منذ طفولتي تعلّقت بحبّ الشعر الإنجليزيّ، وما إن بلغت السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من عمري حتّى كنت قد قرأت الكثير من أشعار شكسير، ودرايدن، وشيللي، وكيتس، وبايرون بلغتها الأصليّة، وترجمتُ بعضًا منها إلى اللغة العربيّة، كما قرأت الكثير من الأعمال الروائيّة بالإنجليزيّة، والكثير من روائع الأدبين الفرنسيّ والروسيّ مترجمة إلى الإنجليزيّة والعربيّة. في تلك الفترة من حياتي بدأت بكتابة القصص القصيرة... باللغة العربيّة، طبعًا. ولغرامي باللغة أسلوبيًّا، فقد بدا على قصصي أنّها تستمدّ من المصادر البلاغيّة للّغة العربيّة الكثير من طاقتها، على ما كانت عليه تلك الطاقة، وترجمتُ إلى اللغة العربيّة قصصًا لأوسكار وايلد، وجورج مور، وأميل زولا، وغي دو موياسان، وتشيكوف، بل ترجمت حتّى لميكافيللي؛ إذ بصرف النظر عن أيّ شيء آخر، منتحتني تلك الترجمات فرصةً لأن اختبر الإمكانيّات الأسلوبيّة للّغة العربيّة ولأن أتعلّم كيفيّة الإفادة من هوسي بحبّها. وعند بلوغي التاسعة عشرة كنت قد أنجزتُ ترجمة حياة تشيللي لأندريه موروا، وتعلّمت الكثير عن الأدب خلال ذلك.
عند ذهاي إلى «إكستر»، ثمّ إلى «كامبريدج» لدراسة الأدب الإنجليزيّ، كنت قد اتّخذت قراري ذلك عن عمد، إذ شعرت بأنّه لم يكن لزامًا عليّ، كطالب جامعيّ، أن أدرس الأدب العربيّ أكاديميًّا.. إنّ ما كنت أريده هو أن أدرس ثقافة تختلف عن ثقافتي لكي أرى الثقافة العربيّة بوضوح أكثر، ولكي أراها في سياق مقارن أعمق. كان في نيّتي، في الواقع ومنذ البداية، أن أنفذ بصيرتي في ثقافة أجنبيّة.. لا لأكون خبيرًا بها، بل لكي أرى ما يمكن نقله إلى الثقافة العربيّة من مصادر ومنابع أخرى لجعل الثقافة العربيّة أكثر غنىً، وأقوى طاقة على التعبير، وأشدّ قدرة على التحوّل إلى قوّة دافعة نحو تغيير حركيّ (ديناميكيّ) في مجتمعنا.
لا أنوي هنا الدخول في تفاصيل العلاقة بين الهيمنة السياسيّة والهيمنة الثقافيّة؛ فلقد تمّت مناقشة هذا الموضوع مناقشة مستفيضة من قبل الكثيرين من الكتّاب، خاصّة فرانز فانون الّذي غالبًا ما يتوصّل إلى استنتاجات مروّعة لا تنطبق، كما أرى، على الثقافة العربيّة المعاصرة. وكما أوضحت في مقالتي: «الأدب العربيّ الحديث والغرب»، فإنّ "الكتّاب العرب الشباب أفادوا من الكتابات الغربيّة... لا لإلقاء الضوء على القضايا العربيّة فحسب، وإنّما لتزويد مؤلّفينا بأدوات أمضى لإنجاز مهامّهم". ضمن سياق كهذا وجدت نفسي أدرس أدب الغرب وفكره وفنّه.
