الحلقة السابعة والعشرون
اِلزَّوْگَة أو الاغتراب
الاغتراب كلمة تقترن في الحسّانيّة بكلمتين مشهورتين فيها هما "اِلزَّوْگَة" ثُمَّ "اِلتّْبَزْگِي"
اِلزَّوْگَة: كلمة مرادفة للاغتراب والابتعاد عن الوطن.
اِلتّْبَزْگِي: كلمة تطلق على الزَّايِگْ (المغترب) إذا استوطن أرضَ مُهاجَره وهدأت نفسه لذلك واستمرأ الغربة واطمأنّ لها.
وقفتُ على التالي في المعاجم الأمازيغية.
ئزوگ: هَاجَرَ مِن البَلَدِ وَعَنْهُ
أزْواگ: الهِجْرَةُ، المُهَاجَرَةُ، من البَلَدِ وَعَنهُ.
تبزگي: الهدوء
هذا الموضوع مُهِمٌّ جدا وبه خُلاصة قرن كامل بدروسه وعِبَرِه في موضوع الزوگة عن أهل لفريگ والتي الهدف منها تحسين الدخل وحديثي ههنا وإن كان مرتكزا على أحداث ساحتها مثلث الولايات الثلاث التي كانت مرتعا لأهلي وهي گورگول والبراكنة والعصابة إلا أنّه يشمل كل أرض البيظان لأن الموضوع شامل وقَلّ أن تجد أهل خيمة إلا وبينهم زَايگ (مغترب) أو أكثر بل قد يرثها جيلٌ بعد جيلٍ، فَكُلَّما بلغ جِيلٌ سنّ السفر والقدرة على الزّوگة وحصّل من العلم والتربية الزادَ المعقول، عندها يُسمَحُ له بالسّفر ليتعلّم ويحِلّ محلّ الجيل الذي كان قبله، حيث يسافر الولدُ للكسبِ ويضع والدُه عصا الترحال في حال يُشْبِهُ التقاعد في مفهوم أهل العصر إلّا أنّ أَهل البادية لايعرفون الفراغ ولايستطيعون إلا أن يظل الواحد منهم يجري ويكدح حتى يُدركه الموت.
أنا أحدّثكم عن مجتمع كله بجميع مكوّناته وأُرُومِه المختلفة جميعهم قد حملوا من مكارم الأخلاق ما لايُصدّقه الكثير من الشعوب الأخرى التي مُعظم انشغال المحاكم فيها النظر في الخصومات بين الأزواج على المهر والمُؤجّل من المهر أو الخصومات بين الأخ وأخواته النّساء على الإرث أو الورث، بينما المجتمع الذي أحدثكم عنه فإنّ من عاداته أنّ أمّ العروس تَسْتَلِمُ المهر بيمناها وتضيف عليه مقداره أو أكثر ثم تُرجعه إلى أمّ العريس، أحدثكم عن مجتمع رغم بداوته وإيغاله في الصحراء بعيدا عن المُدُنِ إلا أنّ الأخ أو الإخوة في الغالب إذا ورثت معهم أخوات فإنهم يتنازلون عن أنصبائهم لصالح أخواتهم. أحدثكم عن مجتمع فيه البذل والعطاء بسخاء هو الثقافة السائدة.
كان الناس يعيشون في التعامل الخارجي على جلب المواشي إلى أسواق الحواضر الكبيرة في دولة السنغال المجاورة والتي ليس بيننا وبينها إلا مجرى النهر. هذا الجلب السنويّ لم يكن مشكلا ولا يُعتبر اغترابا لأن الجَلّابة يعودون بكل البضائع لأهل لفريگ من قماش (خنط) ومن لوازم أَتاي إضافة إلى أشياء أخرى.
أمّا الصنف الثاني من الناس فهم الذين يذهبون للعمل بأرض الغربة ومعظمهم يعمل في التجارة بالدكاكين ولهم أوبة إلى لفريگ كُلَّ خريف يرجعون أواخر شهر يونيو ويغادرون في شهر سبتمبر هكذا ديدنهم. وكانت هناك الهجرة الداخلية إلى منطقة المعادن والثروة السمكية في الشمال إلى الزّوَيْرَاتْ وانْواذِيبُو.
لم يكن التواصل سهلا بين المغترب وأهله وكان العُرْفُ أن يأتي المغترب كل خريف وقد حمل معه ناتجه السنويّ فيجلب اللباس وأتاي وبعض النقود لشراء زاد الخيمة السنوي من الزرع عند حصاده في شهر دجمبر.
كانت هناك قلّة من هؤلاء تستطيب العيش في الغربة وتبقى سنين دون العودة إلى لفريگ بل قد يؤسس الواحد منهم أسرة وتحبسه عوامل أخرى فيطلق عليه حينها كلمة "امْبَزْگِي أو بِزْگِي"، وقد لايخلو الأمر من مغامرة تقوم بها والدته أو أخته في محاولة لاسترجاعه للوطن وغالبا ما تبوء المحاولة بالفشل وترجع الأخت كما خرجت وفي ذاكرتها الكثير من حكايات مغامرات السفر إليه وماركبته من سيارات وماشاهدته من حواضر.
اشتهر الناس بمكارم الأخلاق في هذه الصحراء ومنهم من إذا رجع كل سنة ألزم نفسه أن يكسو أهل لفريگ جميعا صغارا وكبارا وكل من جاء يسلم عليه من الناس ويقوم بتوزيع أتاي على كل خيمة وباختصار فإنه ينفق فوق طاقته ويستلف ويدبّر ولكن من الطبيعي جدا أن سيأتي يوم يضطرّ فيه للبقاء في الغربة لأنه لم يعد بمقدوره مقابلة أهل لفريگ لعجزه ويدخل هو كذلك في حزب أهل الزوگة والتبزگي.
بعد عام 1960 عامَ الاستقلال بدأت رحلة الشباب تتوغل جنوبا جنوبا في أعماق القارة السمراء وبدأوا في تكوين رؤوس الأموال بل سيطروا على التجارة في كثير من البلدان الإفريقية وكان معظم المهاجرين شبابا مع قليل من العائلات لصعوبة تأقلم أهل لفريگ مع نمط الحياة في تلك البلدان.
ثم كانت الهجرة إلى ليبيا كذلك واشتهرت وأصبحت حلم كل شاب من أهل لفريگ أن يهاجر إلى ليبيا ليعلّم القرآن أو يعمل في أي شيء يدِرّ عليه دخلا. وأمّا المشرق العربي فلم تكن إليه هجرة معتبرة لكسب المال وتحسين الدخل حتى بداية الثمانينيات حين طلبت دولة الإمارات العربية المتحدة مجموعة من الشباب الموريتانيين لتوظيفهم في الشرطة واكتتبتهم عن طريق سفارة دولة قطر بانواكشوط وشاع بين الناس الخبر فأصبحوا يُسمّونهم شرطة قطر.
هؤلاء الشباب كانوا أول وأكبر جمع من أهلنا يسافرون خارج الوطن للعمل براتب شهري وهو أمر عظيم في الذاكرة الجمعية لأهل لفريگ أن يكون الشخص له راتب "اخْلَاصْ" من المخزن، هذا أمر لم يعهدوه قبلَ الدولة الحديثة إلا ماكان من عطايا يبذلها المستعمر لبعض الشخصيات المرموقة من أهل لفريگ.
لقد كان لاكتتاب هؤلاء الشباب أثر كبير على عدة مستويات وبالذات بين أهل البوادي والقرى حتى المدن كذلك. وتلتهم أفواجٌ أخرى في مجالات شتى. بل خرج طلابٌ للدراسة إلى المشرق حيث النفط والغاز وبعد التّخرّج حصلوا على أعمال واستقرُّوا هم كذلك ليبدأوا رحلة الاغتراب الكبرى.
إنّ حصول أي شاب على فرصة عمل في الخارج براتب مُعتَبَرٍ ثابت يمكنه أن يغيّر من حال أهله في الاتجاه الإيجابي ويصنع مستقبلا أفضل لأهله بل ولأهل لفريگ جميعا ولكن لن يتمّ ذلك إلا بتخطيط سليم وتدبير حكيم وإلّا كان تأثيره تعبا وإرهاقا لصاحبه وهذا ماسنقف على بعض جوانبه اعتمادا على كثير من القصص والحكايات التي عايشتها منذ 1985 إلى يومنا هذا.
