يعد " كتاب الأسرار" للشاعرة الروائية سلوى النعيمي ، الكتاب السردي الثاني بعد كتابها الذائع الصيت " برهان العسل ". ويلاحظ أن غلاف الكتاب يخلو من أية إشارة إلى جنسه الأدبي ، بيد أن العنوان يوحي إلى المتلقي أنه بإزاء عمل سردي يروي مجموعة من الأسرار شاءت الكاتبة أن تفضي بها للناس. وقلما تبوح المرأة العربية بأسرارها الحميمة في مجتمعنا العربي الذي ما زالت تسود فيه قيم الأبيسية والعبودية والقهر والاستبداد، ويعتبر فيه كسر الطابوهات جريمة لا تغتفر.
لقد عانت المرأة العربية كبتاً تاريخياً ، وقاست ألواناً من الظلم والاستعباد ، ومازالت مع بعض الاختلاف في الأسلوب. وليس معنى هذا أن الرجل ليس شريكاً لها في هذه المعاناة. فكلاهما " يعانيان من قهر مشترك ـ في الوطن العربي ـ ومن عبودية وحرمان لا مثيل لهما " كما يقول د.عبدالعزيز المقالح ( شهرزاد وغواية السرد ، وجدان الصائغ ، الدار العربية للعلوم ـ ناشرون ، بيروت ، 2008 ، ص :224 وما بعدها )
إن سلوى النعيمي تعبر بجرأة ـ كشأنها في روايتها " برهان العسل " عن المكنونات والدواخل والخبايا التي تعتمل في نفس المرأة العربية باعتبارها إنساناً يمتلئ بالرقة والحنان ومشاعر الأمومة ، كما يمتلئ أيضاً بالصبوات الجسدية والأحلام الجنسية. إن الكاتبة وغيرها من الكاتبات العربيات ، نذكر منهن على سبيل المثل لا الحصر : مي التلمساني ـ ميرال الطحاوي ـ أحلام مستغانمي ـ ميسون صقر ـ منى بْرِنس ـ نورا أمين ـ بهيجة حسين ـ سمحية خريس ...أبين إلا أن يحركن ـ في كتاباتهن ـ سكون البرك الفكرية الآسنة ، وأن يكن صوت من لا قدرة لهن على الصراخ والبوح بالخبايا الدفينة التي ينؤن بها في مجتمع قاهر.
تقدم لنا سلوى النعيمي أسرار المرأة العربية بلغة صريحة جريئة . تسمي الأشياء بمسمياتها دون مواربة أو تزييف ، وتوجه النقد اللاذع للمواضعات والتقاليد السلبية في المجتمع ، ممزقة بأظفار يراعتها قناع المحافظة والتقية والنفاق الذي يخفي مثالبه ومفاسده وراءه. إنها تستغرب أن يكون في اللغة العربية كلمات محجبة.فما هي أسرار المرأة التي تفضي لنا بها في كتابها ؟
تطرح الكاتبة هذه الأسرار من خلال ثمانية فصول قصيرة ، تعنى بوضع عناوين لها كما يلي : البطن ـ الملائكة ـ القيلولة ـ من لم يمت ـ بين عشرة جدران ـ الزجاج ـ كنت أشبهك ـ أحابيل. وتتصدر هذه الفصول مقدمة مركزة أهم ما ورد فيها : الدفاع عن حرية التعبير ، والسخرية من الرقابة العربية الرسمية في زمن الإنترنيت. تقول : " الرقابة في زمن الإنترنيت ؟ أية حماقة. " ( ص : 10 )
وفي كل فصل من الفصول المذكورة ، تقدم لنا مشكلة من المشاكل التي تعاني منها المرأة في مجتمعنا العربي :
1 ـ وقوع المرأة في علاقة غير شرعية ينجم عنها حمل غير شرعي ، فيهب المجتمع لمعالجة المشكل بقسوة ورعونة وعنف ، وذلك باللجوء إلى الإجهاض خوفاً من الفضيحة ، أو بقتل جالبة العار لأهلها ، لاسيما في الأرياف العربية. إن الساردة هنا لا تكتفي بسرد حكايتها الخاصة مع الإجهاض، بل تروي حكايات بنات جنسها مع هذه التجربة الأليمة الخطيرة." وكان أهل مدينتنا يحكون حكايات مع الطالبات اللواتي يجهضن في مراحيض الجامعة " ( ص : 21 ).