ومع مرور الزمن، كتبت الكثير من الشعر والأدب القصصيّ باللّغة الإنجليزيّة. ولسبع سنوات أو ثمان في الأربعينيّات كنت أحسّ بأنّ الإطناب والمحسّنات اللفظيّة كانت تهيمن على الشعر والقَصص العربيّ، وأنّها كانت أوهن من أن تستطيع التعبير عن حدّة التجربة العربيّة على المستوى القوميّ أو الفرديّ. فقرّرت كتابة تجربتي باللغة الإنجليزيّة بعد أن وجدت عربيّتي لا ترقى إلى مستوى المهمّة؛ ولكن بعد عام 1948 توصّلت إلى قرار هو أنّه إذا قبلنا أنّ اللغة العربيّة غير قادرة على أن تكون واسطة التعبير عن فكرنا الثوريّ فإنّنا نكون قد ألحقنا الهزيمة بهدفنا؛ إنّ التغيير ينبغي أن يبدأ مع الكلمة ومع الصورة مهما بدت عليه الكلمة والصورة من صعوبة في الملاحقة، ولهذا عدت إلى الكتابة باللغة العربيّة، ولكن بشكل مختلف هذه المرّة. ومع مجموعة من الكتّاب والفنّانين من أبناء جيلي أعلنتُ أنّ الحداثة في الوطن العربيّ كانت المسيرة التصحيحيّة اللازمة لتغيير أنماط الفكر والتعبير الّتي ظلّت سائدة دون تغيير يُذكر لفترة أطول ممّا ينبغي. إنّ الحداثة تعني الانتماء لأنفسنا ولزمننا في الوقت ذاته، ولا يمكن، بالنسبة لنا، إنجازها في أعمالنا الإبداعيّة إلَّا بالعودة إلى الجذور، مع تطعيم تلك الأعمال بكلّ مكتشفات الغرب وتقنيّاته. إنّ العزلة الثقافيّة في القرن العشرين شيء مستحيل، لكنّ نقيض العزلة لا ينبغي أن يعني الانطماس والغرق بل الانبثاق والبروز، فتتحقّق نتيجة لذلك اسهامةً حقيقيّة في ثقافة القرن وذلك أوّلاً، بفهمها والتناغم معها، وثانيًا، بخلق عنصر جديد منبثق من أعماق هويّتنا القوميّة، باستطاعته أن يكون إغناءً حقيقيًّا لهذه الثقافة.
أعود للنغمة الشخصيّة فأقول إنّني كنت، ولنصف قرن تقريبًا، مولعًا لا بالأدب وحده وإنّما بالفنّ والموسيقى كذلك. لقد تعلّمت في جامعتيّ «كامبريدج» و«هارفرد» وعلّمتُ في جمعاتٍ منها جامعتيّ «بغداد» و«بيركلي» في الولايات المتّحدة، وألّفت بالعربيّة عدّة كتب في النقد الأدبيّ والفنّيّ وترجمت كتبًا أكثر في النقد لمؤلّفين بريطانيّين وأميريكيّين، كما ترجمت سبع مسرحيّات لشكسبير، فضلًا عن رواية «الصخب والعنف» لوليم فوكنر، الّذي (أستطيع القول بين قوسين) كنتُ أوّل من قدّمه إلى العالم العربيّ. هذا كلّه مكّن النقّاد العرب، عند مناقشة رواياتي وقصائدي، من القول إنّهم يتبيّنون تأثير الثقافة الغربيّة في أعمالي الإبداعيّة، ويذكرون أسماء بعض كتّابي الأثيرين مثل ت. س. إليوت، وآلدوس هكسلي، ووليام فوكنر، ولو كانو يعرفون وليام بلايك وجون كيتس أكثر، لتبيّنوا تأثيرهما كذلك. أمّا دوستويفسكي، وبلزاك، وستندال، وجويس، وفرجينيا وولف، ود. ه. لورنس، وبروست فقد كنت أحسّ دائمًا بملازمتهم إيَّاي كلّما كتبت شيئًا ملازمة «ألف ليلة وليلة».
وأيًّا يكن الأمر، فإنّني ما شعرت مطلقًا بأنّ اتصالي بجذوري، بمجتمعي، بمدينتي العربيّة، كما فهمته، قد ازداد غنىً وعمقًا بحصيلة معرفتي وخبرتي الّتي كان التفكير العربيّ فيها، كما أراه، أقوى دوافعي على أيّة حال.
