تعدّدتْ اهتمامات د. عبدالغفارمكاوى ما بين كتابة القصة القصيرة والمسرح وكتب أكثرمن كتاب فى مجال الفكرمثل (مدرسة الحكمة) ، (نداء الحقيقة) ، (لمَ الفلسفة) وكان له دور بارز فى مجال الترجمة فترجم (ملحمة جلجامش) عن اللغة الألمانية ، (الرسالة السابعة لأفلاطون) ، (دعوة للفلسفة) إلخ وساهم فى تحريرمجلتىْ المجلة والفكرالمعاصر.
فإذا أضفنا إلى هذا التعدد الثرى فى مجال الإبداع الأدبى والفكر، شخصيته الآسرة التى يُمكن تلخيص أهم سماتها فى الترفع عن جمع الثروات وأنّ هذا الترفع هوالذى حماه من لعنة الاقتراب من أية سلطة ثقافية أوسياسية، فكتب ما يؤمن به. ولعلّ إيمانه بالحرية هوما جعله يكتب كتابه (جذورالاستبداد) الذى ربط فيه بين الإنتاج الأدبى فى العصورالقديمة، وأنظمة الحكم الاستبدادية وشخصيات الملاحم والأساطير. وكذا ما كتبه فى مقدمة ترجمته لملحمة جلجامش عن تلك الشخصية الأسطورية ((تراكم حول شخصية جلجامش مأثورضخم من القصص العجيبة عن طغيانه واستبداده بشعبه وصداقته النادرة لوحش البرية (أنكينو) ودأب جلجامش على خطف البنات من آبائهن والدخول عليهن قبل أزواجهن)) وأضاف ((إننى أتصورجلجامش فى صورة النموذج الأول الكامن فى أغواراللاوعى الجمعى للمستبد الشرقى بوجه عام والعربى السامى بوجه أخص. تغلغل هذا النموذج فى أقدم طبقات الوعى كالعنكبوت الذى يلتف حول نواته منذ أقدم العصور. استقرفيه وأقام عرشه المُرعب وراح يُجدّده بمختلف وسائل القمع التى تجدّدتْ أشكالها ونظمها عبرالعصور)) ، وللتأكيد على ذلك نجد أنّ مؤلف الملحمة كتب فى اللوح الأول ((جلجامش لايترك الابن لأبيه. يقهرالشعب بالليل وفى النهار. لايترك العذراء لحبيبها ولازوجة المحارب)) وفى اللوح الثانى كتب ((جلجامش هوأول من يدخل على العروس فيُضاجعها ويدخل عليها قبل أنْ يدخل عليها زوجها)) وكان تعليق د. مكاوى ((المُلاحظ أنّ جلجامش كان يستأثربحق الليلة الأولى الذى كان يُخوّل بعض الحكام والملوك فى العصورالقديمة والوسيطة حق الدخول على العروس قبل أنْ يدخل عليها زوجها)) ولأنّ أية منظومة استبدادية تعتمد على البطل الفرد مُستبعدة الشعب أى تتبنى المطلق بكل فساده ضد النسبى رغم مُميزاته، لذا نص كاتب الأسطورة على أنّ ((جلجامش أروع الرجال وأقوى الأبطال)) ولأنه مولع بالحرب وقتل الأبرياء لذلك قال عندما اقتربتْ نهايته ((لن أموت ميتة رجل يسقط فى ساحة القتال. لقد فزعتُ من الحرب ولذلك أموت عاطلا من المجد. مبارك ياصديقى من يسقط فى المعركة. أما أنا فأموت يُلطخنى العار)) .
فإذا انتقلنا من الأدب المكتوب المُتخيّل إلى الواقع نجد الملك آشوربانيبال يغزومصروينهب ثرواتها وخرّب سوسه عاصمة مملكة عيلام ((وجسّد التناقض الصارخ بين حرص العالم المثقف على جمع تراث جدوده وقسوة الوحش الفظيع على أعدائه، إذْ كان يتسلى بتقطيع أطرافهم وسمل عيونهم أثناء استمتاعه بالأكل والرقص والغناء)) أما عن الربط بين الملحمة وما حدث على أرض الواقع فقد أشارمؤلف الملحمة إلى الغلمان الذين يتنافسون لجلب الفرح والمُتعة. وفى الهامش ذكرد. مكاوى ((ربما تكون هذه إشارة إلى طقوس اللواط المُقدّس وإلى اللواطيين الذين كانت تعج بهم أطراف معبد عشتار، كما ذكرالمفكرالسورى فراس السواح)) وأما عن الإشارة فى الملحمة إلى (البغايا المٌقدّسات) فإنّ فراس السواح فسّرها على أنهن (كاهنات الحب) .