نحن أمّة لها باع طويل وتربية قاسية في كتم المشاعر ورغم كل ذلك نبقى قادرين على فهم ذواتنا ومن ذلك مايحصل للمُغترب من مشاعر الحزن العميق وهو يغادر خيمة أهله وقد يكون خلفه والدان كبيران أو أحدهما ضعيف يمشي على ثلاث، وَقد يكون خلّف وراءه صبية صغارا وأُمّا لهم يصعب عليه فراقهم والبعد عنهم ولايستطيع حملهم معه. آلامٌ وآمال تتنازعه وتتجاذبه وهو يترنّح بين هذا وذاك يُسلّي نفسه بمستقبل أفضل ورغم ذلك هناك كثيرون يغبطونه ويتمنّون مكانه ولو علموا الذي يعانيه من تمزيق الفؤاد ونارِ البِعادِ وتدنّي سهم الغريب لما تمنّوا مكانه. وقد لاينتبه إلّا بعد ربع قرن فيجد نفسه لازال في المربّع الأوّل دون إنجاز شيء.
وفي رؤوس الأقلام التالية بعض النصائح وبعض الدروس والعبر التي يمكنها أن تفيد الجيلَ القادم من المغتربين رغم أنّنا أمّة غنيّة جدا بمواردها الطبيعية وبثروتها البشرية المتنوعّة ولكننا نعاني فسادا إداريا مستشريا في عروقنا ودمائنا يجعلنا غير قادرين على بناء دولة إلا إذا عزمنا جميعا على تغيير حالنا ولن يكون ذلك إلا إذا اقتنعنا نحن أهل الفرگان أوّلا بالدولة ثم مع ذلك أَصرَّتْ بصدق الإدارة في بلادنا على التغيير وعزمت على الإصلاح وبناء جيل من المواطنين العازمين على بناء وطنهم واستغلال خيراته الكثيرة للمصلحة العامة وإنشاء بنية تحتية قوية تخدم الجميع دون استثناء وترسيخ نظام تعليم وتربية يليق بالعصر دون التفريط في الثوابت. وإن لم تُوجد هذه الإدارة فنحن مكتوب علينا الاغتراب جيلا بعد جيل رغم الذي نخفي في صدورنا من المرارة والآلام ماجعلني ذات مرّة بعد أن عزمت على اصطحاب حجر من مسقط رأسي إلى مُهَاجَري للتّسلّي به وبعد التقاطه من قمة الأكمة المطلّة على التّامورت وجعلته في قطعة من قماش وعطرتها احتفاء به، إلّا أنني بتّ تلك الليلة يُخيّل إليّ أنّه يئنّ ويناديني أرجوك لاتفعل بي مافعلت بنفسك من اغتراب وزوگة حتى تغيرت معالم الأرض بعدك ولم يبق ثابتا منها في مكانه إلا الحجارة، أرجوك أرجعني إلى مكاني فأنا هنا من ملايين السنين منذ خلق الله الأرض فلاتُدْمِنِي كما قلبك ينزف رغم صمتك العميق الذي لا تسمعه إلا الحجارة الصماء التي عرفتك وأنت تقول: تَاتَّا، تَاتَّا... يوم كنت "تُبَلِّحُ الكلام مع الخطوات الأولى"
لقد رقّ قلبي وأصغيتُ للحجر وأشفقت عليه حتى لايُصيبه ماأصابني وأرجعتُ الحجرَ لمكانه رحمة به. والواحد منّا يوم سفره لايستطيع أن يلتفت وراءه حتى لاتنهار أعصابه وتسقط هيبته أو تخرج روحه.
رغم التربية الفريدة التي يتلقاها الفرد في مجتمعنا من أجل إدارة ضغوطات الحياة والتصدّي لها بحزم ونفس متوازنة بعيدة عن الانهزام وإظهار الضعف، رغم كل ذلك نبقى بشرا نُحِسُّ ونشعر، نفرح ونحزن، نضحك ونبكي بل قد نكون أرقّ الناس قلوبا إذا توارينا عن أعين الناس وأرخى الليل علينا سدوله. ونَصِيبُ المغترب من الحنين والشوق يكلفه كثيرا من الأرق ويدفع ثمنا لذلك كثيرا من صحته بسبب كثير من الضغوط التي لايعرفها إلا من ركب أمواج بحر الاغتراب نكرةً تتقاذفه الأيام.
وقد أكون من أكثر الناس حظا حيث امتنّ الله عليّ بمهاجَر أهله كبار النفوس خيار من خيار مكثت بينهم أكثر من خمس وثلاثين سنة لم يخاطبني منهم أحد إلا وهو يبتسم مبتهجا سائلا عن الأهل والأحوال مستبشرا بك عازما عليك أن تزوره ولكن مع كل ذلك لايمكنهم حمل لفريگ إلى ههنا.
نحن أمّة لانكتب في مثل هذا المجال إلا قليلا للحياء الذي عُرفنا به واشتهرنا بين الأمم، ولكن الزّمن قد تغيّر وحدثت أمور كثيرة أدخلت كثيرا من المغتربين في كثير من الغرر أدناه الحبس وقد يصل إلى سمعة المجتمع كله، فيقال فُلان يستلف ولايُعيد الدين لأصحابه أو فلان يصدر شيكات من دون رصيد، ولستُ أبرّئ نساءنا إذ أشهر كلمة على لسان الواحدة منهنّ هي "گُومْ دَبَّرْ واللَّ اتسَّلَّفْ"
هذه رؤوس أقلام يمكن البناء عليها وزيادتها وتدوين حكايات أكثر ودروس وعبر حتى يستفيد الجيل القادم منها.
1- استحضار النية وتصحيح القصد من السفر للكسب الحلال الطيب لتتقوّى به على فعل الخيرات وعلى الحياة الكريمة بعيدا عن المباهاة والتفاخر بل كن صانعا للحياة مساندا لمجتمعك مُدْرِكًا الهدف الذي خرجت من أجله وأن تترفّع عن التّفكير في الحصول على المال والمال فقط حتّى ولو كان بطرق غير شرعية والابتعاد عن شعار "الْمُهِمّْ أَلّا الفَظَّه". والذين لهم حقّ عليك في عرف المجتمع إمّا أهلك الذين ربَّوْكَ وأنت حسنة من حسناتهم وجهد من جهدهم وإمّا أصهارك الكرام الذين ربّوها لك وسهروا عليها وبذلوا الغالي والنفيس لتصبح امرأة تحفظ لك دارك وتربي أطفالك وتتقاسم معك متاعب الدنيا ومصاعبها وبالتالي لهم حقّ في الاهتمام وياطالما بدأت حياتك عندهم في دارهم معزّزا مكرّما وأنت طالب أو خرّيج عاطل (تَكُوسُ)، نعم لهم جميعهم عليك حقوق عظيمة وهذه مبادئ مجتمعنا التي لايمكننا التخلّي عنها ولا الإخلال بها وإنّما المراد تزكيتها وتحسينها وتطويرها إيجابيا لتتماشى مع عصر جديد له متطلباته وتعقيداته التي تتطلب ذكاء وحسن تدبير وترتيب.
2- أيها المغترب أنت سفير عن بلدك وأهلك فانتبه وكن خير مُمَثِّلٍ لمجتمعك واعلم أنّك نكرة في مُهَاجَرِكَ لا يعرفك أَحَدٌ وإنّما أنت الذي ستحدّد قيمتك وذاتك في هذا المجتمع الجديد عليك بأفعالك وتصرفاتك قبل أقوالك. وصيّتي لك أن تتعلّم ثقافة المجتمع الجديد وأن تجتهد في مسايرته قدر المستطاع دون الإخلال بمادئك أنت ومُسلّماتك التي لايمكنك التنازل عنها. ولكنني هنا أعني بالذّكر المشرق العربي الذي تدور فيه أحداث هذه الزّوگة التي عنها أتحدّث حيث تجمعنا بهم كثير من الوشائج والروابط تجعل كثيرا من الثقافة مشتركا دون عناء أو مشقّة أو تكلف.
