تطور الموشحات ونشأة الزجل:
رأينا في تطور الموشحات في القرن الخامس على يد ابن ماء السماء وابن بقي والطليطلي الذين عملوا على اكتمالها ورفع مستواها إلى مكان القصيدة العربية التقليدية، ويذهب كثير من الباحثين إلى أن تطورا آخر حدث لهذا الفن بظهور الزجل الذي اعتبروه فرعا منه. يقول ابن خلدون: (ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا طريقه بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها أعرابا، واستحدثوا فنا سموه بالزجل) (1)، في حين يرى غير هؤلاء أن الأصل واحد في نشأة الموشحات والأزجال، فقد ذهب الدكتور الأهواني إلى (وجود أصل مشترك ظهر في البيئة الأندلسية منذ عهودها القديمة كان له الفضل في ظهور التوشيح وكان له أثر في استقلال الزجل وتطوره، ذلك الأصل هو الأغنية الشعبية) (2) وقد سبق إلى هذا الرأي المستشرق الاسباني "بالنشيا" الذي يرى أن (الزجل والموشحة في واقع الأمر فن شعري واحد ولكن الزجل يطلق على السوق الدارج منهما إذ لا بد أن يكون في اللغة الدارجة، فقد كان يتغنى بها في الطرقات، أما الموشحة فلا تكون إلا في العربي الفصيح واسمها كذلك عربي كما هو واضح) ،(3) وعلى هذا القول يوافق الدكتور شوقي ضيف الذي كاد أن يظن بأسبقية الزجل حين قال (فالمعقول أن يكون الزجل قد نشأ معه (أي مع الموشح) مباشرة، وربما سبقه ويمكن أن نقول أنهما جميعا فن واحد ذو شعبتين، شعبة تغلب عليها الفصاحة وشعبة تغلب عليها العجمــــــة) (4).
ولكنا إذا عرفنا أن نصوص الأزجال الأولى لم تصل إلينا كما لم تصل إلينا توشيحات الفترة الأولى من نشأة هذا الفن، وإذا عرفنا أن أول زجال وصلتنا نماذج صحيحة النسبة إليه، هو ابن قزمان المتوفى سنة 554 هـ وأن أول وشاح هو عبادة ابن ماء السماء المتوفى سنة 419 هـ، انتهينا إلى أن الموشحات سبقت الأزجال وبالتالي إلى أن الأزجال تفرعت عن الموشحات، وأن ذلك كان في القرن السادس أيام حكم المرابطين الذين كانوا قليلي المحافظة على التقاليد العربية، إذ كان مستبعدا جدا أن ينشأ هذا الفن في ظل ملوك الطوائف الذين كانوا يقدسون كل ما هو شرقي، ويحاولون تقليد الخلفاء العباسيين في ممارسة كثير من ألوان الحياة وفي تهييء بلاط أدبي يجتمع فيه الشعراء لمدحهم، ولو لم يلتزم الوشاحون في نظمهم لغة عربية فصيحة لا يتجاوزونها إلى العامية إلا في الخرجات، لما تسنى لفن التوشيح أن يسير في طريقه منذ هذا العصر قبل أن يصل إلى عهد المرابطين، حيث اكتمل وازدهر في ظله وربما كان هذا الالتزام الذي عمل في نطاقه الوشاحون سببا في استغلال فنهم عن أصله الغنائي الشعبي.
وإذا فإننا نذهب إلى أن الزجل تفرع من الموشحات وأن ظهورهم كان نتيجة لاستقلالها عن الأصل العامي بل هو رجوع إليه.
أما بعد هذا فالزجل كبير الشبه بالموشح في تنويع الوزن والقافية، وفي اعتنائه بالخرجة التي هي في الزجل أبسط وأقل جزاء، وربما اتخذت مطلعا له أو لزجل آخر غيره.
مثال هذا زجل ابن قزمان الذي يبدأه بقوله:
ماع معشوقا مليح ووفى
جيد يكون إن لم تجيه طزع
حتى قال إذا بلغ الغصن الأخير قال:
معي زجيل معلم الطرفين
كالدنار الشقر من جهتين
والخرج دو متن عملين
ماع معشوقا...
وواضح بعد هذا أن الفارق الأكبر بين الفنين هو اللغة التي تستعمل في كل منهما، فالموشح يلتزم اللغة العربية الفصيحة، في حين أن الزجال ينظم باللغة العامية التي يتحدث بها الناس في الشوارع والأسواق.
ولا ينبغي أن يبالغ في الظن بأن جمهور هذا الفن، كان محصورا في طبقات العامة من الناس، فقد كان إلى جانب حياته في بيئة يعيش في بيئات خاصة وعند طبقات بعيدة عن الوقية والعوام كبقة الصوفية الذين كانوا ينشدون الأزجال في حلقاتهم يرقصون على ألحانها، وطبقة شباب المدن الأرستقراطي العاطل الذي لم يكن يشغل باله بغير ما ينس لهوه ولته وما يكون في مجالسهما من شراب ورقص وغناء، وقد وجد الزجل في كل هذا بيئة صالحة اكتسب منها كثيرا من خصائصه ومميزاته لا بالنسبة لروحه الخفيف فحسب، وإنما كذلك بالنسبة لموضوعاته وخاصة المدح حيث نراه يمتزج بغزل مكشوف لا يتحرج فيه المادح من رسم كثير من الصور المادية للممدوح.
