رسائل الأدباء رسالة من غسان كنفاني الى المترجم دينيس جونسون ديفيز

بيروت في 23/2/1962

عزيزي دينس

ترددت أسبوعا لأجيب على رسالتك الطويلة الرائعة.. ورغم هذا التردد فلقد أكتشفت اليوم بأنه من المستحيل أن ألمّ بكافة القضايا التي طرحتَها الرسالة، هذه القضايا التي تشكل كل واحدة منها مساحة رأي واسعة… على أنني سأحاول جهدي أن أحصر ردي بالأمور الأساسية التي أعتقد أنه بوسعي أن أشكّل رأيا بها.

لست أدري لماذا كنت أعتقد، طوال زمن بعيد، أن نجيب محفوظ كاتب رائع، ولكن روعته لم تصل الى الحد الذي يجعله منزها أو عالميا.. ولقد سبب لي هذا الرأي كثيرا من المضايقات حتى أنني لم أعد أجرؤ على التصريح به جهارا… أنت تعرف وسائلنا العجيبة في الإسكات، يقولون لك اذا ما عبّرت عن رأيك بكاتب ما صراحة: “وماذا يعني كل هذا؟ هل بوسعك أن تكتب أحسن منه؟” كأن الأمر هو موضوع تحديات للصراع! لقد قلت مرة لإنسان صفعني بهذا المنطق: “أيعني كلامك أن عليّ أن أخترع صاروخا” قبل أن أقول أن الصاروخ الفلاني لم يؤد مهمته؟” مهما يكن، لقد سكت أخيرا، كان عليّ أن أشرب من نبعة الجنون أيضا!

أثرت في رسالتك العديد من القضايا الهامة، قد أتفق معك على معظمها، ولكن الأمر يبقى، كما قلت أنت، أكثر تشعبا من أن أدلي برأيي على الورق كأنني أحاضره أمام جمهور يتوجب عليه أن يصدقني دون اعتراض… أنني أعتقد فعلا أن كل وجهة نظر، مهما صغرت، تحتوي على عدد جم من الحقائق الجديرة بالتقدير والاحترام، بل أنني أؤمن بأن الحقيقة ما هي إلا ذلك التلاحم العضوي – الحياتي بين مجموعة التفاصيل التي تمثل مختلف وجوه الحقيقة، والتي قد تتناقص، ولكنها – رغم ذلك- تشكل حقيقة البنيان المتين لكل موقف إنساني!

ومن هنا أحب أن أقفز فورا الى قضية هامة أثرتها أنت في رسالتك الأخيرة حول: “افتقادي لوجهة نظر خلقية محددة في كتاباتي…” أنني أعتقد أن هذه أهم نقطة يمكن أن تثار وأنها، بشكل من الأشكال، نقطة ذكية فيها الكثير من دقة الملاحظة ومقدِرَة التقصي.. ولكن، لو ساعدتني قليلا على تفهم وجهة النظر التي أؤمن بها في هذا المضمار.. أنني أقصد الى ذلك قصدا.. قد يبدو هذا التنطع مفاجئا، ولكنني أقصد فعلا اليه كأنه، ما يزال، فلسفة راسخة في ذهني.. ربما كانت المرحلة الفكرية والمستوى الثقافي الذي أعيشه الآن هو السبب الذي يجعل مما أعتقدته أنت (ظاهرة) أحسبه أنا (وجهة نظر كاملة).. ربما كان نوع حياتي كلها يدفعني الى هذا الموقف، مهما يكن، فأنني عبرت عن ذلك بايجاز في يوميات كنت أكتبها وأنا في الكويت، قبل عامين، فلقد قلت: “أن قصصي الآن كلها تدور في واقعي الفكري الملح الذي لايني يتسائل دائما: أين الصواب؟” والواقع أن هذا السؤال – كما لا زلت أؤمن- هو “وجهة النظر الاخلاقية” في كتاباتي.! واذا استطعت أنت أن تضع يدك عليها فإن هذا الذي أريده جزئيا ولكن … كيف بوسعي أن أنقل هذه المعضلة كلها، (معضلة عدم وجود الحقيقة) الى القارئ دون عناء؟ هذه هي مشكلة قصصي كما أعتقد ولقد جعلتني أنت أضع يدي عليها…

ألست تعتقد أن هذه النقطة تفسّر قولك بأن: “المرات الوحيدة التي تشرك فيها قلبك في قصة ما يحدث حينما تكتب فقط عن فلسطين”؟ أنني أتصور بناء على ملاحظاتك كنقطة بدء، أن (فلسطين)، بالذات هي القضية الوحيدة التي تتفق فيها احساساتي مع أفكاري بشكل منسجم كامل حقيقتي.. وهذا بالذات ما أشعره حينما أتحدث عنها،ـ أو أناقش فيها، أو أكتب حولها.. ولست أعتقد أن تفسير هذا بمستعصٍ على الملاحظة.