3- تحديد الأهداف الكبرى وترتيب الأولويات فالحياة قصيرة والعمر محدود وكل يوم منه إذا مضى لن يرجع أبدًا، هل سألت نفسك يوما أيها المغترب عن الهدف من غربتك؟ وهل حددتَ الفترة الزمنية التي تنوي البقاء فيها خارج وطنك بعيدا عن أهلك؟ إن كان الجواب نعم فهنيئا لك ولفهمك الصحيح للحياة، وأمّا إن كان الجواب نفيا فعليك أن تبادر لاستدراك الأمر وتحديد هدفك وترتيب أولوياتك وتحديد الفترة الزمنية التي يمكنك قضاؤها لتحقيق أهدافك الكبرى والتي يجب أن تتضمّن تأمين سكن وتكوين أسرة على أساس قوي من التماسك وتكوين أفرادها ببذل كل شيء من أجل الحصول على تعليم جيّد، وتأسيس استثمار لك في بلدك وقد يكون أسهله وأقلّه خطورة هو شراء القطع الأرضية التي ليس فيها نزاع وأوراقها مُستوفاة الشروط القانونية. ومن أعظم الاستثمار هو استثمارك في الطاقة البشرية بين أهلك وذويك من الأقربين وأصهارك حيث تقوم بتشجيعهم على تدريس أولادهم وبناتهم وأن يكون لك إشراف وتشجيع لهذا النشء وتعهد لهم بتقديم كل الممكن لإكمال وإتمام دراستهم لأنهم هم الثروة الحقيقية وهم المستقبل الحقيقي لك ولأهلك وللوطن.
4- اجْتناب الضياع في برزخ مابين البداوة والمدنية وأنت في غربتك. لقد كانت حياتنا في باديتنا مُنظّمة بدقّة متناهية في كل شيء من الفجر حتى العتمة وقت نوم الناس، وكانت الحياة داخل الخيمة منظمة وكان تدبير شؤون حياة أهل الخيمة من مستلزمات يتم لها التخطيط بدقة متناهية ومع هذا كله ضاع منّا هذا النظام الدقيق عندما اضطررنا لأن نعيش في الدَّشْرَة (المدينة) إذ تحوّلت الحياة إلى فوضى عارمة في كل النواحي فلم تَحْظَ غرفة النّوم (بيت الرّگاد) باحترامِ "دُونْ الدّْبَشْ" ولم تحْظَ "سهوة الدار" باحترام "سهوة الخيمة" وَقِسْ على ذلك ماشئت حيث انتقل الناس إلى الدّشُورْ (المُدُن) ونتج عن ذلك فوضى في الأخلاق والآداب العامة إذ فشلوا في إسقاط أخلاق لفريگ على أخلاق الدّشرة وأصبحت المنازل أشبه ماتكون بالنوادي المفتوحة فليس الاستئذان واردا وليس للزيارة وقت محدد بل قد يأي زائر بعد منتصف الليل فإن كان باب سور الدار مغلقا تَسوّره ولايبالي.
5- فهم واقع العصر اليوم الذي لم يعد مثل زمننا الأوّل إذ لم يكن الناس ينتقصون من قيمة المُعسرِ بل كان الموسِر مسؤولا أخلاقيا وعرفا عن المعسر ويتقاسم معه كل شيء، ومع هذا كان المعسر عفيفا يحسبه من لايعرفه موسرا لترفعه. كان التكافل الاجتماعي الرشيد قائما مع سعي المعسر دائما بالسعي لعمل أي شيء ممكن حتى يسدّ جزءا من حاجته بنفسه أي أنّه كان ذا إرادة إيجابية. أصبحنا في زمن يريد المعسر فيه تأمين كل شيء له وهذا غير منطقي.
في زمن لفريگ كان الشاب أو كما نسميه "اِلطّْفلْ" كان هو المسؤول عن السعي حتى يكتسب مَالاً يغطي نفقات زواجه ويسعى بعد ذلك لتحصيل الخيمة واللازم من الأنعام ليبني خيمة وينشئ أسرة متحمّلا كامل المسؤولية عن ذلك وحريصا على مشروع حياته هذا الجميل. أصبح الشاب في زمننا ينتظر من والده تزويجه !!!
6- عقليتنا في عصر مابعد الاستقلال فيها كثير من التناقض الشديد حيث أصبحت المسؤولية في إيجاد السيولة النقدية ملقاة على عاتق المُوظّف الحكومي من أهل لفريگ فهو من أهل المخزن في نظرهم ويمكنه الحصول على النّاضِّ متى ماشاء وبالذات مع ختام كل شهر إداريّ. مهما يكن فتغيير العقليات أمر صعب جدا ويستغرق وقتا طويلا وبدايته الصحيحة من تغيير مناهج التعليم والتركيز على النشء. إنّ المغترب ليس يستلم إلا راتبا واحدا في الشهر يدخل حسابه ويقوم المصرف بخصم قسط دينه الشهري ثم تُسْتَوْفَى قيمة الشيكات الشهرية مثل الإيجار وغيره وماتبقّى يمكن للمغترب أن يستلمه وقد يصرف نصفه في الشهريّات التي يرسلها هنا وهناك وهي قاتلة هِمَمَ الشباب وقاصمة ظهر المغترب الذي يهدم بهذه العادة السيئة أهله بنفسه وكان الأولى به أن يفعل مثلما يفعل كل مغترب من الأمم الأخرى إذ يعين من يريد العمل بالآلة ليسعى بِقدومه يحتطب وبمنجله ليزرع وبعلمه ليُعلّم ليشارك في صناعة الحياة لا أن ينسلخ من الحياة والكدّ فيها دون عذر مقبول.
ويمكن سَرْدُ بعض الأخطاء المصيرية التي وقع فيها كثير منّا نحن المُغتربين (الزّوّاگْ) في النقاط التالية:
1- الظهور بحالة مادية غير صحيحة بل قد تكون بعيدة عن الواقع ووراءها كثير من التكلف والدَّيْن الثقيل حيث يجمع المُغترِبُ من هنا وهناك بأي طريق متاح له يجمع من الدَّيْن مايفوق راتبه سنةً أو أكثر من أجل قضاء شهر أو شهرين من البذخ الزائف وسرعان ماينفضّ ذلك المجلس وتنتهي العطلة ويرجع هو وقد تبخّر كل ذلك وبقي عليه دين لايستطيع قضاءه إلا خلال ثلاث أو أربع سنوات قادمة إذا دفع كل شهر ثلث أو ربع راتبه وهو أمر عسير. وياليته أفهمَ النّاسَ أنه يلعب بالدّين بل يلعب بالنار، ولو كان صرف هذا المال في عقار يمكنه استرجاع قيمته متى شاء لكان أمره رَشَداً ولكنه في الغالب يصرفه في العبث وأحسنهم حالا من يشتري سيارة فاخرة ويتزوج وبعد انقضاء العطلة تطلب العروس السيارة وقد تختلق أي سبب للاغتياظ من أجل حصولها على الترضّي الذي تجعله مشروطا بالحصول على منزل فاخر يليق بمقامها. ويرجع هو بخُفَّيْ حنين مرتبكا في كل النواحي وقد يلجأ للطلاق من باب التخفيف على نفسه ولعجزه المادي عن تحقيق مرادها.
2- سوء التدبير وانعدام التخطيط السليم الذي يتماشى مع مقدار الراتب ولو رجعنا إلى مبادئ الحساب وعرفنا مقدار الدخل الشهري مقابل المصروف الشهري لاستنتجنا أنها عملية إفلاس متكاملة الأركان ومن أكبر الأخطاء في التدبير هو انتهاج عادات قديمة حملناها معنا من البلد حيث يأخذ الواحد منّا مصروفه اليومي من أقرب الدكاكين منه، يأخذ المغترب حاجته عن طريق التلفون وصاحب الدكان يسجّل حتى نهاية الشهر وكل فرد من الأسرة يأخذ من الدكان حتى الضيوف يأخذون من الدكان ونصف المبلغ يحصل من بطاقات الهاتف والشوكولاطة وبعض الكماليات الباهضة الثمن.
