مرة خربشت على صفحة الفيس بوك الخاصة بي خربشات تحت عنوان " في الخامسة والستين . أنت مثل سيارة عتيقة خربة " .
كنت في العام 2009 فحصت دمي لأعرف إن كنت مصابا بداء السكري .
لقد بدأت أعاني من قلة النوم من العام 2002 منذ اشتد الحصار في انتفاضة الأقصى ، وفي العام 1997 كنت أشتري علبة التين الخرتماني وأجهز عليها ، وكنت حين أسافر إلى رام الله أشتري زجاجة ماء من حجم لتر ونصف واشربها كلها ، وأفعل الشيء ذاته في العودة . لم أنتبه إلى أن هذه علامة من علامات الإصابة بالسكري .
أعود بذاكرتي إلى العام 1991.
كنت في ورطة حقيقية كما لو أنني في حرب . أصحو مبكرا وأغادر ، بعد شرب القهوة ،إلى مقهى وسط المدينة وأشتري الحلوى وألتهمها وأشرب ثانية القهوة المحلاة . هل أصبت يومها بالسكري دون أن أعرف .
في آذار من 2008 أو 2009 كنت في المحاضرة وكدت أقع فوجب أن أجري الفحوصات .
أول فحص للكشف عن داء السكري كانت نتيجته بعد صيام ( 255 ) . أفطرت وفحصت بعد ساعتين فصارت النتيجة ( 370 ) تقريبا ، ومن يومها أخذت أنتبه إلى صديقي الجديد .
مثل غريغوري :
كل ما سبق لا أهمية له ، ولكنني أدركت أنني صرت مثل سيارة عتيقة خربة تحتاج دائما إلى فحص سنوي ، وإلى اهتمام أكثر ، حرصا على حياة السائق والركاب .
في التاسعة والخمسين كنت أسير مع زميل لي بلغ الخامسة والستين وجاءه كتاب إنهاء عمله . عرجنا معا على مكتب مدير الموظفين ليسأل عن مدخراته وأشياء أخرى ، فاستلهمت من الحادثة موضوعا أكتب فيه ، وكتبت مقالا طريفا عنوانه " مثل غريغوري .. هكذا أنا في الخامسة والستين " و ( غريغوري ) من شخصيات ( فرانز كافكا ) في قصته " التحول / المسخ " ، وهو عامل يقرر ألا يذهب إلى العمل لأنه تحول إلى حشرة . والقصة ذات دلالة رمزية : وأنت قوي وتعمل يحترمك صاحب العمل وأمك وأبوك ، وحين تمرض يتخلى عنك هؤلاء .
في صباح السبت الموافق 10 تشرين الثاني تذكرت هذا كله .
الطريق من شرق المدينة إلى وسطها تعاني من أزمة مرور نجم عنها صعوبة في نقل الركاب ، وهكذا وجب علي أن أسير ، وغالبا ما أخذت ، منذ اكتشفت السكري ، أمارس عادة المشي أكثر فأكثر .
يوم الجمعة تناولت الغداء في بيت أختي المصابة أيضا بالسكري : مقلوبة بالبطاطا والجزر والباذنجان ، وفوق هذا كله الحلوى ، ولما فحصت بعد ساعتين كانت النتيجة ( 347 ) ، فحمدت الله على ارتفاع الأسعار ، وصمت إضرابا ، وواصلت ، في اليوم الثاني ، المشي ، لتنخفض الأسعار إلى ( 163 ) .
أنا أصدق الألمان :
مرة كنت أشاهد برنامجا على الفضائية الألمانية عن علاج السكري . حين تصاب البنكرياس بالخلل تصبح مثل ماسورة صدئة تحتاج إلى دقها أولا ، ويحتاج المصاب بالسكري إلى المشي وإلى أن يضع شريطا على فمه - أي الحمية ، فالأدوية ومنها الأنسولين تخفض السكر بنسبة 20 بالمائة ، وهي بقدر ما تفيد تؤذي .
كل ما سبق لا أهمية له .
في صباح السبت الموافق 10 تشرين الثاني قررت أن أمشي وسلكت طرقا قديمة ومررت على نبع عسكر البلد ، وهنا تكمن الحكاية .