أعتقد أنّ قراءة د. مكاوى لأدب العصورالقديمة هى التى دفعته لتأليف كتابه (جذورالاستبداد- عالم المعرفة الكويتى- ديسمبر94) وذكرفى مقدمته ((إنّ جنون القتل والتدميرإلخ كان شيئا عامًا ومألوفا فى معظم القبائل والأقوام فى تلك العصور)) واستخلص نتيجة مهمة لم يتوقف أمامها كثيرون وهى أنّ هذا البطش والخراب كان مؤلف الملاحم يُفسّرها تفسيرًا ميتافيزيقيًا مُتجاهلا أية أسباب واقعية مثال ذلك أنّ مُبدعى الأدب ((فى نواحهم على سقوط مدنهم لم يُشيروا إشارة واحدة إلى أنّ هذا السقوط من فعل الإنسان أوأنه كان نتيجة أسباب تاريخية أوسبب واحد على أقل تقدير، لأنّ الجوهرالعاتى كان عندهم (أنليل) إله العواصف الباطشة. ولم تكن جيوش العدوإلاّ الثوب الخارجى الذى ارتداه الجوهرليُحقق نفسه. فالجيوش الغازية هى ضرب من العاصفة. عاصفة الإله أنليل الذى نفذ حكمًا على (أور) وأهلها نطق به مجمع الآلهة)) ، وبعد أنْ نقل د. مكاوى النص كاملا كتب ((هكذا تناولتْ هذه النصوص وغيرها أحداثا تاريخية وقعتْ فى الماضى ولكنها تحدثتْ عن الآلهة أكثرمن الحدث التاريخى ذاته. وتجاهلتْ الأسباب البشرية الكامنة وراءها لتـُبرزأفعال الآلهة.. ويبدوأنّ أزمة الحكم الفردى وجبروت التسلط المطلق لم تكن فى أحد جوانبها إلاّ انعكاسًا لأزمة الحكم الإلهى نفسه وتضاؤل حظ الآلهة فى مجمعهم من الديمقراطية. فقد زالتْ المساواة التى تمتعوا بها بعد اضطرارهم إلى تقويض (مردوخ) القوى الشاب بالدفاع عنهم وحمايتهم من قوى الظلم والعماء ثم تتويجهم له بعد انتصاره مما ترتب عليه انفراده بالسيطرة المطلقة وتحوله من بعد إلى الإله البابلى الأكبرأوالإله القومى وانفراد الملك البابلى تبعًا لذلك بالحكم واستغنائه عن أهل الشورى . وتكررالأمرنفسه فى فترة ازدهارالدولة الآشورية وانفراد إلهها آشوربالسيطرة على الآلهة المحليين.. وبناءً على ذلك لمسنا جذورالشجرة اللعينة التى لم تزل فى الشرق نبلو المر من ثمرها منذ آلاف السنين: قهرالحاكم للمحكوم وخوف المحكوم من الحاكم ، وطبَعَ ذلك فى روح الإنسان فى أرض النهريْن وعلى مدارتاريخها المُدوّن لما يقرب من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد)) . وأنّ هذه المنظومة الاجتماعية لم تسمح بالاستقرار والتطورالمُطرد المُتجانس بالقياس إلى حضارة وادى النيل، لأنّ سكان الرافديْن (عكس المصريين القدماء) لم يكن لديهم تصور واضح عن العالم الآخر ولم يتوقعوا جزاءً ولاثوابًا من رحلتهم إلى العالم الأسفل. والأساطيرالسومرية والبابلية عن