هل قرأ إميل حبيبي رواية (ثيودور هرتسل) "أرض قديمة ـ جديدة" (1903) وكانت روايته "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974) في جانب منها تدحض ما ورد في رواية (هرتسل)؟ في إحدى المقابلات التي أجريت مع اميل حبيبي قال إنه كتب روايته رداً على مقولات وزير المعارف الإسرائيلي (آيغال ألون) الذي قال بعد حزيران 1967 إنه ليس هناك عرب في فلسطين، ولو كان هناك فلسطينيون وشعب فلسطيني لكان له أدب، وبالتالي فأفضل برهان على عدم وجود شعب فلسطيني هو عدم وجود أدب له.
في روايته "أرض قديمة ـ جديدة" لم ينكر (هرتسل) وجود عرب في فلسطين، فقد كان هؤلاء حاضرين فيها، ممثلين بشخصية رشيد بك الذي رحب باليهود ونشاطهم ورأى فيه إثراء لأهل البلاد، وسيستغرب رشيد بك هذا من تساؤل المسيحي صديق اليهودي ـ أي من تساؤل (كينجز كورت) صديق (فريدريك ليفنبرغ): ألم يتضرر سكان البلاد من المشروع الصهيوني، وسيقول رشيد بك متسائلاً: كيف تعتبر لصاً من يقدم لك يد المساعدة ومن يعطيك؟ لقد أثرانا اليهود. بل وسيذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فيقول إن اليهود سيجلبون الحضارة والخير العميم لسكان فلسطين. بل إن الرواية تحدثت عن وجود الكنيس إلى جانب الكنيسة إلى جانب الجامع، ودعت إلى تعايش الأديان. هل كانت رواية (هرتسل) أكثر صدقاً من مقولات (آلون)؟ ولكن ما صلة هذا بالعنوان؟
نقلت رواية (هرتسل) إلى العربية في العام 1968 ـ الطبعة التي أملك صورة عنها ـ وإن كان غسان كنفاني أشار إلى أنها نقلت في العام 1962، وصدرت في حيفا عن دار هاينس دويتش فيرلاغ.
وهذا يرجح ترجيحاً كبيراً أن يكون إميل قرأ الترجمة العربية إن لم يكن قرأ الترجمة العبرية للرواية التي كتبت أصلاً بالألمانية.
حفلت الترجمة العربية الصادرة في العام 1968 عن المجلس الأعلى للآداب والفنون التابع لوزارة المعارف والثقافة/ تل أبيب (دار النشر العربي)، وقد ترجمها (منير حداد)، حفلت بصور لفلسطين ولـ (هرتسل) وأفراد عائلته، صور تعود إلى ما قبل بدء المشروع الصهيوني وأخرى إلى ما بعد إقامة دولة إسرائيل، وغالباً ما كانت الصور توضع جنباً إلى جنب ليظهر المترجم والجهة الداعمة الفرق بين ما كانت عليه فلسطين قبل تأسيس دولة إسرائيل، وما غدت عليه بعد تأسيسها، والمترجم والجهة الداعمة يريدان أن يعززا ما ورد في الرواية. فماذا ورد في الرواية؟
يزور اليهودي (فريدريك ليفنبرغ) وصديقه المسيحي (كنجز كورت) فلسطين في بدايات ق19، ويريانها أرضاً جرداء تكثر فيها المستنقعات والملاريا، ويريان مدنها: يافا وحيفا والقدس مدناً بائسة مثل الشرق البائس المتخلف. فأين هذه البلاد ومدنها من سويسرا والريفيرا الفرنسية؟ وأين سكان هذه البلاد الوحوش من الرجل الأوروبي المتحضر؟ ويتخيل (فريدريك ليفنبرغ) فلسطين بعد عشرين عاماً من سيطرة الحركة الصهيونية عليها، يتخيلها وقد غدت قطعة من أوروبا، بل قطعة من الجنة، الشوارع عبدت وسفلتت، والمستنقعات جففت وتحولت إلى أراض زراعية مونعة ومثمرة، والقطارات الكهربائية أخذت تصل بيروت ودمشق وشرق الأردن، وغور الأردن وقد غدا أرضاً خضراء. ويمتاز أفراد الشعب القادم من أوروبا ـ أي الإسرائيليين الأوائل / الرواد / البيونير ـ يمتازون بروح المبادرة، حتى إن القطارات الكهربائية في فلسطين لتغدو أحدث من تلك الموجودة في أوروبا، ولا تختلف المصانع في الأرض القديمة ـ الجديدة عن المصانع في برلين، فأي تغيير أحدثه اليهود؟ وأية عجائب شهدتها البلاد؟ وأية معجزة تحققت؟ ويقرأ المرء في رواية (هرتسل) عشرات العبارات التي تشيد بمجهودات أبناء الشعب اليهودي والصفوة فيه، فهل راق هذا لاميل حبيبي؟