2 ـ معاناة المرأة من الحياة الزوجية بعد أن تمسي روتينية باردة بعد سنوات من الزواج ، وتفتقد وهج الحب ، ويطفئ التعود فيها لهب الرغبة والشهوة. تقول الســاردة : " ماذا يبقى من الحب بعد الزواج ؟ " ( ص : 26 ). تجيب في مقطع سردي آخر بقولها : " بعد الزواج نصير ملائكة ، لا جنس لنا " ( ص : 33 ) ، لذلك تلجأ الساردة ( الزوجة ) إلى علاقات خارج المؤسسة الزوجية باحثة عن من يعيد إليها لهب الإحساس والرغبة والاشتهاء . تقول : " منذ عامين تفتح جسدي للمرة الأولى على رجل آخر ..نظرت إليه واكتشفت أنني أشتهيه " ( ص : 31 ). ويبدو أن الساردة هنا تعبر عن هموم الكثير من الزوجات اللواتي لم يوفقن في حياتهن الزوجية من حيث إشباع الناحية الجنسية مع أزواجهن ، أو اللواتي فرض عليهن الزواج خوفاً من آفة العنوسة ، أو رضوخاً لسلطة الأسرة والمجتمع القاهرة. وقد يكون الإحساس ببرودة الحياة في ظل المؤسسة الزوجية، واللجوء من ثم إلى الخيانة أمراً وارداً بالنظر إلى الظروف التي تم فيها الزواج.
إن الساردة في هذا الفصل ، تشبه إلى حد كبير شخصية " إيما " في رواية " مدام بوفاري " لجوستاف فلوبير . لقد عاشت " إيما " حياة رتيبة مضجرة مع " شارل بوفاري " زوجها، ودفعها القنوط والرتابة إلى التطلع إلى فضاءات الحرية والمتعة في باريس ، فانساقت إلى الانغمار في علاقات جنسية مع عدد من العشاق.
3 ـ وضعية المرأة في المجتمع العربي . لقد قدمت الساردة هذه الوضعية من خلال فقرات من دراسة أنجزتها لتشارك بها في مؤتمر عقد لدراسة " المرأة بين الاستقلالية والتبعية ". والملاحظ أن الساردة تخلط في معالجتها هذه الوضعية بين الذاتي والموضوعي، فهي تعبر عن تجربتها الخاصة مع قمع الأب.
"الرجل المقموع يتحول في بيته إلى قامع" ( ص : 39 ) ؛ وتعبر عن الوضعية العامة للمرأة من خلال فقرات من دراستها كما يلي : "ما تزال المرأة عاجزة عن المشاركة الفعلية في صنع القرار" ( ص: 38 )
- " مفهوم الرجولة يفرض على الذكر في مجتمعنا أن يمارس مختلف أنواع الخبرات الاجتماعية حتى المحظورة منها دون أن يستنكر عليه ذلك . أما إذا قامت المرأة بالأعمال نفسها .... " ( ص : 39 )
- " المرأة كائن ذاتي لا يملك القدرة على تجاوز الذات إلى المجتمع " ( ص : 40 ) - " ما تزال المرأة العربية خاضعة للضغوط الاجتماعية " ( ص : 41) - " لا تعبر المرأة العربية عن تجاربها خوفاً من أحكام المجتمع الأخلاقية التي لا تفصل بين الحياة الخاصة والعمل الفني " ( ص : 43 )
ولكن الساردة في الوقت الذي تورد فيه هذه الفقرات الدالة على قمع المجتمع لحرية المرأة ودونيتها وعجزها عن القيام بالمبادرة وحرمانها مما يتاح للرجل ، في نفس هذا الوقت ، تجهر هي بتمردها على هذه الوضعية. وتمارس حريتها، وتكون هي المبادرة للدعوة إلى ممارسة الحب والجنس مع الرجل الذي التقت به في المؤتمر وصادف هواها. تقول : " مددت يدي إليه وجاء إلي " ( ص : 98 ) " أعرف أن رغبتي لا تبدأ إلا مني " ( ص : 40)
4 ـ سيطرة الأسرة الأبيسية المتمثلة في معاملة الأب الجافة للساردة ، واستيلائه وحده على إرث أخيها الذي مات بالسرطان بعد سبعة عشر عاماً من العمل في بلد صحراوي. في هذا الفصل ( من لم يمت ) توجه الساردة نقداً لاذعاً للحب الأبوي الزائف ، إذ يعمد الأب بحضور أسرته إلى عد الغنيمة التي ينفرد بها ، وذلك بعد يوم واحد فقط من موت الأخ . كما تشير كذلك إلى انفراط عقد أسرتها بعد موت الأب ومرض الأم . إن الساردة هنا تفضح وجها من وجوه النفاق الاجتماعي ، وتنتقد افتقاد الصدق في علاقتنا الاجتماعية والأسرية.
