(1)
سمراء ممشوقة القامة نجلاء العينين ، ويبدو على وجهها حزن عميق فيه مسحة من جمال فطري ، منفردة ، منطوية على ذاتها ، لا تتحدث كثيراً، صامتة في أغلب الأوقات ، ثغرها جميل يميل إلى السمرة ، لها صديقة واحدة ، كن اثنتين في تلك الفصيلة ، تمكث معها طوال النهار، وتختفي أحيانًا مع صديقها ، وتكون أغلب الأوقات منفردة، تتركها زميلتها لوحدها تداعب خصلات شعرها المتدلي على ظهرها في خجل وصمت ، تحس بأنها رزينة واثقة من نفسها ، لا يقترب منها أحد ، ولا تتحدث مع أفراد الفصيلة كثيرا ، بل تكتفي ببضع كلمات ، ثم تنزوي بعيداً عنهم بالرغم من أن أغلب الفصيلة من أبناء جلدتها ، ولا تتعامل معهم إلا في حدود ضيقة .
أنا وعليٌّ تم اضافتنا لهذه الفصيلة ، بعد أن تم تمزيق فصيلتنا الأولى إلى أفراد متباعدة ، من سوء حظي كان عليٌّ من رافقني بعد التوزيع الجائر وكنتُ أحبذ ( موسيه) ولكن عن قصد تمّ وضع علي معي واختيارنا سويا ، وكان مسؤول المجموعة يعرف تماماً إنَّ علياً لا يناسبني بالرغم من علاقتنا ، الحميمة ، كانت لدينا مجموعة مشاغبة ، واسطة العقد فيها (سِمْرَت ) مرحة بشوشة تعلمت العربية من خلال تواجدها معنا ، وأكل لحم الطير، كان جمالها طفولياً. كنا ستة أشخاصٍ ، لم نفترق منذ أن تكونت الفصيلة ، بالرغم من أنها مرت بتحولات عديدة وكثيرة ، ولم تستقر بشكل عام .
ومجموعتنا هي التي لم تتبدل على مــَرِّ التشكيلات، ظللنا نحن صامدين، وعندما تم ترحيلنا إلى خطوط الدفاع الأمامية ، كانت المنطقة تعج بالضباع، وفي منتصف الليل أحاطت بنا من كلّ جانب، وهي تعوي عواء شديداً واقتربت كثيراً منا وعلى بعد خطوات من موقع الفصيلة، حينها كانت سمرت الوحيدة في الفصيلة تركتها زميلتها، ذهبت ولم تعد، في تلك الليلة انتابها خوف شديد فأخذت سلاحها وتركت فراشها وبسرعة قفزت بيننا منذ تلك اللحظة لم تغادرنا، بل وأصبحت جزء من مجموعتنا.
كنا نعتبرها أخت ورفيقة سلاح ، نحميها من المتربصين بها، حتى لقبت بذات الستة إخوة ، وكانت مهابة من الجميع، لا يقتربون منها لأن العواقب معروفة خصوصاً من قبل موسيه وآدم، وإذا تحرش بها أحد كان هؤلاء بالمرصاد، من هنا كانت مطمئنة على نفسها، لأن حولها رجال يحمونها عندما افترقنا ذرفنا الدمع مدراراً، ابتلت جوانحنا بكينا بمرارة ولوعة ولكن كان القدر محتوماً ؟!
ترجلتُ من السيارة، ومعي عليُّ كانت صدمة كبيرة، لأنني أردت أن يرافقني موسيه، ابتسم مسؤول المجموعة بخبث وأطلق ضحكة صفراء، فهمت القصد، عانقت موسيه وبكى على كتفي بكاءً مُراً، وشهق وزفر زفرة حارة انفطر لها قلبي، طبطبت ُ على كتفه، وأشحت عنه بوجهي لكي لا يرى قطرات الدمع المنهمرة بغزارة، وتحركت السيارة، وحملنا ما بحوزتنا من أمتعة، واتجهنا نحو الفصيلة الجديدة وأنخنا ركابنا تحت شجرة كبيرة ، و تم الترحيب بنا على مضض ، وابتسامة خجولة، قمنا بتنظيف المكان ليكون لنا مقراً دائماً.
(2)
مضت ثلاثة أيام بلياليها دون أن نتقترب من أفراد الفصيلة الجديدة ، لا يجمعنا معهم إلا أوقات الطعام ، ثم نعود إلى الشجرة كالعادة ، والصمت يعم كل شيء حولنا ، نترقب الغد ماذا يحمل معه من مفاجئة وهكذا دواليك ، أنا وعليّ لم نكن نتحدث كثيراً ، بالرغم من أنه صديقي ورفيقي، وكان يمثل ضلعاً رابعاً في مجموعتنا السابقة ، ننظر إليه بعين الرأفة والحميمية ، وهو في مقتبل العمر طائشٌ لم يتجاوز التاسعة عشر من عمره ، يتيم الأبوين ، استشهد والداه في مجزرة قام بها الاثيوبيون إبان الاحتلال ،و قامت عمته بتربيته ، تحسه وحيدا ، تائهاً في دولة لا مستقبل له فيها يعيش لحظته ويومه قبل غده ويتعاطى الخمر كلَّ نهاية شهر ٍ عندما نقبض المصروف الشهري، ثم يعربد كل يومه ، ويقولُ ما في قلبه إن كان حباً أو تهديداً ثم ينكر ما قاله مساء البارحة ، يعرف أنه في مفترق طرق ، قد يعود أو لا يعود من هذه الحرب العبثية. هكذا أصبحنا في دوامة لا نعرف لها نهاية، يحكمنا القدر والغباء، ونزعات الآخرين وسلطوية النظام، نُساق كالخراف، حيث يشاؤون، وبذلك أصبحنا أغبياء على حد قول شارلز ديكنز:
"nine soldiers out of ten were born fools."
وكان محقاً في قوله. وسخرية القدر أوقعتنا مع هؤلاء. بعد ثلاثة أيام تم توزيعنا في الفصيلة، ذهب عليُّ في مجموعة، وأنا في أخرى، لم أعرف أكان حظي أم حظها، غير أنني وجدت نفسي في مجموعتها.
راهيل تلك الفتاة السمراء، الناعمة كالحرير، قوامها الطويل المتناسق، رشيقة كالغزال بالرغم من امتلائها واسعة العينين، مكــتنـزة الصدر شعرها أسود يتدلى إلى عجزها، وابتسامتها كالموناليزا لم تتجاوز التاسعة عشر ونيف من عمرها، تغوص في حزن عميق، دائما شاردة الذهن، تنزوي بعيداً عن الآخرين كأنها تعيد ذكريات الأمس الذي ولى دون رجعة، عندما التحقت بالخدمة الوطنية كانت في ريعان صباها.
أخذتها عفويتها، وهي في نشوة الفرحة لأداء الواجب، اندفعت خلف صديقاتها، اللاتي التحقنا آنذاك بالخدمة الوطنية ولم تعرف ما ينتظرها من مآسي، وحياة الجندية والبون شاسع بين الواقع والخيال، وتلك الصورة الوردية التي كان يرسمها النظام في إعلامه، وأصبحت بين أمرين أحلاهما مُرٌ، الواجب الوطني والمتربصون بها، اللذين لا يتورعون في انتهاك الحرمات ولا يضعون اعتباراً للقيمة الإنسانية وكرامتها؛ العدو متحفزٌ على أبواب الخنادق، واللئام يتربصون بجسدها اليافع البض، أيهما تقاوم، كلاهما أعداءٌ في نظرها والكل يريد أن ينهشها، وتكون ضحية الرغبات واليوم تعيش كابوس الكرامة، كلبوة جريحة، خرجت للتو من معركة جسورة، لم تلتقط أنفسها إذْ تهاجمها الضباع تريدُ أن تنقض عليها وهي تكابد جرحها الكليم، الذي مازال ينزفُ حسرةً ودموعاً على ما آلت إليه ووضعها بين تلك الوديان والجبال والخنادق الممتدة على مدَّ البصر.
كانت صغيرة عندما التحقت بالخدمة، وترعرعت بين هؤلاء اللذين لا يميزون بين صغار السن ومن أكمل ربيعه القانوني، لأنهم لا يملكون المعايـــير القياسية والقانونية، غالبًا كانت تسترجع تاريخ حياتها الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من الموت. تحس الحزن في عينيها كأنها تستنجد ولا تجد من يغيثها، ولذا انطوت على ذاتها تناجي نفسها لعلها تخمد النار الذي بين ضلوعها وتطفئ أوجاعها وآلامها، وصدى روحها المكلوم.
تلك الليلة كانت فارقة في حياتها، حيث وجدتني كملائكة رحمة ينتشلها من تلك البقعة السوداء التي وُجِدتْ فيها، من حسن حظها كنتُ في نفس مجموعتها، عندما تمَّ توزيعي في تلك الفصيلة.
وبعد العشاء توجهنا نحو الخنادق . وتحركنا، وظَلَّتْ في مكانها وتركناها خلفنا وذهبنا ولكن في منتصف الطريق قيل لنا: على هذه المجموعة الرجوع لأن العدد كبير ولا نحتاج لهذا العدد كله، سوف نقوم بما لزم من التغطية وإذا طرأ شيءٌ سوف نرسل لكم إشارة، ورجعتُ أنا مع رفاقي، وذهبت مباشرة إلى موقعي المعتاد، وفرشت مكاني لكي استلقي وأداعب النوم الذي في جفوني.
( 3)
في تلك الليلة نادتني بصوت منخفض يا رفيق، لماذا تنطوي على نفسك منذ مجيئكما أنتَ وصديقك لم تتحدثا معنا ولم نتعرف عليكما، ماذا في الأمر اقترب تعال ما زال الليل في أوله، أنا لم أكن في حالة نعاس، أريد أن أتعرف بك لأنني لاحظت أنت وصديقك منطويان وبعيدين عنا كل البعد.
قلت في نفسي: أذهب وأعرف ماذا تريد معرفته، اقتربت منها بهدوء، وجلست بالقرب منها، وسألت نفسي ماذا يجول في خاطرها، وماذا تريد أن تعرف.
ثم قالت: مضت ثلاثة أيام ولم تتحدثا معنا من أي وحدة جئتما؟ لماذا تبتعدان عن الجميع ولا تحاولان الاندماج معنا والتداخل مع أفراد الفصيلة.
قلت لها: نحن جدد وعلينا أن نتريث حتى نتعرف على الأشخاص بالفصيلة مع مرور الوقت وبالتدرج يومًا بعد يوم سوف نكون جزءاً من هذه الفصيلة، ثم بدأت الأسئلة تتوالى وأنا أرد حسب السؤال.
وبدأ الحديث يأخذ منعطفاً آخر وطال الحوار بيننا ومن خلال الحوار عرفت ُ ماذا كان يقلقها وما مصدر ذلك الحزن كله، اعترفت أن حياتها أصبحت لا قيمة لها وأنها تتعرض للضياع، وكم أصبحت نادمة على ما آلت إليه حياتها، وسوء تقديرها أوقعها في هذا المأزق، من نبرة صوتها عرفت كمية الحزن الكامن في داخلها.
عندها غيرتُ مسار الحديث لعلي أستطيع أن أخرجها من تلك الكآبة وتلك السحب المظلمة الداكنة التي تغَّــلف صورتها الجميلة.
وبدأت أسرد لها بعض الطرائف والنوادر التي مرت بنا خلال وجودنا في الجيش والغباء الذي استحكم بنا، بدأت ضحكاتها تعلو شيئا فشيئا. حتى أنها امت من فراشها، وجلست القرفصاء، كنت أسرد لها الحكاية تلو الأخرى وهي تضحك بأعلى صوتها حتى لفتت انتباه مسؤول الفصيلة والمجموعة، كانا يتسامران بالقرب منا على بضعة مترات هذا الشعور بالفرح أسعدني كثيراً.
ولكن!! هناك من كان لا يعجبه ذلك الوضع وتلك الصورة الحميمة التي تولدت بيني وبينها في لحظةٍ لم تكن في الحسبان ولم يكن لوجودي سوى أيامٍ وليالي، ما الذي تغير؟
هناك تساؤلات كثيرة تدور في ذهنيـهما، وبدأ الانتباه والتصنت لما يجري من حولهما، لم أعر للمسألة أية اهتمام وواصلت في سرد القصص الواقعية.
لم تتمالك من نفسها لكثرة الضحك حتى قالت: بالله عليك خفف عنى.. وبدأ الليل يذهب بعيدًا ويوغل في سكونه ونحن في منطقة محفوفة بالمخاطر لا نعرف هل تشرق الشمس أم يخطفنا الرصاص.
قلتُ لها: إنَّنا مراقبان
قالت: دعك منهم لا تشغل بالك أنا أعرفهم تماماً لا يمثلون لي شيئاً، حياتي ليست مرتبطة بهم وهم ليسوا أحسن حالاً من العدو الذي يتربص بنا وهنا أدركتُ ما كانت تعنيه، وفي تلك اللحظة خطرت في بالي قصيدة محي الدين فارس. ليل ولاجئة.
لا تنامي. لا تنامي الليل أوغل.. لا تنامي
والريحُ ...قهقهت خلف الخيام.. لا تنامي
وسحبتُ نفسي من تلك الأمسية الطويلة وذهبت إلى فراشي وأنا يغمرني إيقاع الحياة الجديدة، وسحبتُ الغطاء وتمددتُ لعلي أجد نوماً هانئاً بعد ليلةٍ طويلة.
(4)
في صباح اليوم التالي سألتها صديقتها كم أنت جميلة اليوم، فردت قائلة: لقد وجدت معنى الحياة، وأن تعيش لغدك دون أن تعير للزمن أية اهتمام، هذا ما تعلمته مساء البارحة.
وهكذا انقضى النهار بطوله، وعندما شارف الغروب، قمنا بالتمام الكامل وتم توزيعنا على الخطوط الأمامية، بعد تناولنا وجبة العشاء. وذهب الكل إلى مكانه، أما مجموعتنا ظلت في الخلفية، على حسب الترتيب الزمني .
كنت اتحرق شوقاً إلى رؤيتها، ما أن بدأ الليل في التوغل بعد أن رتبت مكان نومي، ذهبت مسرعاً اليها، وكانت في انتظاري كأنها على موعد معي.
قالت: لقد أبهرتني البارحة ولم أكن أتصور كل ذلك يخرج منك، كان انطباعي الأول بأنك شخص خجول انطوائي لا تتعامل مع الآخرين .
