مصطفى فودة - قراءة فى(كأننى حى) مجموعة قصصية للكاتب محسن عبد العزيز

صدرت هذه المجموعة القصصية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2020 وهى المجموعة الثالثة للكاتب محسن عبد العزيز وقد سبق له صدور مجموعتين قصصيتين (ولد عفريت تؤرقه البلاد) 1990 و(مروة تقول إنها تحبنى) 2004 ورواية (شيطان صغير) عابر عام 2016 .
تنقسم هذه المجموعة إلى قسمين ، القسم الاول وتضم اثنتى عشرة قصة قصيرة والقسم الثانى عشرة قصص قصيرة وصور قلمية وتشغل المجموعة ثمان وثلاثون صفحة ، وتتناول المجموعة قصص مختلفة الاتجاهات وربما لا يجمعها إلا البيئة الريفية وحنين السارد إليها ، وسأتناول فى هذه القراءة القسم الأول من هذه المجموعة .
تتصدر أداة التشبيه الكاف عنوان المجموعة وقد يكون لها دلالة على أن السارد لا يحى حياة حقيقية وإنما تشبه الحياة وربما تعادل الموت حيث يسترجع السارد فى كثير من قصص المجموعة مشاهد من حياته السابقة التى كان يعيشها فى الريف ، ومنها القصة الأولى والتى تحمل عنوان المجموعة والتى نتوقف أمامها قليلا وهى (كأننى حى) حيث يلتقط السارد فيها مشهدا أليما من حياته وهو مشهد تشييع وفاة أمه إلى القبر وهو طفل صغير ويظل السارد أسيرا لهذا المشهد طول عمره حتى عندما يصبح كبيرا ولديه أطفال ويعتبر نفسه أنه مات من ثلاثين سنة أى منذ وفاة أمه ، " كنت أتسند على حائط البيت المجاور حين طلعت أمى من البيت محمولة فى النعش فانخلع قلبى وارتفع صوت النساء بالصراخ والعويل ولم أعرف ماذا أفعل وكيف ؟" وفى الطريق سأله أحد المارة
هو مين اللى مات
لم أعرف بماذا أجيب ...كانت الاجابة الحقيقية أنا ( وربما كان الاكتفاء بكلمة ( أنا ) فقط أفضل فى تكثيف اللحظة الشعورية له )
يشيع بالقصة شعور بالحزن والقتامة وأستخدم السارد لغة بسيطة ومفردات تدل على ذلك الشعور مثل ( الموت – جنازة – قبر- نعش – بكاء – صراخ – عويل ) كما استخدم السارد صورا بلاغية تدل على ذلك مثل الاستعارات ( انخلع قلبى – يمر الموت فى هدوء – الخشبة ذات الأذرع الممدودة بالموت ) وأداة التشبيه الكاف بعنوان القصة ، كما أكثر السارد من استخدام الجمل الانشائية وخاصة الاستفهامية مثل هل البكاء كاف للحزن أم لا ؟ / هل يعرف الآخرون مقدار حزننا ؟ / لم أعرف ماذا أفعل ولا كيف ؟ وهى تدل على الحيرة والتشتت والذهول ، استخدم السارد ضمير الأنا فى سرده وهو أنسب الضمائر للإفضاء بالاحساس والشعور حيث تعبر الشخصية عن نفسها دون حجاب .
بقصة كلب أحمر يسترجع السارد أيضا وهو طفل صغير كلبه الأحمر حين كان يرعى الأغنام وحاول ذئب مهاجمة أغنامه وبعد مناورة من الذئب لخداع الكلب إلا أن الكلب استطاع مطاردة الذئب حتى فر " وبعد قليل عاد الكلب يهز ذيله كثيرا فرحا يتشمم الأغنام ويمشى بجانب الحمارة مستريحا حتى بدا كأنه يتشمم فى رضا " ثم مات الكلب مسموما من أحد المختصين بمكافحة الكلاب الضالة مما أدى إلى قيام الطفل السارد بالاعتداء على هذا العامل "شججت رأسه بحجر" وأسال دمه ودافع عنه الناس متعللين بأنه طفل ومات كلبه ، ثم بعد ثلاثين عاما يعود السارد الى القرية ويتذكر كلبه الاحمر ، ويعيب هذه القصة التزيد فى السرد وإطالته فكان من الممكن أن تنتهى فى عدة مواضع ولكن الكاتب قد تزيد فى السرد مما أفقد القصة كثافتها ، كما تزيد السارد بفقرة " والذئاب كما تعرفون تأكل الأغنام وتفترسها " فهى معلومة معروفة للقارئ ولا حاجة لذكرها.