5 ـ تطرح الساردة في هذا الفصل ( بين عشرة جدران ) قضية العلاقة الزوجية التي لا يقدر لها النجاح ، فتبقى المرأة رهينة جدرانه ، مقدمة الكثير من التضحيات والتنازلات بسبب ابن أو أبناء يكونون القاسم المشترك بين الزوجين، رغم انهيار أسس العلاقة الزوجية ، وانقلابها إلى جحيم ، وسجن بعشرة جدران.
6 ـ وضعية حرية الإنسان في بعض البلاد العربية التي أضحت مقيدة بأحدث وسائل التكنولوجية. ألسنا نعيش في زمن العولمة والتقدم التكنولوجي ؟ فالساردة في فصل " الزجاج " ، تحذََّر قبل ركوب الطائرة بأن الفندق الذي ستنزل فيه للمشاركة في ندوة فكرية ، محشو بآخر صيحات التكنولوجية التي ترصد بالصورة والصوت كل الحركات والسكنات والهمسات خلف جدران الغرف. ولذلك تفكر الساردة ـ ساخرة ـ أنْ تقدم في الندوة اقتراح موضوع ( الشفافية اليومية في الثقافة العربية ). وتتساءل : " منذ متى فقدت عادة أن أراقب نفسي أن أنظر حولي بحذر أن أهمس في أذن أن أبلع كلمـــات ؟ " ( ص : 71 )
" ماذا أفعل في هذا المكان المعادي ؟ " ، ولكنها رغم الحضور الصارم لعيون الآخرين ، إلا إنها مع ذلك تمارس حريتها بنوع من التحدي والشغب. ( انظر ص : 69 / ص : 72 )
7 ـ علاقة الساردة المتوترة غير المنسجمة مع أسرتها التي لم يكن يسودها الوئام بين الأبوين ، فكان موت الأب خلاصاً للأم والابنة معاً من سلطته القاهرة. إن المرأتين متشابهتان في المعاناة من سلطة الرجل. ولطالما شاركت الابنة أمها في طفولتها وفي مرحلة نضجها معاناتها. ولكنها كانت تلاحظ بغيظ علاقة النفاق المتبادل بين أبويها. وبقدر حبها للأم ، كان نفورها من الأب ، وعدم ارتياحها لوجوده. لذلك قابلت موته بنوع من اللامبالاة ، وجاءت على مهل لزيارة أمها بعد دفنه. ( ص : 75 ) إن الساردة كانت تشبه أمها في خنوعها وخضوعها لسلطة الرجل. أما بعد سفرها إلى بلد بعيد عن بيتها الدمشقي حيث تعيش أمها ، فقد أصبحت امرأة أخرى ، متحررة متمردة على سلطة المجتمع الذكوري ولا تشبه أمها.
8 ـ في الفصل المعنون بـ " أحابيل " تريد الساردة أن تقول لنا لكل أحابيله وحيله لمواجهة قسوة الحياة وعبثيتها ، وأن أحابيل الكاتب لمواجهة العزلة والاغتراب والموت هي الكلمات . هي الكتابة . هي الإبداع. " قال المصور: " المهم أن نفعل شيئاً. أن نترك وراءنا أثراً. " ( ص : 93 ) . وخلال الحوار الدائر بين الشخصيات في هذا الفصل ، لا تعلن الساردة عن أسرارها ، بل تترك جملها مبتورة غير مكتملة ، ولكنها تفضي بها عن طريق الكتابة " لحسن الحظ أن هناك الكتابة " ( ص : 95 )
يبقى أن نقول في الأخير: إن كتابة سلوى النعيمي تتميز بلغة برقية مقتصدة ، تخلوجملها من أدوات الربط. تقول الساردة : " الغرفة معتمة. عيناي مفتوحتان. وقع خطوات مقتربة بحذر. ينفتح الباب. ( دعيها نائمة ) صوت أمي. ( أطمئن عليها ) وشوشة أختي. " ( ص : 15 ) ، كما أنها تتسربل بنكهة شعرية في بعض فقرات المتن ، مثل : " ملح بحار بعيدة جاء مع شمسٍ ورغبةٍ تلمع في شمس. " ( ص : 72 ) / " تتفتح في َّ الكلماتُ بحذرً كابتسامة مترددة " ( ص : 95 )
* كتاب الأسرار ، سلوى النعيمي ، ط.2 ، رياض الريس للكتب والنشر ، بيروت ـ لبنان ، كانون الثاني / يناير 2010 .