نظرت إلى شجر التين علني أجد بعض ثمار فوجدت . هناك التين العدلوني الذي يعطي في وقت متأخر . تناولت أربع حبات ولاحظت الحليب الفج ، ولما كنت قريبا من النبع قلت أغسل يدي وأرى دار مية وما فعلت بها الأيام . قلت أقف على الأطلال . وهكذا عدلت في التشبيه " في الخامسة والستين أنت مثل نبع عسكر " .
لنبع عسكر ذكريات كثيرة غالبا ما تقترن بالصبا والشباب والريفي واللاجيء والجشع والأثرة وأشخاص لا ينسون .
من هؤلاء أبو محمد الذي كان يحول بيننا وبين المياه التي كنا بحاجة إليها إذا ما نفدت مياه الحواويز في المخيم ، أو إذا قرر المسؤول أبو عوض قطعها .
كان علينا أن نذهب إلى النبع ، لنعبيء تنكتي الماء اللتين نحملهما على أكتافنا بواسطة حمالة .
وغالبا ما كان أبو محمد يعترضنا ، فهو يريد أن يبيعها بواسطة جالوناته التي يحملها حماراه .
أحيانا كنا نغافله ونصل إلى النبع فننهل الماء العذب الصافي ونعود ظافرين . الآن تبدو عين الماء وكأنها تقول لنا إن هناك من سبقنا فشرب الماء العذب الصافي ، وتركنا نشرب الكدر والطين . أتذكر الشاعر الجاهلي وأضحك :
" ونشرب - إن وردنا الماء - صفوا /
ويشرب غيرنا كدرا وطينا "
أتأمل المكان . الآن يبدو مختلفا تماما . من قبل كان ثمة بيوت قليلة وشجر تين كثير . الآن تبدو الأمور مختلفة ومكعوسة . ثمة بيوت كثيرة وشجر قليل ولم يبق من شجر التين الخرتماني والعدلوني إلا بضع شجرات . حتى رائحة التراب والطابون وروث الغنم ما عادت تقول إن المكان كان قرية ريفية بسيطة. ولولا بقايا البيوت لقلت إن المكان ليس هو المكان الذي عرفته جيدا قبل أربعين عاما . ( غالبا وأنا أنظر في التغيرات التي تحدث في محيط نابلس ، غالبا ما أتذكر رواية السوري خالد خليفة " لا سكاكين في مطابخ هذي المدينة " والوصف الذي كتبه عن تغيرات مدينة حلب ، وتحديدا ما ألم بسهل الخس فأقول : حدث في سهل الخس المحيط بنابلس الشيء نفسه ) .
أقف على الأطلال ولا أعب من الماء بيدي لأشرب ، فثمة سواد يجعلك تشعر بالخوف من فيروسات لوثت المكان وما يحيط به .
امشي . أمشي لأحرق فائض السكر ولأسلك طرقا قديمة .
هل قرأت عين الماء قصيدة محمود درويش وهو في بيت أمه ؟
حين زار ، بعد عودته ، بيت أمه رأى صورته شابا - اي قبل ثلاثين أربعين عاما ، فتخيل الصورة تسأله :
- أأنت يا ضيفي أنا ؟
هل سألتني عين الماء السؤال نفسه ؟ وأنا أدرك أنني أنا لست ذاك الذي كان .
أواصل السير مشيا وأتأمل .
كان ثمة أزمة سير في شارع عمان المؤدي إلى وسط المدينة ، شارع شق في 50 القرن العشرين ولم تكن تسير عليه في حينه سوى سيارات قليلة . الآن ضاق الشارع بالسيارات .
في الخامسة والستين أنت مثل سيارة عتيقة خربة . لا جدال ولا نقاش ولا ( فياغرا ) ولا مميع دم ولا مهديء أعصاب ( ليركا ) . لا شيء . لا شيء يعيد الشيخ إلى صباه فثمة خراب في الروح . ثمة هزائم كثيرة ؛ وطنية وقومية وشخصية .