لم أقرّ مطلقًا فكرة الفصل الثقافيّ بأيّ شكل من الأشكال. قد يستفيض «شبنغلر» بشرح نظريّته حول روح «القبول العربيّة» وروح «الرفض» الغربيّة، وقد يكون محقًّا إلى حدّ ما، ولكن إذا كان ثمّة حقيقة في نظريّة «يونغ» حول اللّاوعي الجماعيّ لدى الأمّة، وإذا كان نتاج الكاتب، بطريقة أو بأخرى، تجسيدًا لهذه القوّة الكامنة فيه، فإنّ التأثيرات لا تقلقني بأيّة درجة، ولا يمكن أن تكون أعمالي الإبداعيّة في التحليل النهائيّ إلَّا أعمالًا عربيّة، بأعمق ما في الكلمة من معنى. لقد تفاعلتْ الثقافات دائمًا لكنّها لم تتفاعل أبدًا لما فيه إضرار بوعي الأمّة لطاقاتها الحيّة وهويّتها المميّزة الخاصّة بها. إنّني على ثقة، ضمن هذا الإطار، بأنّ العرب، بما يمتلكون من لغة ثريّة وإرث حيّ لحضارات الشرق الأوسط المتعاقبة الّتي خلقها أسلافهم، قادرون على امتصاص التأثيرات الثقافيّة بشكل صحّيّ، كما فعلوا قبل ألف عام، وقادرون على إنتاج أدب وفنّ أصيلين وصادقين في التعبير عن أعماق ذواتهم وأخلاقيّتهم. وهكذا يستعيدون مكانتهم؛ مسهِمين فاعلين في رؤى زمنهم وخياله وطريقته في التفكير. وهكذا يكونون على اتّصال وثيق مع زمنهم، ولكن مختلفين بما فيه الكفاية لإعطاء عبقريّتهم تميّزها الخاصّ بها.
ربّما يكون من المناسب أن أقول هنا شيئًا عن إغواء الكتابة باللغة الإنجليزيّة، هذه «السيرانة»[1] الشقراء الّتي تتردّد أغنيتها أبدًا في أذنيّ المفتوحتين.
لم تعد الكتابة باللّغة الإنجليزيّة ظاهرة استثنائيّة لافتة للنظر؛ فالعديد من المثقّفين والأساتذة الجامعيّين العرب في إنجلترا والولايات المتّحدة وفي لبنان ومصر والأردنّ، على نطاق أضيق، يكتبون بالإنجليزيّة. لكنّ اللافت للنظر، على أيّة حال، هو أنّهم جميعًا وبدون استثناء تقريبًا، يكتبون بها دراسات أدبيّة أكاديميّة أو مقالات سياسيّة واجتماعيّة ذات طبيعة رصينة جدًا، لكنّ القليل منهم جازف في الكتابة الإبداعيّة بها. ولا أستطيع أن أتذكّر إلّا اثنين أو ثلاثة من العرب الّذين كتبوا الشعر والقصص بالإنجليزيّة خلال الخمسين سنة الأخيرة، في حين أنّ الكثيرين، ومعظمهم من المغاربة والجزائريّين والتونسيّين، قد كتبوا رواياتهم وقصائدهم باللّغة الفرنسيّة فقط، وحقّق بعضهم تميّزًا ملحوظًا في فرنسا ذاتها.
إنّ هيمنة اللغة الفرنسيّة على هؤلاء كانت من الشدّة بحيث أنّ الكثيرين منهم أخذوا في السنوات الأخيرة يتحدّثون بنغمة اعتذاريّة عن كتاباتهم بالفرنسيّة كما لو أنّها كانت انحرافًا قسريًّا ينال من ثقافتهم وهويّتهم القوميّة، ولقد حاول بعضهم في الواقع تعلّم العربيّة مجدّدًا، وهم الآن يبذلون الجهد متعمّدين الكتابة بها إلى جانب الفرنسيّة، إن لم يكن بالعربيّة وحدها. أمّا الّذين يكتبون بالإنجليزيّة، فإنّهم على أيّة حال، لا يحملون مثل هذا الشعور بالذنب، فالكثيرون منهم يواصلون الكتابة بالعربيّة أيضًا، ولم تستطع الإنجليزيّة جرف أيّ منهم كما فعلت في الهند وباكستان وبعض أجزاء أفريقيا لأسباب مفهومة.