هذا العالم تصوره فى صورة بشعة. وذكرمؤلف الملحمة أنّ ما يحبه المرء يُثيرسخط الإله. ومايبدو لقلبه خليقا بالاحتقارمُحبّب للإله. وارتبط بهذا التصورللإله نفى أية مسئولية بشرية عن أعمالهم أى نفى حريتهم وإرادتهم إذْ ذكرمؤلف الملحمة ((الجنس البشرى أصم ولايعرف شيئا.. من يستمسك بإلهه تمح ذنوبه. ومن لا إله له تكثرمظالمه)) فكتب د. مكاوى ((الأخطرمن هذا أنّ الإنسان المُعذب وصديقه الحكيم يتفقان فى الرأى على أنّ الآلهة جلبتْ طبيعة البشرعلى الكذب والظلم ولاشك أنّ هذه أغرب الأفكارالتى انحدرتْ إلينا من وادى الرافديْن)) إذْ ورد فى الملحمة ((إنّ بلادى متوحشة وعدوانية)) فإذا كان مؤلف الملحمة واحد من الشعب وأنّ ما صاغه ترجمة للأفكارالسائدة فى مجتمعه، نكون إزاء نوع من الأدب مزج الميتافيزيقا بالواقع وأنّ الحكام ليسوا مسئولين عن الظلم الاجتماعى لأنها إرادة الإله الذى يُساند الطاغى فى طغيانه فذكرد. مكاوى لقد ((أصبح الإله شريكا فى الظلم)) ولعلّ هذا ما جعل الشاعرالسياب أنْ يكتب ((لك الحمد أنّ الرزايا عطاء/ وأنّ المصيبات بعضُ الكرم/ لك الحمد مهما استطال البلاء/ ومهما استبد الألم)) فذكرد. مكاوى إن السياب صوّرالقهرأثناء حكم عبدالكريم قاسم باستدعاء شخصيات تراثية. ومع أنّ مؤلف الملحمة مزج بين الميتافيزيقى والواقعى يعود ليؤكد على منظومة الظلم فيقول ((أهلى قد أذلهم الاستعباد)) ولكنه ينفى أى دورللحاكم الطاغى عندما يقول ((سبّحتُ بحمد الملك كما أسبّح بحمد الإله. وعلمتُ الناس توقيرالقصر)) وفى العمود الثالث من اللوح الآشوى ((الإله يسعى للشر)) .
فى مجموعة الأدب الآشورى تكريس لمنظومة العبودية وفق ثنائية سيد/ عبد منها ((إنّ شعبًا بغيرملك مثل غنم بغير راع. إنّ كلمة الملك مثل الإله شمس وأمره لايُضارع وقوله لايمكن تغييره. أمرالقصرقاطع مثل أمرالإله)) فى هذا الأدب نجد منظومة العبودية والبُعد الميتافيزيقى المُتمثل فى الاعتماد على الإله لحل مشاكل الواقع فيقول((ليت الإله يلقى نظرة على المدينة التى قدرتْ عليها اللعنة)) ومثل كل ميتافيزيقا فإنّ مؤلف النص الآشورى يُضفى على الإله صفات الغموض وأنّ فهمه والتعرف عليه فوق مستوى عقل البشرفيقول ((إن مشيئة الإله لايُمكن أنْ تـُفهم وطريق الإله لايُمكن أنْ يُعرف. وأى شىء عن الإله يسعتصى على الكشف)) هذا الموقف الميتافيزيقى الذى يستبعد أية قدرات للبشر، لصيق بتكريس آلية العبودية فذكرالمؤلف الآشورى ((الرجل ظل الإله. والعبد ظل الرجل (الحر) لكن الملك مرآة الإله)).