في الخامسة والستين أنت مثل سيارة عتيقة خربة .
الاثنين
12 تشرين الثاني 2018
كنت في العام 2009 فحصت دمي لأعرف إن كنت مصابا بداء السكري .
لقد بدأت أعاني من قلة النوم من العام 2002 منذ اشتد الحصار في انتفاضة الأقصى ، وفي العام 1997 كنت أشتري علبة التين الخرتماني وأجهز عليها ، وكنت حين أسافر إلى رام الله أشتري زجاجة ماء من حجم لتر ونصف واشربها كلها ، وأفعل الشيء ذاته في العودة . لم أنتبه إلى أن هذه علامة من علامات الإصابة بالسكري .
أعود بذاكرتي إلى العام 1991.
كنت في ورطة حقيقية كما لو أنني في حرب . أصحو مبكرا وأغادر ، بعد شرب القهوة ،إلى مقهى وسط المدينة وأشتري الحلوى وألتهمها وأشرب ثانية القهوة المحلاة . هل أصبت يومها بالسكري دون أن أعرف .
في آذار من 2008 أو 2009 كنت في المحاضرة وكدت أقع فوجب أن أجري الفحوصات .
أول فحص للكشف عن داء السكري كانت نتيجته بعد صيام ( 255 ) . أفطرت وفحصت بعد ساعتين فصارت النتيجة ( 370 ) تقريبا ، ومن يومها أخذت أنتبه إلى صديقي الجديد .
مثل غريغوري :
كل ما سبق لا أهمية له ، ولكنني أدركت أنني صرت مثل سيارة عتيقة خربة تحتاج دائما إلى فحص سنوي ، وإلى اهتمام أكثر ، حرصا على حياة السائق والركاب .
في التاسعة والخمسين كنت أسير مع زميل لي بلغ الخامسة والستين وجاءه كتاب إنهاء عمله . عرجنا معا على مكتب مدير الموظفين ليسأل عن مدخراته وأشياء أخرى ، فاستلهمت من الحادثة موضوعا أكتب فيه ، وكتبت مقالا طريفا عنوانه " مثل غريغوري .. هكذا أنا في الخامسة والستين " و ( غريغوري ) من شخصيات ( فرانز كافكا ) في قصته " التحول / المسخ " ، وهو عامل يقرر ألا يذهب إلى العمل لأنه تحول إلى حشرة . والقصة ذات دلالة رمزية : وأنت قوي وتعمل يحترمك صاحب العمل وأمك وأبوك ، وحين تمرض يتخلى عنك هؤلاء .
في صباح السبت الموافق 10 تشرين الثاني تذكرت هذا كله .
الطريق من شرق المدينة إلى وسطها تعاني من أزمة مرور نجم عنها صعوبة في نقل الركاب ، وهكذا وجب علي أن أسير ، وغالبا ما أخذت ، منذ اكتشفت السكري ، أمارس عادة المشي أكثر فأكثر .
يوم الجمعة تناولت الغداء في بيت أختي المصابة أيضا بالسكري : مقلوبة بالبطاطا والجزر والباذنجان ، وفوق هذا كله الحلوى ، ولما فحصت بعد ساعتين كانت النتيجة ( 347 ) ، فحمدت الله على ارتفاع الأسعار ، وصمت إضرابا ، وواصلت ، في اليوم الثاني ، المشي ، لتنخفض الأسعار إلى ( 163 ) .
أنا أصدق الألمان :
مرة كنت أشاهد برنامجا على الفضائية الألمانية عن علاج السكري . حين تصاب البنكرياس بالخلل تصبح مثل ماسورة صدئة تحتاج إلى دقها أولا ، ويحتاج المصاب بالسكري إلى المشي وإلى أن يضع شريطا على فمه - أي الحمية ، فالأدوية ومنها الأنسولين تخفض السكر بنسبة 20 بالمائة ، وهي بقدر ما تفيد تؤذي .
كل ما سبق لا أهمية له .
في صباح السبت الموافق 10 تشرين الثاني قررت أن أمشي وسلكت طرقا قديمة ومررت على نبع عسكر البلد ، وهنا تكمن الحكاية .