د. عبدالجبار العلمي
عن جريدة " القدس العربي" اللندنية :
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=6151391688223165&id=100000571859101
لقد عانت المرأة العربية كبتاً تاريخياً ، وقاست ألواناً من الظلم والاستعباد ، ومازالت مع بعض الاختلاف في الأسلوب. وليس معنى هذا أن الرجل ليس شريكاً لها في هذه المعاناة. فكلاهما " يعانيان من قهر مشترك ـ في الوطن العربي ـ ومن عبودية وحرمان لا مثيل لهما " كما يقول د.عبدالعزيز المقالح ( شهرزاد وغواية السرد ، وجدان الصائغ ، الدار العربية للعلوم ـ ناشرون ، بيروت ، 2008 ، ص :224 وما بعدها )
إن سلوى النعيمي تعبر بجرأة ـ كشأنها في روايتها " برهان العسل " عن المكنونات والدواخل والخبايا التي تعتمل في نفس المرأة العربية باعتبارها إنساناً يمتلئ بالرقة والحنان ومشاعر الأمومة ، كما يمتلئ أيضاً بالصبوات الجسدية والأحلام الجنسية. إن الكاتبة وغيرها من الكاتبات العربيات ، نذكر منهن على سبيل المثل لا الحصر : مي التلمساني ـ ميرال الطحاوي ـ أحلام مستغانمي ـ ميسون صقر ـ منى بْرِنس ـ نورا أمين ـ بهيجة حسين ـ سمحية خريس ...أبين إلا أن يحركن ـ في كتاباتهن ـ سكون البرك الفكرية الآسنة ، وأن يكن صوت من لا قدرة لهن على الصراخ والبوح بالخبايا الدفينة التي ينؤن بها في مجتمع قاهر.
تقدم لنا سلوى النعيمي أسرار المرأة العربية بلغة صريحة جريئة . تسمي الأشياء بمسمياتها دون مواربة أو تزييف ، وتوجه النقد اللاذع للمواضعات والتقاليد السلبية في المجتمع ، ممزقة بأظفار يراعتها قناع المحافظة والتقية والنفاق الذي يخفي مثالبه ومفاسده وراءه. إنها تستغرب أن يكون في اللغة العربية كلمات محجبة.فما هي أسرار المرأة التي تفضي لنا بها في كتابها ؟
تطرح الكاتبة هذه الأسرار من خلال ثمانية فصول قصيرة ، تعنى بوضع عناوين لها كما يلي : البطن ـ الملائكة ـ القيلولة ـ من لم يمت ـ بين عشرة جدران ـ الزجاج ـ كنت أشبهك ـ أحابيل. وتتصدر هذه الفصول مقدمة مركزة أهم ما ورد فيها : الدفاع عن حرية التعبير ، والسخرية من الرقابة العربية الرسمية في زمن الإنترنيت. تقول : " الرقابة في زمن الإنترنيت ؟ أية حماقة. " ( ص : 10 )
وفي كل فصل من الفصول المذكورة ، تقدم لنا مشكلة من المشاكل التي تعاني منها المرأة في مجتمعنا العربي :
1 ـ وقوع المرأة في علاقة غير شرعية ينجم عنها حمل غير شرعي ، فيهب المجتمع لمعالجة المشكل بقسوة ورعونة وعنف ، وذلك باللجوء إلى الإجهاض خوفاً من الفضيحة ، أو بقتل جالبة العار لأهلها ، لاسيما في الأرياف العربية. إن الساردة هنا لا تكتفي بسرد حكايتها الخاصة مع الإجهاض، بل تروي حكايات بنات جنسها مع هذه التجربة الأليمة الخطيرة." وكان أهل مدينتنا يحكون حكايات مع الطالبات اللواتي يجهضن في مراحيض الجامعة " ( ص : 21 ).