قلت لها: الإنسان في بادئ الأمر يكون متوجسًا لا يأخذ الأشياء ببساطة لابد من معرفة ما يجري حوله ثم يتخذ الخطوات اللازمة حتى لا يقع فيما لا يحمد عقباه.
أين درست هل أكملت التعليم؟،
وأردفت قائلة: أعتقد أنك شخص متعلم وهذا ما يبدو لي.
وهنا استدركت بأن َّ إكمال التعليم عندهم هو أن تكمل البكالوريا.
قلت لها: إنني جامعي.
وهنا فغرت فاها ثم أردفت قائلة: لماذا أنت موجودٌ بيننا ألم تجد عملاً غير العسكرية؟
وقلتُ: أنت تدركين أنّ برنامج التنمية ( هقراوي لمعت) لم يستثني احداً، ولهذا أنا موجود معك في الجبهة كجندي.
وتبسمت قائلة: إذا أنت موجود كجندي.
قلتُ: (نعم) وما الضيرُ في ذلك.
قالت : إن هذا الوضع لا يعجبني حياتنا ضائعة سدى ولا نعرف مصيرنا غداً وهذا ما يؤلمني جدًا وهو الذي أدخلني في هذه الحالة والمتاهة التي لا أعرف كيف الخروج منها.
قلت لها : ما عليك إلا أن تتقبلي هذا الواقع المؤلم وحاولي أن تجتازي هذه الصعوبات ، ليس لنا مفرٌ من هذا الوضع الذي نحن فيه إلى أن تنتهي الحرب أو نموت غداً ونكون في أعداد الموتى و طي النسيان .
قالت : كلما أفكر في نفسي واسترجع الماضي أتحسر على اليوم الذي التحقت فيه بالخدمة الوطنية كنتُ اعتقد بنهاية الخدمة تصبح حياتي حرة ، و أبحث عن حياة أفضل ، كانت غلطة عمري حين قطعتُ فيها دراستي وذهبت خلف صديقاتي ، آنذاك كنت في غمرة الصبا ونشوة الشباب ، لم أحسبها جيدًا، لو كنت أعرف أنها ترمي بي في هذا المنزلق الذي أصبح سبب معاناتي وعذابي لما التحقتُ، ولا وضعتُ نفسي في غابة من الوحوش الضارية الكل يحاول افتراسي كأنني لبوةٌ في قطيع من الأسود، أولهم قائد مجموعتنا، ويريدني لقمة سائغةً له ، وهنا تختفي كل النظريات عن الوطن والوطنية والجندية والزمالة المهنية.
استمر الحديث بيننا، وبدأ الليل يذهبُ بعيداً في الظلام والحديث يأخذ أبعاداً أخرى، وموضوعاته متنوعة ومختلفة من الهزل إلى الجد، ولاحظتُ أنَّ مسؤولا الفصيلة يراقباننا عن كثب، يريد معرفة ما يدور بيننا وهم في غاية الاستغراب، كيف لرجل جاء قبل بضعة أيام أن يستولي على جوهرة الفصيلة بهذه السهولة وأي سحرٍ استخدمه هذا الشاب حتى تتفاعل وتنسجم معه بهذه الصورة التي لم نألفه، وما الذي استجد في الأمر؟ وإنّ هذه الفتاة منذ وجودها لم تتعامل مع أحد بهذه الودية والدفء، وكيف له أن يقلب الموازين، ويجعلنا حمقى أمامه؟.. هذا الأمر غير معقول ولا طبيعي، وهذا ما كان يدور في ذهنيــهما. وكل ذلك استنتجته من خلال المراقبة وٍالسهر معنا دون داعي لذلك السهر كله احسستُ بالقلق تجاه موقفهما بما يجري من تصرفاتِهما وانفعالاتهما المتكررة، الذي يؤكد ما ذهبت إليه.
قلت لها: المسؤولان يراقباننا منذ وقت طويل أخشى أن يــفهما الموقف بشكل خاطئ.
ابتسمت ابتسامة خفيفة قالت: أعرفهما جيداً لقد حاولا مراراً وتكراراً الاقتراب مني ولكن لم أعطهما الفرصة، وغالباً كنت ادعي المرض ولم أخرج في أيِّ دوريةٍ، أعتقد ما يجري بيننا قد يغيظهما ويزعجهم كثيراً أتعبوني أيما تعب من كثرة السؤال، ولكني أصريت على موقفي وألاّ اتعامل معهم بأي شكل، وكم من التهديدات واجهت إلى أن وصلا حد اليأس، لذلك، اليوم يستغربون فيما أنا فيه ولم يروني بهذه الكيفية على الإطلاق.
ثمَّ أردفت قائلة: إنّ حديثك معي البارحة أعاد إليّ ثقتي بنفسي، وتجاوزت مرارات الماضي لعلي وجدت معك الطمأنينة التي فقدتها منذ زمن طويل، وأحسست بأنك شخص متفهم، تعرف كيفية التعامل مع الآخرين، بالرغم من أن انطباعي الأولي كان غير ذلك.
أنت أخرجتني من القلق والكآبة والانهزامية التي كنت أعيشها، وعلمتني كيف أقابل الحياة بشجاعة وصلابة.
قلت لها: لقد انتصف الليل ونحن ما زلنا نتسامر وأنت لا تزالين مستيقظة ولم يسري النعاس إلى عينيك.
قالت: قبل أن أتعرف بك وتدخل حياتي كنت أعد النجوم، الواحدة تلو الأخرى والوحدة التي كنت فيها كانت قاتلتي كلهم يذهبون إلى الدفاعات وأظل وحيدة أسامر الليل بطوله وأفكر كثيراً فيما آلت إليه حياتي بين هذه الوديان والجبال الصامتة، وقد تأتي رصاصة طائشة وينتهي بي الأمر جريحة أو ميتةً وهذا كل ما تبقى عندي.
أما البارحة لقد أنعشت روحي الكئيبة المتهالكة، وبذرتَ فيّ الأمل الذي كنت أفتقده إنك شخص لا يصدّق!.
فقلتُ لها: هذا ما قصدته تماماً، الحياة هنا لا تستحق العناء، لأننا لا نملك ارادتنا، ولا نستطيع تحمل المزيد من التعب، نحن نعيش زمن الغباء السياسي يقودوننا رجالٌ لا يعرفون قيمة الحياة ولا الإنسانية، اناسٌ تقودهم النزعات واشباع الغرائز الفردية، المسألة لا تستحق أن يموت كل هذا الجيل، ربما تُحل المسألة بأبسط الحوارات إذا كانوا حريصين على حياة الناس وقدر لهذا الجيل أن يعيش.
حكموا علينا بالفناء، هذا الجيل لم ينعم بالسلام منذ أن وُلد، إن كان في المهجر أم في الداخل.
قالت لي : هذه الحرب محض افتراء ، نحن نرسم وقائعها ، ثم يأتي الغد يحتسون كؤوس الصلح ونخب الانتصار، ونروح ضحية مساومات لا منطقية .
قلت لها : افتراضاتك صحيحة ، ولكن ليس بــيدنا حيلة لتغيير الواقع لأنّ الذين يتحكمون بحياتنا ممن ليس لهم إرادة وهم ينفذون ما يُملى عليهم لأنهم قاصروا التفكير ومحدودي الرغبات وتعودوا على الاملاءات ، وهم من ذوي طموحاتٍ لا يتجاوز الراتب الذي يتقاضونه وهم يفعلون ذلك دون إرادة ذاتية وللمحافظة على ما حققوه من نعمة كسبوها ، حتى لو أدى ذلك إلى مـوته ، وكثيرٌ منهم لم يقتنعوا بأسباب الحرب بل تقودهم الأوامر العسكرية ، كما نفعل نحن الآن . ضحكت وقالت : انك رجل ساخر وتحليلاتك منطقية هذه هي رؤيتك للحرب ؟
قلت لها : دعك من ذلك لأن الحديث فيه يطول ربما لا ينتهي... ونحن قد نموت قبل أن تتوقف الحرب .
ثم سألتني : أخبرني عن الفصيلة التي أتيت منها ، كيف كانت ؟
قلت لها : سوف أتحدث لك عن مجموعتنا الصغيرة والتي تتكون من سبعة أشخاص وأصبحت عقداً فريداً واسطة العقد كانت (سمراويت) هي فتاة فارعة الطول جميلة مرحة أصبحت جزء لا يتجزأ من الستة رفاق أصغرنا آدم وموسيه كانوا أكثر شغباً بالذات في الفترة الصباحية لا يتركون أحداً ينام بعد استيقاظهم وخصوصاً سمراويت لأنها تنام في وسطنا جميعاً هكذا تعودت بعد ليلة الضباع التي كانت تحوم حولنا بالقرب من مكان وجودها في تلك الليلة لم تكن تنام معنا بالرغم من أنها رفيقتنا تعلمت منا كيف تأكل ما نصطاده من طيور أو أرانب وهي لا تفارق خليتنا إلا إذا كان لها غرض آخر .
وفي تلك الليلة عندما عوت الضباع وحامت حولنا أتت مسرعة متخطيةً كل النيام ودخلت في وسطنا وأخذت مكاناً بيننا دون سابق انذار ومنها أصبحت جزء من الخلية وتحتمي بنا وخصوصاً من الذين يتربصون بها حتى عرفت بأنّها أخت الستة اخوة، وكانوا يهابوننا بالذات أدم وموسيه لأنهما لا يرضيان أن يمسها ّشيئاً ويتشاجرون مع كل شخص سولت له نفسه بالاقتراب منها.
هذه الوضعية لم تعجب مسؤول الفصيلة، واعتقد بأنّ هناك شيئاً غير طبيعي يدور من خلفه وهو تفكير مريــض. في يومٍ ما ناداني المسؤول وقال لي: سمرت زوجة من فيكم ؟
وعندها غليَ الدم في عروقي واحمرت عيناي وتطاير الشرر منها وانتابني غضبٌ شديد .
فقلتُ له إذا سألتني مرة أخرى مثل هذا السؤال سوف أنهي حياتك برصاصة واحدة.
كيف لك أن تسأل مثل هذا السؤال أأنت رجل طبيعي؟
وهنا استدرك معنى غضبي الشديد وانفعالي الحاد .
فقال : أنا لم أقصد بالمعنى الحرفي ، بل أريد معرفة ذلك ؟
فقلت له : إنك لم تستوعب إجابتي لك ، وإذا أصريت على ذلك سوف أرديك قتيلاً ، وهنا خاف خوفاً شديداً .
قال: بل قلتُ ذلك من أجل المزاح .
فقلت له: هذه المسائل لا مزاح فيها وتعرف إن سمرت جندية موجودة هنا لأداء الواجب وليس كما تدعي وإذا لم يعجبك الحال فلتعيدها إلى أهلها!!.. وقفلت راجعاً دون أن انتظر منه الإذن بالإنصراف، وبعد أن شيعته بنظرة حادة؛ ومن ذلك اليوم لم يعد يسأل عنها اطلاقاً.
وعندما حانت الفرصة تم تفكيكنا واحداً فواحداً بالذات خليتنا ووضع كل منا في جبل ، واستأثر بالمجموعة التي فيها سمرت ، وفي ذلك الصباح كم بكينا عند الوداع .
قالت لي: كل ذلك بدر منك.
قلت لها: (نعم) أنا لا أسامح على التفكير غير المسؤول.
تعرف هؤلاء الجنود أكثر حماقةً وتفكيرهم غير منطقي ويحاولون الادعاء بأنهم أكثر فهماً للواقع وهم غير ذلك ، ثم أردفت قائلة : مأساتنا هي أننا صدقنا و خُدِعْنا باسم الوطن والوطنية .
ثمّ أردفتُ قائلاً : انظري بدأ المراقبان في التململ لقد اطلنا السهر بهما ولقد تعبا ، علينا أن نفترق لقد شارف الليلُ على الانتهاء أحدهما وقف على قدميه ، حينها أطلقت ضحكة عالية وقهقهت !!
وذهبت إلى فراشي المتَمدَد على الأرض، واستلقيتُ عليه، وحاولت أن أعيد ما دار من حوار، بيننا.. كانت بريئة، تحفة من الجمال الفطري لوحة خطتها ريشة فنان عبقري، يعرف كيف يمازج الألوان، تركتها وقد سحبت الثوب ونامت نومًا عميقًا، داعبتُ النجوم قليلاً وبدأ النعاس يسري في عيوني ثم غفوت ولم أدري ما حقيقة الموقف الذي كنتَ فيه.
(5)
كانت تعيش عذابات الماضي والحاضر والمستقبل الغامض. عرفتُ أن سبب حزنها مزدوج ما تعانيه من رفاقها على أنها أنثى فقط؛ الكل يريد أن يستحوذ عليها وتكون ضمن حمايته، وتدور حول حلقته وفلكه . دون ان يكون هناك اعتبار على أنها جندية محاربة مقاتلة ، لها نفس الحقوق والواجبات الوظيفية في محورهم العسكري ، والجانب الآخر العدو الذي يقف على مرمى حجر من موقعها على الجبهة وما مصيرها إذا اشتعلت المنطقة وأصبحت في مرمى النيران تلك كانت هواجسها الكامنة وراء حزنها العميق .
وفي الليلة التالية ذهبتُ كالعادة إلى موقعها وجلستُ بالقرب منها، نظرت إليَّ في صمت عميق كأنها تقول لا تنكأ الجرح القديم وهنا استدركت الموقف وتجاوزت تلك الخطوة، وسردت لها حكاية أخري أكثر فكاهة وضحكت، وقالت من أين لك بكل هذه القصص؟
قلت لها: أنا شخص اهتم بما يدور من حولي أراقب كل شيء يحصل أمامي وأصور الأحداث خصوصًا الغبية منها لأنني أصور الشخصيات على النمط الكوميدي وأحللها تحليلا دقيقاً وأقف عندها طويلاً واقرأ أفكارهم وتصرفاتهم ، واستمر النقاش والحوار بــيـنـنا طويلاً .
قلت لها : الليل جاوز منـتصفه ونحن في الثــلث الأخير منه ، وهناك مَن كانا يسهران معنا يريدان أن يناما ولكنكِ تركتِ الشخصين ولم يغمض لهما جفن حتى هذه الساعة من الليل ولقد تعبا بالله اشفقي عليهما دعيني أذهب ، وهذا قد يجر علينا مساءلة قانونية عسكرية .
