِّه، …. ).
وتوسلت إليه أن يبقى معها بالشقة،.. ( ..، فهي ليس لدَيها عائلة، أو زوجٌ، أو صديقٌ، أو حبيبٌ، وطلبتْ منه أنْ يكون كلَّ ذلك؛ الزَّوج ، والصَّديق، والحبيب، لكنَّه رفض ذلك الأمر، وأخبرها أنَّه مُتزوجٌ، ولدَيه أولاد، فأجابته” نرجس”، قائلة:
-حتَّى لو مش عايز تتجوّزني.. أنا عايزاك جنبي، ومعايا، بالشَّكل اللي تحبُّه.. وفي الوقت اللي تحبُّه ).
وبعد توسلات ودموع وافق على أن يعيش معها بالشقة دون زواج، ورغم ذلك لم ينس زوجته أو أولاده، فيرسل لهم مع بسطاوي بلدياته ما تيسر من أموال حتى لو كانت قليلة، فهي تعينهم ولو قليلا على أعباء الحياة.
وإذا كان الكشف عن سجن نرجس من قبل في قضية زنا وكان هذا الكشف مسارا مهما لرجال البوليس، وأيضا كانت الحقيبة هي الأخرى من المسارات المهمة التي سار ورائها رجال المباحث، فإن بسطاوي بلديات شحته / الشرقاوي، كان مسارا ثالثا لرجال المباحث، وهذه المسارات أو الخيوط جاءت جميعها عن طريق الحوار، الذي يؤكد أهميته ودوره البنائي في نسيج الرواية، والحوار في هذه الرواية يحتاج إلى بحث خاص، نرجو أن ننجزه لاحقا.
ج – أحمدي و” أبو ليلة “.
كان” أحمدي” موظَّفاً بإحدى المصالح الحكوميَّة، في الأربعينات مِن عُمره، قصير القامة، ذا بشرةٍ قمحيَّة، صاحب دخل متوسِّط، لا يكفيه راتبه دائماً حتى مُنتصَف الشَّهر، ويلجأ دائماً للاقتراض مِن أصدقاء العمل، أو أصدقاء القهوة، ولحِفظ ماء الوجه؛ كان يُفضِّل الاقتراض مِن” الشَّرقاويّ” و” حِفني” طوال الوقت؛ لأنَّهما أقرب إليه مِن الآخرين، كما أنَّه يحاول البحث بشكل دائم عن وظيفة أُخرى بعد انتهاء ميعاد وظيفته الحكوميَّة؛ لكي يزيد مِن دخله، كحلٍّ جُزئيٍّ لتلك المشاكل التي كان يُعاني منها دوماً، ولكن كان يعجز عن إيجاد وظيفة مُناسِبة؛ لتتناسب معه، وان ذلك أمراً صعباً عليه؛ لذلك كانت تضطرُّه ظروفه أنْ يخرج كصبيٍّ في بعض الأيام لمُساعدة كلٍّ مِن” الشَّرقاويّ” و”حِفني” في أعمال الدَّهانات، مُقابل حصوله على بعض الأموال نظيراً لذلك، والتي كانت تكفي القليل لديه مِن مُستلزمات حياته اليوميَّة، واعتبارها بديلاً شرعيَّاً للاقتراض مِن الآخرين ).
