" ثمنا للشمس " هو الجزء الثاني من سيرة المناضلة عائشة عودة ، وقد صدر مؤخرا عن " مواطن ، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديموقراطية ( رام الله ، فلسطين ٢٠١٢ ) ، وكان الجزء الأول " أحلام بالحرية " ( ٢٠٠٤) قدر صدر أيضا عن " مواطن " بأكثر من طبعة .
وعائشة من مواليد دير جرير في رام الله ، وقد عملت قبل اعتقالها معلمة رياضيات وعلوم ، وانضمت بعد حزيران ١٩٦٧ إلى حركة مقاومة الاحتلال واعتقلت بتاريخ ١ /٣ / ١٩٦٩ وحكمت مؤبدين وعشر سنوات ثم أبعدت في أول عملية تبادل أسرى بين م . ت . ف وإسرائيل في عملية " النورس " بتاريخ ١٤ / ٣ / ١٩٧٩ وعادت إلى أرض الوطن في العام ١٩٩٤ .
قبل أن أقرأ " أحلام بالحرية " قلت :
- على الرغم من أن السجن في حياتنا مثل الملح والخبز ، فإننا لم نكتب نصه ، فلم يرق ما كتبه أدباؤنا إلى مستوى ما كتبه عبد الرحمن منيف في روايته " شرق المتوسط " ( ١٩٧٢ / ١٩٧٧ ) .
ولما قرأت " أحلام بالحرية " قلت :
- ها قد أصبح لدينا نص ينتمي حقا إلى أدب السجون .
في " ثمنا للشمس " تواصل عائشة عودة الكتابة عن تجربتها ورفيقاتها في السجون الإسرائيلية ، وكما جاء في تقديمها ، فإنها خضعت لرغبة الأصدقاء الذين أشاروا عليها بأن كتابها " أحلام بالحرية " ظل دون نهاية ، ما يعني ضرورة الاستمرار في سرد التجربة . وقد جاء كتابها هذا استمرارا لسرد الحكاية ، فالأصدقاء محقون في ملاحظتهم .
ويبدو أن أي كتابة عن الكتاب لا تغني عن قراءته ، إذ لن تكون الكتابة أكثر من هامش ، ولعل قاريء الكتاب يحار في المداخل التي يختارها للولوج إلى عالم التجربة .
شخصيا سأثير الأسئلة الآتية :
- هل ما أوردته الكاتبة يعد إضافة نوعية ؟
- هل الأفكار التي عالجتها جديدة كل الجدة لقاريء الأدب الفلسطيني ؟
- هل ثمة من صلة بين هذا النص ونصوص سابقة ؟
- وماذا عن البناء الفني ؟
- هل ثمة تأثير للزمن الكتابي على الزمن المسترجع ؟
- هل يصلح هذا الكتاب لتحليل شخصية عائشة اعتمادا على مقولة ( وردزوورث ) " الطفل هو أبو الرجل " ؛ المقولة التي أوردها جبرا ابراهيم جبرا في المقدمة التي كتبها لسيرته " البئر الأولى " (١٩٨٦) ؟
- وما الصورة التي ترسمها عائشة عودة للذات وتلك التي ترسمها للآخر اليهودي والآخر الغربي ؟
السيرة التي لم تتبع كاتبتها ترتيبا زمنيا تعاقبيا بدت ضربا من التداعي ، ولا غرابة أن الزمن فيها يتشظى ما بين استرجاع واستباق . لا نقرأ عن طفولة عائشة في الصفحات الأولى لتليها صفحات تأتي على مراهقتها ، فعملها مدرسة ، فانضمامها إلى حركة المقاومة ، وإنما نقرأ عناوين وفقرات تراوح في الزمن وتبدو الساردة / الكاتبة التي هي محور الكتاب ، تبدو لأنها اتكأت على الذاكرة في تأليف الكتاب ، تبدو أحيانا غير متأكدة من بعض الأحداث . من هنا لا تبرز الساردة ساردة عليمة بكل الأشياء ومتأكدة منها ، فأحيانا تطالعنا مفردات مثل " ربما " و " أو " و .. و .. وما يشي بتأثير الزمن على الذاكرة ما بين ١٩٧٩ تاريخ خروج عائشة من المعتقل و ٢٠١٠ تاريخ شروعها في كتابة الجزء الثاني ثلاثون عاما وعام ، وهذه كفيلة أيضا بإسقاط تجارب لاحقة على تجارب سابقة .
