.. وأنا أقرأ رواية صديق المدرسة الثانوية الذي لم ألتق به منذ ذلك الزمن ـ أي منذ 1972 ـ "6000 ميل" الصادرة حديثاً (2013) عن دار الجندي ـ والصديق هو محمد مهيب جبر، وهو ابن مخيم بلاطة وأخ للكاتب محمد كمال جبر وللشاعر محمد معين جبر، وأنا أقرأ الرواية لاحظت أنها نص يدرج ضمن نصوص أدبية فلسطينية عديدة تحفل بخطاب سياسي وفكري يرد على الخطاب السياسي والأيديولوجي في الأدبيات الصهيونية. وهذه النصوص بدأت تبرز منذ العام 1905، عام التفت نجيب نصار إلى مقال ـ بالانجليزية ـ عن الصهيونية وأخطارها، ثم بدأ بعد ذلك، وبعد نصار، أدباء عديدون يقرؤون الأدبيات الصهيونية ويردون على ما تحفل به من خطاب. من سليمان التاجي الفاروقي ومروراً بإبراهيم طوقان (في الرد على رئوبين شاعر اليهود) وناصر الدين النشاشيبي (حبات البرتقال) وغسان كنفاني (عائد إلى حيفا) ومعين بسيسو (شمشون ودليلة) وإميل حبيبي (الوقائع الغريبة ...) ومحمود درويش (الكتابة على ضوء بندقية) و(يوميات الحزن العادي) وأكرم هنية (دروب جميلة) و.. و.. و.. وأخيراً محمد مهيب جبر (6000 ميل). وسأدهش، ذات محاضرة في مقر اتحاد الكتاب الفلسطينيين في العام 1992، شاعرنا المرحوم عبد اللطيف عقل، حين أقول هذا الكلام الذي نشرته في كتاب في العام 1993 عنوانه "الأديب الفلسطيني والأدب الصهيوني"، وسيقول لي: لم أكن أعرف أن خطابهم السياسي والأيديولوجي حاضر في نصوصنا الأدبية إلى هذه الدرجة. كانت محاضرتي خرجت من معطف رسالة الدكتوراه التي أنفقت في كتابتها أربع سنوات، ما كان لها أن تكون على ما كانت عليه لولا قراءاتي لنصوص أدبية صهيونية باللغة الألمانية، تماماً كما حدث مع غسان كنفاني ومعين بسيسو ومحمود درويش، فلولا إتقانهما الانجليزية لما كان كتاب الأول "في الأدب الصهيوني"، وربما كان كتاب الثاني "نماذج من الرواية الإسرائيلية المعاصرة"، وأيضاً لما كانت نصوص كثيرة لدرويش، شعرية ونثرية، لولا إتقانه العبرية.
رواية محمد مهيب جبر "6000 ميل" رواية أفكار تدحض أفكاراً، رواية رواية ترد على رواية، رواية شخص يبحث عن جذور ترد على رواية يهود يبحثون عن جذورهم. وإذا كان هؤلاء ـ أي يهود دولة إسرائيل ـ عادوا إلى فلسطين، بعد ألفي عام يبحثون عن جذور لهم، فلم تحل السنون بينهم وبين أماكن حل بها ذات يوم جدود لهم ـ كما يزعمون، فإن بطل رواية "6000 ميل" المولود في جزر المارتينيك، بعد العام 1948، لأب فلسطيني لاجئ وأم غير عربية، يعود، أيضاً، على الرغم من بعد المسافة "6000 ميل"، إلى فلسطين بحثاً عن قرية أبيه وعظام أجداده فيها.
وكما يلتقي بطل رواية ربعي المدهون "السيدة من تل أبيب" (ط2/2010)، وهو عائد إلى فلسطين بجواز سفر بريطاني، لزيارة أهله في غزة، في الطائرة، بالإسرائيلية دانا، ويتحاوران ـ وتكون دانا على علاقة مع ابن زعيم عربي ـ يلتقي بطل "6000 ميل" بالإسرائيلي، على متن الطائرة، أيضاً، أوري ليفي، وينشأ حوار، وتنشأ علاقات، أيضاً، بينهما، تتصارع فيه الروايتان. ويخيل إليّ شخصياً أن رواية الصديق كلها في النهاية هي روايته هو للصراع العربي الإسرائيلي، روايته التي تنمّ عن اطلاع على ما يجري في فلسطين المحتلة التي ولد في أحد مخيماتها ثم ابتعد عنها، ولم يعد إليها حسب ما أعرف. فما يقوله بطل الرواية (بيت مارتينيك) هو ما يقوله الكاتب، وما يقوله السارد هو ما يقوله الكاتب، وما ارتباط (بيت مارتينيك) بفلسطين التي لم يولد فيها، وحبه لها، واعتبارها وطنه، سوى ارتباط محمد مهيب جبر بفلسطين التي ولد فيها، ولكنه بعيد عنها، فلسطين التي يحبها وما زال يعتبرها وطنه الجميل، وطنه الذي يقدم له الكاتب صورة مثالية أكثر مما هي صورة ملموسة على أرض الواقع. كان المرء يقرأ صراع خطابات أكثر مما يقرأ رواية شخوص من لحم ودم.