وإذا كان الأدب السومرى والبابلى والآشورى مزج بين الميتافيزيقا والواقع ورسّخ لحكم الطغاة عندما أسند كل ظواهرالظلم الاجتماعى للإله واستبعد دورالبشرلمقاومة الظلم، فإنّ قانون حمورابى جاء ليؤكد على التفرقة بين المواطنين أبناء الوطن الواحد فى تشريعه الذى نصّ فيه على أنّ العقوبة على الجريمة الواحدة تختلف حسب الموقع الطبقى والاجتماعى للمتهم. بمعنى أنْ تكون العقوبة أشد (الإعدام مثلا) على الفلاح بينما هى (على ذات الجريمة) الغرامة المالية على الوزير. وهذا ماجعل عالم المصريات بريستد يكتب أنّ الأساس الخلقى للعدالة كان منعدمًا فى بابل ((حتى أنّ قانون حمورابى كان يقضى فى العدالة حسب المركز الاجتماعى للمذنب. أما الانعدام التام للفوارق الاجتماعية أمام القانون الذى هومن أرقى مظاهرالحضارة المصرية، فلم يكن معروفا فى بابل ونتيجة لذلك فإنّ المبادىء الأخلاقية فى بابل لم تساهم بشىء مطلقا فى الإرث الأخلاقى الذى ورثه العالم الغربى)) وما نصّ عليه قانون حمورابى فى التفرقة بين المواطنين فعل مثله الحيثيون، وبالتالى انفردتْ مصربتأسيس قاعدة العدالة. كما أنّ قانون حمورابى لم يقتصرعلى التفرقة بين المواطنين أمام القانون وإنما زاد على ذلك بأنْ رسّخ لآلية أكثربشاعة ((العين بالعين..إلخ)) وهى الآلية التى نصّ عليها فى قانونه المكوّن من 282مادة فكتب د. مكاوى ((معاملة العوام مختلفة كل الاختلاف عن معاملة (الأحرار) وأما معاملة (العبيد) فهى أسوأ)) والدليل ما جاء فى قانون حمورابى الذى نصّ على ((إذا فقأ سيد عين آخر حرتفقأ عينه. وإذا فقأ رجل من العامة فعليه أنْ يدفع مينا (= كيلوجرام) من الفضة)) .
ولأنّ د. مكاوى فى كل إنتاجه الأدبى والفكرى كان همه الأساسى ترسيخ مبادىء النبل التى يتأسّس عليها المجتمع الإنسانى تلك المبادىء التى تتمحورحول هدفين: الحرية الفردية بكل تجلياتها وتطبيق قواعد العدالة الاجتماعية من خلال منظومة المساواة التامة بين أبناء الوطن الواحد بغض النظرعن دياناتهم ومذاهبهم . ود. مكاوى وهويُعيد قراءة الأدب السومرى كانت عيناه وكان وجدانه على شواطىء المستقبل لكل البشر، لهذا كان شأنه شأن المفكرين الكبارالذين تركوا بصماتهم المهمة فى تاريخ الفكرالإنسانى.
عن الحوار المتمدن
فإذا أضفنا إلى هذا التعدد الثرى فى مجال الإبداع الأدبى والفكر، شخصيته الآسرة التى يُمكن تلخيص أهم سماتها فى الترفع عن جمع الثروات وأنّ هذا الترفع هوالذى حماه من لعنة الاقتراب من أية سلطة ثقافية أوسياسية، فكتب ما يؤمن به. ولعلّ إيمانه بالحرية هوما جعله يكتب كتابه (جذورالاستبداد) الذى ربط فيه بين الإنتاج الأدبى فى العصورالقديمة، وأنظمة الحكم الاستبدادية وشخصيات الملاحم والأساطير. وكذا ما كتبه فى مقدمة ترجمته لملحمة جلجامش عن تلك الشخصية الأسطورية ((تراكم حول شخصية جلجامش مأثورضخم من القصص العجيبة عن طغيانه واستبداده بشعبه وصداقته النادرة لوحش البرية (أنكينو) ودأب جلجامش على خطف البنات من آبائهن والدخول عليهن قبل أزواجهن)) وأضاف ((إننى أتصورجلجامش فى صورة النموذج الأول الكامن فى أغواراللاوعى الجمعى للمستبد الشرقى بوجه عام والعربى السامى بوجه أخص. تغلغل هذا النموذج فى أقدم طبقات الوعى كالعنكبوت الذى يلتف حول نواته منذ أقدم العصور. استقرفيه وأقام عرشه المُرعب وراح يُجدّده بمختلف وسائل القمع التى تجدّدتْ أشكالها ونظمها عبرالعصور)) ، وللتأكيد على ذلك نجد أنّ مؤلف الملحمة كتب فى اللوح الأول ((جلجامش لايترك الابن لأبيه. يقهرالشعب بالليل وفى النهار. لايترك العذراء لحبيبها ولازوجة المحارب)) وفى اللوح الثانى كتب ((جلجامش هوأول من يدخل على العروس فيُضاجعها ويدخل عليها قبل أنْ يدخل عليها زوجها)) وكان تعليق د. مكاوى ((المُلاحظ أنّ جلجامش كان يستأثربحق الليلة الأولى الذى كان يُخوّل بعض الحكام والملوك فى العصورالقديمة والوسيطة حق الدخول على العروس قبل أنْ يدخل عليها زوجها)) ولأنّ أية منظومة استبدادية تعتمد على البطل الفرد مُستبعدة الشعب أى تتبنى المطلق بكل فساده ضد النسبى رغم مُميزاته، لذا نص كاتب الأسطورة على أنّ ((جلجامش أروع الرجال وأقوى الأبطال)) ولأنه مولع بالحرب وقتل الأبرياء لذلك قال عندما اقتربتْ نهايته ((لن أموت ميتة رجل يسقط فى ساحة القتال. لقد فزعتُ من الحرب ولذلك أموت عاطلا من المجد. مبارك ياصديقى من يسقط فى المعركة. أما أنا فأموت يُلطخنى العار)) .