وهنا أخذت نفساً عميقاً وقالت : تريد أن تذهب أبقى معي قليلاً لم أشعر بالسعادة منذ عام أنا أقاومُ ذاتي كي لا أنزلق ورغباتهم الحيوانية ، وهنا شعرت بنبرة صوتها قد تغيرت
قلت لها: لا بد لك أن تكوني قوية، لنا لقاء غداً وسأكون بالقرب منك عليَّ الذهاب.
عندما ذهبتُ إلى فراشي كانت الساعة الثالثة صباحاً، بعد تلك الليلة تغيرت حياة راهيل تماماً، وفي الصباح حملت حقيبتها من الموقع التي كانت تقضي فيها نهارها مع رفيقتها وتركتها مع صديقها الذي يأتي ليقضي معها بقية يومه .
وبعد انتقالنا من الموقع القديم لموقع جديد ومنطقة أخرى انتقلت معنا في نفس العريشة التي خصصت لنا كمكان لإقامتنا. وعندما علم مسؤول الفصيلة بانتقالها معنا، أرسل أحد الجنود وطلب منا الانتقال لمكان آخر لأنهم محتاجين لتلك العريشة كمسؤولين. وهنا علمت بأنه يريد أن يرمي بنا في العراء تحت حرارة الشمس المحرقة.
وعند انتقالنا لهذا الموقع الجديد ، أنا وصديقي علي بذلنا مجهوداً كبيراً لبناء تلك العريشة، حتى يتسنى لنا المكوث فيها نهاراً .ومع ذلك تمَّ طردنا منها وبحثنا عن موقع آخر ليأوينا سويةً تحت شجرة جديدة نستظل بها من حرارة الجو الخانق .
وفي المساء بعد اكتمال التمام وانتهاء العشاء تم صدور الأوامر بأن نذهب إلى الدفاعات الأمامية ، واصطفينا وبعد ما حملنا مستلزمات القوة؛ وهنا رأيت راهيل خلفي تماماً وهي تحمل الكلاش والبطانية وزمزمية الماء ، وهي في كامل عتادها العسكري وزادتها الملابس العسكرية رونقاً وزينةً وجمالاً ، كانت مذهلة حقاً ، مما لفت انتباه الآخرين وتساءل الجمع أأنت اليوم ستذهبين إلى الدفاعات غير معقول هذا لم يحصل من قبل ماذا في الأمر أأنت جادة أم محض مناورة. .
كلهم صرخوا بصوت واحد راهيل ... ... !!!!!راهيل أصحيحٌ ما نراه اليوم هل نحن في واقع ٍحقيقي ّ أم محض خيالٌ. أأنت جادة، كانت صدمة بالنسبة لهم، نظرت إليهم دون أن تنبس بكلمة !!! وبعد برهة قالت من واجبي أن أذهب متى شئتُ وما في ذلك من شكٌ؟
وعندما وصلنا الموقع فرشت بالقرب مني ثم قالت : عندما يحين موعد دوريتي في الحراسة أيقظوني ثم نامت دون خوف أو ارتباك ، حينها شعرت كم هذا الانسان يحتاج إلى من يقويه ويعيد له الثقة بنفسه وكذلك يجد الاطمئنان ويثق فيمن حوله ، ليست الحياة كما نتصورها كلها سلبية قد تكون هناك ايجابيات لا نراها وحدنا إلا من خلال الآخرين هذا ما توصلت إليه راهيل.
( 6)
منذ تلك الليلة أصبحت راهيل ضمن أفراد مجموعتنا؛ معنا في كل دوريــة، أعادت الثقة إلى نفسها وكانت أكثر فرحاً من ذي قبل. ومنذ أن انضمت لنا أنا وعلي أصبحت لا تفارق موقعها نهاراً، وفي الليل لا تفارقني تذهب معي أينما ذهبت وتنام بالقرب مني، كل ذلك لما وجدته من صداقة تــنــبـني على المودة والاحترام وكنت في موضع ثقتها الذي لم تهتز يوماً، كانت هذه العلاقة مبنية على احترام الإنسان لذاته وشخصيته المتكاملة دون النزوع للقيم غير الأخلاقية مما فرض احترام الآخرين لها.
بعض فترة قضيناها في تلك المنطقة تم ترحيلنا إلى موقع آخر وأكثر قرباً من مناطق التماس مع العدو ومع ذلك لم تبتعد راهيل عني فأصبحت أكثر من رفيقة سلاح ... ولكن كان هناك من لا يحبذ هذه العلاقة التي نشأت بيننا لم تعجبه هذه التطورات في حياتها ، إنما ذهب به تفكيره بعيداً و تفكيره المريض ساقه إلى أن اعتقدُ أنً شيئاً ما يجري بيني وبينها ، كنتُ الاحظ غضبه الشديد ولكنه لم يستطع أن يقول لي شيئاً ومع ذلك لم أكترث للأمر كثيراً لأنني أعرف نواياه سلفاً وتفكيره الرجعي المتخلف .
عندما جئنا لهذا الموقع تغيرت مجموعتنا التي كنا فيه ، وذهب علي مع مجموعته وافترقنا وأصبح في مكانه شخصان آخران هما مسؤول الإمداد وشابٌ آخر.
و مسؤول الامداد كان رجلاً كبيراً في العمر وهو شخص شبه معاق ولذلك جعلوه في هذه الوظيفة غير القتالية وكنا ليلاً نجتمع وننام معاً وكل يحكي المواقف التي مرَّ بها ، وهنا شعرت راهيل بالارتياح بما يدور من نقاش وحوارات لقد كانت تعلق أحياناً فيما يدور بيننا ، ومن خلال تلك الحوارات عرفنا عنها الكثير عن حياتها وكيفية التحاقها بالخدمة وما كانت تطمح اليه ، ولكن كل ذلك انتهى بعد الاستدعاء (لمشروع التنمية الوهمية ) ثم وجدنا أنفسنا في أتون حرب لا يعرف أحداً متى ستنتهي الحرب وإلى متى نظل تحت رحمة هؤلاء الجنود .
مصيرنا كان على كف القدر، الغد عندنا مجهول مرتبطٌ بالمواقف العسكرية والسياسية والحربــية،
هذه المواقف كانت تؤرقنا ولكنها أصبحت جزءاً من حياتنا ولذلك لا نكترث بما هو آتٍ نعيش يومنا نضحك وننسى كل شيء تماماً.
وفي ليلةٍ من ليالي الشتاء الباردة قال رفيقنا الذي بيديه مفاتيح الامداد سوف آتِي لكم بسكر ونشربه ولعله يدفئنا قليلاً وقلنا له: لابأس نحن محتاجون لطاقةٍ قدتعيد إلينا نشاطنا وهنا في الدفاعات إن وجدت سكر اً كأنك وجدت كل ما تشتهيه الأنفس لأن السكر لا تجده إلا في كوب شايٍ وفي الفترة الصباحية، وانتظرنا شراب السكر بفارق الصبر ولكنها كانت كارثة كبيرة.
صاحبنا كانت لديه جركانة زيت طعام دون أن يغسلها سكب فيها الماء والسكر ثم بدأ يحركها يمنةً ويسرة ً حتى ذاب السكر كله وبعدها شرب هو الكوب دَفعة واحدة ثم ناول صديقي وهو كذلك تناول ماء السكر دَفعةً ولكنه أحس بشي غريب يطفح على الكوب ولكنه لم يعر للمسالة أية اهتمام وشربها دون التأكد ثم ناولني فشربتُ ولكنني أحسست بأن شيئاً يتحرك في فمي وشواربي ومسحتُ فمي وكنت في شك في أنّ هذا الماء فيه شيءٌ يتحرك.
ثم حان دور راهيل عندما قرَّبت الكوب إلى فمها أحست أنّ هناك شيءٌ في الكوب واسرعت واضاءت البطارية وجدته مليئاً بنمل السكر وطافحٌ كأنه (حب شاي) وعندها صرخت وقالت أنتم شربتوا النمل وإنّ بطونكم امتلأت بها كلنا تحسسنا البطون ولكن المسألة غدت في خبر كان ثم ضحكنا سويةً ضحكة واحدة وبدأنا نفسر ماذا يحصل لنا هل النمل مضرٌ وكيف نصبح غداً هل نصبح مرضى أم موتى وتضاربت الآراء.
كانت تضحك منا لحماقتنا من الموقف الذي حصل لنا، وحينها سكـــتنا برهة وقلنا لها غداً سوف نصبح أمواتاً كلنا ما عداكِ أنت لم تشربي معنا النمل وحينها تصبح أنتِ مسؤولة أمام الكتيبة باعتبارك متهمة بتسميمنا وقتلنا جميعاً. وحينها صدقت المقولة ثم أجهشت بالبكاء كم حاولنا ان نسكـــتــها ولكنها اخذت المسالة بجدية وتعرف أنّ القيادة لا تمرر مثل هذه المسائل بسهولة وبعد جهد كبير تمكنا من اسكاتها وشرحنا لها أنّ النمل ليس له تأثير وأن حرارة البطن تقضي على اي شيءٍ يدخلها وحينها اطمأنت ثم ضحكت ضحكة شديدة ونظرت إلينا واحداً فواحداً وبدأت تحسسنا قد يكون هناك ارتفاع في درجات الحرارة، وثم قالت: تصبحون على خير ... ونامت هانــئـة دون خوف مـن أننا لا نموت بالنمل الذي امتلأت بطوننا بها.
عندما استيقظت صباحاً أول شيء فعلته، أيقظتنا كلنا، حتى تطمئن علينا، لم يحصل شيء لنا، فقلنا لها اطمئني نحن أحياء وليس كما تتصورين، وعندها ذهبت لتناول الشاي وجلبت لنا معها الشاي والخبز وقالت اشربوا أيها المرضى سوف تتعافون مما أنتم فيه.
( 7)
كانت تلك حادثة مرت بسلام على كل أية حال، كلما نظرت إلينا انفجرت ضاحكة كانت مرحة جداً.
كل ما كان يزعجها مسؤول الفصيلة ورئيس المجموعة كثيراً ما يتم استدعائها دون علمي عندما نذهب للعمل خارج المنطقة للاحتطاب أو لقطع الأشجار لبناء الدفاعات. ولم تخبرني بكل ما يحدث لها إلا عندما وقفتُ في يوم ما في وجه رئيس المجموعة، في تلك اللحظة كنت أنا وهي _ بعد العشاء مباشرةً _ صاعدين إلى مواقع الدفاعات مع مجموعتنا.
قلتُ لها: سوف اتقدمك خذي معك الزمزمية والبطانيات سوف أكون في انتظارك في الموقع وأني سأحمل معي السلاح والفرش، عندما كنت صاعداً التلة وهي على بعد خطوات مني، اسمع صوتاً يناديها من الخلف، يقول لها توقفي.. ألم آمرك بعدم الذهاب؟.. هذا الصوت استوقفني، والتفت خلفي أراه صاعداً ويتحدث معها بشيءٍ من التهديد، ورجعت اليه فقلت له ماذا تريد منها أهناك شيءٌ ضروري ونظر إليَّ وقال: منذ متى كانت تخرج إلى الدفاعات؟!
فقلتُ له: ماذا تريد منها هي حرة فيما تفعله، أخبرني أهي جندية أم في الأمر شيءٌ آخر أخبرني؟ أم هي موجودة هنا لغير العسكرية تكلم؟
ماذا تريد منها أنت؟ وأنت ماذا تريد؟
وقف منفعلاً متردد اً حار به الدليل، كيف يتعامل معي بسلطته أم بإجبارها .بالرجوع ؟ .. غضبتُ غضباً شديد للموقف الذي بدر منه، ونزلتَ تحت إليه فقلتُ له: إياك أن تتصرف معها مرة أخرى بهذه الطريقة وإلاّ أفرغت فيك هذه الخزنة، تعلم إنني لا أتردد في ذلك، وكانت تشاهد الموقف بحذرٍ شديد وعلمت إنني غضبتُ غضباً شديداً، وأول مرة تراني بهذا الشكل من الجدية، وقلتُ لها بنبرة حادة أصعدي، سأرى كيف يمكنه ارجاعك عنوةً!! ثم التفت إليه فقلتُ له: عليك بالرجوع قبل أن اتخذ معك إجراءً آخر أترك الليلة تمر بسلام، هيا اسبقيني أريد أن أعرف مدى سلطته وهنا حمل نفسه وعاد ثم لحقتُ بها وقلتُ لها: هذا الدنيء إذا حاول معك مرة أخرى أن يتحدث في شيء لا يخص العسكرية أخبريني، سألقنه درساً لا ينساه عمره كله كيف تسكــتين له؟ هذا الشيء غير مقبول على الإطلاق لا تخافي منه أخبريني بكل شيء وبالتفصيل والآن نامي أنا على الدورية. وأخذتُ سلاحي وذهبتُ إلى الموقع المراد.
وفي الصباح عندما عدنا سألتها كيف يتعامل معك هؤلاء؟ قالت: دائماً يتحرشون بي، وتعلم كم كنتُ مقهورة من هذا الأمر، وكثيراً ما كنتُ أصطدم معهم هو ومسؤول الفصيلة وهذا ما جعلني في تلك الحالة التي رأيتني فيها أول مرة، ومجيئكم أنقذني من الورطة التي كنت فيها وخرجت عن طوري السابق وعدت لحياتي الطبيعية، كنت سأفقد عقلي لولا حضوركم لا أعرف كيف ينتهي بي الأمر؟
من اليوم ثقي تماماً لن يحصل لك شيئاً ما دمتُ في هذه الفصيلة وقُري عيناً، أنا أعرف كيف أتعامل مع القذارة، ومنذ تلك اللحظة بدأت تسرد لي عن حياتها، وعرفتُ الكثير عنها وأصبحت علاقتنا أكثرُ مودةً والفة ، وازدادت ثقتها بنفسها، أكثر من ذي قبل.
وبعد ليلتين بالضبط تركتها خلفي على أساس تلحق بي بعد أن تكمل استعداداتها، تعرف أنها امرأة ولها خصوصياتها ولذلك كنتُ دائماً أتقدمها، ثم تأتي بعدي بدقائق وحينئذٍ قد أكون أكملت الاستعدادات، من ترتيب الموقع الذي نريد النوم فيه وما إلى ذلك.