( وكان” أبوليلة”، في الخمسينات مِن عُمره، نحيف الجسد، شاحب اللون، يميل وجهه إلى الاصفرار دائماً، منفوخ البطن قليلاً، وكان يُعاني مِن تليُّفٍ بالكبد، وكانت وظيفته هي العمل داخل بنزينة” الإخلاص” الكائنة بـ” شُبرا”، وكان لا يقوَى على العمل كثيراً؛ نتيجة حالته الصِّحيَّة السَّيِّئة، ويحتاج لكثير مِن الرَّاحة والوقت؛ لأخذ جُرعات دوائيَّة تُساعده على أنْ يبرأ مِن مرضه، أو لتُخفِّف مِن آلامه المُستمرَّة، ممَّا انعكس على تدهْور مُستواه المادِّيِّ، وأجبرته تلك الظروف على عيْش حياة صعبة في الكثير مِن الأوقات، وبات لا يقوى على مصاريف زوجته وأولاده ومتطلبات منزله طوال الوقت، وكانت القهوة ملجأً إليه؛ للهروب مِن تلك المُتطلَّبات والمسئوليَّات التي تُلاحِقه دائماً، كما كان يضطرُّ إلى اللجوء لأصدقاء القهوة للاقتراض منهم كثيراً، ولأنَّه يعلم جيِّداً حجم المسئوليات التي تنصبُّ على عاتقه، وشعوره الدَّائم بأنَّ الموت قاب قوسين منه وأدنى؛ لذلك كان دائم البحث عن طريقة مُناسِبة لتأمين حياة زوجته وأولاده بعد وفاته دائماً، ولكن كانت إمكانيَّاته الصِّحيَّة والمادِّيَّة تقف عائقاً أمامه دائماً ).
د – فتحي و ” أبو شنب ” :
( كان” فتحي” شابَّاً عشرينيَّاً، فَشل بمراحل تعليمه المُختلِفة، ولكن استطاع أنْ يتعلَّم مهنة السِّباكة، ويعمل بنفس المنطقة التي بها شارع” الخلفاوي” بـ” شُبرا”، وكان أحد مُرتادي قهوة” السُكَّري”، وأحد عاشقي لُعبة” الدُّومينو” التي كانت العامل المُشترك بينهم جميعاً، والتي تجمعهم حول طاوِلة واحدة، ويجلس بجوارهم مُتابِعاً ومُستمتِعاً بحلاوة لعبهم، واحترافهم لتلك اللعبة، وكانوا جميعهم يشعرون بالاستمتاع لسماع( سيمفونيَّة) قَرع قِطع( الدُّومينو) على الطَّاوِلة، ثمَّ سماع أسماء القِطع؛ دُش.. شيش بيش.. دورجي..، فكانت( الدُّومينو) هي اللعبة التي تُخاطب أرواحهم ووجدانهم بعد شقاء يوم طويل، ويسعدون بها، وتجمع كلَّ شعوب أفكارهم في مكان واحد ).
( أمَّا” أبوشنب” فكان رجلاً في الأربعينات مِن عُمره، طويل القامة، ذا كِرش صغير يتدلَّى منه، وكان مُتزوِّجاً مِن امرأة جميلة تُدعَى” مريم”، متوسِّط الحال، يتَّسِم بالدَّهاء والمَكر والحيلة دائماً، يقطُن داخِل قرية صغيرة تابِعة لمحافظة” الجيزة”، ويعمل مندوباً وسائقاً بشركة الدَّهانات العامَّة بـ” الجيزة”، والمسئولة عن توزيع جميع مُنتجات الدَّهانات على مستوى الجمهوريَّة، والتقى بكلٍّ مِن “الشَّرقاويّ” و” حِفني” مُصادفةً عند أحد تُجَّار الدَّهانات بـ” شُبرا”، عندما كان يقوم بتوزيع بعض مُنتجات الشَّركة هناك، ودار بينهم حديثٌ طويلٌ، واصطحباه معهما نحو قهوة” السُّكَّري” بشارع “الخلفاوي”، ووجدوه عاشقاً، ومُتيَّماً مِثلهم بـلُعبة” الدومينو”، التي كانت القاسم المشترك بينهم جميعاً، إلى أنْ صارت بينهم صداقة وطيدة، تسمح له بالتَّواجُد بينهما بين الحين والآخر على القهوة، ولكن ليس بشكلٍ مُستمرٍّ؛ نظراً لبُعد إقامته عن” شُبرا”، ولكن كان الودُّ والاتصال مُتواجِداً بينهم بشكلٍ دائم ).
…..