تعد قصة الآذان من أجمل قصص المجموعة لما تمتاز به من شاعرية وسمو ونورانية حيث تصور قيام الشيخ عطية بآذان المغرب فى رمضان بإحدى القرى وما يحدثه من أثر جميل وبديع بين سكان القرية وما يشيعه من فرح وسرور بأطفالهم " يبدو آذان المغرب معلقا بفم الشيخ عطية ينتظره الرجال الجالسون أمام عتبات البيوت ..نديا يتهادى صوت الشيخ ، يطير فوق بيوت القرية ...الكون كله ينصت فى انتظار آذان الشيخ عطية الطالع من حجرته ( الصحيح حنجرته ) للسماء "
أبدع الكاتب فى رسم صورة الشيخ عطية فقد سبق أن وصف صوته وما يحدثه من أثر طيب فى أهل القرية فأضاف الكاتب وصف صورته المادية والمعنوية " فى يد الشيخ مسبحة طويلة دائمة الدوران بأصابعه وبين لحظة وأخرى يمسك بمذبة يهش الذباب / الشيخ عطية "زربون " سريع الهرولة وراء أى طفل / يسحب عصاه الطويلة ويطاردنا
لعبت اللغة دورا كبيرا فى القصة وأكسبت القصة جمالا وشاعرية لا حدود لها وربما لم أقرأ وصفا للآذان بهذه الروعة والسمو ببساطة اللغة وتلقائتها ، يشيع فى القصة جو من ليالى رمضان حيث يشيع الفرح والسرور والرضا والسمو بمفردات وعبارات وصور ومجازات لغوية ، مثل ( نديا – يبتسمون – يحبون رمضان – اللعب – السهر –طبلة المسحراتى – صايم – فرح ) ومن الصور والمجازات ( آذان المغرب معلقا بفم الشيخ عطية / نديا يتهادى صوت الشيخ / يطير فوق بيوت القرية / الشمس كالكرة الحمراء / كسا الدنيا صمت شفيف )، استخدم الكاتب ضمير الغائب ثم ضمير المتكلم نحن وهو صوت أطفال القرية وانتقل بين الضميرين بيسر وسهولة قد لا يشعر بها القارئ .
وفى قصة (عجل الطلوقة) يتناول الكاتب عملية تعشير العجل للبقرة حيث يلجأ بدران ومعه بقرته طالبة العشر إلى فخرى ليقوم عجله بذلك وتقوم ابنة فخرى ( فاتنة الرجال ) بهذا العمل لعدم وجود أحد بدارهم غيرها وبعد محاولتان فاشلتان للعجل " وفى المرة الثالثة قامت فاتنة الرجال مدت يدها المدربة وأدخلت احليله بسرعة إلى رحم البقرة وحدث العشار "
وقد تناول الكاتب الكبير سعيد الكفراوى فى قصته زبيدة والوحش والتى نُشرت بمجلة الكرمل الفلسطينية عام 1989 وأعيد نشرها ضمن مختارات قصصية بدار الشروق عام 2008 ، تناول فيها الكاتب عملية عشار البقرة بالعجل إلا أن من يقوم بالمساعدة فى العشار هنا هو صاحب العجل نفسه وليست أخته زبيدة " امتدت يد أبو سلامة ولقفت عضوه وألقمته رحم البقرة " وفى رأينا أن قصة الاستاذ الكفراوى أكثر منطقية من قصة الاستاذ محسن عبد العزيز فى هذا الموضع إذ لا يتصور منطقا أن تقوم فتاة ريفية وحدها بالدار وبنفسها بادخال احليل العجل برحم البقرة .
وفى قصة (الذبابة) وظف الكاتب إحدى الخرافات الشعبية وهى أن الذباية تحمل روح من رحل ، فعندما يقابل السارد فتاته ويقترب منها تهاجمه ذبابة وتصدر طنينا مزعجا فقالت فتاته "هذه ليست ذبابة وإنما روح فتاة تحبك" ولا ندرى أتقول فتاته ذلك ساخرة أم عابثة أم جادة ولكن السارد يصدقها بسذاجة يُحسد عليها ويأتى بفقرة كاملة يتساءل فيها عن حبيبته التى تحبه بهذا الشكل " لكننى الآن أدفع عمرى كله لأعرف من يحبنى هكذا " وينسى أمر فتاته الساخرة منه فيا له من ساذج .
فى قصة (يضحك فى جنازته) تبدأ القصة " محمود عبد النعيم الذى يضحك الحجر يابشر وأى جلسة يكون فيها تسمع صوت القهقهات والضحكات الصاخبة من بعيد " وقد قام محمود بتمثيل دور دكتور للكشف على جدة عجوز أرادت طبيبا معينا ترتاح إليه ولكنه لم يأت وجاء لها محمود ممثلا عليها ذلك الطبيب وحمل شنطة سمسونيت كالأطباء واستخدم غطاء علبة ورنيش بديل للسماعة ولكنه لم يستطع خداع هذه السيدة العجوز والتى اكتشفت خداعه وسط ضحك الحاضرين .
ولابد للقارئ أن يتذكر قصة ( فى الليل ) بمجموعة أرخص ليالى ليوسف إدريس ويتذكر بطل القصة عوف " كان يكفى أن يروه أو يسمعوه أو حتى تأتى سيرته لتنساب منهم الضحكات" ، ولكن عوف كان أخف دما وأطيب سريرة من محمود عبد النعيم ذلك الذى كان سمجا ثقيل الدم ، ولابد للقارئ كذلك حين يقرأ الجملة الافتتاحية المذكورة فى قصة يضحك فى جنازته إلا ويتذكر طريقة يوسف إدريس فى بعض قصصه .
كان الفضاء المكانى لقصص المجموعة القصصية هو البيئة الريفية بما تحتويه من فضاء مكانى واسع وبما تشمله من عادات وأساطير وخرافات شعبية وقد أجاد الكاتب تصوير تلك البيئة وذلك لأصوله الريفية التى لم ينسها وكأنه غادر قريته بالأمس القريب وكأنها الفردوس المفقود . قراءة مصطفى فودة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...