صورة اللاجئ الفلسطيني: "كل اللاجئين خارج الوطن سواء" (ص151).
هناك أشياء كثيرة يمكن أن تلفت النظر في الرواية، لكن ما لفت نظري شخصياً كثيراً هو تلك الصورة التي يقدمها السارد/ الشخوص للاجئ الفلسطيني، وهي ـ وأكرر ـ فيما أرى رؤية الكاتب نفسه ـ وهو لاجئ من كفار سابا يقيم، كما ذكرت، في طفولته، في مخيم بلاطة، وفي شبابه، في المنفى ـ سأقتبس فقرتين فقط تبرزان تصوره للاجئ لأعقب عليهما. الأولى ترد في ص 170: "إن الوثاق الذي يربط اللاجئ بعائلته الحقيقية ليس الدم وحده.. وإنما شعور الآخرين وإحساسهم بمحنته في ظروف الحياة التي يعيشها.. ومن النادر جداً أن يكبر جميع اللاجئين تحت سماء مخيم واحد. لقد فرقتنا القارات، لكن بصيرة "العاجز" جمعتنا كلنا في وحدة المخيم بعائلاته المتشابهة، وإن العائلة التي لم تعش في المخيم إنما تعيش اللجوء بطريقتها". وإذا كان (بيت مارتينيك) لم يعش في المخيم، فإنه عاش اللجوء بطريقته. وسيعترف بالتالي: "ولكن عشت محروماً من المشاركة في كل هذا.. من مشاركة أن يرى الناس علامات اللجوء مطبوعة على وجهي مثلما انطبعت على كل وجه رأيناه في المخيم.. في ملابسي المرقعة.. وحقيبتي المدرسية.. في قدميّ الحافيتين ورأسي العاري..." (171/172).
اللاجئون متشابهون، وعائلات المخيم متشابهة، وهم مثل فلسطيني جبرا ابراهيم جبرا في رواياته، نورانيون تقريباً. هل اللاجئون حقاً هكذا أم أن المؤلف الذي ابتعد عن حياة المخيم، مثل جبرا الذي ابتعد عن فلسطين وعاش في بغداد بعيداً عن المخيمات وحواري بيت لحم، يرسم الصورة التي كونها في طفولته لأهل المخيم؟ (ينظر ص151 وما بعدها).
حين كنا أطفالاً، وربما لفترة بعد ذلك، كنا نقول إن أهل المخيم عائلة واحدة، على الرغم من الخلافات والاختلافات الكثيرة بينهم. وحين وعينا سياسياً وانضم شباب منا إلى حركة "فتح" وآخرون إلى الجبهتين، وفيما بعد إلى "حماس"، أصبحنا مختلفين، بل ومتنازعين، ولم نعد عائلة واحدة. والصورة التي يرسمها المؤلف للمخيم هي تلك التي كانت في ذهنه قبل العام 1972، ومنذ ذلك العام وهو بعيد عن حياة المخيم.
سوف أستحضر ثلاثة أعمال أدبية أتى مؤلفوها فيها على حياة المخيم وأبرزوا لأبنائه صورة مختلفة كلياً عن تلك التي أبرزها محمد مهيب جبرا. في قصتها "لأنه يحبهم" تبرز سميرة عزام غير صورة للاجئ الفلسطيني. هنا اللاجئ، المخبر، وهناك اللاجئ اللص، وهناك اللاجئة البغي. وهؤلاء لم يولدوا هكذا. لقد ولدوا وعاشوا في فلسطين حياة محترمة، وقلب فقدان الوطن حياتهم رأساً على قدم. إن المخيم المؤقت الطارئ، حولنا من مزارعين يزرعون أرضهم إلى عاجزين عالة على الأمم المتحدة، والنكبة التي استشهد فيها المقاومون جعلت المرأة بلا معيل، فباعت جسدها مضطرة، والموظف ذو الدخل الذي لا يكفي يفكر بسرقة طحين اللاجئين... وفي قصته "القميص المسروق" يبرز غسان كنفاني غير صورة للاجئ، ثمة لاجئ يتواطأ مع الأجنبي موظف الوكالة، ليبيع طحين اللاجئين في السوق السوداء، ليثرى، وثمة لاجئ آخر يكاد ابنه يموت من البرد، فلا قميص له، وحين يعرض عليه أن يشارك في السرقة، حين لاحظ كيس الطحين يمشي، يرفض، لأنه لا يريد أن يسرق طحين إخوانه.