كانت تجربتي مختلفة، فبعد أن كتبت الكثير بالعربيّة قبل بلوغي العشرين، أغرتني دراستي للأدب الإنجليزيّ بالابتعاد عن الكتابة العربيّة لبعض الوقت.
في عشرينيّات عمري كتبت الشعر بالإنجليزيّة بشكل منتظم، وقد نشر البعض منه في لندن وفي القدس. وكانت أوّل روايتين قصيرتين لي قد كتبتا بالإنجليزيّة أيضًا، وبسبب تدريسي للأدب الإنجليزيّ بدت كتابتي بالعربيّة غير قادرة على إعطائي الرضا الكافي عن نفسي، خاصّة وأنّني قد وجدت القليل جدًّا من الشعر والرواية المكتوبة بالعربيّة خلال الأربعينيّات ممّا يستحقّ أن أباريه. لكنّني عندما أكملت في منتصف الخمسينيّات كتابة أوّل رواية رئيسة لي بالإنجليزيّة، وهي رواية «صيّادون في شارع ضيّق»، الّتي نشرتها في لندن دار «هاينمان» عام 1960، أحسست بأنّني قد حقّقتُ ما أردته وأنّه لم تعد هناك حاجة بي لكتابة القصص أو الشعر بالإنجليزيّة؛ فقد كت أكتب الكثير بالعربيّة، وكان ما كنت أكتبه يُقرأ في الوطن العربيّ بأسره ويحظى باستجابة جيّدة من القرّاء.
ومع أنّني جنيت في منتصف الستّينات حصادًا متأخّرًا من القصائد باللغة الإنجليزيّة، غير القابلة للترجمة إلى العربيّة شأنها، بالطبع، شأن معظم الشعر الحديث، فإنّ ما كتبته بالإنجليزيّة منذ ذلك الوقت كان بشكل أساسيّ مقالات حول الأدب العربيّ المعاصر وحول الفنّ، وكان معدًّا للنشر خارج الوطن العربيّ. لقد حاولت في تلك المقالات أن أنقل للآخرين شيئًا من الاستثار والإحساس بالإنجاز الّذي حققه الكتّاب والفنّانون في جزئنا هذا من العالم، ومعظمهم كان في الواقع من أصدقائي المقرّبين.
بغداد 30 نيسان 1988.
إحالات
[1] السيرانة Siren، في الأساطير الإغريقيّة والرومانيّة هي «عروس البحر» الّتي تغوي البحّارين بغنائها فينجذبون إليها مسحورين. لم يسمع أغنيتها من البشر سوى «يوليسيس» الّذي ترك أذنيه مفتوحتين بينما جعل بحّارته يغلقون آذانهم بالقطن المشبّع بالزيت كي لا يسمعوها وينجذبوا إليها لما فيه هلاكهم. «المترجم».
عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.
عند ذهاي إلى «إكستر»، ثمّ إلى «كامبريدج» لدراسة الأدب الإنجليزيّ، كنت قد اتّخذت قراري ذلك عن عمد، إذ شعرت بأنّه لم يكن لزامًا عليّ، كطالب جامعيّ، أن أدرس الأدب العربيّ أكاديميًّا.. إنّ ما كنت أريده هو أن أدرس ثقافة تختلف عن ثقافتي لكي أرى الثقافة العربيّة بوضوح أكثر، ولكي أراها في سياق مقارن أعمق. كان في نيّتي، في الواقع ومنذ البداية، أن أنفذ بصيرتي في ثقافة أجنبيّة.. لا لأكون خبيرًا بها، بل لكي أرى ما يمكن نقله إلى الثقافة العربيّة من مصادر ومنابع أخرى لجعل الثقافة العربيّة أكثر غنىً، وأقوى طاقة على التعبير، وأشدّ قدرة على التحوّل إلى قوّة دافعة نحو تغيير حركيّ (ديناميكيّ) في مجتمعنا.