في تلك الليلة تأخرت كثيراً ولم تأتِ ساورني قلقٌ شديد وتلفتُ يمنةً ويسرة ولم أرها، صبرتُ عدة دقائق ولم تظهر البتة وهنا طار عقلي أنا في موقع الدفاعات وما بيدي حيلة وفوضتُ امري لله ومع ذلك انتابني هاجس الشك خصوصاً تجاه مسؤول المجموعة والفصيلة.
اليوم ماذا دبر لها من مكيدة أيتجرأ أن يمسها بشيءٍ ومع كل ذلك التهديد والوعيد هؤلاء قوم لا يأمن شرهم ودارت أسئلة كثيرة في عقلي دون جواب. ولحسن الحظ جاء فردٌ من المجموعة وقال لنا: أنتم يا أفراد هذه الخلية عودوا إلى الخلف نحن نغطي الليلة والأمر لا يتطلب الكثرة، وإذا استجد شيءٌ في الأمر نرسل لكم إشارة، وأنا بتلك الحالة مرَّت عليّ نصف ساعة من الزمن أو أكثر وحملت أمتعتي على وجه السرعة نزلت. وعندما وصلت المكان الذي ننام فيه ومجموعتي الصغيرة لم أجدها، أين أذهب أين أجدها كل الفصيلة تفرقت حول الدفاعات. وأنا محتار جداً، ماذا أفعل؟
ومرت عشر دقائق وأنا مسمرٌ في مكاني، وتعرف إنّ التحرك في منطقة عسكرية فيه خطورة غير محسوبـة، ومضى من الزمن ما يقارب الساعة وأنا في حالة قلق شديد ودارت في خاطري أفكار كثيرة وتساءلت أين ذهبت ؟ ماذا حلَّ بها ؟ وفي تلك اللحظة جاءتني وهي تبكي بمرارة شديدة ولم تستطيع التحدث معي لأنها كانت في وضع سيءٍ للغاية، واصابها مرض الشهيق، وهو مرض يصيب بنات الخدمة وهو عدم استطاعتهن في التحكم في الزفير والشهيق ويستمر معهن لعدة أيام قد تطول. وهو نتيجة الانفعالات الشديدة والغضب المُر.
وعندما وجدتها في تلك الحالة انتابتني نوبة من الغضب وحاولت أن أقلل من وقع الصدمة ولكنها استمرت في البكاء وحاولت أن استفهم ما جرى لها وتحدثت معي بصوت متقطع وحاولت أن تشرح لي أن مسؤول الفصيلة ومعه مسؤول المجموعة استدعوها إلى مكتبهما (غرفة تحت الأرض) وتحرشا بي وقالا لي إنك عاهرة وبنت عاهرة وتم شتمي بأقذع الشتائم وأنا لم أتحمل كل ذلك وهذا مما أوصلني لهذه الحالة من الغضب والهذيان.
قلتُ لها أهدئ لأنّك الآن تحتاجين لعلاج ومن الضروري أن تتعالجي من هذه الآثار الانفعالية وهذه الحالة تحتاج إلى الهدوء ثم نبحث الأمر غداً، وفوراً استدعيت طبيب الفصيلة حتى يعطيها بعض المسكنات أو يعطيها ماء وريد ولم يكن لديه أية مسكنات وقال سوف أعطيها (درب) أي ماء وريد.
وحاو ل أن يبحث عن الوريد ولم يستطع ، وساعدته على ذلك ولكنه غير متمرس وهذه أول مرة يحاول إعطاء حقنة وريد ، وسألته كم من الزمن لك وأنت تمارس هذه المهنة؟ قال لي: أخذت دورة اسعافات أولية قبل خمسة عشر يوماً وهذه أول حالة تمر بي، وهنا أدركتُ عدم خبرته وقلتُ له: أتركها سوف أتولى الأمر بنفسي وسوف أقوم بمعالجتها أذهب أنت ونام دعك من الأمر.
قد يسأل سائل ألا تعرف هذا الطبيب وقدراته من قبل؟ أقول لكم صراحةً أنّ الفصيلة كل يوم تتغير وتتبدل ولذلك لا نعرف أشخاصاً كثر، هم يأتون ويذهبون ونحن عبارة عن بيادق شطرنج يتم تحريكنا وفق اللعبة ولذلك لا نسأل عمّا يدور حولنا يتم تحريكنا وفق مقتضيات القادة العسكريين ولحسابات لكيلا يكون هناك تمرد داخل الجيش للأوضاع السيئة التي نعشها والظروف القاسية التي نمر بها.
أذكر مرّة في اجتماع الأفراد ناقشتُ هذه المسألة والتغيرات التي تتم دون دراسة ومن المفترض أن تكون الفصيلة مستقرة ومتجانسة حتى تؤدي المهام بصورة جيدة لأن معرفة قدرات البعض يعالج الخلل الموجود ويعطي العمل صورة مثلى في الأداء ولكن المسألة كانت لها أبعاداً أخرى غير التي نحن بصددها هناك. حسابات عسكرية وسياسية أي ألاّ يحصل أي نوع من التقارب والنقاش وإبداء الرأي أو أيّ شيء من هذا القبيل لانّ ذلك يمثل تهديداً مباشراً للسلطة الحاكمة.
هذا الرأي جلب لي مشاكل فيما بعد، وتم استدعائي من قبل قائد الكتيبة وناقش معي ما جرى في الاجتماع ومن ذاك اليوم عرفت أنّ كل ما يناقش ضمن المجموعة يرفع للجهات العليا لتتخذ إجراءات ضد الأشخاص المستهدفين ومعرفة نواياهم ومن الذي قد يمثل خطراً بآرائه وأفكاره حتى يتمُّ وأده في وقت مبكر.
ماذا عساي أن أفعل؟ وهي في حالة سيئة تماماً حينها قلتُ لنفسي أولاً أحاول اعادة التوازن في التنفس وقطع هذا الشهيق غير المتوازن واعادتها لوضعها الطبيعي ومن ثمة معالجة أسباب الغضب وآثاره الجانبية وذهبتُ وأخذتُ سكراً وماءً وقمت بخلطهما ثم قلتُ لها: أريد منك أن تفعلي ما أقوله لك حتى استعيد إليك التنفس الطبيعي اريد منك أن تشربي هذا الماء دون تنفس عدة مرات قد يتوقف هذا الشهيق المتواتر بصورة غير طبيعية حاولت معها عدت مرات وتوقفت المشكلة الصحية وعاد تنفسها إلى وضعه الطبيعي وانقطع الشهيق ، وتمّت معالجتها ، ونظرت إليّ ومسحت ما تبقى من الدموع ، وأخذت نفساً عميقاً وقالت : أشكرك على ما فعلته معي .
فقلت لها: هذا من واجبي أن أقف معك وإن تطلب الأمر لفعلت أكثر من ذلك والآن عليك أن تستريحي وتأخذي قسطاً من الراحة لأنك متعبة جداً هيا أخلدي إلى النوم.
ثمَّ استلقت على الفراش وكأنها طفلةٌ صغيرة تحتاج إلى من يرعاها، وأخذتُ الأغطية ووضعتها على جسدها المنهك المتهالك من التعب ولففتها جيداً وطبطبتُ على كتفها كي لتنام وما زالت الدمعات تتقطر من عينيها ومسحتها ثم رويداً فرويدا سرى النوم في جسدها المتعب من القهر وغفت وانسدلت الأجفان على حدقاتها ثمّ نامت وهي مطمئنة لا شيء قد يـزعجها مادام هناك شخص يهتم لأمرها.
وغالباً نستيقظ مبكرين، لتناول الإفطار وشاي الصباح، وبعدها يتم التمام وتوزيع المجموعات على العمل المراد القيام به، وفي ذلك الصباح تركتها وهي ما زالت نائمة لعلها كانت تعبة جداً من الذي حصل لها ليلة البارحة.
وفي التمام قيل لنا علينا الذهاب إلى الغابة لجلب مزيداّ من الأشجار لتقوية الدفاعات وذهبنا واقتطعنا الأشجار وعند عودتنا ونحن على مشارف المدخل رأيت مسؤول المجموعة يقودها خارج الفصيلة ومتجها بها نحو الغرب من مكان تواجدنا وهنا تركت ما كنت أحمله على كتفي ولحقت به وأوقفته، وسألته إلى أين أنت ذاهبٌ بها؟ قال لي: إلى الكتيبة.
ولماذا؟
فرد: لعملٍ مطلوب منها.
فقلتُ له ألا يكفيك ما فعلته بها البارحة! ونظر إليَّ ولم يردَّ على كلامي، وكانت عيناي تتطاير شررًا كنت احتاج لأي سبب حتى أقوم بضربه ولكنه يعرفني تماماً قبل هذه المرة أوقفته عند حده وكان حذراً في التعامل معي لأنني لا أغفر له شيئاً وهويتحاشاني قدر الإمكان.. تلك الليلة كسرت فيها القوانين العسكرية التي تحكم ما بين الرئيس والمرؤوس ومنعته فيها عن ارجاعها إلى الثكنات.. أمرتها أن تصعد إلى الدفاعات.
ونظرتُ إليها وقلتُ لا تتأخري وأنا في انتظارك. وأنت عندما تعود سوف يكون هناك أمرٌ آخر اذهب.
وذهبا، وانتظرت اليوم بطوله لم تعد وشارف اليوم على الانتهاء، ومالت الشمس إلى الغروب، وأنا في وضعٍ يحسد عليه من التوتر والقلق، والغضب وما لي حيلة ماذا أفعل وأنا مجرد جندي لا سلطة لي فيها ولكن
كل ما أملكه هو أن أسأل اين تقع الكتيبة في هذه الجبال الوعرة المبعثرة. لا أحد يعرف أين موقعها، هناك شكوك في النوايا وقد تؤخذ المسألة بتفسيرات أخرى لأننا على خط التماس مع العدو وقد تجلب لي مشاكل وأنا في غنى عنها وما الحل؟
أسئلة كثيرة تدور في رأسي وقد أتعرض لمساءلة كل شيء وارد لانّ المسألة تجاوزت خطوطهم الحمراء والتدخل في شؤون عملهم، كانت تلك الخطوة إبعادها عني تماماً، لأنّ وجودها معي يمثل لهم تحدي وهذا يضعف من الهيبة الموجودة بين الرئيس ومرؤوسيه، لأنني خرقت كل الأعراف العسكرية.
وقد أوغل الليلُ وهنا تذكرت قول امرئ القيس:
وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلتُ له لما تمـــطى بــصلبــه وأردف أعجازاً وناء بكلكل
ألا أيها الليلُ الطويل ألا انجلي بصبحٍ ما الإصباحُ فيك بـأمثل
فيا لك من ليلٍ كأنّ نجومـ ـــه بكل مغار الفتل شدت بذبل
كانت أطول ليلة عشتها في حياتي، ولم أنم تلك الليلة، مع اشراقات الصباح خرجتُ باحثاً عنها في تلك الأودية والجبال ولم أعثر على الكتيبة ورجعتُ خاوي الوفاض، وحاولت أن أسأل أين توجد الكتيبة؟ لا أحد يعرف بالضبط مكان الكتيبة.
(10)
وهنا اقتنعتُ تماماً تم الفصل بيننا ولا أحد يجرؤ التحدث عنها والكل صامت ، وهنا قررتُ أن أترك كلَّ شيء ، وكنتُ أعاني من قرحة الاثني عشر ، و ازداد الألم وبدأ ينزف دماً وهنا ذهبتُ لمسؤول الفصيلة لكي يستخرج لي أرنيك طبابة ، ولكنه رفض وألحّ أنّ أوراق الطبابة ممنوعة في هذه الفترة ، وهنا انتابني غضبٌ شديد ، فقلتُ له : أنا هنا أتيتُ بمحض إرادتي ولا أحد يمنعني من حقوقي الأساسية وهذا حقٌ مشروع في أن أتعالج ولذلك ليس لك الحق في أن تمنعني وتتعامل معي كأسير حرب وإذا لم تعطني ورقة الطبابة الفاصل بيننا هو هذا السلاح سوف أفرغ كل الرصاصات في جسدك .
وهنا أخذ المسألة بجدية وقال لي: اذهب ونادي طبيب الفصيلة.
فقلت له: تستدعيه أنت، وكانت عيناي محمرتان والغضب بادئ على وجهي، قام ببطء وناداه وقال له: استخرج له أرونيك مرضي لطبيب الكتيبة. وهنا همهم الطبيب بالرفض ونظرتُ إليه فقلتُ له: ألا تعجبك الأوامر!
قال: لا
فقلتُ له: ماذا تنتظر؟
ثم أخرج ورق وقلم وكتب رسالة إلى طبيب الكتيبة مرفقة بأرونيك مرضي وحمَّلني إياها وأخذتُ الورقة ووضعتُها في جيبي انتظرتُ سيارة تقلني إلى الكتيبة وهنا أدركتُ أنّ الكتيبة بعيدة جداً من موقعنا الذي نتمركز فيه. وإنّ رحلتي في البحث عنها كانت عبثية دون جدوى. وتمنيت أن التقي بها هناك وأعرف ماذا حصل لها. وعند المغرب وصلت الكتيبة ولكنني لم أجدها وهنا فقدتُ الأمل في البحث عنها وسألت الموجودون هناك ولا أحد يخبرني أين هي؟ وازداد الألم في معدتي وألمٌ آخر في القلب كانت راهيل تمثل الوطن بكل تفاصيله في تلك الأحراش والجبال والوديان وعطر البارود، وفي غفلة من الزمن اختفت راهيل وسكنت الحياة ولم تعد موجودة وأظلم كل شيء أمام ناظريَّ، وفقدت معنى الحياة والتضحية ولا معنى لأن تقاتل، ومن أجل من؟ نحن نعامل كغرباء، لا حقوق متساوية، ولا اعتبار للإنسانية، ولا شيئاً تتمسك به لأن يكون حافزاً تعيش وتموت من أجله، كل ذلك كان هراء. وفي منتصف الليل قررت أن أذهب بعيداً وأترك خلفي كل الذكريات، وأتحرر من كل تلك القيود، وأبحث عن حياةٍ بديلة بعيداً عن تلك المآسي، لعلها تداوي جراح السنين التي ضاعت من سنيِّ عمري لأجل مستقبل مشرق في وطنٍ بديل. كانت لوحة رسمت على جدار الخنادق برائحة البارود ولـــم تكتمل ... ذهبت راهيل ولــم تــعد.
* قاص من إرتريا.