ويعتبر أبو بكر بن قزمان القرطبي أول زجال يتقن فنه وينظم فيه ديوانا كاملا، يقول في زجل له معبرا عن فلسفته في الحياة:
دنيا هي كما تراها فاجتهد واربح زمانك
كل يوم وكل ليلة لا تخلى مهرجانك
واشتقي عليه من قبل أن يجيء الموت في شأنك
لس ذي عندك مصيبة أن تموت والدنيا حي
ساع دون شريب عندي لا شكل ولا ملامة
لس نعد اللذ لذة ولا يد الراح راحة
حتى تدخل شفة الكأس بالشراب بين شفتيا
ولعل أهم زجال بعد ابن قزمان هو أبو عبد الله أحمد بن الحاج المعروف بمدغليس، فقد كانت له عناية خاصة بتنقيح أسلوب أزجاله التي حاول أن يصلها بالقصيدة العربية رغبة في الوصول إلى بلاط الخليفة، إذ أن الموحدين على عكس المرابطين الذين عاصرهم ابن قزمان، كانوا متشبثين بتقاليد الشرق العربي يحاولون التشبه بالخلفاء العباسيين، فلا غرابة أن نرى الزجال في هذا العصر يقتني الأساليب البلاغية ومعاني القصيدة العربية يدخلها في أزجاله مبتعدا عن البيئة الشعبية والبيئات الخاصة التي ازدهر فيها الزجل في عهد المرابطين الذي يعد بحق أزهى عصور الزجل.
وهذه مقدمة غزلية لزجل مدح به أحد الوزراء جعلها حوارا بينه وبين النسيم يقول فيها:
لقد أقبلت يا نسيم السحر
بروائح قد بورت للمسوك
توقد أنفاسك الكية شمع
في قلوبنا متى ما نستنشقوك
إنما حقا لش وصلت ضعيف؟
قال لي دراما دار لك إذ ودعوك
لما جالي الفراق وودعتهم
لبسوني النحول كالبسوك
ذكر الله من قد ذكرت بخير
كذا يصنا سمعتهم يذكروك
قلت من حق يذكروني الملاح
قل لي كيف لا نعم وينتظروك
قلت ان كان نرجع لهم عن قريب
قل لهم عني يصنا أن يسألوك
غزر شوقي لهم ووفى وزيد
في ضماني أش ما تقول صدقوك
أنا لس يتهموني في حبهم
ولا ات في الرسالة يتهموك
ولا يرموني في الهوى بالملل
ولا أت يصنا بالكذب يرموك
أي ومان بعد قل هو قد كان يجي
إنما هو في قرطبة مملوك
لأبو يحيى سيد الأمرا
وفريد الزمان وزير الملوك (5)
وواضح في هذه القطعة أن صاحبها نسج على منوال القصيدة العربية في التزامه الوزن والقافية لا يميزها غير ألفاظها العامية الملحونة.
وإذا تركنا ابن قزمان ومدغليس وجدنا أسماء عدد كبير من الزجالين والزجالات نكر منهم ابن الزاهد الاشبيلي، وأم الكرام بنت المعتصم بن صمادح، ونزهون بنت القلاعي الغرناطية، وعلي بن جحدر، وابن حبيب الجزري، لم يحفظ لنا من إنتاجهم غير نصوص قليلة متفرقة في بطون الكتب تحتاج قراءتها وفهمها إلى معرفة اللهجة التي نظمت بها وما كانت تمتاز به من صفات صوتية وخصائص في النطق.
وانتشر الزجل في مختلف البلاد العربية التي أخذت تنظم بلهجاتها إلى أن أصبح اليوم يطلق على ألوان من النظم العامي لا حصر لها، لا تحدها موضوعات الغناء والمدح التي ازدهرت في الأندلس وإنما تتسع لكل فنون القول من سياسة واجتماع وقصة وتمثيلية.
قيمة الموشحات وأثرها في الأدب العربي:
يبدو واضحا مما سبق أن الموشحات بتغييرها في الوزن وتنويعها في القافية تحررت من المنهج التقليدي الذي سارت عليه القصيدة العربية في شكلها، دون أن تحاول التحرر من الموضوع الذي لم تكن ظروف نشأتها ولا ظروف ازدهارها تسمح بالخروج عليه، وربما كان التزام الوشاحين للموضوعات السائدة في الشعر العربي وخاصة الغناء والمدح سببا في إقبال الملوك والأمراء عليها، وقد سبق أن قلنا أنه لولا هذا الإقبال لما تسنى لهذا الفن الجديد أن يقف على قدميه. وكأن أصحابه كانوا يهدفون من وراء طرق الموضوعات التقليدية إلى إظهار قدرته ومرونته، ولعلهم حاولوا تجاوزها إلى موضوعات أساسها الحوار، كان يمكن أن تكون بداية للشعر التمثيلي والقصصي في الأدب العربي ولكنه ليس لدينا نصوص على ذلك، وقد يكون قرن من الزمن وهو مدة الحكم المرابطي الذي ازدهر في ظله فن الموشحات، غير كاف بأن يطورها ولم تكن قد استقرت بعد.
وربما كان في إمكان المشارقة أن يضيفوا شيئا إلى هذا الفن الجديد، ولكنهم جمدوا عند ما قننه ابن سناء الملك لم يحاولوا غير إظهار قدرتهم على النظم بتنميق وتحسين الأسلوب منصرفين عن أي ابتكار وتجديد، فجاءت موشحاتهم متكلفة خالية من أي روح إبداعي، وربما كذلك كان كتاب ابن سناء الملك سببا في هذا الجمود الذي وقف عنده المشارقة، فهو إن عرفهم بموشحات الأندلسيين وبطريقة نظمها محددا لذلك تحديدات دقيقة، فقد حصر أفقهم ومنعه عن أي انطلاق.