هل قرأ محمد مهيب جبر رواية سامية عيسى "حليب التين" التي أتت على حياة اللاجئين في لبنان بعد العام 1990؟
تمل العائلة التي استشهد الزوج فيها، والأبناء، أيضاً، تمل من الإقامة في المخيم، وتهاجر، للأسف، إلى الدول الاسكندنافية، لتغدو هذه وطنها الجميل. أنا شخصياً أتمنى أن أصحو ذات صباح وأرى أهل المخيمات في مدنهم وقراهم في فلسطين، وألاّ أرى المخيمات إطلاقاً!!
2013-05-19
رواية محمد مهيب جبر "6000 ميل" رواية أفكار تدحض أفكاراً، رواية رواية ترد على رواية، رواية شخص يبحث عن جذور ترد على رواية يهود يبحثون عن جذورهم. وإذا كان هؤلاء ـ أي يهود دولة إسرائيل ـ عادوا إلى فلسطين، بعد ألفي عام يبحثون عن جذور لهم، فلم تحل السنون بينهم وبين أماكن حل بها ذات يوم جدود لهم ـ كما يزعمون، فإن بطل رواية "6000 ميل" المولود في جزر المارتينيك، بعد العام 1948، لأب فلسطيني لاجئ وأم غير عربية، يعود، أيضاً، على الرغم من بعد المسافة "6000 ميل"، إلى فلسطين بحثاً عن قرية أبيه وعظام أجداده فيها.
وكما يلتقي بطل رواية ربعي المدهون "السيدة من تل أبيب" (ط2/2010)، وهو عائد إلى فلسطين بجواز سفر بريطاني، لزيارة أهله في غزة، في الطائرة، بالإسرائيلية دانا، ويتحاوران ـ وتكون دانا على علاقة مع ابن زعيم عربي ـ يلتقي بطل "6000 ميل" بالإسرائيلي، على متن الطائرة، أيضاً، أوري ليفي، وينشأ حوار، وتنشأ علاقات، أيضاً، بينهما، تتصارع فيه الروايتان. ويخيل إليّ شخصياً أن رواية الصديق كلها في النهاية هي روايته هو للصراع العربي الإسرائيلي، روايته التي تنمّ عن اطلاع على ما يجري في فلسطين المحتلة التي ولد في أحد مخيماتها ثم ابتعد عنها، ولم يعد إليها حسب ما أعرف. فما يقوله بطل الرواية (بيت مارتينيك) هو ما يقوله الكاتب، وما يقوله السارد هو ما يقوله الكاتب، وما ارتباط (بيت مارتينيك) بفلسطين التي لم يولد فيها، وحبه لها، واعتبارها وطنه، سوى ارتباط محمد مهيب جبر بفلسطين التي ولد فيها، ولكنه بعيد عنها، فلسطين التي يحبها وما زال يعتبرها وطنه الجميل، وطنه الذي يقدم له الكاتب صورة مثالية أكثر مما هي صورة ملموسة على أرض الواقع. كان المرء يقرأ صراع خطابات أكثر مما يقرأ رواية شخوص من لحم ودم.
صورة اللاجئ الفلسطيني: "كل اللاجئين خارج الوطن سواء" (ص151).