لا أنوي هنا الدخول في تفاصيل العلاقة بين الهيمنة السياسيّة والهيمنة الثقافيّة؛ فلقد تمّت مناقشة هذا الموضوع مناقشة مستفيضة من قبل الكثيرين من الكتّاب، خاصّة فرانز فانون الّذي غالبًا ما يتوصّل إلى استنتاجات مروّعة لا تنطبق، كما أرى، على الثقافة العربيّة المعاصرة. وكما أوضحت في مقالتي: «الأدب العربيّ الحديث والغرب»، فإنّ "الكتّاب العرب الشباب أفادوا من الكتابات الغربيّة... لا لإلقاء الضوء على القضايا العربيّة فحسب، وإنّما لتزويد مؤلّفينا بأدوات أمضى لإنجاز مهامّهم". ضمن سياق كهذا وجدت نفسي أدرس أدب الغرب وفكره وفنّه.
ومع مرور الزمن، كتبت الكثير من الشعر والأدب القصصيّ باللّغة الإنجليزيّة. ولسبع سنوات أو ثمان في الأربعينيّات كنت أحسّ بأنّ الإطناب والمحسّنات اللفظيّة كانت تهيمن على الشعر والقَصص العربيّ، وأنّها كانت أوهن من أن تستطيع التعبير عن حدّة التجربة العربيّة على المستوى القوميّ أو الفرديّ. فقرّرت كتابة تجربتي باللغة الإنجليزيّة بعد أن وجدت عربيّتي لا ترقى إلى مستوى المهمّة؛ ولكن بعد عام 1948 توصّلت إلى قرار هو أنّه إذا قبلنا أنّ اللغة العربيّة غير قادرة على أن تكون واسطة التعبير عن فكرنا الثوريّ فإنّنا نكون قد ألحقنا الهزيمة بهدفنا؛ إنّ التغيير ينبغي أن يبدأ مع الكلمة ومع الصورة مهما بدت عليه الكلمة والصورة من صعوبة في الملاحقة، ولهذا عدت إلى الكتابة باللغة العربيّة، ولكن بشكل مختلف هذه المرّة. ومع مجموعة من الكتّاب والفنّانين من أبناء جيلي أعلنتُ أنّ الحداثة في الوطن العربيّ كانت المسيرة التصحيحيّة اللازمة لتغيير أنماط الفكر والتعبير الّتي ظلّت سائدة دون تغيير يُذكر لفترة أطول ممّا ينبغي. إنّ الحداثة تعني الانتماء لأنفسنا ولزمننا في الوقت ذاته، ولا يمكن، بالنسبة لنا، إنجازها في أعمالنا الإبداعيّة إلَّا بالعودة إلى الجذور، مع تطعيم تلك الأعمال بكلّ مكتشفات الغرب وتقنيّاته. إنّ العزلة الثقافيّة في القرن العشرين شيء مستحيل، لكنّ نقيض العزلة لا ينبغي أن يعني الانطماس والغرق بل الانبثاق والبروز، فتتحقّق نتيجة لذلك اسهامةً حقيقيّة في ثقافة القرن وذلك أوّلاً، بفهمها والتناغم معها، وثانيًا، بخلق عنصر جديد منبثق من أعماق هويّتنا القوميّة، باستطاعته أن يكون إغناءً حقيقيًّا لهذه الثقافة.
أعود للنغمة الشخصيّة فأقول إنّني كنت، ولنصف قرن تقريبًا، مولعًا لا بالأدب وحده وإنّما بالفنّ والموسيقى كذلك. لقد تعلّمت في جامعتيّ «كامبريدج» و«هارفرد» وعلّمتُ في جمعاتٍ منها جامعتيّ «بغداد» و«بيركلي» في الولايات المتّحدة، وألّفت بالعربيّة عدّة كتب في النقد الأدبيّ والفنّيّ وترجمت كتبًا أكثر في النقد لمؤلّفين بريطانيّين وأميريكيّين، كما ترجمت سبع مسرحيّات لشكسبير، فضلًا عن رواية «الصخب والعنف» لوليم فوكنر، الّذي (أستطيع القول بين قوسين) كنتُ أوّل من قدّمه إلى العالم العربيّ. هذا كلّه مكّن النقّاد العرب، عند مناقشة رواياتي وقصائدي، من القول إنّهم يتبيّنون تأثير الثقافة الغربيّة في أعمالي الإبداعيّة، ويذكرون أسماء بعض كتّابي الأثيرين مثل ت. س. إليوت، وآلدوس هكسلي، ووليام فوكنر، ولو كانو يعرفون وليام بلايك وجون كيتس أكثر، لتبيّنوا تأثيرهما كذلك. أمّا دوستويفسكي، وبلزاك، وستندال، وجويس، وفرجينيا وولف، ود. ه. لورنس، وبروست فقد كنت أحسّ دائمًا بملازمتهم إيَّاي كلّما كتبت شيئًا ملازمة «ألف ليلة وليلة».