في صفحات عديدة تأتي عائشة على طفولتها . ما العلاقة بين الطفولة وتجربة السجن ؟ بين الطفلة عائشة والسجينة التي صمدت وتحدت ، بل وضربت السجانة ؟
في طفولتها كانت عائشة متميزة وفي طفولتها أرادت أن تكون ندا للأطفال الذكور أيضا . لعبت معهم وأرادت أن تمارس ما يمارسون من ممارسات كانوا يرون أنها مقتصرة عليهم . مات أبوها وهاجر أخوها إلى أميركا فتحملت المسؤولية وعرفت بعنادها وتميزها بين قريناتها ، وهذا كله لازمها في حياتها وفي سنواتها العشر في السجن ، ثم .. ثم إنها تعلمت في قرية كان أهلها لا يوافقون على إرسال بناتهم إلى المدارس أو إلى المدارس البعيدة عن القرية . في قرية كان أكثر سكانها أميين .
السجانة / السجينة :
لا تقيم عائشة إبان اعتقالها في سجن واحد ، فهي غالبا ما تنقل من سجن إلى آخر عقابا لها على سلوك ما ، لا يروق لإدارة السجن ، وهكذا ستلتقي بسجينات كثيرات ؛ سجينات سياسيات وسجينات لأسباب اجتماعية أو أخلاقية ؛ سجينات عربيات وسجينات يهوديات ، وهكذا ستقص عن مناضلات تغدو السيرة أحيانا تعريفا بهن ، وستقص أيضا عن نساء دخلن إلى السجن لأنهن خن أزواجهن وأقمن علاقات مع عشاقهن ، وعن سجينات يهوديات سجن لأسباب أخلاقية . بل ستقص عن دلال المناضلة التي تحولت إلى مخبرة لإدارة السجن ، مخترقة جبهة المناضلات ، لكنها سرعان ما تعود إلى ما كانت عليه قبل تعاونها .
كيف كانت علاقة السجينات ببعضهن وعلاقتهن بالسجانات ؟
لم تلجأ عائشة إلى إبراز صورة نمطية لليهود ، وهذا ما يميز عموما النصوص الأدبية التي كتبها أدباء فلسطينيون أقاموا في فلسطين واحتكوا باليهود ، خلافا لأكثر النصوص التي كتبها أدباء المنفى ؛ فلسطينيون وعربا . ( بعد نشر هذا المقال ، وخلال السنوات العشر الأخيرة اختلفت كتاب الأدباء العرب اختلافا شبه كلي فصاروا يكتبون عن نماذج يهودية إيجابية ) .
أحيانا كانت العلاقة بين السجينات العربيات والسجينات اليهوديات تتخذ طابع الكراهية والعداء القومي ، وأحيانا كن يعجبن - أعني السجينات اليهوديات - بالسجينات العربيات اللاتي يتحدين بعض السجانات القاسيات ، بل إن بعض السجانات اليهوديات كن يختلفن ، فتشعر بعضهن مع عائشة حين تقدم على ضرب سجانة لا تحبها سجانة أخرى .
تأتي عائشة على فتاة مغربية ( ص١٦١ ) سجنت لنضالها إلى جانب الفلسطينيين . هذه الفتاة المغربية كانت محل إعجاب لليهوديات وللمناضلات الفلسطينيات أيضا .
وسيقرأ المرء في السيرة عن نماذج يهودية عديدة تتراوح صورتها ما بين أبيض وأسود وما بينهما .
في أثناء ملاحظة صورة الآخر في السيرة يتوقف المرء مطولا أمام موقف عائشة من دكتور ( بيرجمان ) وهو يهودي نجا من مذبحة الهولوكست وتعاطف مع الفلسطينيين وأراد أن يقدم خدمة لعائشة بالدفاع عنها . إنه محام يتبرع لأهل عائشة لإعادة بناء بيتهم الذي نسف . ويبدي رغبته أيضا بت
سجيل أمواله لعائشة . ثمة ضمير أخلاقي لدى دكتور ( بيرجمان ) ، ولكن مثل هل يتقبل السجين الفلسطيني هذا الصنيع بسهولة ؟
غالبا ما كان الشك من نوايا ( بيرجمان ) يلازم عائشة ، على الرغم من أنه بالفعل صادق في نواياه . إنها الحرب وحالة الصراع الطويلة يتركان أثرهما في موقف كل طرف من الطرف الآخر وفي تعاملهما مع بعضهما البعض .