ومهما يكن فقد استطاع الأندلسيون أن يحدثوا فنا جديدا يضاف إلى فنون الشعر العربي، وأن يظهروا فيه شخصيتهم متميزة عن غيرها، وقد غالى بعض الباحثين فأنكروا ما في التوشيح من جديد، وبالغوا في القول بضعف الشخصية الأندلسية فيه، والدكتور شوقي ضيف، وقد سبق أن أوردنا قوله في نشأة الموشحات، من الذين يمثلون ها الرأي، فهو يقول أو الحق أن الموشحات وما تفرع عنها من أزجال لم تحدث ثورة واسعة على الأوضاع القديمة في الصياغة الفنية للشعر الفصيح وخاصة في صياغة التفكير (6).
أما عن صياغة الشكل ففي فصول هذا البحث ما يدل في وضوح وكفاء، على أن التوشيح ليس فنا مشرقيا طوره الأندلسيون، وأن ظهوره كان ثورة على قيود الشرق العربي لا يصورها غير قول المرحوم كامل كيلاني، بأنها حطمت (أكبر قيد رزئ به الشعر العربي وهو التقيد بأوزان وقواف خاصة لا يتخطاها أحد ولا يجسر إنسان على الانتقاص عليها، بل ولا يؤذن له أن يفكر في ذلك.. وليس يستطيع أن يقدر أهمية هذا التطور الذي نشأ عن اختراع الموشحات أو يتبين خطورنه إلا من تتبع الحركة النقدية عند العرب، وعرف أن التقليد الأعمى كان رائدها في أغلب الأحايين، وأن شدة تفانيهم في المحافظة على محاكاة من تقدمهم من العرب وتتبع أساليبهم في التفكير قد وصلت إلى حد يدعو إلى الحيرة) (7).
وأما عن صياغة التفكير ففي كلام الدكتور غير قليل من المبالغة والإسراف، وأول ما نقول أن الشعر حين وفد إلى بلاد الأندلس كانت لا تزال صبغته بدوية جافة فيها كثير من سمات الإبل والصحراء، ولكنه لم يلبث أن تحرر منها ليستبدل بها صبغة متأثرة بالبيئة الأوربية الجديدة، حقا ان الشعراء كانت تأخذهم شدة الحنين إلى موطن أجدادهم في الشرق فيلجأون إلى أدب يستقون منه بعض أساليبهم وأفكارهم ويتخذونه نموذجا لهم ينسجون على منواله، ولكن هذا لم يكن ليبعدهم عن الوطن الجديد الجميل الذي يعيشون فيه، فيغفلوا عن طبيعته الخضراء بأزهارها المزركشة المتمايلة وأشجارها الباسمة المثمرة وجداولها المترقرقة ونوافيرها السالية وحدائقها الغناء ومنتزهاتها الليلية، وقد انعكست على شلالاتها أشعة القمر، أو يغفلوا عن سمائه الصافية حينا والممطرة أحيانا وما يلجأ الناس إليه من مجالس يودها الأنس والغناء والشراب، أو يغفلوا عن آثار الفن النصراني المنتشرة في كل مكان من كنائس وتماثيل وغيرها مما يسترعي النظر في البلاد الأوربية.
جال الشاعر الأندلسي في كل هذا أو كثير سواه، فتأثرت به نفسه وانفعلت قريحته فوصف كل ما وقعت عينه عليه، لم يترك شيئا في بيئته إلا اتخذه موضوعا لفنه وأصبح التحدث عن الطبيعة وجمالها عنده مدخلا لكل فنون القول في الشعر.
وهو إذا وصف لا يحاول انتقاء صوره وإنما هو يريد أن يصف كل مشاهداته يحشد لها الصور المتزاحمة والتشبيهات المتنوعة، لا يتردد أن يشبه أي شيء بأي شيء آخر مهما كانت الرابطة قوية أو ضعيفة وهو في أغلب ذلك يعمد إلى الخلق والابتكار وإبداع المعاني الرقيقة والصور الجميلة يمزج ذلك كله بموسيقى عذبة خفيفة تجعلنا نحس في شعره رشاقة تكاد تسيطر عليه في ألفاظه ومعانيه وذوقه وغير هذا مما يميز أغلب الشعر الأندلسي ولم يكن يعرفه المشارقة.
وربما كان هذا الجمال المبسوط في مل مكان وما يزدحم في ذهن الشاعر من رسومه وصوره سببا في صرف الشاعر عن إطالة النظر وإعمال التفكير إذ لم تترك له وقتا للتركيز والتعمق.
وإذن فللموشحات قيمتها وأثرها في الأدب العربي مهما أنكر ذلك المنكرون، ولولا عوادي الزمن التي جارت على فنها وعلى موطنه، ولولا التقليد الجامد الذي وقف عنده المشارقة لكان لهذا الفن مكانته في الأدب العربي غير ما هي عليه، وربما صادفت فترة انحدار فن التوشيح أن الأدب العربي عامة كان قد بدأ يتخذ ريق الانحطاط.
ولعل ما يزيد في الدلالة على قيمة هذا الفن وأثره في أدبنا العربي تلك المحاولات التي قام بها لإحيائه بعض الشعراء المعاصرين في البلاد العربية والمهاجر الأمريكية الذين يسعون إلى التجديد والتحرر من قيود القصيدة التقليدية، فقد وجدوا أنه يساير أذواقهم العربية وميولهم في التطوير والتجديد.
الموشحات وأثرها في الأدب الأوربي:
ولا نريد أن نختم هذا البحث دون أن نشير إلى تأثير فن الموشحات في الأدب الاسباني وغيره من الآداب الأوربية التي اتصلت به منذ أواخر العصر الوسيط.
ففي فرنسا كان التروبدور les troubadours وهم شعراء بروفنس (8) Provence المتجولون يرحلون من منطقة إلى أخرى في فرنسا وأوربا عامة، يتنقلون من قصر إلى آخر ويمدحون الملوك والأمراء في أشعار خالية من الوزن والقافية، ليس فيها ما يبعث الموسيقى غير اتخاذ الحروف الصوتية Assounance ولكنهم لم يلبثوا بعد انتشار الموشحات أن أسرعوا إلى تقليدها، فأصبحت أشعارهم أكثر إيقاعا وأعذب لحنا.