ومن سوء التدبير الشهريّات التي يفتتها بين أهله أو مايُسمّيه أهل لفريگ "فَظّْةِ الشّْهَرْ" هذه الشهرية رغم نفعها الآني مع نهاية كل شهر لمن يستلمها إلا أن لها عبئا كبيرا على المغترب إذ تصل أحيانا إلى خمسين بالمائة من دخله الأساسي دون تحقيق هدف بعيد المدى يُقصّر عمر الغربة بل هو هدف لحظي فقط يقتل روحَ التّحدّي في الذين يعتمدون على هذه الشهرية الزائفة فيصيبهم الكسل والاتكال على الشهرية ظانّين أنّها من جهة رسميّة مثل الوظيفة العمومية وتحت اعتماد ماليّ رسميّ. الشهريّة يستحقها طالب العلم الذي ينبغي أن يتفرّغ للتحصيل العلمي ويستحقها المريض العاجز عن الكسب حتى يُشْفَى من مرضه ويستحقها الكبير في السنّ الذي لم يعد قادرا على الكسب، والأفضل أَلّا تكون شهريّة بل تكون منحة تُدفع كل ثلاثة أشهر أو أربعة.
لقد أنتجت هذه الشهرية جيلا من الناس اسْتَمْرأَهَا وهو لايدري كم من مرارة وكم من كدّ وسهر وساعات عمل طويلة يبذلها المُغترب لتحصيلها، حتّى أنّ بعض أصحاب الشهريّة يجعلها أساسا لانقاش فيه ويبدأ يجادل في الحصول على علاوات فوقها مثل شراء منزل أو بناء دار أو تمويل مشروع تجاري دون الإخلال بالشهرية التي هي في الأساس عبء كبير على المغترب الذي يعيش حالة من التقشف الشديد من أجل الحفاظ على الشهريّات.
3- الدخول في المشاريع الوهمية التي غالبا ماتكون إدارتها في يد والده أو أحد إخوته أو أصحابه ومعظم تلك المشاريع تتبخّر سريعا بسبب سوء التخطيط وبعض الظروف القاهرة لمدير المشروع واعتقاده أنّ المغترب يمكنه تحصيل المال متى شاء حتى أنّ بعضهم يعتقد أنّ المغترب تُعرضُ عليه الأموال في الشارع ويقول كثيرون إنّ المغترب لايُرسل إلى الوطن إلا فُتات الهدايا التي يحصل عليها والسبب هو أن الناس رأت بذخ بعض المغتربين الأوائل الذين لم يَصْدُقُوا مع أنفسهم ولا أهلهم.
4- عدم تحديد فترة زمنية معينة لمدة الاغتراب، أنت عامل أو مُوَظَّفٌ مستعار يمكن الاستغناء عنك في أي لحظة، إن بلدَ مهاجَرك فيه مواطنون هم أولى منك بالوظيفة التي تشغلها إذا قدروا وهذا أمر طبيعي جدا، ولكن هذه حقيقة تغيب عن أذهان الكثيرين منّا ويبقى التخطيط على سنّ التقاعد حتى إذا وصل الواحد منّا سنّ التقاعد في غربته بدأ يبحث عن التمديد سنة بعد سنة ومع كل هذه التنبيهات والرسائل الموجهة إليه إلّا أنه لايفكر في العودة، وينشأ الجيل الثاني وهو يعاني انفصاما في الشخصية فلاهو من هنا وإن كان متشبثا بالغربة التي وُلِد فيها ولاهو من هناك من وطنه الأم الذي ليس له ملجأ دونه والذي يجهله كثير من الجيل الثاني من الذين لم يكونوا على صلة وثيقة بالوطن والذي لايتم إلا بالزيارات السنوية المتتالية وقضاء وقت كاف بين الأهل في المدن والقرى والبوادي وقد يكون السبب الأساسي هو الظروف المادية لأصحاب الدّخل المحدود.
5- اعتقاد المُغترب أنه لايستطيع العيش في وطنه الأمّ ومجرّد التفكير في العودة يسبب له اكتئابا شديدا (اِلتِّخْمَامْ) ويبدأ يفكر في مُهاجر جديد بعد أن لفظه المهاجر الذي قضى فيه زهرة حياته ويبدأ دخول كهف جديد. هو هنا يحتاج لدعم نفسي ووقوف معه ومساعدته حتى يصدق أنّه يمكنه العيش في وطنه والاستقرار فيه رغم صعوبة البداية ولكن مع الزمن ستطيب له الحياة.
آثَارُ وتوابع يواجهها المغترب بعد عودته وتوصيات:
1- قصص كثيرة مؤلمة يعيشها اليوم كثير من المغتربين الذين خرجوا في بداية الثمانينيات إلى المشرق العربي وبريق النفط والغاز وكانوا يومها حديثَ الحاضر والبادي وكانت آثارهم الإيجابية ومساهماتهم السّخيّة ظاهرة في كل مكان، هؤلاء وبعد قرابة أربعين سنة من الاغتراب حرقوا فيها شبابهم وزهرة أيامهم يعملون ليلا ونهارا، هؤلاء قد تجد الواحد منهم اليوم قريبا من السبعين وهو يسوق سيارة أجرة لتحصيل قوته اليومي ومثل هذا لايحدث إلا في بلادنا وقد تجد منهم من رجع وهو يسكن الآن في قطعة أرض ببعض العشوائيات بالضواحي !!!
قد تطول غيبة الزايگ حتى إذا عجز عن العمل أو هرم أو فقد الوظيفة ورجع مضطرّا، قد لايجد من يستقبله إلا ثلّة قليلة من أقرب الناس الأوفياء، بالأمس كان الجميع يستقبلونه منادين إياه بالشيخ محمد عالي واليوم يتحدثون ويقولون هل علمتم بمقدم اعْوَيْلِي؟ ويقول آخرون: يَذَاكْ من النّفْشَه.....
هكذا في لحظة فارقة ينسى الكثيرون منهم أنهم لم يُعطوه فرصة للتكوين حتى إذا ضعف انفضوا عنه وتركوه يواجه الواقع المرّ الذي هو كان جزءا مهما في صناعته لسوء تخطيطه وضعف تدبيره.
هنا يأتي دور الوصية الأولى وهي تصحيح النية والحفاظ على الجهد الكبير الذي بذله مع أهله مهما كان الإخفاق من طرفهم وسوء تصرفهم وتبدّل طباعهم بعد فقدان الدخل لأي سبب مهما يكن، ولتكن هذه الآية الكريمة نبراسا له وعزاءً عظيما، فما عند الله خير وأبقى. ﴿قَولٌ مَعروفٌ وَمَغفِرَةٌ خَيرٌ مِن صَدَقَةٍ يَتبَعُها أَذًى وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَليمٌ﴾ [البقرة: 263 - 263]
2- من القصص الغريبة والتي أصبحت مألوفة في كثير من الفرگان:
يقول أحدهم: كان أبي رجلا نشيطا عنده قطيع من الإبل يصبح ويمسي يركض مع الراعي بل كان يرعاها هو أكثر من الراعي، ولكن بعد اغترابي ارتأى إخوتي وأخواتي أن ينزلوا بإحدى القرى وكلفوني مالا كثيرا يساوي دخلي سنتين من أجل بناء دار فخمة (خُوبَه مِكْفِيَه) وبنوا خيمتهم في الحوش واشتروا الثلاجات والأفران وبدأوا حياة المدنية يذبحون الشاة ويجعلونها في الثلاجة ولم يعودوا يشترون لحم السوق وخلال سنتين فقط مرض الوالدان وبدأت رحلات الاستشفاء بين دكار وتونس وصرف أموال طائلة مع فقدان الصحة وكانت وصية الأطباء لهم أن خففوا من اللحوم الحمراء وواظبوا على المشي كل يوم ساعة على الأقل للوالد ونصف ساعة للوالدة، فأصروا أن يرجعوا إلى باديتهم وإبلهم وحياتهم التي عهدوها حتى الأمس القريب.
والقصص والحكايات التي يرويها المغتربون في صمت كثيرة جدا يمكن كتابة بعضها لاستخلاص الدروس والعبر.
3- ياليته يكون للمغتربين فضاء يلتقون فيه ونادٍ يضمهم ليتمكنوا من تدوين وكتابة الدروس والعبر المستخلصة من الزوگة وتقديم النصح للآخرين لتفادي الأخطاء ولتحسين أدائهم من أجل الاستفادة أكبر قدر ممكن من جهدهم وتقصير مدة الاغتراب.
هذا الموضوع مسكوت عنه ولكنه مهم جدا ويلمس واقع كل أهل خيمة في الوطن تقريبا.