وأيًّا يكن الأمر، فإنّني ما شعرت مطلقًا بأنّ اتصالي بجذوري، بمجتمعي، بمدينتي العربيّة، كما فهمته، قد ازداد غنىً وعمقًا بحصيلة معرفتي وخبرتي الّتي كان التفكير العربيّ فيها، كما أراه، أقوى دوافعي على أيّة حال.
لم أقرّ مطلقًا فكرة الفصل الثقافيّ بأيّ شكل من الأشكال. قد يستفيض «شبنغلر» بشرح نظريّته حول روح «القبول العربيّة» وروح «الرفض» الغربيّة، وقد يكون محقًّا إلى حدّ ما، ولكن إذا كان ثمّة حقيقة في نظريّة «يونغ» حول اللّاوعي الجماعيّ لدى الأمّة، وإذا كان نتاج الكاتب، بطريقة أو بأخرى، تجسيدًا لهذه القوّة الكامنة فيه، فإنّ التأثيرات لا تقلقني بأيّة درجة، ولا يمكن أن تكون أعمالي الإبداعيّة في التحليل النهائيّ إلَّا أعمالًا عربيّة، بأعمق ما في الكلمة من معنى. لقد تفاعلتْ الثقافات دائمًا لكنّها لم تتفاعل أبدًا لما فيه إضرار بوعي الأمّة لطاقاتها الحيّة وهويّتها المميّزة الخاصّة بها. إنّني على ثقة، ضمن هذا الإطار، بأنّ العرب، بما يمتلكون من لغة ثريّة وإرث حيّ لحضارات الشرق الأوسط المتعاقبة الّتي خلقها أسلافهم، قادرون على امتصاص التأثيرات الثقافيّة بشكل صحّيّ، كما فعلوا قبل ألف عام، وقادرون على إنتاج أدب وفنّ أصيلين وصادقين في التعبير عن أعماق ذواتهم وأخلاقيّتهم. وهكذا يستعيدون مكانتهم؛ مسهِمين فاعلين في رؤى زمنهم وخياله وطريقته في التفكير. وهكذا يكونون على اتّصال وثيق مع زمنهم، ولكن مختلفين بما فيه الكفاية لإعطاء عبقريّتهم تميّزها الخاصّ بها.
ربّما يكون من المناسب أن أقول هنا شيئًا عن إغواء الكتابة باللغة الإنجليزيّة، هذه «السيرانة»[1] الشقراء الّتي تتردّد أغنيتها أبدًا في أذنيّ المفتوحتين.
لم تعد الكتابة باللّغة الإنجليزيّة ظاهرة استثنائيّة لافتة للنظر؛ فالعديد من المثقّفين والأساتذة الجامعيّين العرب في إنجلترا والولايات المتّحدة وفي لبنان ومصر والأردنّ، على نطاق أضيق، يكتبون بالإنجليزيّة. لكنّ اللافت للنظر، على أيّة حال، هو أنّهم جميعًا وبدون استثناء تقريبًا، يكتبون بها دراسات أدبيّة أكاديميّة أو مقالات سياسيّة واجتماعيّة ذات طبيعة رصينة جدًا، لكنّ القليل منهم جازف في الكتابة الإبداعيّة بها. ولا أستطيع أن أتذكّر إلّا اثنين أو ثلاثة من العرب الّذين كتبوا الشعر والقصص بالإنجليزيّة خلال الخمسين سنة الأخيرة، في حين أنّ الكثيرين، ومعظمهم من المغاربة والجزائريّين والتونسيّين، قد كتبوا رواياتهم وقصائدهم باللّغة الفرنسيّة فقط، وحقّق بعضهم تميّزًا ملحوظًا في فرنسا ذاتها.