** القصة الفائزة بتقديرية جائزة محمد سعيد ناود للقصة القصيرة، الدورة السابعة 2021.
سمراء ممشوقة القامة نجلاء العينين ، ويبدو على وجهها حزن عميق فيه مسحة من جمال فطري ، منفردة ، منطوية على ذاتها ، لا تتحدث كثيراً، صامتة في أغلب الأوقات ، ثغرها جميل يميل إلى السمرة ، لها صديقة واحدة ، كن اثنتين في تلك الفصيلة ، تمكث معها طوال النهار، وتختفي أحيانًا مع صديقها ، وتكون أغلب الأوقات منفردة، تتركها زميلتها لوحدها تداعب خصلات شعرها المتدلي على ظهرها في خجل وصمت ، تحس بأنها رزينة واثقة من نفسها ، لا يقترب منها أحد ، ولا تتحدث مع أفراد الفصيلة كثيرا ، بل تكتفي ببضع كلمات ، ثم تنزوي بعيداً عنهم بالرغم من أن أغلب الفصيلة من أبناء جلدتها ، ولا تتعامل معهم إلا في حدود ضيقة .
أنا وعليٌّ تم اضافتنا لهذه الفصيلة ، بعد أن تم تمزيق فصيلتنا الأولى إلى أفراد متباعدة ، من سوء حظي كان عليٌّ من رافقني بعد التوزيع الجائر وكنتُ أحبذ ( موسيه) ولكن عن قصد تمّ وضع علي معي واختيارنا سويا ، وكان مسؤول المجموعة يعرف تماماً إنَّ علياً لا يناسبني بالرغم من علاقتنا ، الحميمة ، كانت لدينا مجموعة مشاغبة ، واسطة العقد فيها (سِمْرَت ) مرحة بشوشة تعلمت العربية من خلال تواجدها معنا ، وأكل لحم الطير، كان جمالها طفولياً. كنا ستة أشخاصٍ ، لم نفترق منذ أن تكونت الفصيلة ، بالرغم من أنها مرت بتحولات عديدة وكثيرة ، ولم تستقر بشكل عام .
ومجموعتنا هي التي لم تتبدل على مــَرِّ التشكيلات، ظللنا نحن صامدين، وعندما تم ترحيلنا إلى خطوط الدفاع الأمامية ، كانت المنطقة تعج بالضباع، وفي منتصف الليل أحاطت بنا من كلّ جانب، وهي تعوي عواء شديداً واقتربت كثيراً منا وعلى بعد خطوات من موقع الفصيلة، حينها كانت سمرت الوحيدة في الفصيلة تركتها زميلتها، ذهبت ولم تعد، في تلك الليلة انتابها خوف شديد فأخذت سلاحها وتركت فراشها وبسرعة قفزت بيننا منذ تلك اللحظة لم تغادرنا، بل وأصبحت جزء من مجموعتنا.
كنا نعتبرها أخت ورفيقة سلاح ، نحميها من المتربصين بها، حتى لقبت بذات الستة إخوة ، وكانت مهابة من الجميع، لا يقتربون منها لأن العواقب معروفة خصوصاً من قبل موسيه وآدم، وإذا تحرش بها أحد كان هؤلاء بالمرصاد، من هنا كانت مطمئنة على نفسها، لأن حولها رجال يحمونها عندما افترقنا ذرفنا الدمع مدراراً، ابتلت جوانحنا بكينا بمرارة ولوعة ولكن كان القدر محتوماً ؟!
ترجلتُ من السيارة، ومعي عليُّ كانت صدمة كبيرة، لأنني أردت أن يرافقني موسيه، ابتسم مسؤول المجموعة بخبث وأطلق ضحكة صفراء، فهمت القصد، عانقت موسيه وبكى على كتفي بكاءً مُراً، وشهق وزفر زفرة حارة انفطر لها قلبي، طبطبت ُ على كتفه، وأشحت عنه بوجهي لكي لا يرى قطرات الدمع المنهمرة بغزارة، وتحركت السيارة، وحملنا ما بحوزتنا من أمتعة، واتجهنا نحو الفصيلة الجديدة وأنخنا ركابنا تحت شجرة كبيرة ، و تم الترحيب بنا على مضض ، وابتسامة خجولة، قمنا بتنظيف المكان ليكون لنا مقراً دائماً.
(2)
مضت ثلاثة أيام بلياليها دون أن نتقترب من أفراد الفصيلة الجديدة ، لا يجمعنا معهم إلا أوقات الطعام ، ثم نعود إلى الشجرة كالعادة ، والصمت يعم كل شيء حولنا ، نترقب الغد ماذا يحمل معه من مفاجئة وهكذا دواليك ، أنا وعليّ لم نكن نتحدث كثيراً ، بالرغم من أنه صديقي ورفيقي، وكان يمثل ضلعاً رابعاً في مجموعتنا السابقة ، ننظر إليه بعين الرأفة والحميمية ، وهو في مقتبل العمر طائشٌ لم يتجاوز التاسعة عشر من عمره ، يتيم الأبوين ، استشهد والداه في مجزرة قام بها الاثيوبيون إبان الاحتلال ،و قامت عمته بتربيته ، تحسه وحيدا ، تائهاً في دولة لا مستقبل له فيها يعيش لحظته ويومه قبل غده ويتعاطى الخمر كلَّ نهاية شهر ٍ عندما نقبض المصروف الشهري، ثم يعربد كل يومه ، ويقولُ ما في قلبه إن كان حباً أو تهديداً ثم ينكر ما قاله مساء البارحة ، يعرف أنه في مفترق طرق ، قد يعود أو لا يعود من هذه الحرب العبثية. هكذا أصبحنا في دوامة لا نعرف لها نهاية، يحكمنا القدر والغباء، ونزعات الآخرين وسلطوية النظام، نُساق كالخراف، حيث يشاؤون، وبذلك أصبحنا أغبياء على حد قول شارلز ديكنز:
"nine soldiers out of ten were born fools."
وكان محقاً في قوله. وسخرية القدر أوقعتنا مع هؤلاء. بعد ثلاثة أيام تم توزيعنا في الفصيلة، ذهب عليُّ في مجموعة، وأنا في أخرى، لم أعرف أكان حظي أم حظها، غير أنني وجدت نفسي في مجموعتها.
راهيل تلك الفتاة السمراء، الناعمة كالحرير، قوامها الطويل المتناسق، رشيقة كالغزال بالرغم من امتلائها واسعة العينين، مكــتنـزة الصدر شعرها أسود يتدلى إلى عجزها، وابتسامتها كالموناليزا لم تتجاوز التاسعة عشر ونيف من عمرها، تغوص في حزن عميق، دائما شاردة الذهن، تنزوي بعيداً عن الآخرين كأنها تعيد ذكريات الأمس الذي ولى دون رجعة، عندما التحقت بالخدمة الوطنية كانت في ريعان صباها.
أخذتها عفويتها، وهي في نشوة الفرحة لأداء الواجب، اندفعت خلف صديقاتها، اللاتي التحقنا آنذاك بالخدمة الوطنية ولم تعرف ما ينتظرها من مآسي، وحياة الجندية والبون شاسع بين الواقع والخيال، وتلك الصورة الوردية التي كان يرسمها النظام في إعلامه، وأصبحت بين أمرين أحلاهما مُرٌ، الواجب الوطني والمتربصون بها، اللذين لا يتورعون في انتهاك الحرمات ولا يضعون اعتباراً للقيمة الإنسانية وكرامتها؛ العدو متحفزٌ على أبواب الخنادق، واللئام يتربصون بجسدها اليافع البض، أيهما تقاوم، كلاهما أعداءٌ في نظرها والكل يريد أن ينهشها، وتكون ضحية الرغبات واليوم تعيش كابوس الكرامة، كلبوة جريحة، خرجت للتو من معركة جسورة، لم تلتقط أنفسها إذْ تهاجمها الضباع تريدُ أن تنقض عليها وهي تكابد جرحها الكليم، الذي مازال ينزفُ حسرةً ودموعاً على ما آلت إليه ووضعها بين تلك الوديان والجبال والخنادق الممتدة على مدَّ البصر.
كانت صغيرة عندما التحقت بالخدمة، وترعرعت بين هؤلاء اللذين لا يميزون بين صغار السن ومن أكمل ربيعه القانوني، لأنهم لا يملكون المعايـــير القياسية والقانونية، غالبًا كانت تسترجع تاريخ حياتها الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من الموت. تحس الحزن في عينيها كأنها تستنجد ولا تجد من يغيثها، ولذا انطوت على ذاتها تناجي نفسها لعلها تخمد النار الذي بين ضلوعها وتطفئ أوجاعها وآلامها، وصدى روحها المكلوم.
تلك الليلة كانت فارقة في حياتها، حيث وجدتني كملائكة رحمة ينتشلها من تلك البقعة السوداء التي وُجِدتْ فيها، من حسن حظها كنتُ في نفس مجموعتها، عندما تمَّ توزيعي في تلك الفصيلة.
وبعد العشاء توجهنا نحو الخنادق . وتحركنا، وظَلَّتْ في مكانها وتركناها خلفنا وذهبنا ولكن في منتصف الطريق قيل لنا: على هذه المجموعة الرجوع لأن العدد كبير ولا نحتاج لهذا العدد كله، سوف نقوم بما لزم من التغطية وإذا طرأ شيءٌ سوف نرسل لكم إشارة، ورجعتُ أنا مع رفاقي، وذهبت مباشرة إلى موقعي المعتاد، وفرشت مكاني لكي استلقي وأداعب النوم الذي في جفوني.
( 3)
في تلك الليلة نادتني بصوت منخفض يا رفيق، لماذا تنطوي على نفسك منذ مجيئكما أنتَ وصديقك لم تتحدثا معنا ولم نتعرف عليكما، ماذا في الأمر اقترب تعال ما زال الليل في أوله، أنا لم أكن في حالة نعاس، أريد أن أتعرف بك لأنني لاحظت أنت وصديقك منطويان وبعيدين عنا كل البعد.
قلت في نفسي: أذهب وأعرف ماذا تريد معرفته، اقتربت منها بهدوء، وجلست بالقرب منها، وسألت نفسي ماذا يجول في خاطرها، وماذا تريد أن تعرف.
ثم قالت: مضت ثلاثة أيام ولم تتحدثا معنا من أي وحدة جئتما؟ لماذا تبتعدان عن الجميع ولا تحاولان الاندماج معنا والتداخل مع أفراد الفصيلة.
قلت لها: نحن جدد وعلينا أن نتريث حتى نتعرف على الأشخاص بالفصيلة مع مرور الوقت وبالتدرج يومًا بعد يوم سوف نكون جزءاً من هذه الفصيلة، ثم بدأت الأسئلة تتوالى وأنا أرد حسب السؤال.
وبدأ الحديث يأخذ منعطفاً آخر وطال الحوار بيننا ومن خلال الحوار عرفت ُ ماذا كان يقلقها وما مصدر ذلك الحزن كله، اعترفت أن حياتها أصبحت لا قيمة لها وأنها تتعرض للضياع، وكم أصبحت نادمة على ما آلت إليه حياتها، وسوء تقديرها أوقعها في هذا المأزق، من نبرة صوتها عرفت كمية الحزن الكامن في داخلها.
عندها غيرتُ مسار الحديث لعلي أستطيع أن أخرجها من تلك الكآبة وتلك السحب المظلمة الداكنة التي تغَّــلف صورتها الجميلة.
وبدأت أسرد لها بعض الطرائف والنوادر التي مرت بنا خلال وجودنا في الجيش والغباء الذي استحكم بنا، بدأت ضحكاتها تعلو شيئا فشيئا. حتى أنها امت من فراشها، وجلست القرفصاء، كنت أسرد لها الحكاية تلو الأخرى وهي تضحك بأعلى صوتها حتى لفتت انتباه مسؤول الفصيلة والمجموعة، كانا يتسامران بالقرب منا على بضعة مترات هذا الشعور بالفرح أسعدني كثيراً.
ولكن!! هناك من كان لا يعجبه ذلك الوضع وتلك الصورة الحميمة التي تولدت بيني وبينها في لحظةٍ لم تكن في الحسبان ولم يكن لوجودي سوى أيامٍ وليالي، ما الذي تغير؟
هناك تساؤلات كثيرة تدور في ذهنيـهما، وبدأ الانتباه والتصنت لما يجري من حولهما، لم أعر للمسألة أية اهتمام وواصلت في سرد القصص الواقعية.
لم تتمالك من نفسها لكثرة الضحك حتى قالت: بالله عليك خفف عنى.. وبدأ الليل يذهب بعيدًا ويوغل في سكونه ونحن في منطقة محفوفة بالمخاطر لا نعرف هل تشرق الشمس أم يخطفنا الرصاص.
قلتُ لها: إنَّنا مراقبان
قالت: دعك منهم لا تشغل بالك أنا أعرفهم تماماً لا يمثلون لي شيئاً، حياتي ليست مرتبطة بهم وهم ليسوا أحسن حالاً من العدو الذي يتربص بنا وهنا أدركتُ ما كانت تعنيه، وفي تلك اللحظة خطرت في بالي قصيدة محي الدين فارس. ليل ولاجئة.
لا تنامي. لا تنامي الليل أوغل.. لا تنامي
والريحُ ...قهقهت خلف الخيام.. لا تنامي
وسحبتُ نفسي من تلك الأمسية الطويلة وذهبت إلى فراشي وأنا يغمرني إيقاع الحياة الجديدة، وسحبتُ الغطاء وتمددتُ لعلي أجد نوماً هانئاً بعد ليلةٍ طويلة.
(4)
في صباح اليوم التالي سألتها صديقتها كم أنت جميلة اليوم، فردت قائلة: لقد وجدت معنى الحياة، وأن تعيش لغدك دون أن تعير للزمن أية اهتمام، هذا ما تعلمته مساء البارحة.
وهكذا انقضى النهار بطوله، وعندما شارف الغروب، قمنا بالتمام الكامل وتم توزيعنا على الخطوط الأمامية، بعد تناولنا وجبة العشاء. وذهب الكل إلى مكانه، أما مجموعتنا ظلت في الخلفية، على حسب الترتيب الزمني .
كنت اتحرق شوقاً إلى رؤيتها، ما أن بدأ الليل في التوغل بعد أن رتبت مكان نومي، ذهبت مسرعاً اليها، وكانت في انتظاري كأنها على موعد معي.
قالت: لقد أبهرتني البارحة ولم أكن أتصور كل ذلك يخرج منك، كان انطباعي الأول بأنك شخص خجول انطوائي لا تتعامل مع الآخرين .