في العام 1948 أقيمت دولة إسرائيل، وتشرد ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني وأكثر، ولم يبق من الفلسطينيين في قراهم ومدنهم سوى 150,000 مواطن (شرد 650,000 مواطن). واضطر الباقون أن يعملوا في المزارع والمصانع وفي البناء، وبعد هزيمة 1967 انضم إلى هؤلاء عشرات الألوف من عمال الضفة الغربية وقطاع غزة، وازدهر البناء وازدهرت التجارة والزراعة في الدولة الناشئة، فمن الذي بنى الدولة؟ الأيدي العاملة العبرية أم الأيدي العاملة العربية؟ ومن الذي حقق المعجزة التي يتحدث عنها الإسرائيليون؟
في الروايات الصهيونية التي خرجت من معطف "أرض قديمة ـ جديدة" مثل رواية (آرثر كوستلر) "لصوص في الليل" و(ليون أوريس) (أكسودس) يصور العرب على أنهم عجزة كسالى لا يجيدون سوى البكاء، وإذا ما قارن المرء بين المناطق التي غدت تشكل دولة إسرائيل، والمناطق الفلسطينية التي حكمتها مصر والاردن، لاحظ الفرق شاسعاً وردد مقولة عجز العرب وكسلهم ـ كما تذهب الروايات الصهيونية، وكما يخدع المرء للوهلة الأولى ـ ، فماذا رأى اميل حبيبي في روايته "المتشائل"؟
في أكثر من موطن من مواطن روايته يأتي اميل على هذا الجانب، لا ليقر به، بل ليدحضه، وهكذا يحضر في روايته الخطاب الصهيوني كما يحضر نقيضه، أيضاً، فالرواية تحفل بشخصيات إسرائيلية يهودية صهيونية وبشخصيات عربية. حتى الشخصيات العربية التي تخدم الدولة العبرية وتتعاون معها، مثل شخصية سعيد بطل الرواية، لا يروق لها الخطاب الصهيوني، بل إنها تسخر منه وتتهكم على أصحابه، لأن لها رأياً آخر يقول عكس ما تقوله الرواية الصهيونية.
في الرسالة الرابعة من الكتاب الثاني "باقية" من "المتشائل" يتساءل سعيد: "فمن شيد المباني الشاهقة في هذه البلاد، وشق طرقها العريضة، وزفتها وأحكم الاستحكامات، وحفر الملاجئ، ومن زرع القطن، ثم جناه، ثم حلجه.." و"من شيد المباني وشق الطرقات وحرث الأرض وزرعها، في إسرائيل، غير العرب الباقية في إسرائيل؟ فالعرب الباقية، صبرا، فيما احتلته دولتنا من أرضٍ لهم لم يجد لها أحمد الشقيري متسعاً في ملفات خطبه الرنانة... إلخ.
وفي الرسالة الثالثة من الكتاب الثالث "يعاد الثانية" يزعم رجل المخابرات الصهيوني أن من كبار اليهود في دولة إسرائيل من يعتقد أن الدولة تعامل العرب داخل السجون معاملة أفضل منها خارج السجون وأن هؤلاء الكبار "موقنون أننا بذلك نشجعهم على الاستمرار في مقاومة رسالتنا الحضارية في المناطق الجديدة....".
وسيفخر الرجل الإسرائيلي بما أنجزه الإسرائيليون: "الخضرة، الخضرة على يمينك وعلى يسارك وفي كل مكان، أحيينا الموات وأمتنا الحيات (وكان يعني الأفاعي)، ولذلك أطلقنا على حدود إسرائيل القديمة اسم "الخط الأخضر" مما بعدها جبال جرداء وسهول صحراء وأرض قفراء تنادينا أن أقبلي يا جرارات المدينة".
وسيكتشف سعيد زيف ادعاءات الرجل الإسرائيلي حين يقيم في قرية عربية يعمل سكانها في أحد الكيبوتسات، فما إن تحاصر القرية وما إن يمنع سكانها من الخروج للعمل، حتى يتوسط أهل الكيبوتس لهم ليفك عنهم الطوق فالأراضي "تتوق إلى أيادينا الماهرة، فيتوسطون لفك الطوق، فنعود إلى العمل في حقولهم.." وهنا يعقب سعيد : "فالخضرة نبت سواعدكم، إذن، لا كما ادّعى الرجل الكبير، كأن اميل بهذا ينقض الرواية الصهيونية من أساسها. حقاً هل كانت رواية (هرتسل) من قراءات إميل حبيبي؟.