هناك أشياء كثيرة يمكن أن تلفت النظر في الرواية، لكن ما لفت نظري شخصياً كثيراً هو تلك الصورة التي يقدمها السارد/ الشخوص للاجئ الفلسطيني، وهي ـ وأكرر ـ فيما أرى رؤية الكاتب نفسه ـ وهو لاجئ من كفار سابا يقيم، كما ذكرت، في طفولته، في مخيم بلاطة، وفي شبابه، في المنفى ـ سأقتبس فقرتين فقط تبرزان تصوره للاجئ لأعقب عليهما. الأولى ترد في ص 170: "إن الوثاق الذي يربط اللاجئ بعائلته الحقيقية ليس الدم وحده.. وإنما شعور الآخرين وإحساسهم بمحنته في ظروف الحياة التي يعيشها.. ومن النادر جداً أن يكبر جميع اللاجئين تحت سماء مخيم واحد. لقد فرقتنا القارات، لكن بصيرة "العاجز" جمعتنا كلنا في وحدة المخيم بعائلاته المتشابهة، وإن العائلة التي لم تعش في المخيم إنما تعيش اللجوء بطريقتها". وإذا كان (بيت مارتينيك) لم يعش في المخيم، فإنه عاش اللجوء بطريقته. وسيعترف بالتالي: "ولكن عشت محروماً من المشاركة في كل هذا.. من مشاركة أن يرى الناس علامات اللجوء مطبوعة على وجهي مثلما انطبعت على كل وجه رأيناه في المخيم.. في ملابسي المرقعة.. وحقيبتي المدرسية.. في قدميّ الحافيتين ورأسي العاري..." (171/172).
اللاجئون متشابهون، وعائلات المخيم متشابهة، وهم مثل فلسطيني جبرا ابراهيم جبرا في رواياته، نورانيون تقريباً. هل اللاجئون حقاً هكذا أم أن المؤلف الذي ابتعد عن حياة المخيم، مثل جبرا الذي ابتعد عن فلسطين وعاش في بغداد بعيداً عن المخيمات وحواري بيت لحم، يرسم الصورة التي كونها في طفولته لأهل المخيم؟ (ينظر ص151 وما بعدها).
حين كنا أطفالاً، وربما لفترة بعد ذلك، كنا نقول إن أهل المخيم عائلة واحدة، على الرغم من الخلافات والاختلافات الكثيرة بينهم. وحين وعينا سياسياً وانضم شباب منا إلى حركة "فتح" وآخرون إلى الجبهتين، وفيما بعد إلى "حماس"، أصبحنا مختلفين، بل ومتنازعين، ولم نعد عائلة واحدة. والصورة التي يرسمها المؤلف للمخيم هي تلك التي كانت في ذهنه قبل العام 1972، ومنذ ذلك العام وهو بعيد عن حياة المخيم.
سوف أستحضر ثلاثة أعمال أدبية أتى مؤلفوها فيها على حياة المخيم وأبرزوا لأبنائه صورة مختلفة كلياً عن تلك التي أبرزها محمد مهيب جبرا. في قصتها "لأنه يحبهم" تبرز سميرة عزام غير صورة للاجئ الفلسطيني. هنا اللاجئ، المخبر، وهناك اللاجئ اللص، وهناك اللاجئة البغي. وهؤلاء لم يولدوا هكذا. لقد ولدوا وعاشوا في فلسطين حياة محترمة، وقلب فقدان الوطن حياتهم رأساً على قدم. إن المخيم المؤقت الطارئ، حولنا من مزارعين يزرعون أرضهم إلى عاجزين عالة على الأمم المتحدة، والنكبة التي استشهد فيها المقاومون جعلت المرأة بلا معيل، فباعت جسدها مضطرة، والموظف ذو الدخل الذي لا يكفي يفكر بسرقة طحين اللاجئين... وفي قصته "القميص المسروق" يبرز غسان كنفاني غير صورة للاجئ، ثمة لاجئ يتواطأ مع الأجنبي موظف الوكالة، ليبيع طحين اللاجئين في السوق السوداء، ليثرى، وثمة لاجئ آخر يكاد ابنه يموت من البرد، فلا قميص له، وحين يعرض عليه أن يشارك في السرقة، حين لاحظ كيس الطحين يمشي، يرفض، لأنه لا يريد أن يسرق طحين إخوانه.
هل قرأ محمد مهيب جبر رواية سامية عيسى "حليب التين" التي أتت على حياة اللاجئين في لبنان بعد العام 1990؟
تمل العائلة التي استشهد الزوج فيها، والأبناء، أيضاً، تمل من الإقامة في المخيم، وتهاجر، للأسف، إلى الدول الاسكندنافية، لتغدو هذه وطنها الجميل. أنا شخصياً أتمنى أن أصحو ذات صباح وأرى أهل المخيمات في مدنهم وقراهم في فلسطين، وألاّ أرى المخيمات إطلاقاً!!
2013-05-19
صراع الخطابات:
www.al-ayyam.ps