قلت لها: الإنسان في بادئ الأمر يكون متوجسًا لا يأخذ الأشياء ببساطة لابد من معرفة ما يجري حوله ثم يتخذ الخطوات اللازمة حتى لا يقع فيما لا يحمد عقباه.
أين درست هل أكملت التعليم؟،
وأردفت قائلة: أعتقد أنك شخص متعلم وهذا ما يبدو لي.
وهنا استدركت بأن َّ إكمال التعليم عندهم هو أن تكمل البكالوريا.
قلت لها: إنني جامعي.
وهنا فغرت فاها ثم أردفت قائلة: لماذا أنت موجودٌ بيننا ألم تجد عملاً غير العسكرية؟
وقلتُ: أنت تدركين أنّ برنامج التنمية ( هقراوي لمعت) لم يستثني احداً، ولهذا أنا موجود معك في الجبهة كجندي.
وتبسمت قائلة: إذا أنت موجود كجندي.
قلتُ: (نعم) وما الضيرُ في ذلك.
قالت : إن هذا الوضع لا يعجبني حياتنا ضائعة سدى ولا نعرف مصيرنا غداً وهذا ما يؤلمني جدًا وهو الذي أدخلني في هذه الحالة والمتاهة التي لا أعرف كيف الخروج منها.
قلت لها : ما عليك إلا أن تتقبلي هذا الواقع المؤلم وحاولي أن تجتازي هذه الصعوبات ، ليس لنا مفرٌ من هذا الوضع الذي نحن فيه إلى أن تنتهي الحرب أو نموت غداً ونكون في أعداد الموتى و طي النسيان .
قالت : كلما أفكر في نفسي واسترجع الماضي أتحسر على اليوم الذي التحقت فيه بالخدمة الوطنية كنتُ اعتقد بنهاية الخدمة تصبح حياتي حرة ، و أبحث عن حياة أفضل ، كانت غلطة عمري حين قطعتُ فيها دراستي وذهبت خلف صديقاتي ، آنذاك كنت في غمرة الصبا ونشوة الشباب ، لم أحسبها جيدًا، لو كنت أعرف أنها ترمي بي في هذا المنزلق الذي أصبح سبب معاناتي وعذابي لما التحقتُ، ولا وضعتُ نفسي في غابة من الوحوش الضارية الكل يحاول افتراسي كأنني لبوةٌ في قطيع من الأسود، أولهم قائد مجموعتنا، ويريدني لقمة سائغةً له ، وهنا تختفي كل النظريات عن الوطن والوطنية والجندية والزمالة المهنية.
استمر الحديث بيننا، وبدأ الليل يذهبُ بعيداً في الظلام والحديث يأخذ أبعاداً أخرى، وموضوعاته متنوعة ومختلفة من الهزل إلى الجد، ولاحظتُ أنَّ مسؤولا الفصيلة يراقباننا عن كثب، يريد معرفة ما يدور بيننا وهم في غاية الاستغراب، كيف لرجل جاء قبل بضعة أيام أن يستولي على جوهرة الفصيلة بهذه السهولة وأي سحرٍ استخدمه هذا الشاب حتى تتفاعل وتنسجم معه بهذه الصورة التي لم نألفه، وما الذي استجد في الأمر؟ وإنّ هذه الفتاة منذ وجودها لم تتعامل مع أحد بهذه الودية والدفء، وكيف له أن يقلب الموازين، ويجعلنا حمقى أمامه؟.. هذا الأمر غير معقول ولا طبيعي، وهذا ما كان يدور في ذهنيــهما. وكل ذلك استنتجته من خلال المراقبة وٍالسهر معنا دون داعي لذلك السهر كله احسستُ بالقلق تجاه موقفهما بما يجري من تصرفاتِهما وانفعالاتهما المتكررة، الذي يؤكد ما ذهبت إليه.
قلت لها: المسؤولان يراقباننا منذ وقت طويل أخشى أن يــفهما الموقف بشكل خاطئ.
ابتسمت ابتسامة خفيفة قالت: أعرفهما جيداً لقد حاولا مراراً وتكراراً الاقتراب مني ولكن لم أعطهما الفرصة، وغالباً كنت ادعي المرض ولم أخرج في أيِّ دوريةٍ، أعتقد ما يجري بيننا قد يغيظهما ويزعجهم كثيراً أتعبوني أيما تعب من كثرة السؤال، ولكني أصريت على موقفي وألاّ اتعامل معهم بأي شكل، وكم من التهديدات واجهت إلى أن وصلا حد اليأس، لذلك، اليوم يستغربون فيما أنا فيه ولم يروني بهذه الكيفية على الإطلاق.
ثمَّ أردفت قائلة: إنّ حديثك معي البارحة أعاد إليّ ثقتي بنفسي، وتجاوزت مرارات الماضي لعلي وجدت معك الطمأنينة التي فقدتها منذ زمن طويل، وأحسست بأنك شخص متفهم، تعرف كيفية التعامل مع الآخرين، بالرغم من أن انطباعي الأولي كان غير ذلك.
أنت أخرجتني من القلق والكآبة والانهزامية التي كنت أعيشها، وعلمتني كيف أقابل الحياة بشجاعة وصلابة.
قلت لها: لقد انتصف الليل ونحن ما زلنا نتسامر وأنت لا تزالين مستيقظة ولم يسري النعاس إلى عينيك.
قالت: قبل أن أتعرف بك وتدخل حياتي كنت أعد النجوم، الواحدة تلو الأخرى والوحدة التي كنت فيها كانت قاتلتي كلهم يذهبون إلى الدفاعات وأظل وحيدة أسامر الليل بطوله وأفكر كثيراً فيما آلت إليه حياتي بين هذه الوديان والجبال الصامتة، وقد تأتي رصاصة طائشة وينتهي بي الأمر جريحة أو ميتةً وهذا كل ما تبقى عندي.
أما البارحة لقد أنعشت روحي الكئيبة المتهالكة، وبذرتَ فيّ الأمل الذي كنت أفتقده إنك شخص لا يصدّق!.
فقلتُ لها: هذا ما قصدته تماماً، الحياة هنا لا تستحق العناء، لأننا لا نملك ارادتنا، ولا نستطيع تحمل المزيد من التعب، نحن نعيش زمن الغباء السياسي يقودوننا رجالٌ لا يعرفون قيمة الحياة ولا الإنسانية، اناسٌ تقودهم النزعات واشباع الغرائز الفردية، المسألة لا تستحق أن يموت كل هذا الجيل، ربما تُحل المسألة بأبسط الحوارات إذا كانوا حريصين على حياة الناس وقدر لهذا الجيل أن يعيش.
حكموا علينا بالفناء، هذا الجيل لم ينعم بالسلام منذ أن وُلد، إن كان في المهجر أم في الداخل.
قالت لي : هذه الحرب محض افتراء ، نحن نرسم وقائعها ، ثم يأتي الغد يحتسون كؤوس الصلح ونخب الانتصار، ونروح ضحية مساومات لا منطقية .
قلت لها : افتراضاتك صحيحة ، ولكن ليس بــيدنا حيلة لتغيير الواقع لأنّ الذين يتحكمون بحياتنا ممن ليس لهم إرادة وهم ينفذون ما يُملى عليهم لأنهم قاصروا التفكير ومحدودي الرغبات وتعودوا على الاملاءات ، وهم من ذوي طموحاتٍ لا يتجاوز الراتب الذي يتقاضونه وهم يفعلون ذلك دون إرادة ذاتية وللمحافظة على ما حققوه من نعمة كسبوها ، حتى لو أدى ذلك إلى مـوته ، وكثيرٌ منهم لم يقتنعوا بأسباب الحرب بل تقودهم الأوامر العسكرية ، كما نفعل نحن الآن . ضحكت وقالت : انك رجل ساخر وتحليلاتك منطقية هذه هي رؤيتك للحرب ؟
قلت لها : دعك من ذلك لأن الحديث فيه يطول ربما لا ينتهي... ونحن قد نموت قبل أن تتوقف الحرب .
ثم سألتني : أخبرني عن الفصيلة التي أتيت منها ، كيف كانت ؟
قلت لها : سوف أتحدث لك عن مجموعتنا الصغيرة والتي تتكون من سبعة أشخاص وأصبحت عقداً فريداً واسطة العقد كانت (سمراويت) هي فتاة فارعة الطول جميلة مرحة أصبحت جزء لا يتجزأ من الستة رفاق أصغرنا آدم وموسيه كانوا أكثر شغباً بالذات في الفترة الصباحية لا يتركون أحداً ينام بعد استيقاظهم وخصوصاً سمراويت لأنها تنام في وسطنا جميعاً هكذا تعودت بعد ليلة الضباع التي كانت تحوم حولنا بالقرب من مكان وجودها في تلك الليلة لم تكن تنام معنا بالرغم من أنها رفيقتنا تعلمت منا كيف تأكل ما نصطاده من طيور أو أرانب وهي لا تفارق خليتنا إلا إذا كان لها غرض آخر .
وفي تلك الليلة عندما عوت الضباع وحامت حولنا أتت مسرعة متخطيةً كل النيام ودخلت في وسطنا وأخذت مكاناً بيننا دون سابق انذار ومنها أصبحت جزء من الخلية وتحتمي بنا وخصوصاً من الذين يتربصون بها حتى عرفت بأنّها أخت الستة اخوة، وكانوا يهابوننا بالذات أدم وموسيه لأنهما لا يرضيان أن يمسها ّشيئاً ويتشاجرون مع كل شخص سولت له نفسه بالاقتراب منها.
هذه الوضعية لم تعجب مسؤول الفصيلة، واعتقد بأنّ هناك شيئاً غير طبيعي يدور من خلفه وهو تفكير مريــض. في يومٍ ما ناداني المسؤول وقال لي: سمرت زوجة من فيكم ؟
وعندها غليَ الدم في عروقي واحمرت عيناي وتطاير الشرر منها وانتابني غضبٌ شديد .
فقلتُ له إذا سألتني مرة أخرى مثل هذا السؤال سوف أنهي حياتك برصاصة واحدة.
كيف لك أن تسأل مثل هذا السؤال أأنت رجل طبيعي؟
وهنا استدرك معنى غضبي الشديد وانفعالي الحاد .
فقال : أنا لم أقصد بالمعنى الحرفي ، بل أريد معرفة ذلك ؟
فقلت له : إنك لم تستوعب إجابتي لك ، وإذا أصريت على ذلك سوف أرديك قتيلاً ، وهنا خاف خوفاً شديداً .
قال: بل قلتُ ذلك من أجل المزاح .
فقلت له: هذه المسائل لا مزاح فيها وتعرف إن سمرت جندية موجودة هنا لأداء الواجب وليس كما تدعي وإذا لم يعجبك الحال فلتعيدها إلى أهلها!!.. وقفلت راجعاً دون أن انتظر منه الإذن بالإنصراف، وبعد أن شيعته بنظرة حادة؛ ومن ذلك اليوم لم يعد يسأل عنها اطلاقاً.
وعندما حانت الفرصة تم تفكيكنا واحداً فواحداً بالذات خليتنا ووضع كل منا في جبل ، واستأثر بالمجموعة التي فيها سمرت ، وفي ذلك الصباح كم بكينا عند الوداع .
قالت لي: كل ذلك بدر منك.
قلت لها: (نعم) أنا لا أسامح على التفكير غير المسؤول.
تعرف هؤلاء الجنود أكثر حماقةً وتفكيرهم غير منطقي ويحاولون الادعاء بأنهم أكثر فهماً للواقع وهم غير ذلك ، ثم أردفت قائلة : مأساتنا هي أننا صدقنا و خُدِعْنا باسم الوطن والوطنية .
ثمّ أردفتُ قائلاً : انظري بدأ المراقبان في التململ لقد اطلنا السهر بهما ولقد تعبا ، علينا أن نفترق لقد شارف الليلُ على الانتهاء أحدهما وقف على قدميه ، حينها أطلقت ضحكة عالية وقهقهت !!
وذهبت إلى فراشي المتَمدَد على الأرض، واستلقيتُ عليه، وحاولت أن أعيد ما دار من حوار، بيننا.. كانت بريئة، تحفة من الجمال الفطري لوحة خطتها ريشة فنان عبقري، يعرف كيف يمازج الألوان، تركتها وقد سحبت الثوب ونامت نومًا عميقًا، داعبتُ النجوم قليلاً وبدأ النعاس يسري في عيوني ثم غفوت ولم أدري ما حقيقة الموقف الذي كنتَ فيه.
(5)
كانت تعيش عذابات الماضي والحاضر والمستقبل الغامض. عرفتُ أن سبب حزنها مزدوج ما تعانيه من رفاقها على أنها أنثى فقط؛ الكل يريد أن يستحوذ عليها وتكون ضمن حمايته، وتدور حول حلقته وفلكه . دون ان يكون هناك اعتبار على أنها جندية محاربة مقاتلة ، لها نفس الحقوق والواجبات الوظيفية في محورهم العسكري ، والجانب الآخر العدو الذي يقف على مرمى حجر من موقعها على الجبهة وما مصيرها إذا اشتعلت المنطقة وأصبحت في مرمى النيران تلك كانت هواجسها الكامنة وراء حزنها العميق .
وفي الليلة التالية ذهبتُ كالعادة إلى موقعها وجلستُ بالقرب منها، نظرت إليَّ في صمت عميق كأنها تقول لا تنكأ الجرح القديم وهنا استدركت الموقف وتجاوزت تلك الخطوة، وسردت لها حكاية أخري أكثر فكاهة وضحكت، وقالت من أين لك بكل هذه القصص؟
قلت لها: أنا شخص اهتم بما يدور من حولي أراقب كل شيء يحصل أمامي وأصور الأحداث خصوصًا الغبية منها لأنني أصور الشخصيات على النمط الكوميدي وأحللها تحليلا دقيقاً وأقف عندها طويلاً واقرأ أفكارهم وتصرفاتهم ، واستمر النقاش والحوار بــيـنـنا طويلاً .
قلت لها : الليل جاوز منـتصفه ونحن في الثــلث الأخير منه ، وهناك مَن كانا يسهران معنا يريدان أن يناما ولكنكِ تركتِ الشخصين ولم يغمض لهما جفن حتى هذه الساعة من الليل ولقد تعبا بالله اشفقي عليهما دعيني أذهب ، وهذا قد يجر علينا مساءلة قانونية عسكرية .