اِلزَّوْگَة أو الاغتراب
الاغتراب كلمة تقترن في الحسّانيّة بكلمتين مشهورتين فيها هما "اِلزَّوْگَة" ثُمَّ "اِلتّْبَزْگِي"
اِلزَّوْگَة: كلمة مرادفة للاغتراب والابتعاد عن الوطن.
اِلتّْبَزْگِي: كلمة تطلق على الزَّايِگْ (المغترب) إذا استوطن أرضَ مُهاجَره وهدأت نفسه لذلك واستمرأ الغربة واطمأنّ لها.
وقفتُ على التالي في المعاجم الأمازيغية.
ئزوگ: هَاجَرَ مِن البَلَدِ وَعَنْهُ
أزْواگ: الهِجْرَةُ، المُهَاجَرَةُ، من البَلَدِ وَعَنهُ.
تبزگي: الهدوء
هذا الموضوع مُهِمٌّ جدا وبه خُلاصة قرن كامل بدروسه وعِبَرِه في موضوع الزوگة عن أهل لفريگ والتي الهدف منها تحسين الدخل وحديثي ههنا وإن كان مرتكزا على أحداث ساحتها مثلث الولايات الثلاث التي كانت مرتعا لأهلي وهي گورگول والبراكنة والعصابة إلا أنّه يشمل كل أرض البيظان لأن الموضوع شامل وقَلّ أن تجد أهل خيمة إلا وبينهم زَايگ (مغترب) أو أكثر بل قد يرثها جيلٌ بعد جيلٍ، فَكُلَّما بلغ جِيلٌ سنّ السفر والقدرة على الزّوگة وحصّل من العلم والتربية الزادَ المعقول، عندها يُسمَحُ له بالسّفر ليتعلّم ويحِلّ محلّ الجيل الذي كان قبله، حيث يسافر الولدُ للكسبِ ويضع والدُه عصا الترحال في حال يُشْبِهُ التقاعد في مفهوم أهل العصر إلّا أنّ أَهل البادية لايعرفون الفراغ ولايستطيعون إلا أن يظل الواحد منهم يجري ويكدح حتى يُدركه الموت.
أنا أحدّثكم عن مجتمع كله بجميع مكوّناته وأُرُومِه المختلفة جميعهم قد حملوا من مكارم الأخلاق ما لايُصدّقه الكثير من الشعوب الأخرى التي مُعظم انشغال المحاكم فيها النظر في الخصومات بين الأزواج على المهر والمُؤجّل من المهر أو الخصومات بين الأخ وأخواته النّساء على الإرث أو الورث، بينما المجتمع الذي أحدثكم عنه فإنّ من عاداته أنّ أمّ العروس تَسْتَلِمُ المهر بيمناها وتضيف عليه مقداره أو أكثر ثم تُرجعه إلى أمّ العريس، أحدثكم عن مجتمع رغم بداوته وإيغاله في الصحراء بعيدا عن المُدُنِ إلا أنّ الأخ أو الإخوة في الغالب إذا ورثت معهم أخوات فإنهم يتنازلون عن أنصبائهم لصالح أخواتهم. أحدثكم عن مجتمع فيه البذل والعطاء بسخاء هو الثقافة السائدة.
كان الناس يعيشون في التعامل الخارجي على جلب المواشي إلى أسواق الحواضر الكبيرة في دولة السنغال المجاورة والتي ليس بيننا وبينها إلا مجرى النهر. هذا الجلب السنويّ لم يكن مشكلا ولا يُعتبر اغترابا لأن الجَلّابة يعودون بكل البضائع لأهل لفريگ من قماش (خنط) ومن لوازم أَتاي إضافة إلى أشياء أخرى.
أمّا الصنف الثاني من الناس فهم الذين يذهبون للعمل بأرض الغربة ومعظمهم يعمل في التجارة بالدكاكين ولهم أوبة إلى لفريگ كُلَّ خريف يرجعون أواخر شهر يونيو ويغادرون في شهر سبتمبر هكذا ديدنهم. وكانت هناك الهجرة الداخلية إلى منطقة المعادن والثروة السمكية في الشمال إلى الزّوَيْرَاتْ وانْواذِيبُو.
لم يكن التواصل سهلا بين المغترب وأهله وكان العُرْفُ أن يأتي المغترب كل خريف وقد حمل معه ناتجه السنويّ فيجلب اللباس وأتاي وبعض النقود لشراء زاد الخيمة السنوي من الزرع عند حصاده في شهر دجمبر.
كانت هناك قلّة من هؤلاء تستطيب العيش في الغربة وتبقى سنين دون العودة إلى لفريگ بل قد يؤسس الواحد منهم أسرة وتحبسه عوامل أخرى فيطلق عليه حينها كلمة "امْبَزْگِي أو بِزْگِي"، وقد لايخلو الأمر من مغامرة تقوم بها والدته أو أخته في محاولة لاسترجاعه للوطن وغالبا ما تبوء المحاولة بالفشل وترجع الأخت كما خرجت وفي ذاكرتها الكثير من حكايات مغامرات السفر إليه وماركبته من سيارات وماشاهدته من حواضر.
اشتهر الناس بمكارم الأخلاق في هذه الصحراء ومنهم من إذا رجع كل سنة ألزم نفسه أن يكسو أهل لفريگ جميعا صغارا وكبارا وكل من جاء يسلم عليه من الناس ويقوم بتوزيع أتاي على كل خيمة وباختصار فإنه ينفق فوق طاقته ويستلف ويدبّر ولكن من الطبيعي جدا أن سيأتي يوم يضطرّ فيه للبقاء في الغربة لأنه لم يعد بمقدوره مقابلة أهل لفريگ لعجزه ويدخل هو كذلك في حزب أهل الزوگة والتبزگي.
بعد عام 1960 عامَ الاستقلال بدأت رحلة الشباب تتوغل جنوبا جنوبا في أعماق القارة السمراء وبدأوا في تكوين رؤوس الأموال بل سيطروا على التجارة في كثير من البلدان الإفريقية وكان معظم المهاجرين شبابا مع قليل من العائلات لصعوبة تأقلم أهل لفريگ مع نمط الحياة في تلك البلدان.
ثم كانت الهجرة إلى ليبيا كذلك واشتهرت وأصبحت حلم كل شاب من أهل لفريگ أن يهاجر إلى ليبيا ليعلّم القرآن أو يعمل في أي شيء يدِرّ عليه دخلا. وأمّا المشرق العربي فلم تكن إليه هجرة معتبرة لكسب المال وتحسين الدخل حتى بداية الثمانينيات حين طلبت دولة الإمارات العربية المتحدة مجموعة من الشباب الموريتانيين لتوظيفهم في الشرطة واكتتبتهم عن طريق سفارة دولة قطر بانواكشوط وشاع بين الناس الخبر فأصبحوا يُسمّونهم شرطة قطر.
هؤلاء الشباب كانوا أول وأكبر جمع من أهلنا يسافرون خارج الوطن للعمل براتب شهري وهو أمر عظيم في الذاكرة الجمعية لأهل لفريگ أن يكون الشخص له راتب "اخْلَاصْ" من المخزن، هذا أمر لم يعهدوه قبلَ الدولة الحديثة إلا ماكان من عطايا يبذلها المستعمر لبعض الشخصيات المرموقة من أهل لفريگ.
لقد كان لاكتتاب هؤلاء الشباب أثر كبير على عدة مستويات وبالذات بين أهل البوادي والقرى حتى المدن كذلك. وتلتهم أفواجٌ أخرى في مجالات شتى. بل خرج طلابٌ للدراسة إلى المشرق حيث النفط والغاز وبعد التّخرّج حصلوا على أعمال واستقرُّوا هم كذلك ليبدأوا رحلة الاغتراب الكبرى.
إنّ حصول أي شاب على فرصة عمل في الخارج براتب مُعتَبَرٍ ثابت يمكنه أن يغيّر من حال أهله في الاتجاه الإيجابي ويصنع مستقبلا أفضل لأهله بل ولأهل لفريگ جميعا ولكن لن يتمّ ذلك إلا بتخطيط سليم وتدبير حكيم وإلّا كان تأثيره تعبا وإرهاقا لصاحبه وهذا ماسنقف على بعض جوانبه اعتمادا على كثير من القصص والحكايات التي عايشتها منذ 1985 إلى يومنا هذا.