إنّ هيمنة اللغة الفرنسيّة على هؤلاء كانت من الشدّة بحيث أنّ الكثيرين منهم أخذوا في السنوات الأخيرة يتحدّثون بنغمة اعتذاريّة عن كتاباتهم بالفرنسيّة كما لو أنّها كانت انحرافًا قسريًّا ينال من ثقافتهم وهويّتهم القوميّة، ولقد حاول بعضهم في الواقع تعلّم العربيّة مجدّدًا، وهم الآن يبذلون الجهد متعمّدين الكتابة بها إلى جانب الفرنسيّة، إن لم يكن بالعربيّة وحدها. أمّا الّذين يكتبون بالإنجليزيّة، فإنّهم على أيّة حال، لا يحملون مثل هذا الشعور بالذنب، فالكثيرون منهم يواصلون الكتابة بالعربيّة أيضًا، ولم تستطع الإنجليزيّة جرف أيّ منهم كما فعلت في الهند وباكستان وبعض أجزاء أفريقيا لأسباب مفهومة.
كانت تجربتي مختلفة، فبعد أن كتبت الكثير بالعربيّة قبل بلوغي العشرين، أغرتني دراستي للأدب الإنجليزيّ بالابتعاد عن الكتابة العربيّة لبعض الوقت.
في عشرينيّات عمري كتبت الشعر بالإنجليزيّة بشكل منتظم، وقد نشر البعض منه في لندن وفي القدس. وكانت أوّل روايتين قصيرتين لي قد كتبتا بالإنجليزيّة أيضًا، وبسبب تدريسي للأدب الإنجليزيّ بدت كتابتي بالعربيّة غير قادرة على إعطائي الرضا الكافي عن نفسي، خاصّة وأنّني قد وجدت القليل جدًّا من الشعر والرواية المكتوبة بالعربيّة خلال الأربعينيّات ممّا يستحقّ أن أباريه. لكنّني عندما أكملت في منتصف الخمسينيّات كتابة أوّل رواية رئيسة لي بالإنجليزيّة، وهي رواية «صيّادون في شارع ضيّق»، الّتي نشرتها في لندن دار «هاينمان» عام 1960، أحسست بأنّني قد حقّقتُ ما أردته وأنّه لم تعد هناك حاجة بي لكتابة القصص أو الشعر بالإنجليزيّة؛ فقد كت أكتب الكثير بالعربيّة، وكان ما كنت أكتبه يُقرأ في الوطن العربيّ بأسره ويحظى باستجابة جيّدة من القرّاء.
ومع أنّني جنيت في منتصف الستّينات حصادًا متأخّرًا من القصائد باللغة الإنجليزيّة، غير القابلة للترجمة إلى العربيّة شأنها، بالطبع، شأن معظم الشعر الحديث، فإنّ ما كتبته بالإنجليزيّة منذ ذلك الوقت كان بشكل أساسيّ مقالات حول الأدب العربيّ المعاصر وحول الفنّ، وكان معدًّا للنشر خارج الوطن العربيّ. لقد حاولت في تلك المقالات أن أنقل للآخرين شيئًا من الاستثار والإحساس بالإنجاز الّذي حققه الكتّاب والفنّانون في جزئنا هذا من العالم، ومعظمهم كان في الواقع من أصدقائي المقرّبين.
بغداد 30 نيسان 1988.
إحالات
[1] السيرانة Siren، في الأساطير الإغريقيّة والرومانيّة هي «عروس البحر» الّتي تغوي البحّارين بغنائها فينجذبون إليها مسحورين. لم يسمع أغنيتها من البشر سوى «يوليسيس» الّذي ترك أذنيه مفتوحتين بينما جعل بحّارته يغلقون آذانهم بالقطن المشبّع بالزيت كي لا يسمعوها وينجذبوا إليها لما فيه هلاكهم. «المترجم».
عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.