فإذا انتقلنا من الأدب المكتوب المُتخيّل إلى الواقع نجد الملك آشوربانيبال يغزومصروينهب ثرواتها وخرّب سوسه عاصمة مملكة عيلام ((وجسّد التناقض الصارخ بين حرص العالم المثقف على جمع تراث جدوده وقسوة الوحش الفظيع على أعدائه، إذْ كان يتسلى بتقطيع أطرافهم وسمل عيونهم أثناء استمتاعه بالأكل والرقص والغناء)) أما عن الربط بين الملحمة وما حدث على أرض الواقع فقد أشارمؤلف الملحمة إلى الغلمان الذين يتنافسون لجلب الفرح والمُتعة. وفى الهامش ذكرد. مكاوى ((ربما تكون هذه إشارة إلى طقوس اللواط المُقدّس وإلى اللواطيين الذين كانت تعج بهم أطراف معبد عشتار، كما ذكرالمفكرالسورى فراس السواح)) وأما عن الإشارة فى الملحمة إلى (البغايا المٌقدّسات) فإنّ فراس السواح فسّرها على أنهن (كاهنات الحب) .
أعتقد أنّ قراءة د. مكاوى لأدب العصورالقديمة هى التى دفعته لتأليف كتابه (جذورالاستبداد- عالم المعرفة الكويتى- ديسمبر94) وذكرفى مقدمته ((إنّ جنون القتل والتدميرإلخ كان شيئا عامًا ومألوفا فى معظم القبائل والأقوام فى تلك العصور)) واستخلص نتيجة مهمة لم يتوقف أمامها كثيرون وهى أنّ هذا البطش والخراب كان مؤلف الملاحم يُفسّرها تفسيرًا ميتافيزيقيًا مُتجاهلا أية أسباب واقعية مثال ذلك أنّ مُبدعى الأدب ((فى نواحهم على سقوط مدنهم لم يُشيروا إشارة واحدة إلى أنّ هذا السقوط من فعل الإنسان أوأنه كان نتيجة أسباب تاريخية أوسبب واحد على أقل تقدير، لأنّ الجوهرالعاتى كان عندهم (أنليل) إله العواصف الباطشة. ولم تكن جيوش العدوإلاّ الثوب الخارجى الذى ارتداه الجوهرليُحقق نفسه. فالجيوش الغازية هى ضرب من العاصفة. عاصفة الإله أنليل الذى نفذ حكمًا على (أور) وأهلها نطق به مجمع الآلهة)) ، وبعد أنْ نقل د. مكاوى النص كاملا كتب ((هكذا تناولتْ هذه النصوص وغيرها أحداثا تاريخية وقعتْ فى الماضى ولكنها تحدثتْ عن الآلهة أكثرمن الحدث التاريخى ذاته. وتجاهلتْ الأسباب البشرية الكامنة وراءها لتـُبرزأفعال الآلهة.. ويبدوأنّ أزمة الحكم الفردى وجبروت التسلط المطلق لم تكن فى أحد جوانبها إلاّ انعكاسًا لأزمة الحكم الإلهى نفسه وتضاؤل حظ الآلهة فى مجمعهم من الديمقراطية. فقد زالتْ المساواة التى تمتعوا بها بعد اضطرارهم إلى تقويض (مردوخ) القوى الشاب بالدفاع عنهم وحمايتهم من قوى الظلم والعماء ثم تتويجهم له بعد انتصاره مما ترتب عليه انفراده بالسيطرة المطلقة وتحوله من بعد إلى الإله البابلى الأكبرأوالإله القومى