هؤلاء هم أصدقاء المقهى، الذين يتحلقون يوميا حول ” الدومينو “، ويعانون من شظف العيش وقسوة الفقر، فمنهم المريض الذي ينتظر الموت في كل لحظة، ولم يترك لزوجته وأولاده ما يقيم الأود، ومنهم الموظف وراتبه الهزيل الذي لا يفي بأبسط احتياجات أسرته من مأكل وملبس ومصروفات التعليم، والشرقاوي نفسه يعاني من قسوة العمل مع المعلم حفني كمساعد له، وعمل المعلم حفني غير ثابت أو مستقر، والحال كذلك بالنسبة لفتحي وأبا شنب، فحول أحجار الدمينو تحلق الفقير والمريض، والهارب من أحكام غيابية، نفوس كسيرة، ومحبطة، تعاني من واقع مؤلم، ومتطلبات حياتية ضاغطة، ومع أنفاس الدخان وطرقعة قطع أحجار الدومينو كان التفكير في الخروج من هذا الواقع الخانق والردي، محاولة الخروج من القاع إلى السطح، وألقاها الشرقاوي، قنبلة، فدوت، فالحل الوحيد في رأيه في سرقة بنك أو محل صرافة، وقع في قلب أحمدي وأبو ليلة، ولكن سرعان ما تماسكا بعد أن أعلن المعلم حفني موافقته، وراحوا يقلبون الفكرة في أدمغتهم، واستقر رأيهم بعد أخذ ورد في سرقة محل مصوغات ومجوهرات ويكون من المحلات الكبيرة وخارج منطقتهم حتى لا ينكشف أمرهم.
ويحسب للشرقاوي قدرته على التخطيط الجيد والمحكم للعملية، فأخذ القرار بعد دراسة مستفيضة، ودرس حتى التفاصيل الصغيرة، فغير مسموح بأي خطأ، فتم معاينة المحل عن طريق نرجس وفردوس أكثر من مرة، وتم تحديد الوقت المناسب، والذي يقل فيه الزبائن، والعربة المسروقة التي سيستخدمونها، والشفرة المتفق عليها، وخطوط السير، وأين يتم اخفاء المسروقات، وكيفية ابعاد رجل الأمن عن الكاميرات حتى يتم الإجهاز عليه، والدخول ملثمين وعدم مناداة بعضهم البعض بأسمائهم الحقيقية، لم يترك أثناء التخطيط ثغرة للبوليس لينفذ إليهم منها، وكأنها الجريمة الكاملة، وهذا ماشهد به رجال الأمن لهم وهم يعاينون مسرح الجريمة ويستجوبون الشهود، ولذا جاء الصراع في الرواية قويا.
(5 )
الصراع
الصراع في الرواية سار على أكثر من مستوى، فالكاتب اهتم بالصراع الداخلي للأشخاص، فلا تخلو شخصية من صراعاتها الداخلية، وإن اختلفت حدته من شخص إلى آخر، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، الصراع الداخلي لفردوس وخاصة صراع قلبها وعقلها، وانتصر القلب وارتمت في العشق المحرم، والصراع الداخلي للطفل عمرو.
والمستوى الثاني من الصراع : صراع أفراد العصابة، مثل الصراع بين نرجس وفردوس الصديقتين على الشرقاوي لمحاولة كل منهما استمالته والظفر به لها وحدها.
والصراع الأكبر بين رجال البوليس من جانب وأفراد العصابة التي نفذت حادث السرقة والقتل باحترافية شديدة من جانب آخر، هذه الإحترافية جعلت رجالات البوليس يستخرجون أقصى ماعندهم من أساليب وتقنيات للكشف عن الجريمة، وهذا ما جعل أفراد العصابة يتخذون أيضا كافة أساليب الحذر والخداع والتمويه، والصراع بينهما بدا صراع عقول، ثم سرعان ما تحول إلى صراع إرادات، بل وصل إلى صراع الوجود ذاته، إثبات الذات لرجال الأمن، وللعصابة هي الحياة ذاتها والخروج من الفقر والنفق المظلم أو فقدان الحياة بالقصاص أو في أحسن الأحوال العيش في زنازين مظلمة ومغلقة، ووصل الصراع في عمومه إلى الصراع بين الخير والشر، والصراع اكتسب جماله من أنه ليس تنظيرا أو حوارات مرسلة بين الخير والشر أو عظات ومواعظ وخطب وإنشاء أجوف، ولكن الخير والشر كل منهما بدا لنا في بشر من لحم ودم، بشر يتكلم، ويفكر، ويخطط، ويدبر، ويحتال، ويتحرك، ويناور، ويراوغ، بشر يفعل.