نحن أمّة لها باع طويل وتربية قاسية في كتم المشاعر ورغم كل ذلك نبقى قادرين على فهم ذواتنا ومن ذلك مايحصل للمُغترب من مشاعر الحزن العميق وهو يغادر خيمة أهله وقد يكون خلفه والدان كبيران أو أحدهما ضعيف يمشي على ثلاث، وَقد يكون خلّف وراءه صبية صغارا وأُمّا لهم يصعب عليه فراقهم والبعد عنهم ولايستطيع حملهم معه. آلامٌ وآمال تتنازعه وتتجاذبه وهو يترنّح بين هذا وذاك يُسلّي نفسه بمستقبل أفضل ورغم ذلك هناك كثيرون يغبطونه ويتمنّون مكانه ولو علموا الذي يعانيه من تمزيق الفؤاد ونارِ البِعادِ وتدنّي سهم الغريب لما تمنّوا مكانه. وقد لاينتبه إلّا بعد ربع قرن فيجد نفسه لازال في المربّع الأوّل دون إنجاز شيء.
وفي رؤوس الأقلام التالية بعض النصائح وبعض الدروس والعبر التي يمكنها أن تفيد الجيلَ القادم من المغتربين رغم أنّنا أمّة غنيّة جدا بمواردها الطبيعية وبثروتها البشرية المتنوعّة ولكننا نعاني فسادا إداريا مستشريا في عروقنا ودمائنا يجعلنا غير قادرين على بناء دولة إلا إذا عزمنا جميعا على تغيير حالنا ولن يكون ذلك إلا إذا اقتنعنا نحن أهل الفرگان أوّلا بالدولة ثم مع ذلك أَصرَّتْ بصدق الإدارة في بلادنا على التغيير وعزمت على الإصلاح وبناء جيل من المواطنين العازمين على بناء وطنهم واستغلال خيراته الكثيرة للمصلحة العامة وإنشاء بنية تحتية قوية تخدم الجميع دون استثناء وترسيخ نظام تعليم وتربية يليق بالعصر دون التفريط في الثوابت. وإن لم تُوجد هذه الإدارة فنحن مكتوب علينا الاغتراب جيلا بعد جيل رغم الذي نخفي في صدورنا من المرارة والآلام ماجعلني ذات مرّة بعد أن عزمت على اصطحاب حجر من مسقط رأسي إلى مُهَاجَري للتّسلّي به وبعد التقاطه من قمة الأكمة المطلّة على التّامورت وجعلته في قطعة من قماش وعطرتها احتفاء به، إلّا أنني بتّ تلك الليلة يُخيّل إليّ أنّه يئنّ ويناديني أرجوك لاتفعل بي مافعلت بنفسك من اغتراب وزوگة حتى تغيرت معالم الأرض بعدك ولم يبق ثابتا منها في مكانه إلا الحجارة، أرجوك أرجعني إلى مكاني فأنا هنا من ملايين السنين منذ خلق الله الأرض فلاتُدْمِنِي كما قلبك ينزف رغم صمتك العميق الذي لا تسمعه إلا الحجارة الصماء التي عرفتك وأنت تقول: تَاتَّا، تَاتَّا... يوم كنت "تُبَلِّحُ الكلام مع الخطوات الأولى"
لقد رقّ قلبي وأصغيتُ للحجر وأشفقت عليه حتى لايُصيبه ماأصابني وأرجعتُ الحجرَ لمكانه رحمة به. والواحد منّا يوم سفره لايستطيع أن يلتفت وراءه حتى لاتنهار أعصابه وتسقط هيبته أو تخرج روحه.
رغم التربية الفريدة التي يتلقاها الفرد في مجتمعنا من أجل إدارة ضغوطات الحياة والتصدّي لها بحزم ونفس متوازنة بعيدة عن الانهزام وإظهار الضعف، رغم كل ذلك نبقى بشرا نُحِسُّ ونشعر، نفرح ونحزن، نضحك ونبكي بل قد نكون أرقّ الناس قلوبا إذا توارينا عن أعين الناس وأرخى الليل علينا سدوله. ونَصِيبُ المغترب من الحنين والشوق يكلفه كثيرا من الأرق ويدفع ثمنا لذلك كثيرا من صحته بسبب كثير من الضغوط التي لايعرفها إلا من ركب أمواج بحر الاغتراب نكرةً تتقاذفه الأيام.
وقد أكون من أكثر الناس حظا حيث امتنّ الله عليّ بمهاجَر أهله كبار النفوس خيار من خيار مكثت بينهم أكثر من خمس وثلاثين سنة لم يخاطبني منهم أحد إلا وهو يبتسم مبتهجا سائلا عن الأهل والأحوال مستبشرا بك عازما عليك أن تزوره ولكن مع كل ذلك لايمكنهم حمل لفريگ إلى ههنا.
نحن أمّة لانكتب في مثل هذا المجال إلا قليلا للحياء الذي عُرفنا به واشتهرنا بين الأمم، ولكن الزّمن قد تغيّر وحدثت أمور كثيرة أدخلت كثيرا من المغتربين في كثير من الغرر أدناه الحبس وقد يصل إلى سمعة المجتمع كله، فيقال فُلان يستلف ولايُعيد الدين لأصحابه أو فلان يصدر شيكات من دون رصيد، ولستُ أبرّئ نساءنا إذ أشهر كلمة على لسان الواحدة منهنّ هي "گُومْ دَبَّرْ واللَّ اتسَّلَّفْ"
هذه رؤوس أقلام يمكن البناء عليها وزيادتها وتدوين حكايات أكثر ودروس وعبر حتى يستفيد الجيل القادم منها.
1- استحضار النية وتصحيح القصد من السفر للكسب الحلال الطيب لتتقوّى به على فعل الخيرات وعلى الحياة الكريمة بعيدا عن المباهاة والتفاخر بل كن صانعا للحياة مساندا لمجتمعك مُدْرِكًا الهدف الذي خرجت من أجله وأن تترفّع عن التّفكير في الحصول على المال والمال فقط حتّى ولو كان بطرق غير شرعية والابتعاد عن شعار "الْمُهِمّْ أَلّا الفَظَّه". والذين لهم حقّ عليك في عرف المجتمع إمّا أهلك الذين ربَّوْكَ وأنت حسنة من حسناتهم وجهد من جهدهم وإمّا أصهارك الكرام الذين ربّوها لك وسهروا عليها وبذلوا الغالي والنفيس لتصبح امرأة تحفظ لك دارك وتربي أطفالك وتتقاسم معك متاعب الدنيا ومصاعبها وبالتالي لهم حقّ في الاهتمام وياطالما بدأت حياتك عندهم في دارهم معزّزا مكرّما وأنت طالب أو خرّيج عاطل (تَكُوسُ)، نعم لهم جميعهم عليك حقوق عظيمة وهذه مبادئ مجتمعنا التي لايمكننا التخلّي عنها ولا الإخلال بها وإنّما المراد تزكيتها وتحسينها وتطويرها إيجابيا لتتماشى مع عصر جديد له متطلباته وتعقيداته التي تتطلب ذكاء وحسن تدبير وترتيب.
2- أيها المغترب أنت سفير عن بلدك وأهلك فانتبه وكن خير مُمَثِّلٍ لمجتمعك واعلم أنّك نكرة في مُهَاجَرِكَ لا يعرفك أَحَدٌ وإنّما أنت الذي ستحدّد قيمتك وذاتك في هذا المجتمع الجديد عليك بأفعالك وتصرفاتك قبل أقوالك. وصيّتي لك أن تتعلّم ثقافة المجتمع الجديد وأن تجتهد في مسايرته قدر المستطاع دون الإخلال بمادئك أنت ومُسلّماتك التي لايمكنك التنازل عنها. ولكنني هنا أعني بالذّكر المشرق العربي الذي تدور فيه أحداث هذه الزّوگة التي عنها أتحدّث حيث تجمعنا بهم كثير من الوشائج والروابط تجعل كثيرا من الثقافة مشتركا دون عناء أو مشقّة أو تكلف.