نظرت إلى شجر التين علني أجد بعض ثمار فوجدت . هناك التين العدلوني الذي يعطي في وقت متأخر . تناولت أربع حبات ولاحظت الحليب الفج ، ولما كنت قريبا من النبع قلت أغسل يدي وأرى دار مية وما فعلت بها الأيام . قلت أقف على الأطلال . وهكذا عدلت في التشبيه " في الخامسة والستين أنت مثل نبع عسكر " .
لنبع عسكر ذكريات كثيرة غالبا ما تقترن بالصبا والشباب والريفي واللاجيء والجشع والأثرة وأشخاص لا ينسون .
من هؤلاء أبو محمد الذي كان يحول بيننا وبين المياه التي كنا بحاجة إليها إذا ما نفدت مياه الحواويز في المخيم ، أو إذا قرر المسؤول أبو عوض قطعها .
كان علينا أن نذهب إلى النبع ، لنعبيء تنكتي الماء اللتين نحملهما على أكتافنا بواسطة حمالة .
وغالبا ما كان أبو محمد يعترضنا ، فهو يريد أن يبيعها بواسطة جالوناته التي يحملها حماراه .
أحيانا كنا نغافله ونصل إلى النبع فننهل الماء العذب الصافي ونعود ظافرين . الآن تبدو عين الماء وكأنها تقول لنا إن هناك من سبقنا فشرب الماء العذب الصافي ، وتركنا نشرب الكدر والطين . أتذكر الشاعر الجاهلي وأضحك :
" ونشرب - إن وردنا الماء - صفوا /
ويشرب غيرنا كدرا وطينا "
أتأمل المكان . الآن يبدو مختلفا تماما . من قبل كان ثمة بيوت قليلة وشجر تين كثير . الآن تبدو الأمور مختلفة ومكعوسة . ثمة بيوت كثيرة وشجر قليل ولم يبق من شجر التين الخرتماني والعدلوني إلا بضع شجرات . حتى رائحة التراب والطابون وروث الغنم ما عادت تقول إن المكان كان قرية ريفية بسيطة. ولولا بقايا البيوت لقلت إن المكان ليس هو المكان الذي عرفته جيدا قبل أربعين عاما . ( غالبا وأنا أنظر في التغيرات التي تحدث في محيط نابلس ، غالبا ما أتذكر رواية السوري خالد خليفة " لا سكاكين في مطابخ هذي المدينة " والوصف الذي كتبه عن تغيرات مدينة حلب ، وتحديدا ما ألم بسهل الخس فأقول : حدث في سهل الخس المحيط بنابلس الشيء نفسه ) .
أقف على الأطلال ولا أعب من الماء بيدي لأشرب ، فثمة سواد يجعلك تشعر بالخوف من فيروسات لوثت المكان وما يحيط به .
امشي . أمشي لأحرق فائض السكر ولأسلك طرقا قديمة .
هل قرأت عين الماء قصيدة محمود درويش وهو في بيت أمه ؟
حين زار ، بعد عودته ، بيت أمه رأى صورته شابا - اي قبل ثلاثين أربعين عاما ، فتخيل الصورة تسأله :
- أأنت يا ضيفي أنا ؟
هل سألتني عين الماء السؤال نفسه ؟ وأنا أدرك أنني أنا لست ذاك الذي كان .
أواصل السير مشيا وأتأمل .
كان ثمة أزمة سير في شارع عمان المؤدي إلى وسط المدينة ، شارع شق في 50 القرن العشرين ولم تكن تسير عليه في حينه سوى سيارات قليلة . الآن ضاق الشارع بالسيارات .
في الخامسة والستين أنت مثل سيارة عتيقة خربة . لا جدال ولا نقاش ولا ( فياغرا ) ولا مميع دم ولا مهديء أعصاب ( ليركا ) . لا شيء . لا شيء يعيد الشيخ إلى صباه فثمة خراب في الروح . ثمة هزائم كثيرة ؛ وطنية وقومية وشخصية .
في الخامسة والستين أنت مثل سيارة عتيقة خربة .
الاثنين
12 تشرين الثاني 2018