الآخر الأوروبي :
تحفل السيرة بالحديث عن نماذج مناضلات اوروبيات دخلن إلى المعتقل لأنهن تعاطفن مع القضية الفلسطينية وعملن لأجلها ، لكنها في المقابل تأتي على نماذج أوروبية ، بريطانية تحديدا ، كانت تتعاطف مع إسرائيل والحركة الصهيونية . وخلافا ل ( مارجريت ) البريطانية المعتقلة التي تتعاطف مع الفلسطينيين وتتفهم مشاكلهم ( ص ٦٧و٦٨ ) يكون اللورد البريطاني الذي لم تحفظ عائشة اسمه . إن هذا اللورد حين يزور المعتقلات مع مدير السجن ( نير ) يخاطب المعتقلات قائلا :
" أرى أن إسرائيل رحيمة بكم ، إذ لا تحكم على الذين يقومون بعمليات تخريبية ضد جيشها ومواطنيها بالإعدام " ( ١٨٨ ) وأنه - لو ترك الأمر إليه - لو كن عنده لتصرف معهن كما يتصرف مع أعضاء الجيش الجمهوري الايرلندي .
تشابه التجربة .. تشابه الكتابة :
هل يقرأ المرء في كتاب عائشة أفكارا وأحداثا وصورة للسجن والآخر لم يقرأها في الأدبيات الفلسطينية من قبل ؟
الإجابة بالطبع لا ، فلقد كنت أدون على هامش صفحات الكتاب عناوين نصوص أتت على ما تأتي عليه عائشة . طبعا هذا ليس بمستغرب فتجربتها هي نموذج لتجارب فلسطينية كثيرة متشابهة ، وأفكارها عن الصراع تتقاطع مع أفكار كثيرين. لا عجب إذن أنك وأنت تقرأ " ثمنا للشمس " أن تتذكر غسان كنفاني وروايته " عائد إلى حيفا " واميل حبيبي وروايته " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل " ومحمود شقير وكتابه السيري " ظل آخر للمدينة " ومحمود درويش وقصيدته " جندي يحلم بالزنابق البيضاء " .
في ص ٢٦٣ إلى ص ٢٦٨ تأتي الكاتبة على نقلها إلى سجن غزة . وهي في الطريق تنظر إلى الأرض التي احتلها الإسرائيليون في العام ١٩٤٨ والأرض التي احتلوها في العام ١٩٦٧ ، فتكتب :
" بدأت أقع في فخ وعي خطير أقارب بين يناعة بياراتهم واصفرار بياراتنا بما يثبت تقدمهم وتأخرنا وما يخلقه هذا من تكريس وعي الهزيمة وتكثيف الإحباط تماما مثلما حصل معي غداة زيارتي للقدس بعد هزيمة ١٩٦٧ مباشرة (٢٦٨) .
هذه المقارنة الظالمة ، كما تكتب ، تذكرنا بالحوار الذي جرى بين سعيد . س وزوجته صفية حين زارا حيفا عقب الهزيمة مباشرة ( هزيمة ٩٦٧ ) . وحين أبدت صفية إعجابها بما لاحظت ، يرد عليها زوجها :
- هذا ما أرادوه بالفعل . أرادوا أن يقولوا لنا : انظروا . إنكم لا تستحقونها .
والفكرة نفسها يتوقف أمامها إميل حبيبي في روايته ، فحين يصطحب يعقوب اليهودي سعيدا العربي إلى السجن ، يجري بينهما حوار يقول فيه يعقوب لسعيد :
- انظر ماذا فعلنا بالأرض . لقد أحيينا الموات وأمتنا الحيات .
ويرد عليه سعيد ساخرا :
- ألهذا هدمتم قرى اللطرون ويالو وعمواس ؟
وكنت توقفت أمام هذه الفكرة مطولا في دراستين منفصلتين عن غسان واميل .
إن تشابه التجربة يؤدي إلى تشابه الكتابة أحيانا ، وعلى أي حال فإن هذا لا يقلل من قيمة كتاب عائشة الذي أظن أنني كتبت عنه شيئا ولم أكتب عنه أشياء كثيرة .
( نشر المقال في جريدة الأيام الفلسطينية بتاريخ ١٧ حزيران ٢٠١٢ )
يتبع
( نشر المقال في جريدة الأيام الفلسطينية بتاريخ ١٧ حزيران ٢٠١٢ )
وعائشة من مواليد دير جرير في رام الله ، وقد عملت قبل اعتقالها معلمة رياضيات وعلوم ، وانضمت بعد حزيران ١٩٦٧ إلى حركة مقاومة الاحتلال واعتقلت بتاريخ ١ /٣ / ١٩٦٩ وحكمت مؤبدين وعشر سنوات ثم أبعدت في أول عملية تبادل أسرى بين م . ت . ف وإسرائيل في عملية " النورس " بتاريخ ١٤ / ٣ / ١٩٧٩ وعادت إلى أرض الوطن في العام ١٩٩٤ .
قبل أن أقرأ " أحلام بالحرية " قلت :
- على الرغم من أن السجن في حياتنا مثل الملح والخبز ، فإننا لم نكتب نصه ، فلم يرق ما كتبه أدباؤنا إلى مستوى ما كتبه عبد الرحمن منيف في روايته " شرق المتوسط " ( ١٩٧٢ / ١٩٧٧ ) .
ولما قرأت " أحلام بالحرية " قلت :
- ها قد أصبح لدينا نص ينتمي حقا إلى أدب السجون .
في " ثمنا للشمس " تواصل عائشة عودة الكتابة عن تجربتها ورفيقاتها في السجون الإسرائيلية ، وكما جاء في تقديمها ، فإنها خضعت لرغبة الأصدقاء الذين أشاروا عليها بأن كتابها " أحلام بالحرية " ظل دون نهاية ، ما يعني ضرورة الاستمرار في سرد التجربة . وقد جاء كتابها هذا استمرارا لسرد الحكاية ، فالأصدقاء محقون في ملاحظتهم .
ويبدو أن أي كتابة عن الكتاب لا تغني عن قراءته ، إذ لن تكون الكتابة أكثر من هامش ، ولعل قاريء الكتاب يحار في المداخل التي يختارها للولوج إلى عالم التجربة .
شخصيا سأثير الأسئلة الآتية :
- هل ما أوردته الكاتبة يعد إضافة نوعية ؟
- هل الأفكار التي عالجتها جديدة كل الجدة لقاريء الأدب الفلسطيني ؟
- هل ثمة من صلة بين هذا النص ونصوص سابقة ؟
- وماذا عن البناء الفني ؟
- هل ثمة تأثير للزمن الكتابي على الزمن المسترجع ؟
- هل يصلح هذا الكتاب لتحليل شخصية عائشة اعتمادا على مقولة ( وردزوورث ) " الطفل هو أبو الرجل " ؛ المقولة التي أوردها جبرا ابراهيم جبرا في المقدمة التي كتبها لسيرته " البئر الأولى " (١٩٨٦) ؟
- وما الصورة التي ترسمها عائشة عودة للذات وتلك التي ترسمها للآخر اليهودي والآخر الغربي ؟
السيرة التي لم تتبع كاتبتها ترتيبا زمنيا تعاقبيا بدت ضربا من التداعي ، ولا غرابة أن الزمن فيها يتشظى ما بين استرجاع واستباق . لا نقرأ عن طفولة عائشة في الصفحات الأولى لتليها صفحات تأتي على مراهقتها ، فعملها مدرسة ، فانضمامها إلى حركة المقاومة ، وإنما نقرأ عناوين وفقرات تراوح في الزمن وتبدو الساردة / الكاتبة التي هي محور الكتاب ، تبدو لأنها اتكأت على الذاكرة في تأليف الكتاب ، تبدو أحيانا غير متأكدة من بعض الأحداث . من هنا لا تبرز الساردة ساردة عليمة بكل الأشياء ومتأكدة منها ، فأحيانا تطالعنا مفردات مثل " ربما " و " أو " و .. و .. وما يشي بتأثير الزمن على الذاكرة ما بين ١٩٧٩ تاريخ خروج عائشة من المعتقل و ٢٠١٠ تاريخ شروعها في كتابة الجزء الثاني ثلاثون عاما وعام ، وهذه كفيلة أيضا بإسقاط تجارب لاحقة على تجارب سابقة .