وإذا كان رجال المباحث قد تحلوا بالصبر فإن أفراد العصابة أمام الفقر اضطروا إلى تقسيم المبلغ المالي بينهم، وكان هذا التصرف من أهم الخيوط، فظهرت آثار النعمة عليهم، وبإحكام المراقية تم اكتشاف خيانة شحته / الشرقاوي لصديقه حفني، وبلغت المكيدة من رجال المباحث أن يبلغوا نرجس عبر الجوال بخيانة عاشقها لها مع أعز صديقاتها فردوس، ربما تثور نرجس، ويحدث الخلاف بينهما، فتتكشف بعض الأمور، والمسارات التي سار عليها رجال البوليس كثيرة، ومنها طمع مريم وزوجها ” أبو شنب ” وقد لجأوا إلى حيلة تفتقت عنها قريحتهما، فبمراقبة كل شلة شحته / الشرقاوي، توصلوا إلى اصطحاب ” أبو شنب ” لزوجته مرة كل شهر إلى محافظة بعيدة ( فهو موزع دهانات ) والذهب يبرق في يدها وعنقها، فهما يقومان بتغيير ما تتزيا به من المسروقات إلى موديلات أخرى، ويقومان ببيعه في محلات أخرى، ويتحول بهذا إلى أموال، فمريم زوجة ” أبو شنب ” تتعجل حياة العز والترف، وتريد أن تنسل من طبقتها الوضيعة بأسرع ما يمكن، وترتقي إلى الطبقات الأرستقراطية، وكأنهما بهذا المسلك الذي يسلكانه يظنان أنهما يخدعان البوليس الذي من المؤكد قد أبلغ عن المسروقات لبائعي الذهب بالقاهرة وربما لبائعي القاهرة الكبرى، وبالمراقبة توصل البوليس إلى مكان دفنه، وتابعوهما وهما يستخرجانه.
البوليس سار على مسارات عديدة، من أجل إحكام قبضته على العصابة، ونرى الصراع على أشده بين البوليس وأفراد العصابة، وبين أفراد العصابة بعضهم البعض، فالغيرة، غيرة نرجس وفردوس، وصراعهما على شحته / الشرقاوي، كان صراعا شرسا عنيفا، وكانت النهاية مؤلمة، فأفراد العصابة هم من أعملوا القتل في أنفسهم، وهم من أنهوا حياتهم بأيديهم بسبب الخيانة والخسة والندالة والغدر.
والكاتب اهتم اهتماما بالغا بالشخصيات التي فعلت الحدث وبالشخصيات الذين تأثروا به. ووفر كل عوامل النجاح لروايتة، ذات الحبكة الجيدة المتماسكة، وحافظ على خاصية التشويق، التي نفتقدها في الروايات الجديدة، واستخدم أسلوب الصدمات، وهو أحد أساليب المونتاج السينمائي التي لا يركب فيها المخرج لقطاته، لقطة تلو لقطة، لتنساب بعذوبة ورقة، وإنما يركبها لتتدفق صدمة تلو صدمة، ما يكاد يفيق المتفرج / القارئ من صدمه، حتى يباغته بصدمة جديدة، فلا يستطيع أن يقعد على كرسيه، أويمسك أعصابه، وهذا العمل من الممكن أن يكون قريبا من السينما إذا قيض الله له كاتب السيناريو والمخرج والأهم من هذا وذاك شركة الإنتاج التي تتبناه وتنفق عليه، حتى تقفز شخصياته من الورق إلى الشاشة.
( 6 )
سلوكيات نرجس وآثارها السلبية على ابنها الطفل ( عمرو ).