وربما طوروها عن قصد إلى ما نجد في قصائدهم اليوم من تشابك في القوافي لم يكن يعرفه الشعراء في الأندلس. وفي شعر "لو كنت دي بواتي" le Comte de Poitiers وراهب مونتدرون Le moine de montandon ومجريت Magret منظومات ألحان الروندي Rondet التي كانت شائعة في القرن السابع عشر، دليل على هذا التأثير الذي كاد أن يختفي بعد عصر النهضة حيث كانت الغلبة للغة الشمال التي كان شعراؤها يعرفون بالتروفير.
وفي إيطاليا كان التأثر ظاهرا إلى أبعد الحدود بسبب اتصالها عن قرب بالمسلمين في صقلية، وقد اهتدى المستشرق الاسباني ميلاس فليكروزا Millas Villiorosa إلى الشبه الكبير بين موضوعات التوشيح وموضوعات شعر الغجريات، وبين قالب الكنترستو Contrato والبلاتا M. Ballata وقالب الموشحات.
ولعل التروبادور البروفانسيين هم الذين نقلوا ها الفن الأندلسي إلى إيطاليا، ففي كتب التاريخ أن الأمير برنجر حين ذهب إلى مدينة ميلان الإيطالية ليقابل الإمبراطور فريديريك الأول ليتسلم منه ظهير توليته رئاسة عمالة بروفنس، صحب معه عددا من هؤلاء التروبادور ففتن بهم الإمبراطور لما كانوا ينشدون من أشعار يغلب عليها الطابع الأندلسي، وعن هؤلاء مباشرة أخ الشاعر الإيطالي الكبير بطرارك قوالب فن الموشحات.
أما عن اسبانيا فقد بحث الكاتب الإشبيلي ارجوتي دي مولينا Argote de moluna Gensalo مدى تأثير التوشيح والزجل في الشعر الاسباني وأشار إلى أن الأيام التي سبقت سقوط غرناطة وتلتها كانت بعيدة الأثر في خيال الأدباء الاسبانيين، وربما كانت القصائد الموريسكية التي تحكي قصص المسلمين، ترجمات لبعض الأغاني العربية التي كان ينشدها الأندلسيون والتي كانت من نظم التوشيح والزجل كما ذهب الباحث الاسباني بيدال Menendez Pidal إلى أن منظومات الشاعر الاسباني فسيس هيتا Hita التي كانت تتغنى بها الجماعات الإسلامية التي ظلت تعيش بعد الحكم العربي في الأندلس كانت على نمط الأغاني العربية.
ولا شك أن المغنين والمنشدين المسلمين الذين اضطرتهم ظروف الحياة إلى البقاء تحت الحكم المسيحي ساعدوا إلى حد بعيد على بقاء فن العرب، فقد حكى المؤرخ رامول بيدال أنه في بلاط سانشوا الرابع ملك قشتالة كان عدد المنشدين الذين يتقاضون مرتبا من القصر سبعة وعشرين من بينهم ثلاثة عشر مسلما منهم امرأتان.
وربما كان ينظم هؤلاء أغانيهم بلغة عربية قد تكون فصيحة، وقد تكون عامية ثم ينقلونها إلى اللغة الإسبانية قبل إنشادها في مواسم الاسبان وحفلاتهم، وقد كانوا فيما بينهم يتناشدون موشحات وأزجالا يحنون فيها إلى مجد الأندلس العربية يضمنونها ابتهالات إلى الله وتوسلات برسوله كقول أحدهم:
كن في عون المسلمين يا إله العالمين
أنت هو فرد صمد لم يكن قبلك أحد
لارتضا خير العباد
وكقول آخر:
نزور قبر النبي صلى الله عليه
الجبال افتتن من جمال ان أعطاه
رب أنعم عليه وتزلزل إله طيبوا
يا عارفين به وصلوا عليه
وقد ضاعت كل هذه المنظومات كما ضاعت نفائس التراث العربي في الأندلس، ولعل أصحابها هم الذين دمروها حتى لا يقعوا في قبضة محاكم التفتيش التي انتشرت في مختلف أنحاء البلاد تبحث عن مبطني الإسلام لتنكل بهم وتعذبهم.
وسرعان ما ضعفت عربية هذه الجالية الإسلامية فلجأ شعراؤها إلى الإسبانية ينظمون بها في نفس الموضوعات التي كانوا يعالجون من قبل من مدح للنبي وتوسل إليه.
أما بعد ها فمن شعراء الاسبان الذين ساروا في نظمهم على طريقة الزجل والتوشيح، الفريز جاتو وجيمز ديوريا وهرنندو دي كاستيو ودييجو دي فلنسيا وجارسيا فرنانديز وغيرهم من الشعراء الذين ظلوا حتى القرن السابع عشر يقلدون في نظمهم شعر الموشحات والأزجال.
(1) ـ المقدمة ص 548.
(2) ـ الزجل في الأندلس ص2.
(3) ـ تاريخ الفكر الأندلسي، ص 143.
(4) ـ الفن ومذاهبه في الشعر العربي، ص 356.
(5) ـ الزجل في الأندلس ص 109.
(6) ـ الفن ومذاهبه في الشعر العربي ص 357.
(7)ـ نظرات في تاريخ الأدب الأندلسي ص 246.