في صفحات عديدة تأتي عائشة على طفولتها . ما العلاقة بين الطفولة وتجربة السجن ؟ بين الطفلة عائشة والسجينة التي صمدت وتحدت ، بل وضربت السجانة ؟
في طفولتها كانت عائشة متميزة وفي طفولتها أرادت أن تكون ندا للأطفال الذكور أيضا . لعبت معهم وأرادت أن تمارس ما يمارسون من ممارسات كانوا يرون أنها مقتصرة عليهم . مات أبوها وهاجر أخوها إلى أميركا فتحملت المسؤولية وعرفت بعنادها وتميزها بين قريناتها ، وهذا كله لازمها في حياتها وفي سنواتها العشر في السجن ، ثم .. ثم إنها تعلمت في قرية كان أهلها لا يوافقون على إرسال بناتهم إلى المدارس أو إلى المدارس البعيدة عن القرية . في قرية كان أكثر سكانها أميين .
السجانة / السجينة :
لا تقيم عائشة إبان اعتقالها في سجن واحد ، فهي غالبا ما تنقل من سجن إلى آخر عقابا لها على سلوك ما ، لا يروق لإدارة السجن ، وهكذا ستلتقي بسجينات كثيرات ؛ سجينات سياسيات وسجينات لأسباب اجتماعية أو أخلاقية ؛ سجينات عربيات وسجينات يهوديات ، وهكذا ستقص عن مناضلات تغدو السيرة أحيانا تعريفا بهن ، وستقص أيضا عن نساء دخلن إلى السجن لأنهن خن أزواجهن وأقمن علاقات مع عشاقهن ، وعن سجينات يهوديات سجن لأسباب أخلاقية . بل ستقص عن دلال المناضلة التي تحولت إلى مخبرة لإدارة السجن ، مخترقة جبهة المناضلات ، لكنها سرعان ما تعود إلى ما كانت عليه قبل تعاونها .
كيف كانت علاقة السجينات ببعضهن وعلاقتهن بالسجانات ؟
لم تلجأ عائشة إلى إبراز صورة نمطية لليهود ، وهذا ما يميز عموما النصوص الأدبية التي كتبها أدباء فلسطينيون أقاموا في فلسطين واحتكوا باليهود ، خلافا لأكثر النصوص التي كتبها أدباء المنفى ؛ فلسطينيون وعربا . ( بعد نشر هذا المقال ، وخلال السنوات العشر الأخيرة اختلفت كتاب الأدباء العرب اختلافا شبه كلي فصاروا يكتبون عن نماذج يهودية إيجابية ) .
أحيانا كانت العلاقة بين السجينات العربيات والسجينات اليهوديات تتخذ طابع الكراهية والعداء القومي ، وأحيانا كن يعجبن - أعني السجينات اليهوديات - بالسجينات العربيات اللاتي يتحدين بعض السجانات القاسيات ، بل إن بعض السجانات اليهوديات كن يختلفن ، فتشعر بعضهن مع عائشة حين تقدم على ضرب سجانة لا تحبها سجانة أخرى .
تأتي عائشة على فتاة مغربية ( ص١٦١ ) سجنت لنضالها إلى جانب الفلسطينيين . هذه الفتاة المغربية كانت محل إعجاب لليهوديات وللمناضلات الفلسطينيات أيضا .
وسيقرأ المرء في السيرة عن نماذج يهودية عديدة تتراوح صورتها ما بين أبيض وأسود وما بينهما .
في أثناء ملاحظة صورة الآخر في السيرة يتوقف المرء مطولا أمام موقف عائشة من دكتور ( بيرجمان ) وهو يهودي نجا من مذبحة الهولوكست وتعاطف مع الفلسطينيين وأراد أن يقدم خدمة لعائشة بالدفاع عنها . إنه محام يتبرع لأهل عائشة لإعادة بناء بيتهم الذي نسف . ويبدي رغبته أيضا بت
سجيل أمواله لعائشة . ثمة ضمير أخلاقي لدى دكتور ( بيرجمان ) ، ولكن مثل هل يتقبل السجين الفلسطيني هذا الصنيع بسهولة ؟
غالبا ما كان الشك من نوايا ( بيرجمان ) يلازم عائشة ، على الرغم من أنه بالفعل صادق في نواياه . إنها الحرب وحالة الصراع الطويلة يتركان أثرهما في موقف كل طرف من الطرف الآخر وفي تعاملهما مع بعضهما البعض .