الكاتب يرصد بوعي بصير آثار سلوكيات ” نرجس ” الشاذة والمنحرفة على الطفل ” عمرو “، يرصد براءة الطفل ومحاولته تفسير ما يجري أمام عينيه بين أمه وعشيقها، ولحظة القبض على أمه وعشيقها، عن طريق والده والجيران، واقتيادهما إلى الشرطة بعد ضربهما وتقييدهما بالحبال وتجريسهما، وفترة سجن أمة ومعاملة والدة القاسية له، وشكه في أنه ليس من صلبه، ويرصد لحظة تفجر الوعي لدي الطفل وهو يرى ” الشرقاوي ” يستبيح جسد أمه، ويعيش معها بلا زواج شرعي، ويرصد الكاتب الصراعات المتأججة بداخله، وردود أفعال المجتمع من حوله على سلوك أمه واُثارها المدمرة على نفسيته، ووصول الطفل إلى حالة من اللامبالة، وكأن اللامبالاة أحد ميكانيزمات الدفاع عن النفس المنكسرة وغير السوية، ووصوله إلى حالة تقليد الأم ومحاولة اثبات ذاته بمحاولته الانقضاض على جارته، وكأنه الشرقاوي الذي ينقض أمام عينيه على أمه!!
ربما تكون المشاهد الحاضر فيها الطفل من أجمل المشاهد، لأن الكاتب نجح أن ينقل لنا ما يجري أمامه بعين الطفل، وببراءة وسذاجة الطفل في بدايته، وأجمل اللحظات لحظة انبثاق الوعي لدي الطفل بما يجري حوله، وكان الكاتب قريبا جدا من الطفل لينقل لنا نمط وأساليب تفكيره وبما يتلائم تماما مع عمره الزمني.
( 7 )
توظيف الشعر :
وفق الشاعر تماما عندما وظف بعض قصائده وخاصة القصائد التي ينوب فيها عن بدور أو رياض، فرياض شاعر موهوب، وبدور قاصة ولها اهتمامات أدبية، ومن البدهي أن يكون الشعر حاضرا بينهما، ونتقبله كقراء في حديثهما وحوارتهما، وتقبلنا لهذه القصائد منهما كمحبين يكون أكبر، وخاصة أن هذه القصائد عبرت عن أحاسيسهما ومشاعرهما الجياشة والفياضة، وكانت هذه القصائد متممه للسرد ولم تمنع تدفقه، بل زادته حيوية، أما القصائد التي وردت على ألسنة غيرهما من الشخصيات أعاقت جريان السرد، وهذه الشخصيات لانصيب لها من التعليم ولا حظ لها من الثقافة، ولذا لم نستسغ حديثهما بالشعر، ويحسب للكاتب عموما أنه اختار قصائد قصار، وكأنه يعي تماما أن السرد لا يحتمل القصائد الطويلة، التي تعزل القارئ وتبعده عن الحدث والسرد، فإذا لم تعمق القصيدة من الحدث، وتنميه، وتدفعه إلى الأمام مثلها مثل الحوار، فلا ضرورة لها، وإن لم تكن كاشفة عن ملمح من ملامح الشخصية تكون عبئا على الرواية.
وبعض القصائد القصار التي وظفها الكاتب، كانت في خدمة الحدث، شأنها شأن الحوار، واللغة، والوصف، والسرد، وكلها قامت أو وظفها الكاتب لخدمة الحدث، وساهمت في تصويره، وتطويره.
ومن الصعب هما التفريق بين الحدث والشخصية لأن الحدث هنا كما يقول النقاد هو الشخصية وهي تعمل، ووحدة الحدث كما اتفق النقاد لا تتحقق إلا بتصوير الشخصية وهي تعمل.
وبعد :
هذه قراءة أولى للعمل الأول للشاعر محمد زكريا حبيشي، أرجو أن أكون قد نثرت بعض قطرات الضوء عليه، كما أرجو أن أكون قد كشفت عن بعض جمالياته، وأرجو أن أعود إليه في قراءة ثانية أكثر عمقا، وأرجو أن أكون عند حُسن الظن وعلى مستوى الثقة، ومن الله التوفيق.
مجدي جعفر
( ورقة نقدية لمنافشة الرواية بقصر ثقافة العاشر من رمضان مساء الثلاثاء الموافق 12 / 10 / 2021م )