وانفراد الملك البابلى تبعًا لذلك بالحكم واستغنائه عن أهل الشورى . وتكررالأمرنفسه فى فترة ازدهارالدولة الآشورية وانفراد إلهها آشوربالسيطرة على الآلهة المحليين.. وبناءً على ذلك لمسنا جذورالشجرة اللعينة التى لم تزل فى الشرق نبلو المر من ثمرها منذ آلاف السنين: قهرالحاكم للمحكوم وخوف المحكوم من الحاكم ، وطبَعَ ذلك فى روح الإنسان فى أرض النهريْن وعلى مدارتاريخها المُدوّن لما يقرب من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد)) . وأنّ هذه المنظومة الاجتماعية لم تسمح بالاستقرار والتطورالمُطرد المُتجانس بالقياس إلى حضارة وادى النيل، لأنّ سكان الرافديْن (عكس المصريين القدماء) لم يكن لديهم تصور واضح عن العالم الآخر ولم يتوقعوا جزاءً ولاثوابًا من رحلتهم إلى العالم الأسفل. والأساطيرالسومرية والبابلية عن هذا العالم تصوره فى صورة بشعة. وذكرمؤلف الملحمة أنّ ما يحبه المرء يُثيرسخط الإله. ومايبدو لقلبه خليقا بالاحتقارمُحبّب للإله. وارتبط بهذا التصورللإله نفى أية مسئولية بشرية عن أعمالهم أى نفى حريتهم وإرادتهم إذْ ذكرمؤلف الملحمة ((الجنس البشرى أصم ولايعرف شيئا.. من يستمسك بإلهه تمح ذنوبه. ومن لا إله له تكثرمظالمه)) فكتب د. مكاوى ((الأخطرمن هذا أنّ الإنسان المُعذب وصديقه الحكيم يتفقان فى الرأى على أنّ الآلهة جلبتْ طبيعة البشرعلى الكذب والظلم ولاشك أنّ هذه أغرب الأفكارالتى انحدرتْ إلينا من وادى الرافديْن)) إذْ ورد فى الملحمة ((إنّ بلادى متوحشة وعدوانية)) فإذا كان مؤلف الملحمة واحد من الشعب وأنّ ما صاغه ترجمة للأفكارالسائدة فى مجتمعه، نكون إزاء نوع من الأدب مزج الميتافيزيقا بالواقع وأنّ الحكام ليسوا مسئولين عن الظلم الاجتماعى لأنها إرادة الإله الذى يُساند الطاغى فى طغيانه فذكرد. مكاوى لقد ((أصبح الإله شريكا فى الظلم)) ولعلّ هذا ما جعل الشاعرالسياب أنْ يكتب ((لك الحمد أنّ الرزايا عطاء/ وأنّ المصيبات بعضُ الكرم/ لك الحمد مهما استطال البلاء/ ومهما استبد الألم)) فذكرد. مكاوى إن السياب صوّرالقهرأثناء حكم عبدالكريم قاسم باستدعاء شخصيات تراثية. ومع أنّ مؤلف الملحمة مزج بين الميتافيزيقى والواقعى يعود ليؤكد على منظومة الظلم فيقول ((أهلى قد أذلهم الاستعباد)) ولكنه ينفى أى دورللحاكم الطاغى عندما يقول ((سبّحتُ بحمد الملك كما أسبّح بحمد الإله. وعلمتُ الناس توقيرالقصر)) وفى العمود الثالث من اللوح الآشوى ((الإله يسعى للشر)) .