وهنا أخذت نفساً عميقاً وقالت : تريد أن تذهب أبقى معي قليلاً لم أشعر بالسعادة منذ عام أنا أقاومُ ذاتي كي لا أنزلق ورغباتهم الحيوانية ، وهنا شعرت بنبرة صوتها قد تغيرت
قلت لها: لا بد لك أن تكوني قوية، لنا لقاء غداً وسأكون بالقرب منك عليَّ الذهاب.
عندما ذهبتُ إلى فراشي كانت الساعة الثالثة صباحاً، بعد تلك الليلة تغيرت حياة راهيل تماماً، وفي الصباح حملت حقيبتها من الموقع التي كانت تقضي فيها نهارها مع رفيقتها وتركتها مع صديقها الذي يأتي ليقضي معها بقية يومه .
وبعد انتقالنا من الموقع القديم لموقع جديد ومنطقة أخرى انتقلت معنا في نفس العريشة التي خصصت لنا كمكان لإقامتنا. وعندما علم مسؤول الفصيلة بانتقالها معنا، أرسل أحد الجنود وطلب منا الانتقال لمكان آخر لأنهم محتاجين لتلك العريشة كمسؤولين. وهنا علمت بأنه يريد أن يرمي بنا في العراء تحت حرارة الشمس المحرقة.
وعند انتقالنا لهذا الموقع الجديد ، أنا وصديقي علي بذلنا مجهوداً كبيراً لبناء تلك العريشة، حتى يتسنى لنا المكوث فيها نهاراً .ومع ذلك تمَّ طردنا منها وبحثنا عن موقع آخر ليأوينا سويةً تحت شجرة جديدة نستظل بها من حرارة الجو الخانق .
وفي المساء بعد اكتمال التمام وانتهاء العشاء تم صدور الأوامر بأن نذهب إلى الدفاعات الأمامية ، واصطفينا وبعد ما حملنا مستلزمات القوة؛ وهنا رأيت راهيل خلفي تماماً وهي تحمل الكلاش والبطانية وزمزمية الماء ، وهي في كامل عتادها العسكري وزادتها الملابس العسكرية رونقاً وزينةً وجمالاً ، كانت مذهلة حقاً ، مما لفت انتباه الآخرين وتساءل الجمع أأنت اليوم ستذهبين إلى الدفاعات غير معقول هذا لم يحصل من قبل ماذا في الأمر أأنت جادة أم محض مناورة. .
كلهم صرخوا بصوت واحد راهيل ... ... !!!!!راهيل أصحيحٌ ما نراه اليوم هل نحن في واقع ٍحقيقي ّ أم محض خيالٌ. أأنت جادة، كانت صدمة بالنسبة لهم، نظرت إليهم دون أن تنبس بكلمة !!! وبعد برهة قالت من واجبي أن أذهب متى شئتُ وما في ذلك من شكٌ؟
وعندما وصلنا الموقع فرشت بالقرب مني ثم قالت : عندما يحين موعد دوريتي في الحراسة أيقظوني ثم نامت دون خوف أو ارتباك ، حينها شعرت كم هذا الانسان يحتاج إلى من يقويه ويعيد له الثقة بنفسه وكذلك يجد الاطمئنان ويثق فيمن حوله ، ليست الحياة كما نتصورها كلها سلبية قد تكون هناك ايجابيات لا نراها وحدنا إلا من خلال الآخرين هذا ما توصلت إليه راهيل.
( 6)
منذ تلك الليلة أصبحت راهيل ضمن أفراد مجموعتنا؛ معنا في كل دوريــة، أعادت الثقة إلى نفسها وكانت أكثر فرحاً من ذي قبل. ومنذ أن انضمت لنا أنا وعلي أصبحت لا تفارق موقعها نهاراً، وفي الليل لا تفارقني تذهب معي أينما ذهبت وتنام بالقرب مني، كل ذلك لما وجدته من صداقة تــنــبـني على المودة والاحترام وكنت في موضع ثقتها الذي لم تهتز يوماً، كانت هذه العلاقة مبنية على احترام الإنسان لذاته وشخصيته المتكاملة دون النزوع للقيم غير الأخلاقية مما فرض احترام الآخرين لها.
بعض فترة قضيناها في تلك المنطقة تم ترحيلنا إلى موقع آخر وأكثر قرباً من مناطق التماس مع العدو ومع ذلك لم تبتعد راهيل عني فأصبحت أكثر من رفيقة سلاح ... ولكن كان هناك من لا يحبذ هذه العلاقة التي نشأت بيننا لم تعجبه هذه التطورات في حياتها ، إنما ذهب به تفكيره بعيداً و تفكيره المريض ساقه إلى أن اعتقدُ أنً شيئاً ما يجري بيني وبينها ، كنتُ الاحظ غضبه الشديد ولكنه لم يستطع أن يقول لي شيئاً ومع ذلك لم أكترث للأمر كثيراً لأنني أعرف نواياه سلفاً وتفكيره الرجعي المتخلف .
عندما جئنا لهذا الموقع تغيرت مجموعتنا التي كنا فيه ، وذهب علي مع مجموعته وافترقنا وأصبح في مكانه شخصان آخران هما مسؤول الإمداد وشابٌ آخر.
و مسؤول الامداد كان رجلاً كبيراً في العمر وهو شخص شبه معاق ولذلك جعلوه في هذه الوظيفة غير القتالية وكنا ليلاً نجتمع وننام معاً وكل يحكي المواقف التي مرَّ بها ، وهنا شعرت راهيل بالارتياح بما يدور من نقاش وحوارات لقد كانت تعلق أحياناً فيما يدور بيننا ، ومن خلال تلك الحوارات عرفنا عنها الكثير عن حياتها وكيفية التحاقها بالخدمة وما كانت تطمح اليه ، ولكن كل ذلك انتهى بعد الاستدعاء (لمشروع التنمية الوهمية ) ثم وجدنا أنفسنا في أتون حرب لا يعرف أحداً متى ستنتهي الحرب وإلى متى نظل تحت رحمة هؤلاء الجنود .
مصيرنا كان على كف القدر، الغد عندنا مجهول مرتبطٌ بالمواقف العسكرية والسياسية والحربــية،
هذه المواقف كانت تؤرقنا ولكنها أصبحت جزءاً من حياتنا ولذلك لا نكترث بما هو آتٍ نعيش يومنا نضحك وننسى كل شيء تماماً.
وفي ليلةٍ من ليالي الشتاء الباردة قال رفيقنا الذي بيديه مفاتيح الامداد سوف آتِي لكم بسكر ونشربه ولعله يدفئنا قليلاً وقلنا له: لابأس نحن محتاجون لطاقةٍ قدتعيد إلينا نشاطنا وهنا في الدفاعات إن وجدت سكر اً كأنك وجدت كل ما تشتهيه الأنفس لأن السكر لا تجده إلا في كوب شايٍ وفي الفترة الصباحية، وانتظرنا شراب السكر بفارق الصبر ولكنها كانت كارثة كبيرة.
صاحبنا كانت لديه جركانة زيت طعام دون أن يغسلها سكب فيها الماء والسكر ثم بدأ يحركها يمنةً ويسرة ً حتى ذاب السكر كله وبعدها شرب هو الكوب دَفعة واحدة ثم ناول صديقي وهو كذلك تناول ماء السكر دَفعةً ولكنه أحس بشي غريب يطفح على الكوب ولكنه لم يعر للمسالة أية اهتمام وشربها دون التأكد ثم ناولني فشربتُ ولكنني أحسست بأن شيئاً يتحرك في فمي وشواربي ومسحتُ فمي وكنت في شك في أنّ هذا الماء فيه شيءٌ يتحرك.
ثم حان دور راهيل عندما قرَّبت الكوب إلى فمها أحست أنّ هناك شيءٌ في الكوب واسرعت واضاءت البطارية وجدته مليئاً بنمل السكر وطافحٌ كأنه (حب شاي) وعندها صرخت وقالت أنتم شربتوا النمل وإنّ بطونكم امتلأت بها كلنا تحسسنا البطون ولكن المسألة غدت في خبر كان ثم ضحكنا سويةً ضحكة واحدة وبدأنا نفسر ماذا يحصل لنا هل النمل مضرٌ وكيف نصبح غداً هل نصبح مرضى أم موتى وتضاربت الآراء.
كانت تضحك منا لحماقتنا من الموقف الذي حصل لنا، وحينها سكـــتنا برهة وقلنا لها غداً سوف نصبح أمواتاً كلنا ما عداكِ أنت لم تشربي معنا النمل وحينها تصبح أنتِ مسؤولة أمام الكتيبة باعتبارك متهمة بتسميمنا وقتلنا جميعاً. وحينها صدقت المقولة ثم أجهشت بالبكاء كم حاولنا ان نسكـــتــها ولكنها اخذت المسالة بجدية وتعرف أنّ القيادة لا تمرر مثل هذه المسائل بسهولة وبعد جهد كبير تمكنا من اسكاتها وشرحنا لها أنّ النمل ليس له تأثير وأن حرارة البطن تقضي على اي شيءٍ يدخلها وحينها اطمأنت ثم ضحكت ضحكة شديدة ونظرت إلينا واحداً فواحداً وبدأت تحسسنا قد يكون هناك ارتفاع في درجات الحرارة، وثم قالت: تصبحون على خير ... ونامت هانــئـة دون خوف مـن أننا لا نموت بالنمل الذي امتلأت بطوننا بها.
عندما استيقظت صباحاً أول شيء فعلته، أيقظتنا كلنا، حتى تطمئن علينا، لم يحصل شيء لنا، فقلنا لها اطمئني نحن أحياء وليس كما تتصورين، وعندها ذهبت لتناول الشاي وجلبت لنا معها الشاي والخبز وقالت اشربوا أيها المرضى سوف تتعافون مما أنتم فيه.
( 7)
كانت تلك حادثة مرت بسلام على كل أية حال، كلما نظرت إلينا انفجرت ضاحكة كانت مرحة جداً.
كل ما كان يزعجها مسؤول الفصيلة ورئيس المجموعة كثيراً ما يتم استدعائها دون علمي عندما نذهب للعمل خارج المنطقة للاحتطاب أو لقطع الأشجار لبناء الدفاعات. ولم تخبرني بكل ما يحدث لها إلا عندما وقفتُ في يوم ما في وجه رئيس المجموعة، في تلك اللحظة كنت أنا وهي _ بعد العشاء مباشرةً _ صاعدين إلى مواقع الدفاعات مع مجموعتنا.
قلتُ لها: سوف اتقدمك خذي معك الزمزمية والبطانيات سوف أكون في انتظارك في الموقع وأني سأحمل معي السلاح والفرش، عندما كنت صاعداً التلة وهي على بعد خطوات مني، اسمع صوتاً يناديها من الخلف، يقول لها توقفي.. ألم آمرك بعدم الذهاب؟.. هذا الصوت استوقفني، والتفت خلفي أراه صاعداً ويتحدث معها بشيءٍ من التهديد، ورجعت اليه فقلت له ماذا تريد منها أهناك شيءٌ ضروري ونظر إليَّ وقال: منذ متى كانت تخرج إلى الدفاعات؟!
فقلتُ له: ماذا تريد منها هي حرة فيما تفعله، أخبرني أهي جندية أم في الأمر شيءٌ آخر أخبرني؟ أم هي موجودة هنا لغير العسكرية تكلم؟
ماذا تريد منها أنت؟ وأنت ماذا تريد؟
وقف منفعلاً متردد اً حار به الدليل، كيف يتعامل معي بسلطته أم بإجبارها .بالرجوع ؟ .. غضبتُ غضباً شديد للموقف الذي بدر منه، ونزلتَ تحت إليه فقلتُ له: إياك أن تتصرف معها مرة أخرى بهذه الطريقة وإلاّ أفرغت فيك هذه الخزنة، تعلم إنني لا أتردد في ذلك، وكانت تشاهد الموقف بحذرٍ شديد وعلمت إنني غضبتُ غضباً شديداً، وأول مرة تراني بهذا الشكل من الجدية، وقلتُ لها بنبرة حادة أصعدي، سأرى كيف يمكنه ارجاعك عنوةً!! ثم التفت إليه فقلتُ له: عليك بالرجوع قبل أن اتخذ معك إجراءً آخر أترك الليلة تمر بسلام، هيا اسبقيني أريد أن أعرف مدى سلطته وهنا حمل نفسه وعاد ثم لحقتُ بها وقلتُ لها: هذا الدنيء إذا حاول معك مرة أخرى أن يتحدث في شيء لا يخص العسكرية أخبريني، سألقنه درساً لا ينساه عمره كله كيف تسكــتين له؟ هذا الشيء غير مقبول على الإطلاق لا تخافي منه أخبريني بكل شيء وبالتفصيل والآن نامي أنا على الدورية. وأخذتُ سلاحي وذهبتُ إلى الموقع المراد.
وفي الصباح عندما عدنا سألتها كيف يتعامل معك هؤلاء؟ قالت: دائماً يتحرشون بي، وتعلم كم كنتُ مقهورة من هذا الأمر، وكثيراً ما كنتُ أصطدم معهم هو ومسؤول الفصيلة وهذا ما جعلني في تلك الحالة التي رأيتني فيها أول مرة، ومجيئكم أنقذني من الورطة التي كنت فيها وخرجت عن طوري السابق وعدت لحياتي الطبيعية، كنت سأفقد عقلي لولا حضوركم لا أعرف كيف ينتهي بي الأمر؟
من اليوم ثقي تماماً لن يحصل لك شيئاً ما دمتُ في هذه الفصيلة وقُري عيناً، أنا أعرف كيف أتعامل مع القذارة، ومنذ تلك اللحظة بدأت تسرد لي عن حياتها، وعرفتُ الكثير عنها وأصبحت علاقتنا أكثرُ مودةً والفة ، وازدادت ثقتها بنفسها، أكثر من ذي قبل.
وبعد ليلتين بالضبط تركتها خلفي على أساس تلحق بي بعد أن تكمل استعداداتها، تعرف أنها امرأة ولها خصوصياتها ولذلك كنتُ دائماً أتقدمها، ثم تأتي بعدي بدقائق وحينئذٍ قد أكون أكملت الاستعدادات، من ترتيب الموقع الذي نريد النوم فيه وما إلى ذلك.