3- تحديد الأهداف الكبرى وترتيب الأولويات فالحياة قصيرة والعمر محدود وكل يوم منه إذا مضى لن يرجع أبدًا، هل سألت نفسك يوما أيها المغترب عن الهدف من غربتك؟ وهل حددتَ الفترة الزمنية التي تنوي البقاء فيها خارج وطنك بعيدا عن أهلك؟ إن كان الجواب نعم فهنيئا لك ولفهمك الصحيح للحياة، وأمّا إن كان الجواب نفيا فعليك أن تبادر لاستدراك الأمر وتحديد هدفك وترتيب أولوياتك وتحديد الفترة الزمنية التي يمكنك قضاؤها لتحقيق أهدافك الكبرى والتي يجب أن تتضمّن تأمين سكن وتكوين أسرة على أساس قوي من التماسك وتكوين أفرادها ببذل كل شيء من أجل الحصول على تعليم جيّد، وتأسيس استثمار لك في بلدك وقد يكون أسهله وأقلّه خطورة هو شراء القطع الأرضية التي ليس فيها نزاع وأوراقها مُستوفاة الشروط القانونية. ومن أعظم الاستثمار هو استثمارك في الطاقة البشرية بين أهلك وذويك من الأقربين وأصهارك حيث تقوم بتشجيعهم على تدريس أولادهم وبناتهم وأن يكون لك إشراف وتشجيع لهذا النشء وتعهد لهم بتقديم كل الممكن لإكمال وإتمام دراستهم لأنهم هم الثروة الحقيقية وهم المستقبل الحقيقي لك ولأهلك وللوطن.
4- اجْتناب الضياع في برزخ مابين البداوة والمدنية وأنت في غربتك. لقد كانت حياتنا في باديتنا مُنظّمة بدقّة متناهية في كل شيء من الفجر حتى العتمة وقت نوم الناس، وكانت الحياة داخل الخيمة منظمة وكان تدبير شؤون حياة أهل الخيمة من مستلزمات يتم لها التخطيط بدقة متناهية ومع هذا كله ضاع منّا هذا النظام الدقيق عندما اضطررنا لأن نعيش في الدَّشْرَة (المدينة) إذ تحوّلت الحياة إلى فوضى عارمة في كل النواحي فلم تَحْظَ غرفة النّوم (بيت الرّگاد) باحترامِ "دُونْ الدّْبَشْ" ولم تحْظَ "سهوة الدار" باحترام "سهوة الخيمة" وَقِسْ على ذلك ماشئت حيث انتقل الناس إلى الدّشُورْ (المُدُن) ونتج عن ذلك فوضى في الأخلاق والآداب العامة إذ فشلوا في إسقاط أخلاق لفريگ على أخلاق الدّشرة وأصبحت المنازل أشبه ماتكون بالنوادي المفتوحة فليس الاستئذان واردا وليس للزيارة وقت محدد بل قد يأي زائر بعد منتصف الليل فإن كان باب سور الدار مغلقا تَسوّره ولايبالي.
5- فهم واقع العصر اليوم الذي لم يعد مثل زمننا الأوّل إذ لم يكن الناس ينتقصون من قيمة المُعسرِ بل كان الموسِر مسؤولا أخلاقيا وعرفا عن المعسر ويتقاسم معه كل شيء، ومع هذا كان المعسر عفيفا يحسبه من لايعرفه موسرا لترفعه. كان التكافل الاجتماعي الرشيد قائما مع سعي المعسر دائما بالسعي لعمل أي شيء ممكن حتى يسدّ جزءا من حاجته بنفسه أي أنّه كان ذا إرادة إيجابية. أصبحنا في زمن يريد المعسر فيه تأمين كل شيء له وهذا غير منطقي.
في زمن لفريگ كان الشاب أو كما نسميه "اِلطّْفلْ" كان هو المسؤول عن السعي حتى يكتسب مَالاً يغطي نفقات زواجه ويسعى بعد ذلك لتحصيل الخيمة واللازم من الأنعام ليبني خيمة وينشئ أسرة متحمّلا كامل المسؤولية عن ذلك وحريصا على مشروع حياته هذا الجميل. أصبح الشاب في زمننا ينتظر من والده تزويجه !!!
6- عقليتنا في عصر مابعد الاستقلال فيها كثير من التناقض الشديد حيث أصبحت المسؤولية في إيجاد السيولة النقدية ملقاة على عاتق المُوظّف الحكومي من أهل لفريگ فهو من أهل المخزن في نظرهم ويمكنه الحصول على النّاضِّ متى ماشاء وبالذات مع ختام كل شهر إداريّ. مهما يكن فتغيير العقليات أمر صعب جدا ويستغرق وقتا طويلا وبدايته الصحيحة من تغيير مناهج التعليم والتركيز على النشء. إنّ المغترب ليس يستلم إلا راتبا واحدا في الشهر يدخل حسابه ويقوم المصرف بخصم قسط دينه الشهري ثم تُسْتَوْفَى قيمة الشيكات الشهرية مثل الإيجار وغيره وماتبقّى يمكن للمغترب أن يستلمه وقد يصرف نصفه في الشهريّات التي يرسلها هنا وهناك وهي قاتلة هِمَمَ الشباب وقاصمة ظهر المغترب الذي يهدم بهذه العادة السيئة أهله بنفسه وكان الأولى به أن يفعل مثلما يفعل كل مغترب من الأمم الأخرى إذ يعين من يريد العمل بالآلة ليسعى بِقدومه يحتطب وبمنجله ليزرع وبعلمه ليُعلّم ليشارك في صناعة الحياة لا أن ينسلخ من الحياة والكدّ فيها دون عذر مقبول.
ويمكن سَرْدُ بعض الأخطاء المصيرية التي وقع فيها كثير منّا نحن المُغتربين (الزّوّاگْ) في النقاط التالية:
1- الظهور بحالة مادية غير صحيحة بل قد تكون بعيدة عن الواقع ووراءها كثير من التكلف والدَّيْن الثقيل حيث يجمع المُغترِبُ من هنا وهناك بأي طريق متاح له يجمع من الدَّيْن مايفوق راتبه سنةً أو أكثر من أجل قضاء شهر أو شهرين من البذخ الزائف وسرعان ماينفضّ ذلك المجلس وتنتهي العطلة ويرجع هو وقد تبخّر كل ذلك وبقي عليه دين لايستطيع قضاءه إلا خلال ثلاث أو أربع سنوات قادمة إذا دفع كل شهر ثلث أو ربع راتبه وهو أمر عسير. وياليته أفهمَ النّاسَ أنه يلعب بالدّين بل يلعب بالنار، ولو كان صرف هذا المال في عقار يمكنه استرجاع قيمته متى شاء لكان أمره رَشَداً ولكنه في الغالب يصرفه في العبث وأحسنهم حالا من يشتري سيارة فاخرة ويتزوج وبعد انقضاء العطلة تطلب العروس السيارة وقد تختلق أي سبب للاغتياظ من أجل حصولها على الترضّي الذي تجعله مشروطا بالحصول على منزل فاخر يليق بمقامها. ويرجع هو بخُفَّيْ حنين مرتبكا في كل النواحي وقد يلجأ للطلاق من باب التخفيف على نفسه ولعجزه المادي عن تحقيق مرادها.
2- سوء التدبير وانعدام التخطيط السليم الذي يتماشى مع مقدار الراتب ولو رجعنا إلى مبادئ الحساب وعرفنا مقدار الدخل الشهري مقابل المصروف الشهري لاستنتجنا أنها عملية إفلاس متكاملة الأركان ومن أكبر الأخطاء في التدبير هو انتهاج عادات قديمة حملناها معنا من البلد حيث يأخذ الواحد منّا مصروفه اليومي من أقرب الدكاكين منه، يأخذ المغترب حاجته عن طريق التلفون وصاحب الدكان يسجّل حتى نهاية الشهر وكل فرد من الأسرة يأخذ من الدكان حتى الضيوف يأخذون من الدكان ونصف المبلغ يحصل من بطاقات الهاتف والشوكولاطة وبعض الكماليات الباهضة الثمن.
