د. سيد شعبان - الإبداع والنقد

ثمة تلازم بين الجانبين، فالكاتب يترك لقلمه العنان ويجرب أشكالا وأنماطا من الممارسة، يكتب رواية أو ينشد شعرا، يرسم صورة مركبة، يجمح به الخيال أو يمسك به الواقع، كل هذا وارد منه، إنه يغدو منطلقا يشعر بأنه يجاور الجوزاء، لا ضير عليه ولا حجر.
حين يتابعه الناقد ويلازمه بيان سبيل أو كشف غامض أو رد مصطلح؛ لا يجاريه سبق جواد أو يواطئه عدة ما شط منه أو استهواه قلمه؛ يكون قد أحسن إليه، فالنقد مع الأدب صديق وفي وصاحب جلي.
أما من يظن من الكتاب أن الناقد له متربص أو حاقد فقد أبعد الشقة وقطع صلة ما يحق له أن يفعلها، سبمضي في طريق تتقاذفه الريح وتهوي به في قرارة جب ملؤه الحيات فتلدغ منه إصبعا نزقا وتفترس قلما طائشا.
أما إن كانت الأخرى؛ نقدا متعاليا، وتنظيرا فجا، صار أشبه بوصاية منكرة، فالنقد ممارسة رحيمة وأداة تشذيب لعوار النص.
إن من يتردون في مباءة العجمة أساء إليهم تطلع وتعجل، وسبق نشر لا يراعي أن الفن له أصول محكمة وأدوات ثابتة قارة، لو خلت منه صار أشبه بالهذيان.
ولعل ما يطالعه الناس في هذه الأيام من كتابات أو ما يشاهدونه من فنون وقد امتلأ بالغثاء- إلا ما ندر- يعود إلى فوضى عامة توشك أن تميت الذائقة وتخمد الحس وتقتل الشعور.
قصرت الجامعات؛ بأن حبست نفسها على الدراسات المحكمة، وترفعت أن تعلم الناشئة، أو أن تقدم النهج الواضح، وهل هناك أقسى من كتاب- يظنون - أن اللغة عائق؛ فيتبعون من نعق ب" تفجير اللغة وتفكيكها- و الحداثة وما بعد الحداثة فصارت الكتابة هذيان مخمور؟
حين نبدع سردا تكون اللغة هي الأداة والفكر معا، لا يستهوينا اللفظ ولا تستبد بنا الفكرة، مقاربة دقيقة بينهما والتماس لخيط دقيق يربطهما.
نعم غاب إبداع كثير والأشد ألما انزواء النقد المبدع، هل هي الهوة التي تردينا فيها جميعا، لا يسمع بعضنا ببعض؟
نكاد نهلك حيث الموجة عاتية والسفينة خرقها صغار في كل شيء.
إن أول الشفاء تشخيص، وخير دواء أن نقر بأننا في مهتلك يدفع بنا إلى الفناء، لا نقدر الإبداع ولا نسمع للنقد، معاذ الله أن أدعو إلى وصاية من ناقد على مبدع إلا بالقدر الذي يحدد به معالم الجمال وآداب الاختلاف؛ وإلا كان حجرا وإعناتا.
إنه النقد الذي يعيدك إلى زمن الرواد في تراثنا العربي، أو المعاصرين ممن لهم اليد الطولى والمكانة السامية.
وحين يمارس المبدع النقد تشعر أنه يميس اختيالا ويزهو عجبا؛ فقد جمع الحسنيين، وبلغ شأوا بعيدا، إنه يعيد للأدب ماء وجهه ويعبر به إلى البقعة المباركة من أرض مخضرة.
كنت قديما- ولعلي كنت أهذى- أرى الناقد متجهم الوجه تسقط نظارته إلى أرنبة أنفه، قلمه مبضع جراح، يخط باللون الأحمر مخطئا كل كلمة معجما أي تركيب، فتحاشيت هذا الجانب، بل وامتنعت أن أكتب سردا.
فلما بلغ بي السعي سن الرشد آليت ألا أدع أحدا يصدني أو يحجز بيني وبين الأدب؛ إلا تقوى الله.
ولعل فسحة الصلة والود بين أهل اللغة من مبدعين ونقاد كفيلة بأن تؤتي ثمارها الفنية، تنطلق المواهب وتتلاقح العقول، نحن ندعو إلى إبداع مواز يردفه النقد بآلياته التي لا تحد؛ شرط ألا تكون تقليدا لغرب أو فناء في شرق.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى