مصطفى فودة - قراءة فى قصة (أبا الحاج) للكاتب الكبير محمد البساطى .

قصة أبا الحاج هى القصة الأولى فى المجموعة القصصية ساعة مغرب الصادرة 1996 صدرت عن دار الهلال وقد قرأتها ضمن مختارات من القصص القصيرة لمحمد البساطى ضمن مكتبة الأسرة عام 2005 ، وقد صدرت فيما بعد ضمن الاعمال الكاملة لمحمد البساطى من الهيئة المصرية للكتاب .
يدل عنوان القصة (أبا الحاج )عن المرحلة العمرية للشخصية الرئيسية بالقصة وهوالحاج عبد ربه الشيخ الكبير فى السن والذى يعيش فى مرحلة الغروب من حياته – الشيخوخة - والتى تعبر عنها أيضا عنوان المجموعة القصصية (ساعة غروب) ، فهو شيخ لديه الابناء والأحفاد وعند عودته من العزبة أراد أن يختصر الطريق فسلك طريقا وسط احواض زراعة القصب ثم على سكة ترابية ضيقة ومجرى ماء " سمع صوت غناء خافت يترامى من عند القنطرة الصغيرة ، كانت شجرة الجميز تظلل المكان هناك ، ورأى الجلباب المنشور على فرعها المائل . لمح البنت -عندما اقترب – فى مجرى الماء منحنية فوق حجارة بيضاء تدعك باقى ملابسها . كانت عارية والماء يصل إلى منتصفها . جسدها صغير نحيف شاحب البياض تلونه صفرة خفيفة ، ونهداها كحبتى الليمون . احتواه صمت أشبه بغيبوبة . كل شئ بدا مألوفا ساطعا كأنما يستعيد حلما رآه مرات ... أرقدها على الطين اللزج " هذا هو المشهد الرئيسى بالقصة أو اللحن الرئيسى به وما جاء بعده من مشاهد أو ألحان ، هو تنامى له وتفريع عليه والمشهد كما يراه القارئ يقع فى منطقة ضبابية بين الحلم والواقع وهى المنطقة المغرم بها محمد البساطى والتى توحى أكثر مما تقول وتخفى أكثر مما تظهر ، تسرح فيها النفس وتتأمل بعد انقضاء النهار بضوئه الساطع وأعماله الشاقة ، وتتفرع المشاهد عن هذا المشهد الرئيسى فى مطاردة وإلحاح مشهد البنت للحاج عبد ربه فى كل مكان وفى كل وقت حتى يحدث له ما يشبه الهلوسة حتى بات يسأل عن سبب الزغاريد فى بيته ، سألها عن الزغاريد / إيه ياأبا الحاج يعنى مش عارف ...... حدق متهدل النظرات .....يلهث زائغ النظرات .
تتراءى هذه البنت للحاج عبد ربه كأنها نداهة الجنس فى غروب حياته فامرأته اتخذت حجرة مستقلة بعيدا عنه منذ أن سقطت بالسلم ورقدت بالفراش بنصف جسد ميت ولم يدخل الحاج عبد ربه حجرتها منذ سنوات سوى مرة واحدة بعد الحادثة بشهرين ، فنحن أمام حرمان جنسى وظمأ للمرأة فتتراءى له البنت كنداهة للجنس ( ورآها كلما أنبثقت من عتمة ظلال غير مرئية – كان يحس بها وراءه – ولحظات كانت تومض فجأة – ويحس بها وراء ذلك – ثم انتبه لعينين تحدقان إليه – وعندما نظر مرة أخرى وجدها اختفت – لمحها قبل أن تنتبه إليه قابعة خلف المقهى تدندن بصوت خافت – كاد يبلغ الباب حين رآها ترمقه من وسط الزحام ) كل هذه الكلمات والعبارات التى وردت بالقصة تميل بنا أننا أمام حالة نفسية حدثت للحاج عبد ربه أشبه بالكبت العاطفى ويطلقون عليه بالريف النداهة بالنداهة ، والنداهة كما هو معروف فى البيئة الريفية امرأة جميلة تظهر فى الحقول وتنادى على شخص فيقوم هذا الشخص مسحورا ويتبع نداءها وقد يموت أو يصيبه الجنون أو الهلاوس كأن يتحدث مع نفسه وهى أسطورة من أساطير البيئة الريفية ، وقد تأثر الكاتب بأسطورة النداهة فى تصويره للبنت وعلاقتها بالشيخ عبد ربه إلى أن أسلم الروح بنهاية القصة ، وقد وردت اسطورة النداهة فى كثير من الاعمال الأدبية كرواية النداهة للكاتب الكبيريوسف ادريس حيث صور المدينة نداهة تجذب ضحاياها فلا يستطيعون الفرار منها حتى تهلكهم كما تناول الكاتب الكبير سليمان فياض النداهة فى قصة عطشان يا صبايا .
اتسمت لغة القصة بالبساطة والشفافية والشاعرية وجاءت الجمل قصيرة ومتتابعة وأسقط كثيرا من حروف العطف لتدل على اللهاث وسرعة الأحداث كما جاءت اللغة معبرة عن ظلال الوقت وبها كثير من الهدوء والتأمل فهناك احساس بالسكون فى معظم القصة وقليل من الضوضاء كان الحاج عبد ربه يفر منها .
جاء الحوار فى القصة باللهجة العامية وكان جميلا ومعبرا عن الشخصية ومناسبا لها ومحركا للحدث إلى الأمام فجاء على لسان البنت حين اقرب منها – إيه يا أبا الحاج إيه ؟
- ابعدى يابت ابعدى/ أبعد فين يا حاج .
- امشى يابت امشى / امشى فين ياحاج
- وعايزه إيه ؟ / وحاوز إيه؟
- تكونى عايزة تجوزينى ؟ / أجوزك إيه يا أبا الحاج .
ويبين الحوار أوهام أو أمانى الحاج عبد ربه الشيخ الكبير مع البنت الشابة الصغيرة واختلاف كل من الشخصيتين عن الآخر وعدم إلتقائهما للفارق الكبير بين سنهما .
كان المشهد الاخير فى القصة فى غاية الايجاز والروعة دون تصريح بالموت ولكنه يوحى بالموت وعلامة عليه ( ونلاحظ التعبير بجسده فقط وليس عليه حيث أصبح جسدا فقط دون روح كما نلاحظ تشبث البنت -النداهة – به حتى رمقه الاخيرتماهيا مع الاسطورة )
"وقفوا حوله . فردوا لحافا على جسده . وجوه كثيرة . كل هؤلاء . كانت تقف خلفهم . تشب على قدميها لتنظر إليه . وجهها الصغير الناحل . أغمض عينيه "
اتسمت القصة بالكثافة والصدق والشاعرية فى عرض مرحلة عمرية فى حياة الشيخ عبد ربه وهى مرحلة الشيخوخة وتشبثه بالرغبة الجنسية وقد أجاد الكاتب الكبير محمد البساطى تصوير تلك المرحلة العمرية عند الحاج عبد ربه شخصية القصة الرئيسية وما يعتمر بداخله من رغبة وشوق للمرأة والحياة بصدق وبجمال وبسحر الفن وكانت القصة بحق قمة من قمم القصص العالمية .
قراءة مصطفى فودة .


4سمير الفيل, مصطفى البلكى and 2 others

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...