في تلك الليلة تأخرت كثيراً ولم تأتِ ساورني قلقٌ شديد وتلفتُ يمنةً ويسرة ولم أرها، صبرتُ عدة دقائق ولم تظهر البتة وهنا طار عقلي أنا في موقع الدفاعات وما بيدي حيلة وفوضتُ امري لله ومع ذلك انتابني هاجس الشك خصوصاً تجاه مسؤول المجموعة والفصيلة.
اليوم ماذا دبر لها من مكيدة أيتجرأ أن يمسها بشيءٍ ومع كل ذلك التهديد والوعيد هؤلاء قوم لا يأمن شرهم ودارت أسئلة كثيرة في عقلي دون جواب. ولحسن الحظ جاء فردٌ من المجموعة وقال لنا: أنتم يا أفراد هذه الخلية عودوا إلى الخلف نحن نغطي الليلة والأمر لا يتطلب الكثرة، وإذا استجد شيءٌ في الأمر نرسل لكم إشارة، وأنا بتلك الحالة مرَّت عليّ نصف ساعة من الزمن أو أكثر وحملت أمتعتي على وجه السرعة نزلت. وعندما وصلت المكان الذي ننام فيه ومجموعتي الصغيرة لم أجدها، أين أذهب أين أجدها كل الفصيلة تفرقت حول الدفاعات. وأنا محتار جداً، ماذا أفعل؟
ومرت عشر دقائق وأنا مسمرٌ في مكاني، وتعرف إنّ التحرك في منطقة عسكرية فيه خطورة غير محسوبـة، ومضى من الزمن ما يقارب الساعة وأنا في حالة قلق شديد ودارت في خاطري أفكار كثيرة وتساءلت أين ذهبت ؟ ماذا حلَّ بها ؟ وفي تلك اللحظة جاءتني وهي تبكي بمرارة شديدة ولم تستطيع التحدث معي لأنها كانت في وضع سيءٍ للغاية، واصابها مرض الشهيق، وهو مرض يصيب بنات الخدمة وهو عدم استطاعتهن في التحكم في الزفير والشهيق ويستمر معهن لعدة أيام قد تطول. وهو نتيجة الانفعالات الشديدة والغضب المُر.
وعندما وجدتها في تلك الحالة انتابتني نوبة من الغضب وحاولت أن أقلل من وقع الصدمة ولكنها استمرت في البكاء وحاولت أن استفهم ما جرى لها وتحدثت معي بصوت متقطع وحاولت أن تشرح لي أن مسؤول الفصيلة ومعه مسؤول المجموعة استدعوها إلى مكتبهما (غرفة تحت الأرض) وتحرشا بي وقالا لي إنك عاهرة وبنت عاهرة وتم شتمي بأقذع الشتائم وأنا لم أتحمل كل ذلك وهذا مما أوصلني لهذه الحالة من الغضب والهذيان.
قلتُ لها أهدئ لأنّك الآن تحتاجين لعلاج ومن الضروري أن تتعالجي من هذه الآثار الانفعالية وهذه الحالة تحتاج إلى الهدوء ثم نبحث الأمر غداً، وفوراً استدعيت طبيب الفصيلة حتى يعطيها بعض المسكنات أو يعطيها ماء وريد ولم يكن لديه أية مسكنات وقال سوف أعطيها (درب) أي ماء وريد.
وحاو ل أن يبحث عن الوريد ولم يستطع ، وساعدته على ذلك ولكنه غير متمرس وهذه أول مرة يحاول إعطاء حقنة وريد ، وسألته كم من الزمن لك وأنت تمارس هذه المهنة؟ قال لي: أخذت دورة اسعافات أولية قبل خمسة عشر يوماً وهذه أول حالة تمر بي، وهنا أدركتُ عدم خبرته وقلتُ له: أتركها سوف أتولى الأمر بنفسي وسوف أقوم بمعالجتها أذهب أنت ونام دعك من الأمر.
قد يسأل سائل ألا تعرف هذا الطبيب وقدراته من قبل؟ أقول لكم صراحةً أنّ الفصيلة كل يوم تتغير وتتبدل ولذلك لا نعرف أشخاصاً كثر، هم يأتون ويذهبون ونحن عبارة عن بيادق شطرنج يتم تحريكنا وفق اللعبة ولذلك لا نسأل عمّا يدور حولنا يتم تحريكنا وفق مقتضيات القادة العسكريين ولحسابات لكيلا يكون هناك تمرد داخل الجيش للأوضاع السيئة التي نعشها والظروف القاسية التي نمر بها.
أذكر مرّة في اجتماع الأفراد ناقشتُ هذه المسألة والتغيرات التي تتم دون دراسة ومن المفترض أن تكون الفصيلة مستقرة ومتجانسة حتى تؤدي المهام بصورة جيدة لأن معرفة قدرات البعض يعالج الخلل الموجود ويعطي العمل صورة مثلى في الأداء ولكن المسألة كانت لها أبعاداً أخرى غير التي نحن بصددها هناك. حسابات عسكرية وسياسية أي ألاّ يحصل أي نوع من التقارب والنقاش وإبداء الرأي أو أيّ شيء من هذا القبيل لانّ ذلك يمثل تهديداً مباشراً للسلطة الحاكمة.
هذا الرأي جلب لي مشاكل فيما بعد، وتم استدعائي من قبل قائد الكتيبة وناقش معي ما جرى في الاجتماع ومن ذاك اليوم عرفت أنّ كل ما يناقش ضمن المجموعة يرفع للجهات العليا لتتخذ إجراءات ضد الأشخاص المستهدفين ومعرفة نواياهم ومن الذي قد يمثل خطراً بآرائه وأفكاره حتى يتمُّ وأده في وقت مبكر.
ماذا عساي أن أفعل؟ وهي في حالة سيئة تماماً حينها قلتُ لنفسي أولاً أحاول اعادة التوازن في التنفس وقطع هذا الشهيق غير المتوازن واعادتها لوضعها الطبيعي ومن ثمة معالجة أسباب الغضب وآثاره الجانبية وذهبتُ وأخذتُ سكراً وماءً وقمت بخلطهما ثم قلتُ لها: أريد منك أن تفعلي ما أقوله لك حتى استعيد إليك التنفس الطبيعي اريد منك أن تشربي هذا الماء دون تنفس عدة مرات قد يتوقف هذا الشهيق المتواتر بصورة غير طبيعية حاولت معها عدت مرات وتوقفت المشكلة الصحية وعاد تنفسها إلى وضعه الطبيعي وانقطع الشهيق ، وتمّت معالجتها ، ونظرت إليّ ومسحت ما تبقى من الدموع ، وأخذت نفساً عميقاً وقالت : أشكرك على ما فعلته معي .
فقلت لها: هذا من واجبي أن أقف معك وإن تطلب الأمر لفعلت أكثر من ذلك والآن عليك أن تستريحي وتأخذي قسطاً من الراحة لأنك متعبة جداً هيا أخلدي إلى النوم.
ثمَّ استلقت على الفراش وكأنها طفلةٌ صغيرة تحتاج إلى من يرعاها، وأخذتُ الأغطية ووضعتها على جسدها المنهك المتهالك من التعب ولففتها جيداً وطبطبتُ على كتفها كي لتنام وما زالت الدمعات تتقطر من عينيها ومسحتها ثم رويداً فرويدا سرى النوم في جسدها المتعب من القهر وغفت وانسدلت الأجفان على حدقاتها ثمّ نامت وهي مطمئنة لا شيء قد يـزعجها مادام هناك شخص يهتم لأمرها.
وغالباً نستيقظ مبكرين، لتناول الإفطار وشاي الصباح، وبعدها يتم التمام وتوزيع المجموعات على العمل المراد القيام به، وفي ذلك الصباح تركتها وهي ما زالت نائمة لعلها كانت تعبة جداً من الذي حصل لها ليلة البارحة.
وفي التمام قيل لنا علينا الذهاب إلى الغابة لجلب مزيداّ من الأشجار لتقوية الدفاعات وذهبنا واقتطعنا الأشجار وعند عودتنا ونحن على مشارف المدخل رأيت مسؤول المجموعة يقودها خارج الفصيلة ومتجها بها نحو الغرب من مكان تواجدنا وهنا تركت ما كنت أحمله على كتفي ولحقت به وأوقفته، وسألته إلى أين أنت ذاهبٌ بها؟ قال لي: إلى الكتيبة.
ولماذا؟
فرد: لعملٍ مطلوب منها.
فقلتُ له ألا يكفيك ما فعلته بها البارحة! ونظر إليَّ ولم يردَّ على كلامي، وكانت عيناي تتطاير شررًا كنت احتاج لأي سبب حتى أقوم بضربه ولكنه يعرفني تماماً قبل هذه المرة أوقفته عند حده وكان حذراً في التعامل معي لأنني لا أغفر له شيئاً وهويتحاشاني قدر الإمكان.. تلك الليلة كسرت فيها القوانين العسكرية التي تحكم ما بين الرئيس والمرؤوس ومنعته فيها عن ارجاعها إلى الثكنات.. أمرتها أن تصعد إلى الدفاعات.
ونظرتُ إليها وقلتُ لا تتأخري وأنا في انتظارك. وأنت عندما تعود سوف يكون هناك أمرٌ آخر اذهب.
وذهبا، وانتظرت اليوم بطوله لم تعد وشارف اليوم على الانتهاء، ومالت الشمس إلى الغروب، وأنا في وضعٍ يحسد عليه من التوتر والقلق، والغضب وما لي حيلة ماذا أفعل وأنا مجرد جندي لا سلطة لي فيها ولكن
كل ما أملكه هو أن أسأل اين تقع الكتيبة في هذه الجبال الوعرة المبعثرة. لا أحد يعرف أين موقعها، هناك شكوك في النوايا وقد تؤخذ المسألة بتفسيرات أخرى لأننا على خط التماس مع العدو وقد تجلب لي مشاكل وأنا في غنى عنها وما الحل؟
أسئلة كثيرة تدور في رأسي وقد أتعرض لمساءلة كل شيء وارد لانّ المسألة تجاوزت خطوطهم الحمراء والتدخل في شؤون عملهم، كانت تلك الخطوة إبعادها عني تماماً، لأنّ وجودها معي يمثل لهم تحدي وهذا يضعف من الهيبة الموجودة بين الرئيس ومرؤوسيه، لأنني خرقت كل الأعراف العسكرية.
وقد أوغل الليلُ وهنا تذكرت قول امرئ القيس:
وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلتُ له لما تمـــطى بــصلبــه وأردف أعجازاً وناء بكلكل
ألا أيها الليلُ الطويل ألا انجلي بصبحٍ ما الإصباحُ فيك بـأمثل
فيا لك من ليلٍ كأنّ نجومـ ـــه بكل مغار الفتل شدت بذبل
كانت أطول ليلة عشتها في حياتي، ولم أنم تلك الليلة، مع اشراقات الصباح خرجتُ باحثاً عنها في تلك الأودية والجبال ولم أعثر على الكتيبة ورجعتُ خاوي الوفاض، وحاولت أن أسأل أين توجد الكتيبة؟ لا أحد يعرف بالضبط مكان الكتيبة.
(10)
وهنا اقتنعتُ تماماً تم الفصل بيننا ولا أحد يجرؤ التحدث عنها والكل صامت ، وهنا قررتُ أن أترك كلَّ شيء ، وكنتُ أعاني من قرحة الاثني عشر ، و ازداد الألم وبدأ ينزف دماً وهنا ذهبتُ لمسؤول الفصيلة لكي يستخرج لي أرنيك طبابة ، ولكنه رفض وألحّ أنّ أوراق الطبابة ممنوعة في هذه الفترة ، وهنا انتابني غضبٌ شديد ، فقلتُ له : أنا هنا أتيتُ بمحض إرادتي ولا أحد يمنعني من حقوقي الأساسية وهذا حقٌ مشروع في أن أتعالج ولذلك ليس لك الحق في أن تمنعني وتتعامل معي كأسير حرب وإذا لم تعطني ورقة الطبابة الفاصل بيننا هو هذا السلاح سوف أفرغ كل الرصاصات في جسدك .
وهنا أخذ المسألة بجدية وقال لي: اذهب ونادي طبيب الفصيلة.
فقلت له: تستدعيه أنت، وكانت عيناي محمرتان والغضب بادئ على وجهي، قام ببطء وناداه وقال له: استخرج له أرونيك مرضي لطبيب الكتيبة. وهنا همهم الطبيب بالرفض ونظرتُ إليه فقلتُ له: ألا تعجبك الأوامر!
قال: لا
فقلتُ له: ماذا تنتظر؟
ثم أخرج ورق وقلم وكتب رسالة إلى طبيب الكتيبة مرفقة بأرونيك مرضي وحمَّلني إياها وأخذتُ الورقة ووضعتُها في جيبي انتظرتُ سيارة تقلني إلى الكتيبة وهنا أدركتُ أنّ الكتيبة بعيدة جداً من موقعنا الذي نتمركز فيه. وإنّ رحلتي في البحث عنها كانت عبثية دون جدوى. وتمنيت أن التقي بها هناك وأعرف ماذا حصل لها. وعند المغرب وصلت الكتيبة ولكنني لم أجدها وهنا فقدتُ الأمل في البحث عنها وسألت الموجودون هناك ولا أحد يخبرني أين هي؟ وازداد الألم في معدتي وألمٌ آخر في القلب كانت راهيل تمثل الوطن بكل تفاصيله في تلك الأحراش والجبال والوديان وعطر البارود، وفي غفلة من الزمن اختفت راهيل وسكنت الحياة ولم تعد موجودة وأظلم كل شيء أمام ناظريَّ، وفقدت معنى الحياة والتضحية ولا معنى لأن تقاتل، ومن أجل من؟ نحن نعامل كغرباء، لا حقوق متساوية، ولا اعتبار للإنسانية، ولا شيئاً تتمسك به لأن يكون حافزاً تعيش وتموت من أجله، كل ذلك كان هراء. وفي منتصف الليل قررت أن أذهب بعيداً وأترك خلفي كل الذكريات، وأتحرر من كل تلك القيود، وأبحث عن حياةٍ بديلة بعيداً عن تلك المآسي، لعلها تداوي جراح السنين التي ضاعت من سنيِّ عمري لأجل مستقبل مشرق في وطنٍ بديل. كانت لوحة رسمت على جدار الخنادق برائحة البارود ولـــم تكتمل ... ذهبت راهيل ولــم تــعد.
* قاص من إرتريا.
** القصة الفائزة بتقديرية جائزة محمد سعيد ناود للقصة القصيرة، الدورة السابعة 2021.
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com