فى مجموعة الأدب الآشورى تكريس لمنظومة العبودية وفق ثنائية سيد/ عبد منها ((إنّ شعبًا بغيرملك مثل غنم بغير راع. إنّ كلمة الملك مثل الإله شمس وأمره لايُضارع وقوله لايمكن تغييره. أمرالقصرقاطع مثل أمرالإله)) فى هذا الأدب نجد منظومة العبودية والبُعد الميتافيزيقى المُتمثل فى الاعتماد على الإله لحل مشاكل الواقع فيقول((ليت الإله يلقى نظرة على المدينة التى قدرتْ عليها اللعنة)) ومثل كل ميتافيزيقا فإنّ مؤلف النص الآشورى يُضفى على الإله صفات الغموض وأنّ فهمه والتعرف عليه فوق مستوى عقل البشرفيقول ((إن مشيئة الإله لايُمكن أنْ تـُفهم وطريق الإله لايُمكن أنْ يُعرف. وأى شىء عن الإله يسعتصى على الكشف)) هذا الموقف الميتافيزيقى الذى يستبعد أية قدرات للبشر، لصيق بتكريس آلية العبودية فذكرالمؤلف الآشورى ((الرجل ظل الإله. والعبد ظل الرجل (الحر) لكن الملك مرآة الإله)).
وإذا كان الأدب السومرى والبابلى والآشورى مزج بين الميتافيزيقا والواقع ورسّخ لحكم الطغاة عندما أسند كل ظواهرالظلم الاجتماعى للإله واستبعد دورالبشرلمقاومة الظلم، فإنّ قانون حمورابى جاء ليؤكد على التفرقة بين المواطنين أبناء الوطن الواحد فى تشريعه الذى نصّ فيه على أنّ العقوبة على الجريمة الواحدة تختلف حسب الموقع الطبقى والاجتماعى للمتهم. بمعنى أنْ تكون العقوبة أشد (الإعدام مثلا) على الفلاح بينما هى (على ذات الجريمة) الغرامة المالية على الوزير. وهذا ماجعل عالم المصريات بريستد يكتب أنّ الأساس الخلقى للعدالة كان منعدمًا فى بابل ((حتى أنّ قانون حمورابى كان يقضى فى العدالة حسب المركز الاجتماعى للمذنب. أما الانعدام التام للفوارق الاجتماعية أمام القانون الذى هومن أرقى مظاهرالحضارة المصرية، فلم يكن معروفا فى بابل ونتيجة لذلك فإنّ المبادىء الأخلاقية فى بابل لم تساهم بشىء مطلقا فى الإرث الأخلاقى الذى ورثه العالم الغربى)) وما نصّ عليه قانون حمورابى فى التفرقة بين المواطنين فعل مثله الحيثيون، وبالتالى انفردتْ مصربتأسيس قاعدة العدالة. كما أنّ قانون حمورابى لم يقتصرعلى التفرقة بين المواطنين أمام القانون وإنما زاد على ذلك بأنْ رسّخ لآلية أكثربشاعة ((العين بالعين..إلخ)) وهى الآلية التى نصّ عليها فى قانونه المكوّن من 282مادة فكتب د. مكاوى ((معاملة العوام مختلفة كل الاختلاف عن معاملة (الأحرار) وأما معاملة (العبيد) فهى أسوأ)) والدليل ما جاء فى قانون حمورابى الذى نصّ على ((إذا فقأ سيد عين آخر حرتفقأ عينه. وإذا فقأ رجل من العامة فعليه أنْ يدفع مينا (= كيلوجرام) من الفضة)) .
ولأنّ د. مكاوى فى كل إنتاجه الأدبى والفكرى كان همه الأساسى ترسيخ مبادىء النبل التى يتأسّس عليها المجتمع الإنسانى تلك المبادىء التى تتمحورحول هدفين: الحرية الفردية بكل تجلياتها وتطبيق قواعد العدالة الاجتماعية من خلال منظومة المساواة التامة بين أبناء الوطن الواحد بغض النظرعن دياناتهم ومذاهبهم . ود. مكاوى وهويُعيد قراءة الأدب السومرى كانت عيناه وكان وجدانه على شواطىء المستقبل لكل البشر، لهذا كان شأنه شأن المفكرين الكبارالذين تركوا بصماتهم المهمة فى تاريخ الفكرالإنسانى.
عن الحوار المتمدن