2 ـ معاناة المرأة من الحياة الزوجية بعد أن تمسي روتينية باردة بعد سنوات من الزواج ، وتفتقد وهج الحب ، ويطفئ التعود فيها لهب الرغبة والشهوة. تقول الســاردة : " ماذا يبقى من الحب بعد الزواج ؟ " ( ص : 26 ). تجيب في مقطع سردي آخر بقولها : " بعد الزواج نصير ملائكة ، لا جنس لنا " ( ص : 33 ) ، لذلك تلجأ الساردة ( الزوجة ) إلى علاقات خارج المؤسسة الزوجية باحثة عن من يعيد إليها لهب الإحساس والرغبة والاشتهاء . تقول : " منذ عامين تفتح جسدي للمرة الأولى على رجل آخر ..نظرت إليه واكتشفت أنني أشتهيه " ( ص : 31 ). ويبدو أن الساردة هنا تعبر عن هموم الكثير من الزوجات اللواتي لم يوفقن في حياتهن الزوجية من حيث إشباع الناحية الجنسية مع أزواجهن ، أو اللواتي فرض عليهن الزواج خوفاً من آفة العنوسة ، أو رضوخاً لسلطة الأسرة والمجتمع القاهرة. وقد يكون الإحساس ببرودة الحياة في ظل المؤسسة الزوجية، واللجوء من ثم إلى الخيانة أمراً وارداً بالنظر إلى الظروف التي تم فيها الزواج.
إن الساردة في هذا الفصل ، تشبه إلى حد كبير شخصية " إيما " في رواية " مدام بوفاري " لجوستاف فلوبير . لقد عاشت " إيما " حياة رتيبة مضجرة مع " شارل بوفاري " زوجها، ودفعها القنوط والرتابة إلى التطلع إلى فضاءات الحرية والمتعة في باريس ، فانساقت إلى الانغمار في علاقات جنسية مع عدد من العشاق.
3 ـ وضعية المرأة في المجتمع العربي . لقد قدمت الساردة هذه الوضعية من خلال فقرات من دراسة أنجزتها لتشارك بها في مؤتمر عقد لدراسة " المرأة بين الاستقلالية والتبعية ". والملاحظ أن الساردة تخلط في معالجتها هذه الوضعية بين الذاتي والموضوعي، فهي تعبر عن تجربتها الخاصة مع قمع الأب.
"الرجل المقموع يتحول في بيته إلى قامع" ( ص : 39 ) ؛ وتعبر عن الوضعية العامة للمرأة من خلال فقرات من دراستها كما يلي : "ما تزال المرأة عاجزة عن المشاركة الفعلية في صنع القرار" ( ص: 38 )
- " مفهوم الرجولة يفرض على الذكر في مجتمعنا أن يمارس مختلف أنواع الخبرات الاجتماعية حتى المحظورة منها دون أن يستنكر عليه ذلك . أما إذا قامت المرأة بالأعمال نفسها .... " ( ص : 39 )
- " المرأة كائن ذاتي لا يملك القدرة على تجاوز الذات إلى المجتمع " ( ص : 40 ) - " ما تزال المرأة العربية خاضعة للضغوط الاجتماعية " ( ص : 41) - " لا تعبر المرأة العربية عن تجاربها خوفاً من أحكام المجتمع الأخلاقية التي لا تفصل بين الحياة الخاصة والعمل الفني " ( ص : 43 )
ولكن الساردة في الوقت الذي تورد فيه هذه الفقرات الدالة على قمع المجتمع لحرية المرأة ودونيتها وعجزها عن القيام بالمبادرة وحرمانها مما يتاح للرجل ، في نفس هذا الوقت ، تجهر هي بتمردها على هذه الوضعية. وتمارس حريتها، وتكون هي المبادرة للدعوة إلى ممارسة الحب والجنس مع الرجل الذي التقت به في المؤتمر وصادف هواها. تقول : " مددت يدي إليه وجاء إلي " ( ص : 98 ) " أعرف أن رغبتي لا تبدأ إلا مني " ( ص : 40)
4 ـ سيطرة الأسرة الأبيسية المتمثلة في معاملة الأب الجافة للساردة ، واستيلائه وحده على إرث أخيها الذي مات بالسرطان بعد سبعة عشر عاماً من العمل في بلد صحراوي. في هذا الفصل ( من لم يمت ) توجه الساردة نقداً لاذعاً للحب الأبوي الزائف ، إذ يعمد الأب بحضور أسرته إلى عد الغنيمة التي ينفرد بها ، وذلك بعد يوم واحد فقط من موت الأخ . كما تشير كذلك إلى انفراط عقد أسرتها بعد موت الأب ومرض الأم . إن الساردة هنا تفضح وجها من وجوه النفاق الاجتماعي ، وتنتقد افتقاد الصدق في علاقتنا الاجتماعية والأسرية.