ومن سوء التدبير الشهريّات التي يفتتها بين أهله أو مايُسمّيه أهل لفريگ "فَظّْةِ الشّْهَرْ" هذه الشهرية رغم نفعها الآني مع نهاية كل شهر لمن يستلمها إلا أن لها عبئا كبيرا على المغترب إذ تصل أحيانا إلى خمسين بالمائة من دخله الأساسي دون تحقيق هدف بعيد المدى يُقصّر عمر الغربة بل هو هدف لحظي فقط يقتل روحَ التّحدّي في الذين يعتمدون على هذه الشهرية الزائفة فيصيبهم الكسل والاتكال على الشهرية ظانّين أنّها من جهة رسميّة مثل الوظيفة العمومية وتحت اعتماد ماليّ رسميّ. الشهريّة يستحقها طالب العلم الذي ينبغي أن يتفرّغ للتحصيل العلمي ويستحقها المريض العاجز عن الكسب حتى يُشْفَى من مرضه ويستحقها الكبير في السنّ الذي لم يعد قادرا على الكسب، والأفضل أَلّا تكون شهريّة بل تكون منحة تُدفع كل ثلاثة أشهر أو أربعة.
لقد أنتجت هذه الشهرية جيلا من الناس اسْتَمْرأَهَا وهو لايدري كم من مرارة وكم من كدّ وسهر وساعات عمل طويلة يبذلها المُغترب لتحصيلها، حتّى أنّ بعض أصحاب الشهريّة يجعلها أساسا لانقاش فيه ويبدأ يجادل في الحصول على علاوات فوقها مثل شراء منزل أو بناء دار أو تمويل مشروع تجاري دون الإخلال بالشهرية التي هي في الأساس عبء كبير على المغترب الذي يعيش حالة من التقشف الشديد من أجل الحفاظ على الشهريّات.
3- الدخول في المشاريع الوهمية التي غالبا ماتكون إدارتها في يد والده أو أحد إخوته أو أصحابه ومعظم تلك المشاريع تتبخّر سريعا بسبب سوء التخطيط وبعض الظروف القاهرة لمدير المشروع واعتقاده أنّ المغترب يمكنه تحصيل المال متى شاء حتى أنّ بعضهم يعتقد أنّ المغترب تُعرضُ عليه الأموال في الشارع ويقول كثيرون إنّ المغترب لايُرسل إلى الوطن إلا فُتات الهدايا التي يحصل عليها والسبب هو أن الناس رأت بذخ بعض المغتربين الأوائل الذين لم يَصْدُقُوا مع أنفسهم ولا أهلهم.
4- عدم تحديد فترة زمنية معينة لمدة الاغتراب، أنت عامل أو مُوَظَّفٌ مستعار يمكن الاستغناء عنك في أي لحظة، إن بلدَ مهاجَرك فيه مواطنون هم أولى منك بالوظيفة التي تشغلها إذا قدروا وهذا أمر طبيعي جدا، ولكن هذه حقيقة تغيب عن أذهان الكثيرين منّا ويبقى التخطيط على سنّ التقاعد حتى إذا وصل الواحد منّا سنّ التقاعد في غربته بدأ يبحث عن التمديد سنة بعد سنة ومع كل هذه التنبيهات والرسائل الموجهة إليه إلّا أنه لايفكر في العودة، وينشأ الجيل الثاني وهو يعاني انفصاما في الشخصية فلاهو من هنا وإن كان متشبثا بالغربة التي وُلِد فيها ولاهو من هناك من وطنه الأم الذي ليس له ملجأ دونه والذي يجهله كثير من الجيل الثاني من الذين لم يكونوا على صلة وثيقة بالوطن والذي لايتم إلا بالزيارات السنوية المتتالية وقضاء وقت كاف بين الأهل في المدن والقرى والبوادي وقد يكون السبب الأساسي هو الظروف المادية لأصحاب الدّخل المحدود.
5- اعتقاد المُغترب أنه لايستطيع العيش في وطنه الأمّ ومجرّد التفكير في العودة يسبب له اكتئابا شديدا (اِلتِّخْمَامْ) ويبدأ يفكر في مُهاجر جديد بعد أن لفظه المهاجر الذي قضى فيه زهرة حياته ويبدأ دخول كهف جديد. هو هنا يحتاج لدعم نفسي ووقوف معه ومساعدته حتى يصدق أنّه يمكنه العيش في وطنه والاستقرار فيه رغم صعوبة البداية ولكن مع الزمن ستطيب له الحياة.
آثَارُ وتوابع يواجهها المغترب بعد عودته وتوصيات:
1- قصص كثيرة مؤلمة يعيشها اليوم كثير من المغتربين الذين خرجوا في بداية الثمانينيات إلى المشرق العربي وبريق النفط والغاز وكانوا يومها حديثَ الحاضر والبادي وكانت آثارهم الإيجابية ومساهماتهم السّخيّة ظاهرة في كل مكان، هؤلاء وبعد قرابة أربعين سنة من الاغتراب حرقوا فيها شبابهم وزهرة أيامهم يعملون ليلا ونهارا، هؤلاء قد تجد الواحد منهم اليوم قريبا من السبعين وهو يسوق سيارة أجرة لتحصيل قوته اليومي ومثل هذا لايحدث إلا في بلادنا وقد تجد منهم من رجع وهو يسكن الآن في قطعة أرض ببعض العشوائيات بالضواحي !!!
قد تطول غيبة الزايگ حتى إذا عجز عن العمل أو هرم أو فقد الوظيفة ورجع مضطرّا، قد لايجد من يستقبله إلا ثلّة قليلة من أقرب الناس الأوفياء، بالأمس كان الجميع يستقبلونه منادين إياه بالشيخ محمد عالي واليوم يتحدثون ويقولون هل علمتم بمقدم اعْوَيْلِي؟ ويقول آخرون: يَذَاكْ من النّفْشَه.....
هكذا في لحظة فارقة ينسى الكثيرون منهم أنهم لم يُعطوه فرصة للتكوين حتى إذا ضعف انفضوا عنه وتركوه يواجه الواقع المرّ الذي هو كان جزءا مهما في صناعته لسوء تخطيطه وضعف تدبيره.
هنا يأتي دور الوصية الأولى وهي تصحيح النية والحفاظ على الجهد الكبير الذي بذله مع أهله مهما كان الإخفاق من طرفهم وسوء تصرفهم وتبدّل طباعهم بعد فقدان الدخل لأي سبب مهما يكن، ولتكن هذه الآية الكريمة نبراسا له وعزاءً عظيما، فما عند الله خير وأبقى. ﴿قَولٌ مَعروفٌ وَمَغفِرَةٌ خَيرٌ مِن صَدَقَةٍ يَتبَعُها أَذًى وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَليمٌ﴾ [البقرة: 263 - 263]
2- من القصص الغريبة والتي أصبحت مألوفة في كثير من الفرگان:
يقول أحدهم: كان أبي رجلا نشيطا عنده قطيع من الإبل يصبح ويمسي يركض مع الراعي بل كان يرعاها هو أكثر من الراعي، ولكن بعد اغترابي ارتأى إخوتي وأخواتي أن ينزلوا بإحدى القرى وكلفوني مالا كثيرا يساوي دخلي سنتين من أجل بناء دار فخمة (خُوبَه مِكْفِيَه) وبنوا خيمتهم في الحوش واشتروا الثلاجات والأفران وبدأوا حياة المدنية يذبحون الشاة ويجعلونها في الثلاجة ولم يعودوا يشترون لحم السوق وخلال سنتين فقط مرض الوالدان وبدأت رحلات الاستشفاء بين دكار وتونس وصرف أموال طائلة مع فقدان الصحة وكانت وصية الأطباء لهم أن خففوا من اللحوم الحمراء وواظبوا على المشي كل يوم ساعة على الأقل للوالد ونصف ساعة للوالدة، فأصروا أن يرجعوا إلى باديتهم وإبلهم وحياتهم التي عهدوها حتى الأمس القريب.
والقصص والحكايات التي يرويها المغتربون في صمت كثيرة جدا يمكن كتابة بعضها لاستخلاص الدروس والعبر.
3- ياليته يكون للمغتربين فضاء يلتقون فيه ونادٍ يضمهم ليتمكنوا من تدوين وكتابة الدروس والعبر المستخلصة من الزوگة وتقديم النصح للآخرين لتفادي الأخطاء ولتحسين أدائهم من أجل الاستفادة أكبر قدر ممكن من جهدهم وتقصير مدة الاغتراب.
هذا الموضوع مسكوت عنه ولكنه مهم جدا ويلمس واقع كل أهل خيمة في الوطن تقريبا.
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com