أ. د. عادل الأسطة
2013-08-04
في روايته "أرض قديمة ـ جديدة" لم ينكر (هرتسل) وجود عرب في فلسطين، فقد كان هؤلاء حاضرين فيها، ممثلين بشخصية رشيد بك الذي رحب باليهود ونشاطهم ورأى فيه إثراء لأهل البلاد، وسيستغرب رشيد بك هذا من تساؤل المسيحي صديق اليهودي ـ أي من تساؤل (كينجز كورت) صديق (فريدريك ليفنبرغ): ألم يتضرر سكان البلاد من المشروع الصهيوني، وسيقول رشيد بك متسائلاً: كيف تعتبر لصاً من يقدم لك يد المساعدة ومن يعطيك؟ لقد أثرانا اليهود. بل وسيذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فيقول إن اليهود سيجلبون الحضارة والخير العميم لسكان فلسطين. بل إن الرواية تحدثت عن وجود الكنيس إلى جانب الكنيسة إلى جانب الجامع، ودعت إلى تعايش الأديان. هل كانت رواية (هرتسل) أكثر صدقاً من مقولات (آلون)؟ ولكن ما صلة هذا بالعنوان؟
نقلت رواية (هرتسل) إلى العربية في العام 1968 ـ الطبعة التي أملك صورة عنها ـ وإن كان غسان كنفاني أشار إلى أنها نقلت في العام 1962، وصدرت في حيفا عن دار هاينس دويتش فيرلاغ.
وهذا يرجح ترجيحاً كبيراً أن يكون إميل قرأ الترجمة العربية إن لم يكن قرأ الترجمة العبرية للرواية التي كتبت أصلاً بالألمانية.
حفلت الترجمة العربية الصادرة في العام 1968 عن المجلس الأعلى للآداب والفنون التابع لوزارة المعارف والثقافة/ تل أبيب (دار النشر العربي)، وقد ترجمها (منير حداد)، حفلت بصور لفلسطين ولـ (هرتسل) وأفراد عائلته، صور تعود إلى ما قبل بدء المشروع الصهيوني وأخرى إلى ما بعد إقامة دولة إسرائيل، وغالباً ما كانت الصور توضع جنباً إلى جنب ليظهر المترجم والجهة الداعمة الفرق بين ما كانت عليه فلسطين قبل تأسيس دولة إسرائيل، وما غدت عليه بعد تأسيسها، والمترجم والجهة الداعمة يريدان أن يعززا ما ورد في الرواية. فماذا ورد في الرواية؟
يزور اليهودي (فريدريك ليفنبرغ) وصديقه المسيحي (كنجز كورت) فلسطين في بدايات ق19، ويريانها أرضاً جرداء تكثر فيها المستنقعات والملاريا، ويريان مدنها: يافا وحيفا والقدس مدناً بائسة مثل الشرق البائس المتخلف. فأين هذه البلاد ومدنها من سويسرا والريفيرا الفرنسية؟ وأين سكان هذه البلاد الوحوش من الرجل الأوروبي المتحضر؟ ويتخيل (فريدريك ليفنبرغ) فلسطين بعد عشرين عاماً من سيطرة الحركة الصهيونية عليها، يتخيلها وقد غدت قطعة من أوروبا، بل قطعة من الجنة، الشوارع عبدت وسفلتت، والمستنقعات جففت وتحولت إلى أراض زراعية مونعة ومثمرة، والقطارات الكهربائية أخذت تصل بيروت ودمشق وشرق الأردن، وغور الأردن وقد غدا أرضاً خضراء. ويمتاز أفراد الشعب القادم من أوروبا ـ أي الإسرائيليين الأوائل / الرواد / البيونير ـ يمتازون بروح المبادرة، حتى إن القطارات الكهربائية في فلسطين لتغدو أحدث من تلك الموجودة في أوروبا، ولا تختلف المصانع في الأرض القديمة ـ الجديدة عن المصانع في برلين، فأي تغيير أحدثه اليهود؟ وأية عجائب شهدتها البلاد؟ وأية معجزة تحققت؟ ويقرأ المرء في رواية (هرتسل) عشرات العبارات التي تشيد بمجهودات أبناء الشعب اليهودي والصفوة فيه، فهل راق هذا لاميل حبيبي؟
في العام 1948 أقيمت دولة إسرائيل، وتشرد ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني وأكثر، ولم يبق من الفلسطينيين في قراهم ومدنهم سوى 150,000 مواطن (شرد 650,000 مواطن). واضطر الباقون أن يعملوا في المزارع والمصانع وفي البناء، وبعد هزيمة 1967 انضم إلى هؤلاء عشرات الألوف من عمال الضفة الغربية وقطاع غزة، وازدهر البناء وازدهرت التجارة والزراعة في الدولة الناشئة، فمن الذي بنى الدولة؟ الأيدي العاملة العبرية أم الأيدي العاملة العربية؟ ومن الذي حقق المعجزة التي يتحدث عنها الإسرائيليون؟
في الروايات الصهيونية التي خرجت من معطف "أرض قديمة ـ جديدة" مثل رواية (آرثر كوستلر) "لصوص في الليل" و(ليون أوريس) (أكسودس) يصور العرب على أنهم عجزة كسالى لا يجيدون سوى البكاء، وإذا ما قارن المرء بين المناطق التي غدت تشكل دولة إسرائيل، والمناطق الفلسطينية التي حكمتها مصر والاردن، لاحظ الفرق شاسعاً وردد مقولة عجز العرب وكسلهم ـ كما تذهب الروايات الصهيونية، وكما يخدع المرء للوهلة الأولى ـ ، فماذا رأى اميل حبيبي في روايته "المتشائل"؟
في أكثر من موطن من مواطن روايته يأتي اميل على هذا الجانب، لا ليقر به، بل ليدحضه، وهكذا يحضر في روايته الخطاب الصهيوني كما يحضر نقيضه، أيضاً، فالرواية تحفل بشخصيات إسرائيلية يهودية صهيونية وبشخصيات عربية. حتى الشخصيات العربية التي تخدم الدولة العبرية وتتعاون معها، مثل شخصية سعيد بطل الرواية، لا يروق لها الخطاب الصهيوني، بل إنها تسخر منه وتتهكم على أصحابه، لأن لها رأياً آخر يقول عكس ما تقوله الرواية الصهيونية.
في الرسالة الرابعة من الكتاب الثاني "باقية" من "المتشائل" يتساءل سعيد: "فمن شيد المباني الشاهقة في هذه البلاد، وشق طرقها العريضة، وزفتها وأحكم الاستحكامات، وحفر الملاجئ، ومن زرع القطن، ثم جناه، ثم حلجه.." و"من شيد المباني وشق الطرقات وحرث الأرض وزرعها، في إسرائيل، غير العرب الباقية في إسرائيل؟ فالعرب الباقية، صبرا، فيما احتلته دولتنا من أرضٍ لهم لم يجد لها أحمد الشقيري متسعاً في ملفات خطبه الرنانة... إلخ.
وفي الرسالة الثالثة من الكتاب الثالث "يعاد الثانية" يزعم رجل المخابرات الصهيوني أن من كبار اليهود في دولة إسرائيل من يعتقد أن الدولة تعامل العرب داخل السجون معاملة أفضل منها خارج السجون وأن هؤلاء الكبار "موقنون أننا بذلك نشجعهم على الاستمرار في مقاومة رسالتنا الحضارية في المناطق الجديدة....".
وسيفخر الرجل الإسرائيلي بما أنجزه الإسرائيليون: "الخضرة، الخضرة على يمينك وعلى يسارك وفي كل مكان، أحيينا الموات وأمتنا الحيات (وكان يعني الأفاعي)، ولذلك أطلقنا على حدود إسرائيل القديمة اسم "الخط الأخضر" مما بعدها جبال جرداء وسهول صحراء وأرض قفراء تنادينا أن أقبلي يا جرارات المدينة".
وسيكتشف سعيد زيف ادعاءات الرجل الإسرائيلي حين يقيم في قرية عربية يعمل سكانها في أحد الكيبوتسات، فما إن تحاصر القرية وما إن يمنع سكانها من الخروج للعمل، حتى يتوسط أهل الكيبوتس لهم ليفك عنهم الطوق فالأراضي "تتوق إلى أيادينا الماهرة، فيتوسطون لفك الطوق، فنعود إلى العمل في حقولهم.." وهنا يعقب سعيد : "فالخضرة نبت سواعدكم، إذن، لا كما ادّعى الرجل الكبير، كأن اميل بهذا ينقض الرواية الصهيونية من أساسها. حقاً هل كانت رواية (هرتسل) من قراءات إميل حبيبي؟.
أ. د. عادل الأسطة
2013-08-04
إميل حبيبي و(ثيودور هرتسل) - عادل الأسطة -
www.al-ayyam.ps