(8)ـ في جنوب فرنسا
دعوة الحق
46 العدد
رأينا في تطور الموشحات في القرن الخامس على يد ابن ماء السماء وابن بقي والطليطلي الذين عملوا على اكتمالها ورفع مستواها إلى مكان القصيدة العربية التقليدية، ويذهب كثير من الباحثين إلى أن تطورا آخر حدث لهذا الفن بظهور الزجل الذي اعتبروه فرعا منه. يقول ابن خلدون: (ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا طريقه بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها أعرابا، واستحدثوا فنا سموه بالزجل) (1)، في حين يرى غير هؤلاء أن الأصل واحد في نشأة الموشحات والأزجال، فقد ذهب الدكتور الأهواني إلى (وجود أصل مشترك ظهر في البيئة الأندلسية منذ عهودها القديمة كان له الفضل في ظهور التوشيح وكان له أثر في استقلال الزجل وتطوره، ذلك الأصل هو الأغنية الشعبية) (2) وقد سبق إلى هذا الرأي المستشرق الاسباني "بالنشيا" الذي يرى أن (الزجل والموشحة في واقع الأمر فن شعري واحد ولكن الزجل يطلق على السوق الدارج منهما إذ لا بد أن يكون في اللغة الدارجة، فقد كان يتغنى بها في الطرقات، أما الموشحة فلا تكون إلا في العربي الفصيح واسمها كذلك عربي كما هو واضح) ،(3) وعلى هذا القول يوافق الدكتور شوقي ضيف الذي كاد أن يظن بأسبقية الزجل حين قال (فالمعقول أن يكون الزجل قد نشأ معه (أي مع الموشح) مباشرة، وربما سبقه ويمكن أن نقول أنهما جميعا فن واحد ذو شعبتين، شعبة تغلب عليها الفصاحة وشعبة تغلب عليها العجمــــــة) (4).
ولكنا إذا عرفنا أن نصوص الأزجال الأولى لم تصل إلينا كما لم تصل إلينا توشيحات الفترة الأولى من نشأة هذا الفن، وإذا عرفنا أن أول زجال وصلتنا نماذج صحيحة النسبة إليه، هو ابن قزمان المتوفى سنة 554 هـ وأن أول وشاح هو عبادة ابن ماء السماء المتوفى سنة 419 هـ، انتهينا إلى أن الموشحات سبقت الأزجال وبالتالي إلى أن الأزجال تفرعت عن الموشحات، وأن ذلك كان في القرن السادس أيام حكم المرابطين الذين كانوا قليلي المحافظة على التقاليد العربية، إذ كان مستبعدا جدا أن ينشأ هذا الفن في ظل ملوك الطوائف الذين كانوا يقدسون كل ما هو شرقي، ويحاولون تقليد الخلفاء العباسيين في ممارسة كثير من ألوان الحياة وفي تهييء بلاط أدبي يجتمع فيه الشعراء لمدحهم، ولو لم يلتزم الوشاحون في نظمهم لغة عربية فصيحة لا يتجاوزونها إلى العامية إلا في الخرجات، لما تسنى لفن التوشيح أن يسير في طريقه منذ هذا العصر قبل أن يصل إلى عهد المرابطين، حيث اكتمل وازدهر في ظله وربما كان هذا الالتزام الذي عمل في نطاقه الوشاحون سببا في استغلال فنهم عن أصله الغنائي الشعبي.
وإذا فإننا نذهب إلى أن الزجل تفرع من الموشحات وأن ظهورهم كان نتيجة لاستقلالها عن الأصل العامي بل هو رجوع إليه.
أما بعد هذا فالزجل كبير الشبه بالموشح في تنويع الوزن والقافية، وفي اعتنائه بالخرجة التي هي في الزجل أبسط وأقل جزاء، وربما اتخذت مطلعا له أو لزجل آخر غيره.
مثال هذا زجل ابن قزمان الذي يبدأه بقوله:
ماع معشوقا مليح ووفى
جيد يكون إن لم تجيه طزع
حتى قال إذا بلغ الغصن الأخير قال:
معي زجيل معلم الطرفين
كالدنار الشقر من جهتين
والخرج دو متن عملين
ماع معشوقا...
وواضح بعد هذا أن الفارق الأكبر بين الفنين هو اللغة التي تستعمل في كل منهما، فالموشح يلتزم اللغة العربية الفصيحة، في حين أن الزجال ينظم باللغة العامية التي يتحدث بها الناس في الشوارع والأسواق.
ولا ينبغي أن يبالغ في الظن بأن جمهور هذا الفن، كان محصورا في طبقات العامة من الناس، فقد كان إلى جانب حياته في بيئة يعيش في بيئات خاصة وعند طبقات بعيدة عن الوقية والعوام كبقة الصوفية الذين كانوا ينشدون الأزجال في حلقاتهم يرقصون على ألحانها، وطبقة شباب المدن الأرستقراطي العاطل الذي لم يكن يشغل باله بغير ما ينس لهوه ولته وما يكون في مجالسهما من شراب ورقص وغناء، وقد وجد الزجل في كل هذا بيئة صالحة اكتسب منها كثيرا من خصائصه ومميزاته لا بالنسبة لروحه الخفيف فحسب، وإنما كذلك بالنسبة لموضوعاته وخاصة المدح حيث نراه يمتزج بغزل مكشوف لا يتحرج فيه المادح من رسم كثير من الصور المادية للممدوح.
ويعتبر أبو بكر بن قزمان القرطبي أول زجال يتقن فنه وينظم فيه ديوانا كاملا، يقول في زجل له معبرا عن فلسفته في الحياة:
دنيا هي كما تراها فاجتهد واربح زمانك
كل يوم وكل ليلة لا تخلى مهرجانك
واشتقي عليه من قبل أن يجيء الموت في شأنك
لس ذي عندك مصيبة أن تموت والدنيا حي
ساع دون شريب عندي لا شكل ولا ملامة
لس نعد اللذ لذة ولا يد الراح راحة
حتى تدخل شفة الكأس بالشراب بين شفتيا
ولعل أهم زجال بعد ابن قزمان هو أبو عبد الله أحمد بن الحاج المعروف بمدغليس، فقد كانت له عناية خاصة بتنقيح أسلوب أزجاله التي حاول أن يصلها بالقصيدة العربية رغبة في الوصول إلى بلاط الخليفة، إذ أن الموحدين على عكس المرابطين الذين عاصرهم ابن قزمان، كانوا متشبثين بتقاليد الشرق العربي يحاولون التشبه بالخلفاء العباسيين، فلا غرابة أن نرى الزجال في هذا العصر يقتني الأساليب البلاغية ومعاني القصيدة العربية يدخلها في أزجاله مبتعدا عن البيئة الشعبية والبيئات الخاصة التي ازدهر فيها الزجل في عهد المرابطين الذي يعد بحق أزهى عصور الزجل.
وهذه مقدمة غزلية لزجل مدح به أحد الوزراء جعلها حوارا بينه وبين النسيم يقول فيها:
لقد أقبلت يا نسيم السحر
بروائح قد بورت للمسوك
توقد أنفاسك الكية شمع
في قلوبنا متى ما نستنشقوك
إنما حقا لش وصلت ضعيف؟
قال لي دراما دار لك إذ ودعوك
لما جالي الفراق وودعتهم
لبسوني النحول كالبسوك
ذكر الله من قد ذكرت بخير
كذا يصنا سمعتهم يذكروك
قلت من حق يذكروني الملاح
قل لي كيف لا نعم وينتظروك
قلت ان كان نرجع لهم عن قريب
قل لهم عني يصنا أن يسألوك
غزر شوقي لهم ووفى وزيد
في ضماني أش ما تقول صدقوك
أنا لس يتهموني في حبهم
ولا ات في الرسالة يتهموك
ولا يرموني في الهوى بالملل
ولا أت يصنا بالكذب يرموك
أي ومان بعد قل هو قد كان يجي
إنما هو في قرطبة مملوك
لأبو يحيى سيد الأمرا
وفريد الزمان وزير الملوك (5)
وواضح في هذه القطعة أن صاحبها نسج على منوال القصيدة العربية في التزامه الوزن والقافية لا يميزها غير ألفاظها العامية الملحونة.
وإذا تركنا ابن قزمان ومدغليس وجدنا أسماء عدد كبير من الزجالين والزجالات نكر منهم ابن الزاهد الاشبيلي، وأم الكرام بنت المعتصم بن صمادح، ونزهون بنت القلاعي الغرناطية، وعلي بن جحدر، وابن حبيب الجزري، لم يحفظ لنا من إنتاجهم غير نصوص قليلة متفرقة في بطون الكتب تحتاج قراءتها وفهمها إلى معرفة اللهجة التي نظمت بها وما كانت تمتاز به من صفات صوتية وخصائص في النطق.
وانتشر الزجل في مختلف البلاد العربية التي أخذت تنظم بلهجاتها إلى أن أصبح اليوم يطلق على ألوان من النظم العامي لا حصر لها، لا تحدها موضوعات الغناء والمدح التي ازدهرت في الأندلس وإنما تتسع لكل فنون القول من سياسة واجتماع وقصة وتمثيلية.
قيمة الموشحات وأثرها في الأدب العربي:
يبدو واضحا مما سبق أن الموشحات بتغييرها في الوزن وتنويعها في القافية تحررت من المنهج التقليدي الذي سارت عليه القصيدة العربية في شكلها، دون أن تحاول التحرر من الموضوع الذي لم تكن ظروف نشأتها ولا ظروف ازدهارها تسمح بالخروج عليه، وربما كان التزام الوشاحين للموضوعات السائدة في الشعر العربي وخاصة الغناء والمدح سببا في إقبال الملوك والأمراء عليها، وقد سبق أن قلنا أنه لولا هذا الإقبال لما تسنى لهذا الفن الجديد أن يقف على قدميه. وكأن أصحابه كانوا يهدفون من وراء طرق الموضوعات التقليدية إلى إظهار قدرته ومرونته، ولعلهم حاولوا تجاوزها إلى موضوعات أساسها الحوار، كان يمكن أن تكون بداية للشعر التمثيلي والقصصي في الأدب العربي ولكنه ليس لدينا نصوص على ذلك، وقد يكون قرن من الزمن وهو مدة الحكم المرابطي الذي ازدهر في ظله فن الموشحات، غير كاف بأن يطورها ولم تكن قد استقرت بعد.
وربما كان في إمكان المشارقة أن يضيفوا شيئا إلى هذا الفن الجديد، ولكنهم جمدوا عند ما قننه ابن سناء الملك لم يحاولوا غير إظهار قدرتهم على النظم بتنميق وتحسين الأسلوب منصرفين عن أي ابتكار وتجديد، فجاءت موشحاتهم متكلفة خالية من أي روح إبداعي، وربما كذلك كان كتاب ابن سناء الملك سببا في هذا الجمود الذي وقف عنده المشارقة، فهو إن عرفهم بموشحات الأندلسيين وبطريقة نظمها محددا لذلك تحديدات دقيقة، فقد حصر أفقهم ومنعه عن أي انطلاق.
ومهما يكن فقد استطاع الأندلسيون أن يحدثوا فنا جديدا يضاف إلى فنون الشعر العربي، وأن يظهروا فيه شخصيتهم متميزة عن غيرها، وقد غالى بعض الباحثين فأنكروا ما في التوشيح من جديد، وبالغوا في القول بضعف الشخصية الأندلسية فيه، والدكتور شوقي ضيف، وقد سبق أن أوردنا قوله في نشأة الموشحات، من الذين يمثلون ها الرأي، فهو يقول أو الحق أن الموشحات وما تفرع عنها من أزجال لم تحدث ثورة واسعة على الأوضاع القديمة في الصياغة الفنية للشعر الفصيح وخاصة في صياغة التفكير (6).
أما عن صياغة الشكل ففي فصول هذا البحث ما يدل في وضوح وكفاء، على أن التوشيح ليس فنا مشرقيا طوره الأندلسيون، وأن ظهوره كان ثورة على قيود الشرق العربي لا يصورها غير قول المرحوم كامل كيلاني، بأنها حطمت (أكبر قيد رزئ به الشعر العربي وهو التقيد بأوزان وقواف خاصة لا يتخطاها أحد ولا يجسر إنسان على الانتقاص عليها، بل ولا يؤذن له أن يفكر في ذلك.. وليس يستطيع أن يقدر أهمية هذا التطور الذي نشأ عن اختراع الموشحات أو يتبين خطورنه إلا من تتبع الحركة النقدية عند العرب، وعرف أن التقليد الأعمى كان رائدها في أغلب الأحايين، وأن شدة تفانيهم في المحافظة على محاكاة من تقدمهم من العرب وتتبع أساليبهم في التفكير قد وصلت إلى حد يدعو إلى الحيرة) (7).
وأما عن صياغة التفكير ففي كلام الدكتور غير قليل من المبالغة والإسراف، وأول ما نقول أن الشعر حين وفد إلى بلاد الأندلس كانت لا تزال صبغته بدوية جافة فيها كثير من سمات الإبل والصحراء، ولكنه لم يلبث أن تحرر منها ليستبدل بها صبغة متأثرة بالبيئة الأوربية الجديدة، حقا ان الشعراء كانت تأخذهم شدة الحنين إلى موطن أجدادهم في الشرق فيلجأون إلى أدب يستقون منه بعض أساليبهم وأفكارهم ويتخذونه نموذجا لهم ينسجون على منواله، ولكن هذا لم يكن ليبعدهم عن الوطن الجديد الجميل الذي يعيشون فيه، فيغفلوا عن طبيعته الخضراء بأزهارها المزركشة المتمايلة وأشجارها الباسمة المثمرة وجداولها المترقرقة ونوافيرها السالية وحدائقها الغناء ومنتزهاتها الليلية، وقد انعكست على شلالاتها أشعة القمر، أو يغفلوا عن سمائه الصافية حينا والممطرة أحيانا وما يلجأ الناس إليه من مجالس يودها الأنس والغناء والشراب، أو يغفلوا عن آثار الفن النصراني المنتشرة في كل مكان من كنائس وتماثيل وغيرها مما يسترعي النظر في البلاد الأوربية.
جال الشاعر الأندلسي في كل هذا أو كثير سواه، فتأثرت به نفسه وانفعلت قريحته فوصف كل ما وقعت عينه عليه، لم يترك شيئا في بيئته إلا اتخذه موضوعا لفنه وأصبح التحدث عن الطبيعة وجمالها عنده مدخلا لكل فنون القول في الشعر.
وهو إذا وصف لا يحاول انتقاء صوره وإنما هو يريد أن يصف كل مشاهداته يحشد لها الصور المتزاحمة والتشبيهات المتنوعة، لا يتردد أن يشبه أي شيء بأي شيء آخر مهما كانت الرابطة قوية أو ضعيفة وهو في أغلب ذلك يعمد إلى الخلق والابتكار وإبداع المعاني الرقيقة والصور الجميلة يمزج ذلك كله بموسيقى عذبة خفيفة تجعلنا نحس في شعره رشاقة تكاد تسيطر عليه في ألفاظه ومعانيه وذوقه وغير هذا مما يميز أغلب الشعر الأندلسي ولم يكن يعرفه المشارقة.
وربما كان هذا الجمال المبسوط في مل مكان وما يزدحم في ذهن الشاعر من رسومه وصوره سببا في صرف الشاعر عن إطالة النظر وإعمال التفكير إذ لم تترك له وقتا للتركيز والتعمق.
وإذن فللموشحات قيمتها وأثرها في الأدب العربي مهما أنكر ذلك المنكرون، ولولا عوادي الزمن التي جارت على فنها وعلى موطنه، ولولا التقليد الجامد الذي وقف عنده المشارقة لكان لهذا الفن مكانته في الأدب العربي غير ما هي عليه، وربما صادفت فترة انحدار فن التوشيح أن الأدب العربي عامة كان قد بدأ يتخذ ريق الانحطاط.
ولعل ما يزيد في الدلالة على قيمة هذا الفن وأثره في أدبنا العربي تلك المحاولات التي قام بها لإحيائه بعض الشعراء المعاصرين في البلاد العربية والمهاجر الأمريكية الذين يسعون إلى التجديد والتحرر من قيود القصيدة التقليدية، فقد وجدوا أنه يساير أذواقهم العربية وميولهم في التطوير والتجديد.
الموشحات وأثرها في الأدب الأوربي:
ولا نريد أن نختم هذا البحث دون أن نشير إلى تأثير فن الموشحات في الأدب الاسباني وغيره من الآداب الأوربية التي اتصلت به منذ أواخر العصر الوسيط.
ففي فرنسا كان التروبدور les troubadours وهم شعراء بروفنس (8) Provence المتجولون يرحلون من منطقة إلى أخرى في فرنسا وأوربا عامة، يتنقلون من قصر إلى آخر ويمدحون الملوك والأمراء في أشعار خالية من الوزن والقافية، ليس فيها ما يبعث الموسيقى غير اتخاذ الحروف الصوتية Assounance ولكنهم لم يلبثوا بعد انتشار الموشحات أن أسرعوا إلى تقليدها، فأصبحت أشعارهم أكثر إيقاعا وأعذب لحنا.