أعيش منعزلا بعض الشيء هذه الايام عن “الأدباء”، لأسباب عديدة أولها هو أن جوّهم، لا يطاق! أنني أحتار أحيانا فيما اذا كان جو الأدب في كل بلدان العالم يتوجب عليه أن يكون بذيئا ولا مباليا وتافها و”بمعنى سطحي” وجوديا؟ أم تراني أنا ما زلت متخلفا عن الإحساس بـ”عالم أدبي” يحسونه هم ويوحي لهم بهذه التصرفات؟.. أنني في الواقع لا أعرف ماذا يقرأون ومتى يجدون الوقت ليفعلوا!.. وكما أوحيت لي أنت أن أكثر الأدباء أدبا، عندنا، هو من يستطيع تجميع جوقة أكبر من المطبلين المزمرين وراءه! وعلى أي حال فإن هذا ليس كل شيء.. إن الرغيف هنا، يا عزيزي دنيس، غالي الثمن جدا وأنا أركض وراءه بنفس السرعة التي كان هو يركض بها ورائي في الكويت! وهكذا فأنا غارق حتى عنقي في أتفه التفاهات اليوميّة… ثمة مشروع قصة في رأسي لست أجد الوقت لتنفيذه كما يجب.. وأخيرا: أنا رجل متزوج (ما زلتُ أستغرب ذلك!) ولقد ترتبت على هذا الزواج مسؤوليات مختلفة أهمها أن أثبت وجودي ظهرا ومساء بكل أدب ولياقة… (وعلى فكرة: زوجتي دانمركية وهي تجيد الانكليزية وتشاركني قراءة رسائلك، بل، أقول لك، تنتظرها… إن المشكلة هي أنني لست مترجما ناجحا وتكاد هي، بناء على هذا، تجهل كل شيء عن قصصي ولذلك فهي تنتظر رسائلك كي تعرف شيئا عنها.. وهي ما زالت تنتظر، أكثر تحرقا مني، مخطوطات قصة أو قصتين مترجمتين وعدت أنت بإرسالهما… وأرجو أنا وترجو ِAnni أن نستلمهما في رسالتك القادمة رغم تفهمنا لمشاغلك الكثيرة…)

يخيّل اليّ أنني سأخيّب أملك.. لقد قلت انك تعتقد بأنني سأكتب قصة أفضل وشيكا.. أما أنا، فلست أعتقد ذلك حاليا، أحتاج لبعض الوقت أغسل فيه رأسي وأعصابي، ولذلك فعليك أن تقرّ قرارك حول القصص الموجودة عندك (رغم أن نقدك لموت سرير رقم 12 يتزايد ويتزايد).. سأرفق لك مع هذه الرسالة آخر قصة كتبتها واسمها (لاشيء) – الرسم المرسوم على طرفها من ادائي أيضا – لا لشيء إلا لتعطيني رأيك فيها.. وأرجو أن تفعل. لقد كتبت منذ فترة قصة عن (اللواط) أحببتها أنا رغم أن رفاقي لم تعجبهم “قذارتها” كما قالوا، طبعا، لم أنشرها حتى الآن – ولكنني، أيضا،لا أعتقد أنها تهمك.

تأكد أنني سأرسل لك أية قصة أعثر عليها، أو أسمع عنها، أو أكتبها وتكون مناسبة لما تطلب.. وكذلك سأحاول أن أخترق سدّ الصمت والعزلة المضروب باختياري، حولي، واتصل عمن يكتب شيئا لأصوات*. قرأتُ مؤخرا نقدا جيدا لكتاب صدر في القاهرة اسمه (أستاذ في الحارة”** لكاتب جديد اسمه (محمد سالم)، لم أقرأ الكتاب ولكنني أتوقع أن يكون جيدا.. هل بوسعك أن تحصل عليه أم عليّ أن أتصل عمن يرسله لك من هناك؟ (لأنه لم يصل بعد الى هنا). فيما عدا هذا، لا جديد هنا. أعتقد أن القصص الباقية لمجموعتك ستتعبك أكثر مما أتعبتك القصص السابقة.! هل ترجمت أية قصة قصيرة لنجيب محفوظ من قصصه الجديدة؟ أعتقد أنها جيّدة، لماذا لا تحاول أن تحصل عليها منه؟

لم أسمع عن كتاب جديد لتوفيق عواد (رغم أن كتابيه السابقين لم يعجباني أيضا)..

لم أطلّع على (أصوات).. أطلعت على عدد واحد منها ما لبث أن ضاع مني فلم أعد أذكر أي رقم يحمل.. ولذلك سأكون سعيدا لو تيّسر لك أن ترسل المجموعة لي…

سأكتب لزكريا تامر غدا وأذكّره بأن يرسل لك القصص الموعودة.

أرجو أن أستلم قريبا منك رسالة كبيرة (أعرف أنني “طموح”!) ولسوف أكتب لك رسالة طويلة بالمقابل أعرّج فيها على النقاط التي يمنعني تعبي الحالي من البحث فيها الآن.

تحيات آني – والى اللقاء

المخلص غسان كنفاني



1635799777316.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى