حدث ذلك قبل يومين من انطلاق اليوم العالمي للشعر بالمطعم الثقافي الأندلسي بأصيلة أواخر مارس 2010، حين تقدم إلي عمر مكدول، الرجل الخمسيني الأسمر، بقسماته الدقيقة، وعينيه الغائرتين ونظراته الواثقة قائلا:
- أود أن أشارك في اليوم العالمي للشعر بقصيدة زجلية للراحل عبد الله ودان.
وعندما لاحظ استغرابي، مدني بولاعة حتى أنفث روحا في سيجارتي، وكان قد قرأ السؤال في عيني وفي ملامحي الجامدة وقتذاك، بيد أن الرجل لم يمهلني طويلا،ومافتئ أن أعاد الدفء إلى صوته وشرع يقص الحكاية، ربما تحكي جزء من تاريخ وطن بأكمله.
ودان، تلك قصة قديمة، تدور أحداثها في أربع مدن رئيسة: المحمدية والرباط، وباريس والبيضاء وبطلها واحد: عبد الله ودان، بالمحمدية، رأى النور، وبها تابع جميع أطوار تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي، وبها التحق بمنظمة الكشفية الإسلامية وترقى إلى رتبة قائد الجراميز، وتفتق وعيه السياسي مبكرا حيث ظل ناقما عن آليات اشتغال الأحزاب السياسية في أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي، وفي ذلك السياق غادر مجموعة من الشباب أحزاب الحركة الوطنية احتجاجا على ما أسموه بانتظاريتها أمام جبروت المخزن وأسسوا حركات سياسية سرية ذات توجه ماركسي لينيني: حركة إلى الأمام و23 مارس ولنخدم الشعب بعدهما، ربما كان هذا حافزا له ليتابع دراسته الجامعية بالعاصمة الرباط وليتخصص في علم الاجتماع ويحصل على الإجازة فيها، ليسافر بعد ذلك إلى فرنسا ويشرع في إعداد أطروحة لنيل دكتوراه في التخصص ذاته: علم الاجتماع ، واختار موضوعا خطيرا وشائكا ينحو نحو تفكيك العقلية الشعبية المغربية من خلال موضوع: السحر والشعودة في عقلية إفريقيا البيضاء: الدار البيضاء نموذجا، وهو بحث يتقاطع فيه التاريخي والثقافي والنفسي الجمعي والسوسيولوجي والأنتربولوجي، وفي سياق عنوانه عزم مجموعة من السوسيولوجيين المغاربة الشباب على تجاوز وتصحيح مفاهيم السوسيولوجيا الكولونيالية التي أسس لها السوسيولوجيون الفرنسيون العاملون مع إدارة الحماية مثل جاك بيرك وقبله روبير مونتاني وآخرين، وهي السوسيولوجيا التي كانت تحيل بشكل خفي نحو الثبات والسكون في بنية المجتمع المغربي، ولأجل هذه الغاية، عاد إلى المغرب ومكث شهورا بمدينة البيضاء من أجل البحث الميداني.
وظل الرجل صامتا برهة من الزمن، كأنه كان يستجلب مادة رمادية تسعف دماغه ليتذكر أشياء أخرى، وكأنه كان ينبهني إلى أن مسار هذا الرجل متشعب في درب الحياة تشعب اهتماماته وإنجازاته… وقتها، هبت رياح غربية منعشة من البحر، كانت الريح ملقحة بالأمل وهي ترنو إلى المستقبل، وصار الرجل ينقر على الطاولة بيديه، فيما فنجان القهوة السوداء الذي بين يدي، يترقب أيضا بقية الحكاية، وما لبث الرجل أن أشعل سيجارة شقراء، فبث جلبة على السكون الذي ساد قليلا، ولتظل الحكاية سارية المفعول، ولأعرف أن عبد الله ودان كان المؤسس الروحي لفرع جمعية الشعلة بالمحمدية، وعلى مبادئه سار روادها بعد رحيله بعقدين من الزمن، ولازال فرع الشعلة بمدينة المحمدية، من أنشط فروع جمعية الشعلة الوطنية الأم، ودان أيضا، أسس مجموعة المركبة، المركبة التي لم تكن حزبا سياسيا ولا جمعية أهلية معترفا بها قانونيا، المركبة كانت في الأساس حانوتا يستقبل فيه عبد الله ودان الضيوف الذين كانوا يزورونه قادمين إليه من مبنى كلية الآداب بجامعة الرباط، كما يجتمع فيه الشباب المحمدي للقراءة والنقاش في الأزمة السياسية التي كان يمر منها المغرب وفي أزمة المشهد الثقافي المغربي في تلك الحقبة، ومن بينها المسرح الهاوي الذي كان يعتبر وسيلة نضالية من أجل التغيير بما يحمله من مضامين تنسجم وقيم العدالة الاجتماعية المنشودة، وذلك في زمن كان لبريخت حضوره الآسر في مخيلة جيل كامل من المسرحيين العرب.
كان الراحل عبد الله ودان قد ساهم بفعالية في الحركة المسرحية بمدينة المحمدية في سبعينيات القرن الماضي وقد صادق الراحل حسين حوري، ليس هذا فحسب، بل أخرج مسرحيات مثل مسرحية: البعث التي شارك فيها كتاب صارت لهم مكانة مرموقة في المشهد الثقافي المغربي الراهن، بالإضافة إلى مسرحية مقهى الأحباب التي نالت شعبية كبيرة إبان عرضها في مدينة المحمدية، فضلا عن مسرحية الناس وعباس التي نالت الجائزة الأولى في حفل افتتاح دار الشباب العربي بالمحمدية، ودائما في بداية سبعينيات القرن الماضي، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل شارك في ترسيخ الحركة الزجلية بالمغرب، علما أن الثقافة العالمة وقتها، كانت تنظر إلى الزجل نظرة لامبالاة وتجاهل باستثناء بعض الالتفاتات الأكاديمية القليلة، وقد تغنت بأزجاله مجموعة غنائية ظهرت إبان الحراك السياسي والأيديولوجي والاجتماعي الصاخب في مغرب سبعينيات وأوائل ثمانينات القرن الماضي كما غنى له مغنون ملتزمون دون أن تتم الإشارة إلى أنه كاتب كلمات تلك الأغاني في نكران للذات قل نظيره، وفي زمن كان لمفهوم الالتزام السياسي سطوته التي لا تضاهى، ولعل من بين أهم قصائده المغناة، البالا والفاس، ميمة، الانتخابات، وغيرهما، وإليك أيها القارئ الكريم قصيدته الزجلية: البالا والفاس:
البالا والفاس
البالا والفاس
تمارة قهرت الناس
غير خدم ماكاين باس
راه كل كلمة بقطيع الراس
من تمارة طاحوا الكتاف
وركبك بوتفتاف
كيفاش بغيتي يديها فيك الشاف
هو بارك فالبيرو
مع السكريتيرات والسكرتييرو
وسي العربي وزيرو
باركين على الطاسا والكاس
والنهار طالع على ظهور الناس
عبد الله ودان رحل عنا في أواسط ثمانينيات القرن الماضي بشقته في باريس قبل أن يناقش أطروحة نيل الدكتوراه في علم الاجتماع، رحل في ظروف غامضة جدا، فمتى يفرج أحباؤه عن تراثه وحتى لا يموت مرتين؟
صخر المهيف
أصيلة: يوليوز 2011
- أود أن أشارك في اليوم العالمي للشعر بقصيدة زجلية للراحل عبد الله ودان.
وعندما لاحظ استغرابي، مدني بولاعة حتى أنفث روحا في سيجارتي، وكان قد قرأ السؤال في عيني وفي ملامحي الجامدة وقتذاك، بيد أن الرجل لم يمهلني طويلا،ومافتئ أن أعاد الدفء إلى صوته وشرع يقص الحكاية، ربما تحكي جزء من تاريخ وطن بأكمله.
ودان، تلك قصة قديمة، تدور أحداثها في أربع مدن رئيسة: المحمدية والرباط، وباريس والبيضاء وبطلها واحد: عبد الله ودان، بالمحمدية، رأى النور، وبها تابع جميع أطوار تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي، وبها التحق بمنظمة الكشفية الإسلامية وترقى إلى رتبة قائد الجراميز، وتفتق وعيه السياسي مبكرا حيث ظل ناقما عن آليات اشتغال الأحزاب السياسية في أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي، وفي ذلك السياق غادر مجموعة من الشباب أحزاب الحركة الوطنية احتجاجا على ما أسموه بانتظاريتها أمام جبروت المخزن وأسسوا حركات سياسية سرية ذات توجه ماركسي لينيني: حركة إلى الأمام و23 مارس ولنخدم الشعب بعدهما، ربما كان هذا حافزا له ليتابع دراسته الجامعية بالعاصمة الرباط وليتخصص في علم الاجتماع ويحصل على الإجازة فيها، ليسافر بعد ذلك إلى فرنسا ويشرع في إعداد أطروحة لنيل دكتوراه في التخصص ذاته: علم الاجتماع ، واختار موضوعا خطيرا وشائكا ينحو نحو تفكيك العقلية الشعبية المغربية من خلال موضوع: السحر والشعودة في عقلية إفريقيا البيضاء: الدار البيضاء نموذجا، وهو بحث يتقاطع فيه التاريخي والثقافي والنفسي الجمعي والسوسيولوجي والأنتربولوجي، وفي سياق عنوانه عزم مجموعة من السوسيولوجيين المغاربة الشباب على تجاوز وتصحيح مفاهيم السوسيولوجيا الكولونيالية التي أسس لها السوسيولوجيون الفرنسيون العاملون مع إدارة الحماية مثل جاك بيرك وقبله روبير مونتاني وآخرين، وهي السوسيولوجيا التي كانت تحيل بشكل خفي نحو الثبات والسكون في بنية المجتمع المغربي، ولأجل هذه الغاية، عاد إلى المغرب ومكث شهورا بمدينة البيضاء من أجل البحث الميداني.