وربما طوروها عن قصد إلى ما نجد في قصائدهم اليوم من تشابك في القوافي لم يكن يعرفه الشعراء في الأندلس. وفي شعر "لو كنت دي بواتي" le Comte de Poitiers وراهب مونتدرون Le moine de montandon ومجريت Magret منظومات ألحان الروندي Rondet التي كانت شائعة في القرن السابع عشر، دليل على هذا التأثير الذي كاد أن يختفي بعد عصر النهضة حيث كانت الغلبة للغة الشمال التي كان شعراؤها يعرفون بالتروفير.
وفي إيطاليا كان التأثر ظاهرا إلى أبعد الحدود بسبب اتصالها عن قرب بالمسلمين في صقلية، وقد اهتدى المستشرق الاسباني ميلاس فليكروزا Millas Villiorosa إلى الشبه الكبير بين موضوعات التوشيح وموضوعات شعر الغجريات، وبين قالب الكنترستو Contrato والبلاتا M. Ballata وقالب الموشحات.
ولعل التروبادور البروفانسيين هم الذين نقلوا ها الفن الأندلسي إلى إيطاليا، ففي كتب التاريخ أن الأمير برنجر حين ذهب إلى مدينة ميلان الإيطالية ليقابل الإمبراطور فريديريك الأول ليتسلم منه ظهير توليته رئاسة عمالة بروفنس، صحب معه عددا من هؤلاء التروبادور ففتن بهم الإمبراطور لما كانوا ينشدون من أشعار يغلب عليها الطابع الأندلسي، وعن هؤلاء مباشرة أخ الشاعر الإيطالي الكبير بطرارك قوالب فن الموشحات.
أما عن اسبانيا فقد بحث الكاتب الإشبيلي ارجوتي دي مولينا Argote de moluna Gensalo مدى تأثير التوشيح والزجل في الشعر الاسباني وأشار إلى أن الأيام التي سبقت سقوط غرناطة وتلتها كانت بعيدة الأثر في خيال الأدباء الاسبانيين، وربما كانت القصائد الموريسكية التي تحكي قصص المسلمين، ترجمات لبعض الأغاني العربية التي كان ينشدها الأندلسيون والتي كانت من نظم التوشيح والزجل كما ذهب الباحث الاسباني بيدال Menendez Pidal إلى أن منظومات الشاعر الاسباني فسيس هيتا Hita التي كانت تتغنى بها الجماعات الإسلامية التي ظلت تعيش بعد الحكم العربي في الأندلس كانت على نمط الأغاني العربية.
ولا شك أن المغنين والمنشدين المسلمين الذين اضطرتهم ظروف الحياة إلى البقاء تحت الحكم المسيحي ساعدوا إلى حد بعيد على بقاء فن العرب، فقد حكى المؤرخ رامول بيدال أنه في بلاط سانشوا الرابع ملك قشتالة كان عدد المنشدين الذين يتقاضون مرتبا من القصر سبعة وعشرين من بينهم ثلاثة عشر مسلما منهم امرأتان.
وربما كان ينظم هؤلاء أغانيهم بلغة عربية قد تكون فصيحة، وقد تكون عامية ثم ينقلونها إلى اللغة الإسبانية قبل إنشادها في مواسم الاسبان وحفلاتهم، وقد كانوا فيما بينهم يتناشدون موشحات وأزجالا يحنون فيها إلى مجد الأندلس العربية يضمنونها ابتهالات إلى الله وتوسلات برسوله كقول أحدهم:
كن في عون المسلمين يا إله العالمين
أنت هو فرد صمد لم يكن قبلك أحد
لارتضا خير العباد
وكقول آخر:
نزور قبر النبي صلى الله عليه
الجبال افتتن من جمال ان أعطاه
رب أنعم عليه وتزلزل إله طيبوا
يا عارفين به وصلوا عليه
وقد ضاعت كل هذه المنظومات كما ضاعت نفائس التراث العربي في الأندلس، ولعل أصحابها هم الذين دمروها حتى لا يقعوا في قبضة محاكم التفتيش التي انتشرت في مختلف أنحاء البلاد تبحث عن مبطني الإسلام لتنكل بهم وتعذبهم.
وسرعان ما ضعفت عربية هذه الجالية الإسلامية فلجأ شعراؤها إلى الإسبانية ينظمون بها في نفس الموضوعات التي كانوا يعالجون من قبل من مدح للنبي وتوسل إليه.
أما بعد ها فمن شعراء الاسبان الذين ساروا في نظمهم على طريقة الزجل والتوشيح، الفريز جاتو وجيمز ديوريا وهرنندو دي كاستيو ودييجو دي فلنسيا وجارسيا فرنانديز وغيرهم من الشعراء الذين ظلوا حتى القرن السابع عشر يقلدون في نظمهم شعر الموشحات والأزجال.
(1) ـ المقدمة ص 548.
(2) ـ الزجل في الأندلس ص2.
(3) ـ تاريخ الفكر الأندلسي، ص 143.
(4) ـ الفن ومذاهبه في الشعر العربي، ص 356.
(5) ـ الزجل في الأندلس ص 109.
(6) ـ الفن ومذاهبه في الشعر العربي ص 357.
(7)ـ نظرات في تاريخ الأدب الأندلسي ص 246.
(8)ـ في جنوب فرنسا
دعوة الحق
46 العدد
دعوة الحق - الموشحات -3-
تطور الموشحات ونشأة الزجل: رأينا في تطور الموشحات في القرن الخامس على يد ابن ماء السماء وابن بقي والطليطلي الذين عملوا على اكتمالها ورفع مستواها إلى...
www.habous.gov.ma