الآخر الأوروبي :
تحفل السيرة بالحديث عن نماذج مناضلات اوروبيات دخلن إلى المعتقل لأنهن تعاطفن مع القضية الفلسطينية وعملن لأجلها ، لكنها في المقابل تأتي على نماذج أوروبية ، بريطانية تحديدا ، كانت تتعاطف مع إسرائيل والحركة الصهيونية . وخلافا ل ( مارجريت ) البريطانية المعتقلة التي تتعاطف مع الفلسطينيين وتتفهم مشاكلهم ( ص ٦٧و٦٨ ) يكون اللورد البريطاني الذي لم تحفظ عائشة اسمه . إن هذا اللورد حين يزور المعتقلات مع مدير السجن ( نير ) يخاطب المعتقلات قائلا :
" أرى أن إسرائيل رحيمة بكم ، إذ لا تحكم على الذين يقومون بعمليات تخريبية ضد جيشها ومواطنيها بالإعدام " ( ١٨٨ ) وأنه - لو ترك الأمر إليه - لو كن عنده لتصرف معهن كما يتصرف مع أعضاء الجيش الجمهوري الايرلندي .
تشابه التجربة .. تشابه الكتابة :
هل يقرأ المرء في كتاب عائشة أفكارا وأحداثا وصورة للسجن والآخر لم يقرأها في الأدبيات الفلسطينية من قبل ؟
الإجابة بالطبع لا ، فلقد كنت أدون على هامش صفحات الكتاب عناوين نصوص أتت على ما تأتي عليه عائشة . طبعا هذا ليس بمستغرب فتجربتها هي نموذج لتجارب فلسطينية كثيرة متشابهة ، وأفكارها عن الصراع تتقاطع مع أفكار كثيرين. لا عجب إذن أنك وأنت تقرأ " ثمنا للشمس " أن تتذكر غسان كنفاني وروايته " عائد إلى حيفا " واميل حبيبي وروايته " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل " ومحمود شقير وكتابه السيري " ظل آخر للمدينة " ومحمود درويش وقصيدته " جندي يحلم بالزنابق البيضاء " .
في ص ٢٦٣ إلى ص ٢٦٨ تأتي الكاتبة على نقلها إلى سجن غزة . وهي في الطريق تنظر إلى الأرض التي احتلها الإسرائيليون في العام ١٩٤٨ والأرض التي احتلوها في العام ١٩٦٧ ، فتكتب :
" بدأت أقع في فخ وعي خطير أقارب بين يناعة بياراتهم واصفرار بياراتنا بما يثبت تقدمهم وتأخرنا وما يخلقه هذا من تكريس وعي الهزيمة وتكثيف الإحباط تماما مثلما حصل معي غداة زيارتي للقدس بعد هزيمة ١٩٦٧ مباشرة (٢٦٨) .
هذه المقارنة الظالمة ، كما تكتب ، تذكرنا بالحوار الذي جرى بين سعيد . س وزوجته صفية حين زارا حيفا عقب الهزيمة مباشرة ( هزيمة ٩٦٧ ) . وحين أبدت صفية إعجابها بما لاحظت ، يرد عليها زوجها :
- هذا ما أرادوه بالفعل . أرادوا أن يقولوا لنا : انظروا . إنكم لا تستحقونها .
والفكرة نفسها يتوقف أمامها إميل حبيبي في روايته ، فحين يصطحب يعقوب اليهودي سعيدا العربي إلى السجن ، يجري بينهما حوار يقول فيه يعقوب لسعيد :
- انظر ماذا فعلنا بالأرض . لقد أحيينا الموات وأمتنا الحيات .
ويرد عليه سعيد ساخرا :
- ألهذا هدمتم قرى اللطرون ويالو وعمواس ؟
وكنت توقفت أمام هذه الفكرة مطولا في دراستين منفصلتين عن غسان واميل .
إن تشابه التجربة يؤدي إلى تشابه الكتابة أحيانا ، وعلى أي حال فإن هذا لا يقلل من قيمة كتاب عائشة الذي أظن أنني كتبت عنه شيئا ولم أكتب عنه أشياء كثيرة .
( نشر المقال في جريدة الأيام الفلسطينية بتاريخ ١٧ حزيران ٢٠١٢ )
يتبع
( نشر المقال في جريدة الأيام الفلسطينية بتاريخ ١٧ حزيران ٢٠١٢ )