وظل الرجل صامتا برهة من الزمن، كأنه كان يستجلب مادة رمادية تسعف دماغه ليتذكر أشياء أخرى، وكأنه كان ينبهني إلى أن مسار هذا الرجل متشعب في درب الحياة تشعب اهتماماته وإنجازاته… وقتها، هبت رياح غربية منعشة من البحر، كانت الريح ملقحة بالأمل وهي ترنو إلى المستقبل، وصار الرجل ينقر على الطاولة بيديه، فيما فنجان القهوة السوداء الذي بين يدي، يترقب أيضا بقية الحكاية، وما لبث الرجل أن أشعل سيجارة شقراء، فبث جلبة على السكون الذي ساد قليلا، ولتظل الحكاية سارية المفعول، ولأعرف أن عبد الله ودان كان المؤسس الروحي لفرع جمعية الشعلة بالمحمدية، وعلى مبادئه سار روادها بعد رحيله بعقدين من الزمن، ولازال فرع الشعلة بمدينة المحمدية، من أنشط فروع جمعية الشعلة الوطنية الأم، ودان أيضا، أسس مجموعة المركبة، المركبة التي لم تكن حزبا سياسيا ولا جمعية أهلية معترفا بها قانونيا، المركبة كانت في الأساس حانوتا يستقبل فيه عبد الله ودان الضيوف الذين كانوا يزورونه قادمين إليه من مبنى كلية الآداب بجامعة الرباط، كما يجتمع فيه الشباب المحمدي للقراءة والنقاش في الأزمة السياسية التي كان يمر منها المغرب وفي أزمة المشهد الثقافي المغربي في تلك الحقبة، ومن بينها المسرح الهاوي الذي كان يعتبر وسيلة نضالية من أجل التغيير بما يحمله من مضامين تنسجم وقيم العدالة الاجتماعية المنشودة، وذلك في زمن كان لبريخت حضوره الآسر في مخيلة جيل كامل من المسرحيين العرب.
كان الراحل عبد الله ودان قد ساهم بفعالية في الحركة المسرحية بمدينة المحمدية في سبعينيات القرن الماضي وقد صادق الراحل حسين حوري، ليس هذا فحسب، بل أخرج مسرحيات مثل مسرحية: البعث التي شارك فيها كتاب صارت لهم مكانة مرموقة في المشهد الثقافي المغربي الراهن، بالإضافة إلى مسرحية مقهى الأحباب التي نالت شعبية كبيرة إبان عرضها في مدينة المحمدية، فضلا عن مسرحية الناس وعباس التي نالت الجائزة الأولى في حفل افتتاح دار الشباب العربي بالمحمدية، ودائما في بداية سبعينيات القرن الماضي، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل شارك في ترسيخ الحركة الزجلية بالمغرب، علما أن الثقافة العالمة وقتها، كانت تنظر إلى الزجل نظرة لامبالاة وتجاهل باستثناء بعض الالتفاتات الأكاديمية القليلة، وقد تغنت بأزجاله مجموعة غنائية ظهرت إبان الحراك السياسي والأيديولوجي والاجتماعي الصاخب في مغرب سبعينيات وأوائل ثمانينات القرن الماضي كما غنى له مغنون ملتزمون دون أن تتم الإشارة إلى أنه كاتب كلمات تلك الأغاني في نكران للذات قل نظيره، وفي زمن كان لمفهوم الالتزام السياسي سطوته التي لا تضاهى، ولعل من بين أهم قصائده المغناة، البالا والفاس، ميمة، الانتخابات، وغيرهما، وإليك أيها القارئ الكريم قصيدته الزجلية: البالا والفاس:
البالا والفاس
البالا والفاس
تمارة قهرت الناس
غير خدم ماكاين باس
راه كل كلمة بقطيع الراس
من تمارة طاحوا الكتاف
وركبك بوتفتاف
كيفاش بغيتي يديها فيك الشاف
هو بارك فالبيرو
مع السكريتيرات والسكرتييرو
وسي العربي وزيرو
باركين على الطاسا والكاس
والنهار طالع على ظهور الناس
عبد الله ودان رحل عنا في أواسط ثمانينيات القرن الماضي بشقته في باريس قبل أن يناقش أطروحة نيل الدكتوراه في علم الاجتماع، رحل في ظروف غامضة جدا، فمتى يفرج أحباؤه عن تراثه وحتى لا يموت مرتين؟
صخر المهيف
أصيلة: يوليوز 2011