5 ـ تطرح الساردة في هذا الفصل ( بين عشرة جدران ) قضية العلاقة الزوجية التي لا يقدر لها النجاح ، فتبقى المرأة رهينة جدرانه ، مقدمة الكثير من التضحيات والتنازلات بسبب ابن أو أبناء يكونون القاسم المشترك بين الزوجين، رغم انهيار أسس العلاقة الزوجية ، وانقلابها إلى جحيم ، وسجن بعشرة جدران.
6 ـ وضعية حرية الإنسان في بعض البلاد العربية التي أضحت مقيدة بأحدث وسائل التكنولوجية. ألسنا نعيش في زمن العولمة والتقدم التكنولوجي ؟ فالساردة في فصل " الزجاج " ، تحذََّر قبل ركوب الطائرة بأن الفندق الذي ستنزل فيه للمشاركة في ندوة فكرية ، محشو بآخر صيحات التكنولوجية التي ترصد بالصورة والصوت كل الحركات والسكنات والهمسات خلف جدران الغرف. ولذلك تفكر الساردة ـ ساخرة ـ أنْ تقدم في الندوة اقتراح موضوع ( الشفافية اليومية في الثقافة العربية ). وتتساءل : " منذ متى فقدت عادة أن أراقب نفسي أن أنظر حولي بحذر أن أهمس في أذن أن أبلع كلمـــات ؟ " ( ص : 71 )
" ماذا أفعل في هذا المكان المعادي ؟ " ، ولكنها رغم الحضور الصارم لعيون الآخرين ، إلا إنها مع ذلك تمارس حريتها بنوع من التحدي والشغب. ( انظر ص : 69 / ص : 72 )
7 ـ علاقة الساردة المتوترة غير المنسجمة مع أسرتها التي لم يكن يسودها الوئام بين الأبوين ، فكان موت الأب خلاصاً للأم والابنة معاً من سلطته القاهرة. إن المرأتين متشابهتان في المعاناة من سلطة الرجل. ولطالما شاركت الابنة أمها في طفولتها وفي مرحلة نضجها معاناتها. ولكنها كانت تلاحظ بغيظ علاقة النفاق المتبادل بين أبويها. وبقدر حبها للأم ، كان نفورها من الأب ، وعدم ارتياحها لوجوده. لذلك قابلت موته بنوع من اللامبالاة ، وجاءت على مهل لزيارة أمها بعد دفنه. ( ص : 75 ) إن الساردة كانت تشبه أمها في خنوعها وخضوعها لسلطة الرجل. أما بعد سفرها إلى بلد بعيد عن بيتها الدمشقي حيث تعيش أمها ، فقد أصبحت امرأة أخرى ، متحررة متمردة على سلطة المجتمع الذكوري ولا تشبه أمها.
8 ـ في الفصل المعنون بـ " أحابيل " تريد الساردة أن تقول لنا لكل أحابيله وحيله لمواجهة قسوة الحياة وعبثيتها ، وأن أحابيل الكاتب لمواجهة العزلة والاغتراب والموت هي الكلمات . هي الكتابة . هي الإبداع. " قال المصور: " المهم أن نفعل شيئاً. أن نترك وراءنا أثراً. " ( ص : 93 ) . وخلال الحوار الدائر بين الشخصيات في هذا الفصل ، لا تعلن الساردة عن أسرارها ، بل تترك جملها مبتورة غير مكتملة ، ولكنها تفضي بها عن طريق الكتابة " لحسن الحظ أن هناك الكتابة " ( ص : 95 )
يبقى أن نقول في الأخير: إن كتابة سلوى النعيمي تتميز بلغة برقية مقتصدة ، تخلوجملها من أدوات الربط. تقول الساردة : " الغرفة معتمة. عيناي مفتوحتان. وقع خطوات مقتربة بحذر. ينفتح الباب. ( دعيها نائمة ) صوت أمي. ( أطمئن عليها ) وشوشة أختي. " ( ص : 15 ) ، كما أنها تتسربل بنكهة شعرية في بعض فقرات المتن ، مثل : " ملح بحار بعيدة جاء مع شمسٍ ورغبةٍ تلمع في شمس. " ( ص : 72 ) / " تتفتح في َّ الكلماتُ بحذرً كابتسامة مترددة " ( ص : 95 )
* كتاب الأسرار ، سلوى النعيمي ، ط.2 ، رياض الريس للكتب والنشر ، بيروت ـ لبنان ، كانون الثاني / يناير 2010 .
د. عبدالجبار العلمي
عن جريدة " القدس العربي" اللندنية :
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=6151391688223165&id=100000571859101